فالهول يركبه الفتى
حذر المخازي والسآمه
والعبد يقرع بالعصا
والحر تكفيه الملامه
وأكبر الظن أن يزيد قال هذا الشعر في سجنه، ولكنه لم يذعه إلا بعد حين، حين ظفر بحريته وأصبح بمأمن من عادية عباد، وآية ذلك أن الرواة ينبئوننا بأن يزيد قد ثاب إلى شيء من الرشد، أو ثاب إليه شيء من الرشد، فرفق بنفسه واصطنع الحذر والاحتياط، وجعل لا يذكر عبادا إلا حامدا له مثنيا عليه، فإذا ذكر له سجنه ومحنته قال: وأي بأس في ذلك؟! رجل أسرف على نفسه فأدبه أميره ناصحا له مبقيا عليه. وجعلت هذه الأحاديث الحسان تبلغ عبادا فيرق للشاعر ويعطف عليه ويلتمس له المعاذير، ويذكر أنه هو الذي دعاه إلى صحبته على علم منه بأخلاقه ومواطن ضعفه.
وما زال يزيد يتلطف، وعباد يتعطف، حتى أخرج الأمير شاعره من السجن وقدم إليه بعض الخير، وجعل يحتال حتى فر من سجستان ومضى هاربا يترقب ويستخفي حتى انتهى إلى الشام، وكان في أثناء هربه يقول الشعر في هجاء عباد وآل زياد، ويكتبه على الجدران في كل خان ينزل به. حتى إذا انتهى إلى الشام عرف أنه قد بلغ مأمنه وأن يد آل زياد لن تبلغه فأطلق لسانه في غير تحفظ، ونال آل زياد بكل مكروه، ولم يكن آل زياد بمأمن من الهجاء، ولا بنجوة من البغض لهم والوجد عليهم، فقد كانت كثرة قريش تبغضهم أشد البغض، تراهم دخلاء فيها بعد أن استلحق معاوية زيادا في تلك القصة المعروفة.
وكان بنو أمية أنفسهم يبغضون زيادا أشد البغض لما نال من الحظوة عند معاوية ولما استأثر به من حكم العراق دون شباب أمية وشيوخها، واشتد بغض بني أمية لزياد وبنيه حين مات فورث ابنه عبيد الله عنه حكم العراق، وكان زياد قد اشتد على الناس وأخذهم بالعنف، فكرهته الشيعة من أهل العراق كما كرهه الخوارج كرها ظاهرا، وكرهه عامة الناس كرها أسروه في أنفسهم ولم يعلنوه إلا حين كانت الفرصة تمكنهم من إعلانه، ولم يملك شباب قريش ولا شباب الأنصار أنفسهم وألسنتهم فلهجوا بزياد وجحدوا بنوته لأبي سفيان وقالوا في ذلك شعرا كثيرا عرفه معاوية ولكنه أغضى عنه تكرما وحلما وسياسة أيضا، فانتهز يزيد شاعرنا هذا كله وقال في زياد وبنيه أشنع الشعر وأقذعه، فنفى زيادا من أبي سفيان، ونفى بني زياد من أبيهم وهجاهم في أمهاتهم ثم هجاهم في أخلاقهم، ثم هجاهم في سيرتهم، ثم جعل يحرض عليهم اليمانية حينا والمضرية حينا آخر، وجعل شعره يشيع ويصل إلى العراق ويتنقل بين الأمصار، ويطير على ألسنة الرواة، حتى ضاق به عبيد الله أشد الضيق، وكتب إلى الخليفة في دمشق يسأله أن يرد عليه يزيد ليقتله؛ فرد الخليفة إليه يزيد ولكنه تقدم إليه في أن يعذبه عذابا موجعا دون أن يبلغ نفسه.
وهنا نستطيع أن نوازن بين يزيد هذا الذي لا نكاد نعرف له نسبا في قحطان أو في عدنان وإن ألحق نفسه بحمير وزعم لها حلف قريش، وبين شاعر آخر معاصر له كان عظيم الشرف رفيع المكانة في قومه عزيزا بأعظم قبيلة عربية، وكان في الوقت نفسه أملك للشعر وأقدر عليه من يزيد وهو الفرزدق، فقد ساء الأمر بين الفرزدق وزياد، وطلب زياد الفرزدق حتى أخافه، فهرب الفرزدق من العراق واستجار ببني أمية في الحجاز، وجعل يتنقل بين مكة والمدينة ولكنه كف لسانه عن زياد فلم يهجه أو لم يكد يهجوه، وإنما ظل هاربا متحفظا حتى إذا مات زياد عاد إلى العراق وصانع الأمراء من أبنائه ومن غير أبنائه.
ومن المرجح أن مكانة الفرزدق نفسها هي التي اضطرته إلى أن يكف لسانه ويؤثر العافية لنفسه ولقومه، فأما يزيد فلم يكن يحرص على شيء، ولم يكن يخاف على قومه كيدا، فاليمانية إن كان يزيد يمانيا هم قوة أمير المؤمنين وأنصاره لا يستطيع أحد أن يعرض لهم بسوء، وقريش أهل أمير المؤمنين وعشيرته لا يستطيع أحد أن ينالهم بسوء، فلم يبق ليزيد إلا نفسه، ونفسه حرة لا تفرط في الحرية، وهي في الوقت نفسه مبغضة لا تلين في البغض، ومحبة لا تقصر في الحب، وقد أبغض زيادا وبنيه، فيجب أن ينتهي به البغض إلى غايته؛ ولذلك أدخل على عبيد الله بن زياد حين رد إلى البصرة فلم يهن ولم يضعف ولم ينكر من سيرته وشعره شيئا، وإنما استقبل المحنة شجاعا جلدا وصبورا مستئيسا، وقال لعبيد الله: دونك وما تشاء. وقد أمر عبيد الله به فألقي في غيابات السجن، ولكن يزيد لم يكف عن الهجاء حتى في السجن، وقد عذبه عبيد الله عذابا أقل ما يوصف به أنه لم يكن عربيا، وإنما كان أعجميا ينافر أشد المنافرة كرم العرب وكرامتهم وارتفاعهم بأنفسهم وبعدهم عما يشين، وبعض هذا العذاب يذكرنا بما كان يصنع في الأندلس ببعض الثائرين، وبما كان يصنع في إيطاليا بخصوم نظام الفاشية؛ فقد أمر عبيد الله فسقي الشاعر في سجنه نبيذا حلوا فيه مسهل، ثم قرن إلى كلب وهرة وخنزير وطوف به في مدينة البصرة على هذه الحال المنكرة، وجعل الصبية من أبناء الموالي والفرس يتبعونه بالتندر والعبث، وجعل هو يرد على تندرهم في لغة فارسية نقلها أبو الفرج، وجعل الخنزير الذي قرن إليه يضبح كلما جره، وجعل يزيد في هذه المحنة يعبث بسمية أم زياد؛ فقد سمى خنزيره هذا سمية وجعل كلما ضبح الخنزير يقول:
ضبحت سمية لما لزها قرني
অজানা পৃষ্ঠা