وفاض فيض عاطفتي، وثارت ثائرتي، وهمت عبراتي، فتهالكت على الفراش ساخطة حانقة، لم آت منكرا، ولم أحدث في الحياة سوءا ولا ضرا، فعلام هذا العذاب؟! ولم هذا العسف الذي أسامه؟ لقد كان لقاؤنا بذلك الصديق على غير ميعاد في بيت شقيق زوجي الليلة البارحة، وقد سرني أن أراه بعد غيبة الأعوام الطوال، فقد كنا منذ عشر سنين في البلد الصغير الوادع الذي فيه نشأت صديقين على ولاء، ثم انحدر هو إلى المدينة ليشتغل بصناعة المحاماة، ولعل ذلك هو السبب الذي منعني الزواج حتى أدركت السادسة والعشرين على الرغم من إلحاح فتى آخر علي بغزله وتودده واستدراجي إلى الرضاء به زوجا ...
كان ذلك منذ خمسة أعوام، مضت أربعة منها وأنا أغالب الندامة وأناضل الأسى حتى لا أعترف لنفسي بأن زواجي عاد خيبة مريرة ولم يعد هناءة ولا رغدا!
ولكني أمسكت فيض خواطري وعدت إلى نفسي أردها إلى موقفي المحرج الأليم، وأذكرها بمحبسي هذا في مخدعي.
ووثبت من فراشي لأحتال على الخروج، فمشيت إلى الباب أتفحصه، فإذا هو ثقيل متين القفل، فقد جئنا بالنجار منذ أسبوع فأصلحه وكان من قبل لا ينغلق تماما إذا أغلقناه.
وتذكرت أن النجار انتزع الباب من مفصلاته ثم رده إلى موضعه، فصعدت كرسيا ونظرت إلى المفصلة العليا وقلت لنفسي لعلي مستطيعة أن أنزع مسامير المفصلة كما فعل النجار، فمضيت أحاول ذلك طويلا بمقصي، وذهني مفعم بذكريات الماضي، وأحداثه تعود إلى خاطري، بينما يداي الضعيفتان تعالجان المسامير.
ولم أستطع أن أحل ذلك المعمى، معمى زواجي، ولم أجد له سببا إلا بعض تصاريف الأقدار ومجتمع الظروف.
كنت كبرى إخواتي، وكنا ست فتيات، تزوجت قبلي إحداهن، وخطبت أخرى، وبلغت أنا من الشباب مرحلة بدأ فيها أهلي يستشعرون خوفا أحمق من بقائي عذراء، ويشفقون من أن أروح عانسا العمر كله. ولعل خوف أختي المتزوجة من هذه الناحية ومكاشفتها لي بمخاوفها وإقناعي بوجوب انتهاز أول سانحة للإقبال على عيش الزواج، هي كلها السبب الذي حملني على الرضى به عاجلة غير متروية.
وكنت يومئذ أعرف ذلك الفتى الآخر، وكان لا يفتأ يسألني رأيي في قبول الزواج به، ولكني تركته بين نعم ولا حائرا مترددا. فقد عرفته من عهد الطفولة وكان طيبا ساذجا، ولكني كنت أضيق به ذرعا، ولا أجد في نفسي له ميلا ولا هوى. وأنا لكذلك إذ نزل زوجي بالبلدة لزيارة أقارب له فيها ولعمل متصل بشؤونهم، وكان ينوي الرجوع بعد بضعة أسابيع، وكان لقائي به في فرح أقيم في القرية عقب قدومه، فما لبث أن افتتن بي من بين سائر الفتيات اللائي رحن يتلطفن إليه ويتحببن ... وتسامع الناس بأنه في خير حال وبسطة من الرزق، وكان ذلك كله كافيا في قرية صغيرة كقريتنا لتهافت القوم عليه. وكنت من قبل ألتهف على زيارة الحاضرة، فجعلت كلما جلست إليه في خلوة أسأله أن يحدثني عن مشاهدها، وكان ذلك يثير في النفس خيالا وفتنة، ويبعثني على تخيل الفرار من هذا العيش الرتيب وحياة القرية الغبية المتبلدة، فلم ألبث أن آنست إلى حديثه وآثرته على سذاجة الفتى الآخر، فتزوجنا بعد بضعة أسابيع وتحملت معه إلى الحاضرة، وكان قد قال لي قبيل الرحيل: إنك ستحبين المدينة ولست أشك في أن أمي ستحبك ... فأنت مليحة محببة أيتها الزوج الصغيرة الغالية.
يا لله.! ما كان أهنأ عيشي في الأيام الأولى لزواجنا؛ فقد كانت الحياة حلما في الكرى أو خلسة المختلس، ولكني من أول الأمر وجدت أهله على غير ما كنت أنتظر، فقد ألفيتهم قوما أغبياء ضيقي الأذهان، فلم أشأ أن أجاريهم في حوار أو أبسط لهم في أمر رأيا، بل رضت نفسي على السكوت والاستماع إليهم: وكانت له أم هي على غرار سواد الأمهات تغار عليه من زوجه، ولا ترضى أن تشاركها في حبه إنسانة سواها، فلما التقينا أول لقائنا مضت تتأملني بنظرة المتفحص وكأنما استكثرت علي أن أكون لولدها زوجا، وقد سمعتها بعد ذلك بأيام تنصح له بتشديد الرقابة على حركاتي وسكناتي، وهي في معزل تتحدث إليه خفية، نعم لقد طرق سمعي يومئذ قولها: لا تنس يا بني، إن في النساء مليحات متناهيات الملاحة والفتنة، وهذا والله على الزوج الشر كله وفيه الضر؛ لأنهن لا يسلمن من غزل الرجال ومعاكستهم لهن والجري أبدا في أذيالهن، فكن على زوجك الحسناء يا بني بصيرا.
لعلي مستطيعة أن أنزل مسامير بالمفصلة كما فعل النجار.
অজানা পৃষ্ঠা