আশা ও ইউটোপিয়া
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
জনগুলি
إن ال «ليس-بعد» من أهم المقولات المحورية في فلسفة بلوخ. وإن كانت تنطوي على إشكالات أنطولوجية تصدم الفكر العادي وتحيره. وتتلخص هذه المقولة على المستوى الإنساني في هذه الصيغة: إننا لم نكن أو «لم نوجد بعد»، ولذلك «فسوف نكون أو نوجد». كما تتمثل على المستوى الطبيعي في أن العالم المادي «لم يكتمل بعد».
لقد تصور بلوخ أن مقولة ال «ليس-بعد» لا تحتاج إلى برهان أو دليل لأننا جميعا نشعر بهذا الذي لم يوجد بعد «شعورا مباشرا»، وكل ما يحتاج إليه هو أن نصفه، وإنه - كمبدأ فلسفي - يقيني يقين الكوجيتو الديكارتي، بحيث يمكن تسميته - على طريقة ديكارت - «بداهة ما ليس-بعد»، بل إن ال «ليس-بعد» متضمن في الكوجيتو «الديكارتي» نفسه (أي الأنا موجود)، لأنه بداهة إنسانية خالصة يضاف إليها الفكر والمعرفة فيما بعد.
هذه ال «أنا موجود» تظل خرساء معتمة كالحجر حتى تتعلق بشيء خارجي تملكه فتملك نفسها، وهذا الشيء الخارجي ليس إلا العالم الذي لا يزال معلقا بين الوجود والملك، عندما أملكه أوجد، وعندما أوجد أملكه. (أي تتحقق عندئذ وحدة الذات والموضوع، ويزول الاغتراب الذي سبق أن ذكرناه بين الوجود والماهية) وقد عبر بلوخ عن هذا كله في هذه العبارة التي وضعها شعارا لخواطره الأدبية والفلسفية التي جعل عنوانها «آثار»: «ما الأمر إذن؟ إنني كائن أو موجود، ولكني لا أملك نفسي بعد، ولهذا سوف نكون.» فالإنسان إذن كائن، وماهية العالم لن تتفتح إلا فيه ومن خلاله.
75
والواقع أن مشكلة هذه المقولة تكمن في هذه الكلمة الصغيرة «ليس-بعد»، إذ كيف يستطيع الفكر العادي أن يقبل وجود شيء لم يوجد بعد - أي لا وجود له من الناحية الأنطولوجية الدقيقة - في باطن الموجود نفسه حتى لو كان ذلك على سبيل الإمكان، غير أن المشكلة الحقيقية تكمن في هذا السؤال البسيط: هل نفكر في الوجود من خلال المنطق التقليدي أم من خلال المنطق الجدلي؟ إننا لو فكرنا تفكيرا جدليا لوجدنا أن المسألة أقدم مما نظن، فهي ترجع إلى فلسفة أفلاطون المتأخرة، وبخاصة في محاورتيه بروتاجوراس وبارمنيدس، حيث ناقش مشكلة احتواء الواحد على الكثير وخروج اللاوجود عن الوجود، كما يمكن أن نجد لها تأثيرا على ميتافيزيقا ليبنتز وآرائه شبه الجدلية عن تحقيق إمكان معين من إمكانات بديلة عديدة، ثم إنها ماثلة في شروح هيجل على مثلثه الجدلي الأول بمقولاته الثلاث عن الوجود والعدم والصيرورة.
ولكن هل حلت المشكلة بجعل المقولات جدلية؟ إن بلوخ يضيف ملمحا جدليا جديدا يضع فلسفته في إشكالات غير هينة. فهو يزعم أن ذلك الذي لم تتحقق شروط وجوده بصورة كافية، موجود بالفعل على نحو «ما». وفي كل معرفة واعية إشارات أو دلالات على معرفة أخرى لم يستوعبها الوعي بعد، ولكن يمكنها في المستقبل أن ترتفع إلى مستوى الوعي، وكأننا نملك هذه المعرفة الأخيرة بالفعل وإن لم يتم استيعابها بصورة واعية. ويتمثل الإشكال هنا في أن ثمة - من ناحية الموضوع - وجودا لم يوجد بعد تتجه إليه هذه المعرفة الأخيرة أو تستشعره، وإن لم يتسن لها في الحقيقة أن تعرف عنه شيئا بعد.
ويمكن على سبيل المحاولة توضيح هذا الإشكال بالقول إن الموجود القريب منا قربا مباشرا - سواء على مستوى العالم المادي الواقعي أو على المستوى الباطني والوجداني - يتصف بأنه معتم ومستعص على المعرفة و«اللا» الكامنة فيه لا تصبر على حالة الافتقار والنقص، ولذلك نجد فيه الدافع الذي يحفزه على التعلق بشيء ما والوصول بهذا الشيء إلى ماهيته، وبهذا يمكن التفكير فيه والحمل عليه، أي وصفه بمحمول معين، والعلاقة بين «اللا-موجود» و«الموجود-هناك» هي نوع من التوسط بين الموجود القائم وبين ماهيته الممكنة، بمعنى أن هذه العلاقة تقوم على حضور متميز للماهية.
76
مهما يكن من شيء فسوف نتعرض لشرح المقولات بالتفصيل فيما بعد، ويكفي الآن القول بأن كتاب «مبدأ الأمل» منجم زاخر بمحاولات بلوخ وتجاربه التي لا تنتهي لإثبات الوجود الفعلي لأحلام وأفكار واستشعارات تموج بها أشكال الوعي ومضامينه التي لا نهاية لها أيضا. ولذلك نراه ينطلق كالنحلة الدءوب ليلتقط أشكال الرغبة والشوق والحلم والتوقع والخيال والدوافع التي حركت وعي البشر في شتى الظروف والعصور والديانات والحضارات، محاولا أن يجد لها تفسيرا أنطولوجيا تقوم على أساسه، وأن يشرحها على ضوء العالم الأفضل الذي وجه تلك الأحلام والأشواق للتعبير عنه والسعي إلى بيان معالمه. وقد كان هدفه من كل هذه المحاولات هو أن يثبت وجود تلك المعرفة التي لم تصل إلى درجة الوعي، وأن يبحث عن أمثلتها ونماذجها التاريخية مؤكدا بذلك أن للتفكير «اليوتوبي» مضامينه الواقعية، وأن توقع ما لم يوجد بعد كان عاملا أنطولوجيا وأنثروبولوجيا حاسما في توجيه مسيرة المادة والإنسان على السواء نحو الهوية المبتغاة على مستوى العقل والخيال. وعلى مستوى الوجود والماهية.
وينبغي أن تفهم الهوية هنا بطريقة مختلفة عن طريقة فهم مبدأ الهوية في المنطق التقليدي أو الصوري. فليس المقصود بالهوية أن يصبح الذات والموضوع في هوية مع نفسهما من نفس الجهة، وعلى النحو الذي يوجدان عليه، وإنما المقصود أنهما يتغيران تغيرا مستمرا، وكل ما يمكن فعله والتفكير فيه هو محاولة تحقيق الهوية بينهما والتوحيد بين الوجود والماهية. وبعبارة أوضح فإن مبدأ الهوية يجب أن يفهم جدليا على أنه يحيل إلى هوية ستتحقق في المستقبل، أي إلى الأفق الذي يصبح فيه تحقيق الهوية في آخر المطاف أمرا ممكنا، وتتم فيه - بصورة يوتوبية واقعية - علاقة الوجود بالماهية.
অজানা পৃষ্ঠা