وهناك حقيقة واقعة سادسة، وهي التي أريد أن أختم بها هذا البحث الطويل، وهي أن الحياة الإنسانية على اختلاف بيئاتها تتجه الآن اتجاهات شعبية لا فردية، ومن طبيعة هذه الاتجاهات الشعبية أن تستغرق كل شيء وتلتهم كل شيء، ومن طبيعة الأدب الرفيع والفن الجميل أن يمتاز ويأبى الفناء في أي قوة مهما تكن، فسيمتحن الأدباء فيما يحرصون عليه من الامتياز، وسيتعرضون إما للعزلة المؤذية أو الخلطة التي تدعو إلى الابتذال، ولكنهم سيلائمون في أدبنا العربي كما لاءم زملاؤهم في الآداب الأخرى بين امتياز أدبهم الرفيع وطموح الشعوب إلى أن تستغرق كل شيء، وسيكون أدبهم الرفيع الممتاز مرآة صافية صقيلة رائعة لحياة الشعب، يرى فيها الشعب نفسه فيحب منها ما يحب ويبغض منها ما يبغض، ويدفعه حبه إلى التماس الكمال، ويدفعه بغضه إلى التماس الإصلاح، وينظر الأدب العربي الحديث فإذا هو في مستقبل أيامه كالآداب الحديثة الكبرى، قائد الشعوب إلى مثلها العليا من الخير والحق والجمال.
الحياة الأدبية في جزيرة العرب
تستطيع أن ترسم لبلاد العرب في هذه الأيام صورتين مختلفتين أشد الاختلاف، وكلتاهما مع ذلك صادقة صحيحة، فهي قسم من آسيا يسمى باسم واحد منذ عصور بعيدة جدا ولكنه يتألف من أقطار وأقاليم تختلف في طبيعتها وتتباين أحوالها الجغرافية والاجتماعية والسياسية والدينية أيضا، فمنها السهل ومنها الوعر، ومنها المرتفع ومنها المنخفض، ومنها الخصب الغني ومنها الجدب القاحل، ومنها ما يسكنه الحضر ومنها ما يسكنه البدو، ثم منها ما يحتفظ باستقلال سياسي قوي أو ضعيف، ومنها ما خضع للأجنبي خضوعا تاما، ومنها بعد هذا كله من يذهبون في الدين مذهب أهل السنة ويتشددون في المحافظة على عقائد السلف الصالح من المسلمين، ومن يذهبون مذهب الشيعة معتدلا أو متشددا، ومن يقيم حياته الدينية على التصوف، ومن يعيش عيشة المسلمين العاديين في البلاد الإسلامية الأخرى، ومن جهل الإسلام جهلا تاما وانغمس في نوع من البداوة هو أشبه شيء بما يصوره الشعر العربي القديم من حياة العرب الجاهليين الذين كانوا يعبدون الأوثان والأشجار قبل ظهور الإسلام.
تجد هذا كله في بلاد العرب، فلا تكاد تصدق أن لهذه البلاد وحدة ما، أو أن من اليسير أن تتحدث عنها وعن آدابها كما تتحدث عن أي بلد آخر من بلاد الشرق العربي، فأنت تستطيع أن تتحدث عن مصر وعن سوريا وعن تونس أو الجزائر، فتصف حياتها الاجتماعية والسياسية والأدبية والدينية في غير مشقة ولا صعوبة؛ لأن لكل بلد من هذه البلاد وحدته الجغرافية والسياسية واللغوية، وهذه الوحدة تمكنك من أن تصف كل بلد من هذه البلاد وصفا مقاربا إن لم يكن دقيقا كل الدقة، أما بلاد العرب أو جزيرة العرب كما يسميها الجغرافيون فليس لها من هذه الوحدة حظ، فما تقوله عن الحجاز لا يصدق على اليمن وما تقوله في أمر نجد لا يصح بالقياس إلى تهامة، فليس هناك قطر واحد وإنما هناك أقطار وأقاليم. •••
وهذه الصورة التي أصورها لك الآن من بلاد العرب قريبة كل القرب من الصورة التي تجدها لهذه البلاد في الشعر الجاهلي حين لم تكن هذه الأقاليم كلها تتفق إلا في الاسم ، وحين كانت تختلف في اللغات واللهجات وفي النظم السياسية والاجتماعية والدينية باختلاف الأقاليم والأقطار، وحين لم يكن الجمل - وهو أداة المواصلات الوحيدة - يستطيع أن يلغي ما بين هذه الأقاليم من الفروق، فهذه الأقاليم لا تزال اليوم كما كانت قبل الإسلام، لم تلغ فيها المسافات ولم تقرب بينها السكك الحديدية، ولم يؤثر فيها تأثيرا قويا استعمال التلغراف على قلة استعماله، ولا مرور السفن البخارية على سواحلها في البحر الأحمر أو بحر الهند أو الخليج الفارسي، فهي إذن على حالها القديم تكاد تكون معزولة عن العالم الخارجي، وهي إذن على حالها القديم لا يكاد يوجد اتصال وطيد بين أقاليمها الداخلية، ومن الغريب أن وضعها السياسي بعد الحرب الكبرى يشبه جدا وضعها السياسي في القرنين الخامس والسادس للميلاد قبل أن يظهر الإسلام فيوثق الصلة بينها وبين بلاد الشرق الأدنى والأوسط.
كانت أطراف الجزيرة العربية في القرنين الخامس والسادس للميلاد متصلة بالدول الأجنبية المجاورة لها، فكانت أطرافها من جهة الشام متصلة بدولة البيزنطيين، ونشأ عن هذا الاتصال أن نظمت علاقات سياسية بين أمراء الغسانيين وقياصرة قسطنطينية، أشبه بعلاقات الحماية في هذا العصر الحديث، وأي شيء الآن إمارة شرقي الأردن؟ هي إمارة الغسانيين القدماء، فيها مدن لها حظ ضئيل من الحضارة، وفيها بادية قوية غنية، وعلى رأسها أمير كان غسانيا قبل الإسلام وهو هاشمي الآن، وهذه الإمارة كانت خاضعة لحماية قسطنطينية قبل الإسلام وهي الآن خاضعة لحماية لندرة، وأطراف الجزيرة من ناحية العراق كانت متصلة بالفرس تقوم فيها إمارة عربية يحميها أكاسرة الفرس وتحافظ هي على حدود الدولة الساسانية من غارة البدو، وهي الآن تقوم فيها مملكة عربية ليس على رأسها لخمي كما كانت الحال من قبل بل هاشمي، وليس يحميها الفرس وإنما يحميها الإنجليز، وبلاد اليمن وما يتصل بها من الأقاليم الجنوبية في الجزيرة كانت في القرنين الخامس والسادس موضع النزاع بين الفرس والروم، وكانت تخضع للروم بواسطة الحبشة أو تخضع للفرس مباشرة أو تظفر باستقلال ضئيل يظل موضع النزاع بين أولئك وهؤلاء، وهي الآن كما كانت من قبل، بعضها خاضع لسلطان الإنجليز مباشرة على الساحل، وبعضها مستقل ولكنه موضع النزاع والتنافس بين القوة الإنجليزية والقوة الإيطالية.
تغيرت أسماء الدول الحامية لأطراف الجزيرة أو الطامعة فيها وتغيرت بعض الشيء أشكال الحماية والطمع، ولكن طبيعة الأشياء لم تتغير وأسباب الحماية والطمع لم تتغير؛ فالدول الأجنبية تحمي أطراف جزيرة العرب، إما خوفا من البدو وإما رغبة في بسط النفوذ التجاري وإما للأمرين جميعا، وطريقة العرب أنفسهم في فهم العلاقة بينهم وبين الأجانب لم تتغير، هي في القرن العشرين كما كانت في القرنين الخامس والسادس تقوم على الحاجة إلى المال والخوف من القوة، فأي الأجانب المجاورين للجزيرة كان أشد قوة وأكثر مالا فهو صاحب النفوذ عند هؤلاء الناس.
أما قلب الجزيرة وداخليتها فلم يتغير كذلك إلا قليلا، بادية مستقلة استقلالا تاما تظهر الخضوع والطاعة لأمراء الحضر، رغبة أو رهبة أو خوفا وطمعا، فليس هناك فرق بين إمام صنعاء في اليمن وبين ملك من ملوك حمير في العصر القديم له سلطته المركزية في الحضر، ولكن أصحاب البادية مستقلون لا يخضعون له إلا بمقدار ما يخافونه أو يطمعون في عطائه، ومثل هذا في نجد وتهامة والحجاز. •••
هذه إحدى الصورتين اللتين أشرت إليهما في أول هذا الفصل، أما الصورة الثانية فتمثل بلاد العرب من حيث إنها وحدة متشابهة من بعض الوجوه، فالدين الرسمي لهذه البلاد هو الإسلام، واللغة الرسمية لهذه البلاد هي لغة القرآن، والحضارة الرسمية في هذه البلاد هي الحضارة الإسلامية القديمة، وإذن فمهما يختلف سكان الجزيرة العربية في موطنهم الجغرافي وفي نظامهم السياسي وفي مذهبهم الديني وفي علاقتهم بالأجانب وفي لهجاتهم الخاصة فهم جميعا مسلمون وهم جميعا يكتبون لغة القرآن إذا كتبوا، ويفكرون ويعيشون على نحو ما كان يفكر ويعيش المسلم قبل أن تتوثق الصلة بينه وبين الأوروبيين والأمريكيين.
ومن هذه الناحية يستطيع الباحث عن الآداب في البلاد العربية أن يتحدث عنها في مقال واحد كأنه يتحدث عن شعب واحد، على أن من الحق عليه أن يلاحظ الظروف الخاصة التي تحيط ببعض الأقاليم فتجعل في آدابه صفات ليست في غيرها من آداب الأقاليم الأخرى، ولكن الكلام عن الأدب في جزيرة العرب يحتاج إلى أن تحل مسألة عزلته قبل الشروع فيه؛ ذلك أن بلاد العرب هي مهد الأدب القديم، وفي شماليها ووسطها ظهر الشعر الجاهلي، وفي الحجاز ظهر القرآن ومن الحجاز ونجد وتهامة انتشرت اللغة العربية وما كانت تحمل من أدب ودين إلى بلاد الشرق الأدنى، فغمرت أكثره وظلت موطنا للأدب الخالص طول القرن الأول للهجرة، فكبار الشعراء في العصر الأموي جميعا من البادية أو من حواضر الحجاز ونجد.
অজানা পৃষ্ঠা