فهو إذن منكر للدين وسلطانه، وهو في الوقت نفسه ضيق بالأبوة وسلطانها، وهو لا يلبث أن يوحد بين هذين النوعين اللذين ينكرهما من السلطان: سلطان الدين، وسلطان الأبوة. فيقف منهما موقفا قوامه القلق والفزع والهول، وهو يشقى بهذا الموقف حياته كلها، قد حاول ما وسعته المحاولة، أن يخلص من الشك إلى الثقة، ومن الخوف إلى الأمن، فلم يجد إلى ذلك سبيلا.
ثم تنشأ من محنته في الدين وفي الصلة بينه وبين أسرته، محنة أخرى ليست أقل منهما قسوة ولا تعقيدا، وهي المحنة التي تمس حقه في أن يحيا حياة الآباء، فيتخذ الزوج ويمنح الوجود للولد، كما اتخذ أبوه الزوج وكما منحه ومنح إخوته الوجود، فهو يشعر بأنه مدين لأبيه بوجوده، لا يشك في ذلك، ولا يشك في أن الدين يجب أن يؤدى، ولا يشك في أن الوسيلة الوحيدة إلى أن يؤدي الابن ما عليه لأبيه من الدين إنما أن يمنح الوجود الذي تلقاه من أبيه لأبناء يتلقونه منه ويمنحونه بعد ذلك لأبنائهم، فإذا اتخذ الزوج ورزق الولد، فليس عليه لأبيه دين. هو يؤمن بهذا كله، ولكنه في الوقت نفسه يقف من هذه القضية موقفا يشبه موقف أبي العلاء في البيت المشهور:
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد
ذلك أنه يرى الحياة التي تلقاها من أبيه شرا لا خيرا؛ لأنها لم تمنحه رضا القلب، ولا هدوء النفس، ولا راحة الضمير، ولا هذه الثقة الباسمة التي تنشأ عنها كل هذه الخصال، هو مدين لأبيه بالوجود، وما في ذلك شك، وليس أحب إليه من أن يؤدي ما عليه من الدين ، ولكن بشرط ألا يكون أداء الدين مصدرا للشر، ولا سبيلا إلى الأذى، وبشرط ألا يجني على أبنائه، ما جنى عليه أبوه من هذا القلق المتصل، والخوف الملح، واليأس المقيم.
وإلى جانب هذه المحن الثلاث، في الدين والأبوة والزواج، تضاف محنة أخرى لعلها أن تكون هي التي أسبغت لونها القاتم على محنه الأخرى كلها، وهي محنة المرض، المرض الذي لا يظهر فجاءة ولا يثقل على المريض ثقلا طويلا، وإنما يداوره ويناوره، ويسعى إليه سعيا خفيا بطيئا متلكئا، يدنو منه لينأى عنه، ويلم به ليفارقه، ويقفه من الحياة موقفا غريبا لا هو باليأس الخالص ولا هو بالأمل الخالص، وإنما هو شيء بين ذلك، يملأ القلب حسرة ولوعة، ويملأ النفس شقاء وعناء؛ حتى إذا استبان أنه قد نهك فريسته وكلفها من الجهد أقصاه ولم يبق فيها قدرة على المقاومة، أنشب فيها أظفاره، وصب عليها آلاما ثقالا وأهوالا طوالا، ثم قضى عليها الموت في ساعة من ساعات الليل أو من ساعات النهار.
فأنت ترى أن أديبنا عليل قد ألحت عليه العلة، وأن علته معقدة أشد التعقيد، بعضها يتصل بالدين، وقد عجز أطباء اللاهوت عن علاجه؛ فهو قد قرأ التوراة وتعمق دراسة التلمود، ودرس المسيحية ودرس فلسفة الفلاسفة المؤمنين والملحدين، فلم يجد لعلته الدينية هذه طبا ولا شفاء.
وبعضها يتصل بالوراثة والصلة بين الابن وأبويه، فهو إلى علم النفس التحليلي أقرب منه إلى أي شيء آخر، وقد عجز علم النفس التحليلي عن علاجه، فلم يستطع أحد ولم يستطع شيء أن يصلح رأيه في أبيه، أو يصلح العلاقة بينه وبين أبيه، وإنما ظل طول حياته واقفا من أبيه موقف الطفل الخائف المروع الذي يرى تفوق أبيه وتسلطه، ويحاول أن يخلص من سلطانه فلا يستطيع، ويحاول أن يحبه وأن يظفر منه بالحب فلا يستطيع.
وبعضها يتصل برأيه في الحياة، وموقفه منها، ورغبته في أن يحياها كما تعود الناس أن يحيوها، وخوفه مع ذلك من العجز عن احتمال أثقالها، وخوفه بنوع خاص من أن يحمل هذه الأثقال قوما آخرين أبرياء، لم يجنوا ما يستحقون من أجله احتمال الأثقال، وهم الزوج والولد.
وبعض علته جسمي يتصل بالفسيولوجيا، وقد عجز الأطباء عن علاجه؛ فما زال السل يداوره ويناوئه حتى قضى عليه آخر الأمر.
অজানা পৃষ্ঠা