لقد سقط معبودي عن تمثاله، وهوى من أوجه العالي، فقد حنث بيمينه، ولم يخلص لي في حبه.
وعاودتني هذه الخواطر فلم تترك في نفسي حنانا ولا إثارة من رحمة، وإنما بقي في فؤادي شمم جريح ويأس ممض، وإذا بالعبرات تكف من مدمعي على خدي الشاحبين، وإذا عاطفة الصفح، والإيمان والحب، قد فاضت في أعماق نفسي ثجاجة فوارة مندفعة، فأسرعت الخطى ثم عدوت ألاحق المرأة وابنها ورحت أناديها: لقد صفحت، وألتمس منك المغفرة لما فرط من قسوتي وغلظة فؤادي!!
فالتفتت نحوي مجفلة، ثم وثب إلى عينيها بريق فرح متلألئ، وتلاه ظل ألم بليغ مستفيض فغام عليه وحجبه، ورفعت يدها إلى فؤادها كأنما تمسك دقه وتهدئ من خفقه، ورأى صبيها هذه الحركة منها، وكان قد اعتاد رؤيتها من قبل وأدرك ما يعقبها فعدا مطلقا ساقيه للريح ليستدعي امرأة قروية قريبة من الموضع.
وما كاد الغلام يبتعد حتى ترنحت أمه وكادت تسقط إلى الأرض لو لم أعاجلها فأسندها إلى ذراعي. فزفرت زفرة مستطيلة وقالت بصوت متقطع النبرات: لقد دنت الخاتمة، فأناشدك الله أن تأخذي الصغير إلى ملجأ اليتامى من بعدي، فقد مات أهلنا ونحن اليوم وحيدان من الدنيا، لا أقارب لنا ولا أصحاب ولا مال.
فأومأت برأسي ثم أكببت عليها فهمست أقول: أيهنؤك الرحيل إذا علمت أنني آخذته معي إلى بيتي فقائمة عنك بتربيته ... هذا موثقي لك وعهدي!
ولكني لم أسمع جوابا، وإنما رأيت سمات السكينة والفرح والطمأنينة قد شاعت في وجهها الحزين الأليم، ومحياها الساجي سجوة الغم والأسى ...
وأغمضت عينيها آخر عهدهما بنور هذا العالم!
وكان الصبي قد وصل في تلك اللحظة مع المرأة القروية فاحتملت الراحلة إلى كوخها الصغير العاري الأجرد مما في بيوت الناس من متاع.
لقد ذهبت لتلقى زوجها في السماء.
ومشيت منكفئة إلى القبر فحنوت حياله خاشعة مشتبكة اليدين، ساكنة العين والفؤاد، وقلت في رفق أناجي الضاجع نداء خفيا: لقد صفحت ... لقد عفوت ...
অজানা পৃষ্ঠা