الروايتين والوجهين - المسائل الأصولية منه
الروايتين والوجهين - المسائل الأصولية منه
তদারক
الدكتور عبد الكريم محمد اللاحم
প্রকাশক
مكتبة المعارف
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى
প্রকাশনার বছর
١٤٠٥ هـ - ١٩٨٥ م
প্রকাশনার স্থান
الرياض - المملكة العربية السعودية
জনগুলি
المسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين
تأليف
القاضي أبي يعلى الحنبلي
تحقيق
عبد الكريم محمد اللاحم
مكتبة المعارف
1 / 1
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى
١٤٠٥ هـ - ١٩٨٥ م
مكتبة المعارف
ص. ب: ٣٢٨١ - هاتف: ٤٠١٣٧٠٨ - ٤٠٣٣٩٧٩
الرياض - المملكة العربية السعودية
1 / 2
مقدمة التحقيق
1 / 9
المقدمة
الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد:
فإني سأقتصر في مقدمة التحقيق لهذا الجزء على ثلاثة أمور هي: -
١ - التعريف بالمؤلف.
٢ - التعريف بالكتاب.
٣ - منهج التحقيق.
وقد ذكرتها مفصلة في مقدمة تحقيق "المسائل الفقهية" من هذا الكتاب لكنه قد لا يتيسر لمن يقرأ هذا الجزء الإطلاع عليها قبل ما يتم طبع الكتاب مكتملًا.
لذا فسأوجزها هنا بما يغني عن الرجوع إليها هناك.
1 / 11
التعريف بالمؤلف
ويشمل
١ - اسمه ونسبه
٢ - مولده.
٣ - نشأته وحياته العلمية ورحلاته في طلب العلم.
٤ - مشائخه وتلاميذه.
٥ - مكانته العلمية.
٦ - مكانته الإِجتماعية.
٧ - آثاره العلمية.
٨ - زهده وورعه.
٩ - أعماله.
١٠ - وفاته.
1 / 12
اسمه ونسبه
هو العالم العلامة شيخ الحنابلة وإمامهم في عصره: محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفرَّاء القاضي أبو يعلى البغدادي الحنبلي المعروف في زمانه بإبن الفراء (^١)، واشتهر بعد ذلك بأبي يعلى (^٢).
مولده:
ولد لتسع وعشرين أو ثمانٍ وعشرين خَلَتْ من شهر المحرم سنة ٣٨٠ هـ ثمانين وثلاثمائة (^٣)، وقيل: ولد لسبعٍ وعشرين أو ثمانٍ وعشرين من المحرّم (^٤).
نشأته وحياته العلمية ورحلاته في طلبِ العِلم:
نشأ في بيت علمٍ، فكان أبوه على جانبٍ كبيرٍ من العلمِ والفقه، فحرص على تعليم ابنه، وتنشئته تنشئة عِلميَّة صالحة، فكانَ يتولى تعليمَه بِنَفْسهِ.
_________
(^١) الفرَّاء نسبة إلى خياطة الفراء والتجارة بها.
(^٢) طبقات الحنابلة ٢/ ١٩٣، والمنهج الأحمد ٢/ ١٠٥، والمنتظم ٨/ ٢٤٣، والأعلام ٤/ ٣٣١، وتاريخ بغداد ٢/ ٢٥٦، ومناقب الإِمام أحمد/ ٥٢٠، وشذرات الذهب ٣/ ٣٠٦، وسير أعلام النبلاء ١٢/ ٣٣٢.
(^٣) طبقات الحنابلة ٢/ ١٩٥.
(^٤) تاريخ بغداد ٢/ ٢٩٦.
1 / 13
كما نَشَأ في بيئة علميَّة، فكانت نشأته في بغداد حاضرة العالم الإِسلامي، ومهد العلماء في عصرهِ، وكانت النهضة العلمية في ذلك العصر مكتملة الأسباب، متوافرة الدَّواعي، ولم تكن خاصة بعلم دون آخر، بل كانت متعددة الجوانب ومتنوعة الفنون.
وكان الأساتذة متوافرون في كلِ علمٍ، والمكتباتُ زاخرةٌ بالمصادرِ والمراجع في كلِّ فنٍ.
وكانت مدرسة الحديث عامرةً بشيوخِها وأساتِذتها.
فكانَ لهذا أثرٌ كبير في نبوغِه ورسوخ قَدَمِهِ، وعلُوِّ منزِلَتِه في العلمِ والمعرفةِ، توفي والده سنةَ تسعين وثلاثمائة، وعمر أبي يعلى عشرُ سِنينَ (^١)، وكان الوصِيُّ عليه رجل يعرف بالحربي، كان يسكن بدار القز (^٢)، فانتقل أبو يعلى من باب الطاق الذي كان يسكن فيه مع والده إلى دار القزّ حيث يسكن الوصي، وكان بهذا الحي رجل صالح -يعرف بابن مفرحة المقرئ- يُقرئ القرآن، ويلقن طلابه بعض العبارات من "مختصر الخرقي"، فقرأ عليه أبو يعلى وأخذ عنه ما كان يلقِّنه لطلابِهِ، ولم يكتفِ أبو يعلى بهذا القدر، بل طلبَ من معلمه الزيادة فقال لَهُ: هذا القدرُ الذي أُحسنه، فإن أردت زيادةً فعليكَ بالشيخ أبي عبد اللَّه بن حامد، فإنه شيخ هذه الطائفة (^٣)، يعني: الحنابلة، فقصده أبو يعلى وتتلمذ عليه، وصحبه إلى أن تُوفي، وبهذا انتقلَ من دَور التلقين إلى دور الدراسة والتحمّل، وقد نال إعجابه، وحاز رضاه، وفاق زملاءه وأقرانه، فحينما أراد ابن حامد الحج سنة اثنتين وأربعمائة سئل عمَّن يقوم بالتدريس أثناء غيابه فأشار إلى أبي يعلى وقال: هذا الفتَى (^٤).
_________
(^١) سير أعلام النبلاء ١٢/ ٣٣٣.
(^٢) حي من أحياء بغداد.
(^٣) طبقات الحنابلة ٢/ ١٩٤.
(^٤) طبقات الحنابلة ٢/ ١٩٥.
1 / 14
وقد رحل في طلب العلم إلى مكة، ودمشق، وحلب، وهناك سمع الحديث من بعض محدِّثيها (^١).
مشائخه ومن سمع منهم:
بدأ بالتلقّي والسماع وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره (^٢)، وكان أول سماعه من أبي الحسن علي بن معروف سنة خمس وثمانين وثلاثمائة (^٣)، وأبرز مشائخه الَّذين استفاد منهم أبو عبد اللَّه بن حامد، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وسمع من جماعة عن البغوي، وحدَّث عن البغوي عن أحمد بن حنبل.
كما سمع من أبي الحسن السَّكري، عن أحمد بن عبد الجبار الصوفي، عن يحيى بن معين وغيره.
وسمع أيضًا من أبي القاسم موسى بن عيسى السَّراج عن البغوي وغيره.
ومن أبي القاسم بن حبابة، عن البغوي، عن علي بن الجعد، عن شعبة وغيره.
ومن أبي الطيب بن المنار، عن البغوي، وابن صاعد وغيرهما.
ومن أبي طاهر المخلص، عن البغوي وابن صاعد وغيرهم.
ومن أبي القاسم عيسى بن علي الوزير عن البغوي وغيره.
_________
(^١) سير أعلام النبلاء ١٢/ ٣٣٣.
(^٢) طبقات الحنابلة ٢/ ١٩٥، وسير أعلام النبلاء ١٢/ ٣٣٣.
(^٣) سير أعلام النبلاء ١٢/ ٣٣٣.
1 / 15
ومن أبي القاسم بن سويد عن ابن مجاهد وابن الأنباري وغيرهما.
وهت أبي القاسم الصَّيدلاني عن ابن صاعد وغيره.
ومن أم الفتح بنت القاضي أبي بكر أحمد بن كامل.
ومن جده لأُمه أبي القاسم بن حنيفا.
ومن أبي عبد اللَّه عن أبي بكر محمد بن إسحاق بن عبد الرحيم السوسي وغيره.
ومن أبي محمد عبد اللَّه بن أحمد بن مالك.
ومن القاضي أبي محمد الأكفاني.
ومن أبي نصر بن الشاه.
ومن أبي عبد اللَّه النَيْسابوري.
ومن أبي الحسن الحمامي.
ومن أبي الفتح بن الفوارس.
وسمع آخرين بمكة ودمشق وحلب (^١).
مكانته العلمية:
كان عالم زمانه، وفريد عصره، ونسيج وحده، وقرج دهره، عالمًا ثقةً وفقيهًا فاضلًا، معدودًا من الأماثل والأعيان، حظي بالتوقير والتقدير من المخالفين له والموافقين، انتهت إليه رياسة مذهب الحنابلة في عصره، وعنه انتشر مذهبهم.
_________
(^١) طبقات الحنابلة ٢/ ١٩٥ و١٩٦، وتاريخ بغداد: ٢/ ٢٥٩، والمنتظم: ٨/ ٢٤٣. وسير أعلام النبلاء: ١٢/ ٣٣٣
1 / 16
كان له القدم الرفيع والباع الطويل في كثير من الفنون، الأصول والفروع، عالمًا بالقرآن وعلومه، والحديث والفتوى، انتشرت تصانيفُهُ، وذاع صيته، فكثر تلاميذه وأصحابه، وقصده الناس من سائر الأقطار (^١).
قال ابنه القاضي أبو الحسين:
"ولقد حَضَرَ الناس مجلسه وهو يُملى حديث رسول اللَّه ﷺ بعد صلاة الجمعة بجامع المنصور على كرسي عبد اللَّه بن إمامنا أحمد ﵁، وكان المبلِّغون عنه في حلقته والمستملون: ثلاثة: أحدهم: خالي أبو محمد جابر، والثاني: أبو منصور الأنباري، والثالث: أبو علي البرداني.
وأخبرني جماعة من الفقهاء ممن حضر الإِملاء أنَّهم سجدوا في حلقة الإِملاء على ظهور الناس لكثرة الزحام في صلاة الجمعة في حلقة الإِملاء، وما رأى الناس في زمانهم مجلسًا اجتمع فيه ذلك الجمّ الغفير، والعدد الكثير.
وسمعت من يذكر أنه حرر العدد بالألوف، وذلك مع نباهة من حضره من الأعيان، وأماثل هذا الزمان من النقباء، وقاضي القضاة، والشهود، والفقهاء، وكان يومًا مشهودًا" (^٢).
مكانته الإِجتماعية:
حاز رضى الناس عامتهم وخاصتهم، بماكان عليه من مكانة علمية، وما يتصف به من فضل وتقى وزهد وورع وحلم وتواضع، فكانوا يجلِّونه ويقدِّرونه ويوقِّرونه، فلما توفي عُطِّلت الأسواق، وأُغلقت المتاجر لشهود جنازته، واجتمع في جنازته جمع لم يُرَ مثله بعد جنازة أبي الحسن القزويني الزاهد،
_________
(^١) طبقات الحنابلة: ٢/ ١٩٣، والبداية والنهاية: ١٢/ ٩٤، والوافي بالوفيات: ٣/ ٧، والكامل لابن الأثير: ١٠/ ٥٢، ومناقب الإمام أحمد: / ٥٢٠، والأعلام: ٦/ ٣٣٠، والمنتظم: ٨/ ٢٤٣، وتاريخ بغداد: ٢/ ٢٥٦، وشذرات الذهب: ٣/ ٣٠٦.
(^٢) طبقات الحنابلة: ٢/ ٢٠٠، والمنتظم: ٨/ ٢٤٤.
1 / 17
وحضره القضاة والأعيان، وأرباب الدولة، وجماعة الفقهاء والشهود، ومشى في جنازته القاضي أبو عبد اللَّه الدامغاني، ونقيب الهاشميين أبو الفوارس طرَّاد، وأبو منصور بن يوسف وأبو عبد اللَّه بن جردة، وأفطر جماعة ممن تبع جنازته من شدة الحر (^١)، والفطر في رمضان من أجل شهود الجنازة -وإن كان غير جائز- فإنه يعطي صورة واضحة لما له في النفوس من مكانة واحترام وتقدير، حيث لم تسمح بالتخلف عنه مع ما لحقها من التعب والمشقة.
آثاره العلمية:
يتجلَّى ذلك في تصانيفه ومؤلفاته التي دوَّنها وتناقلها العلماء، وانتفعوا بها بعدَهُ وفي أصحابه وتلاميذه الذين نهلوا من علمه ونشروه في الناس بالفتوى والتدريس، وسنشير إلى بعض هؤلاء التلاميذِ والأصحاب وبعض هذه المصنفات.
تلاميذه:
لما تولَّى التدريس بعد شيخه أبي عبد اللَّه الحسن بن حامد، انتشرت اخباره، وذاع صيته وازدحم الناس عليه، وانتفع به خلق كثير، وممن تفقه عليه وأخذ عنه:
أبو الحسين البغدادي، والشريف أبو جعفر، وأبو الغنائم بن الغباري وأبو علي بن البناء، وأبو الوفاء بن الفوارس، والقاضي علي البرديني، والقاضي أبو الفتح بن جبلة، وعلي بن عمرو الضرير الحراني، وأبو ياسر بن الحصري،
_________
(^١) طبقات الحنابلة: ٢/ ٢١٦.
1 / 18
وأبو عبد اللَّه الأنماطي، والحسن بن البرداني، وأبو السحن النهري أبو الفتح، وأبو البركات بن شبلي (^١) وغير هؤلاء كثير.
وممن سمع منه الحديث:
أحمد بن علي بن ثابت، وعبد العزيز العاصمي النخشبي، وعمر بن أبي الحسن الدهستاني الخياط، وهبة اللَّه بن عبد الوارث الشيرازي، وإسحاق بن عبد الوهاب بن منده الحافظ المقرئ، ومكي بن بجير الهمداني، وعمر الأرموي وأحمد بن الحسن بن خيرون، وابنا خاله: أبو طاهر، وأبو غالب، وأبو علي البرداني، وأبو الغنائم بن النرس الكوفي، وأبو جعفر الأصفهاني، وأبو نصر، وأبو الحسين، وآخرون (^٢).
مؤلفاته:
لم يقتصر في تأليفه على نوع خاص أو جانب معين من العلوم، بل تناول كثيرًا من العلوم وجوانب متعددة من المعارف، وكانت مؤلفاته كثيرة العدد، جمة المنافع، عظيمة الفائدة، أثرى منها المذهب الحنبلي إثراءً واسعًا حتى قيل إنها التي حفظت على الحنابلة مذهبهم، ومن هذه التصانيف والمؤلفات:
١ - أحكام القرآن
٢ - نقل القرآن
٣ - إيضاح البيان
٤ - مسائل الإيمان
٥ - المعتمد
٦ - مختصر المعتمد
٧ - المقتبس
٨ - مختصر المقتبس
_________
(^١) طبقات الحنابلة ٢/ ٢٠٤ و٢٠٥.
(^٢) المرجع السابق ٢/ ٢٠٤.
1 / 19
٩ - عيون المسائل
١٠ - الرد على الأشعرية
١١ - الرد على الكِرامية
١٢ - الرد على الباطنية
١٣ - الرد على المجسمة
١٤ - الرد على ابن اللبان
١٥ - إبطال التأويلات لأخبار الصفات
١٦ - مختصر إبطال التأويلات
١٧ - الإِنتصار
١٨ - الكلام في الدستور
١٩ - الكلام في حروف المعجم
٢٠ - تبرئة معاوية
٢١ - القطع على خلود الكفار في النار
٢٢ - أربع مقدمات في الأصول والديانات
٢٣ - العدة في أصول الفقه
٢٤ - إثبات إمامة الخلفاء الأربعة
٢٥ - الرسالة إلى إمام الوقت
٢٦ - مختصر العدة
٢٧ - جوابات مسائل وردت من الحرم
٢٨ - جوابات مسائل وردت من تنيس
٢٩ - الكفاية في أصول الفقه
٣٠ - جوابات مسائل وردت من ميافارقين
٣١ - جوابات مسائل وردت من اصفهان
٣٢ - مختصر الكفاية
٣٣ - إيجاب الصيام ليلة الإِغماء
٣٤ - تفضيل الفقر على الغنى
٣٥ - الأحكام السلطانية
٣٦ - فضائل أحمد
٣٧ - مختصر الصيام
٣٨ - مقدمة في الأدب
٣٩ - كتاب اللباس
٤٠ - الأمر بالمعروف
٤١ - شروط أهل الذمة
٤٢ - الاختلاف في [الذبيح]
٤٣ - التوكل
٤٤ - [ذم] الغناء
٤٥ - فضل ليلة الجمعة على ليلة القدر
٤٦ - أبطال الحيل
٤٧ - تكذيب الخيايرة فيما يدعون من إسقاط الجزية.
٤٨ - الفرق بين الآل والأهل
٤٩ - المجرد في المذهب
٥٠ - شرح الخرقي
1 / 20
٥١ - الجامع الصغير
٥٢ - شرح المذهب
٥٣ - الخصال والأقسام
٥٤ - الخلاف الكبير
٥٥ - قطعة من الجامع الكبير فيها الطهارة، وبعض الصلاة، والنكاح، والصداق والخلع، والوليمة، والطلاق (^١).
زهده وورعه:
كان زاهدًا ورعًا، تقيًّا، متعفِّفًا، تعرضت له الدنيا بمفاتنها مرات عديدة فرفضها ولم يقبلها، واكتفى منها بما يصلح حاله، وشد رمقه، فلم يقبل من حاكم صلة أو عطية، ذهب إلى الخليفة القائم بأمر اللَّه يومًا ليهنئه بالشفاء من مرضٍ أصابه، فلما خرج من عنده أتبع بجائزة سنية فلم يقبلها (^٢).
ولم يُعرف عنه أنَّه وقف بباب حاكم أو سلطان من أجل الدنيا (^٣)، مع فقره وحاجته، فقد كان يمر به أوقات يقتات الخبز اليابس يبلّه بالماء ويأكله حتى لحقه المرض بسبب ذلك (^٤)، وكان ينهى دائمًا عن مخالطة أبناء الدنيا، والنظر إليهم والإجتماع بهم، ويأمر بمخالطة الصالحين، والإِشتغال بالعلم، لما قدم الوزير ابن دارست إلى بغداد ذهب أحد تلاميذ أبي يعلى، أبو الحسن النهري ليبصره، فلمّا علم عنفه وأنكر عليه إنكارًا شديدًا وقال: ويحك تمضي وتنظر إلى الظَّلمة (^٥).
وعُرض عليه منصب القضاء عدة مرات فلم يقبله، وهذا أكبر دليل على ورعه وزهده في الدنيا، وعدم الافتتان بمظاهرها، وإلَّا لما فوّت ما يمر به من
_________
(^١) طبقات الحنابلة ٢/ ٢٠٥ و٢٠٦.
(^٢) طبقات الحنابلة ٢/ ٢٢٣.
(^٣) المرجع السابق ٢/ ٢٠٣.
(^٤) المرجع السابق ٢/ ٢٢٣.
(^٥) المرجع السابق ٢/ ٢٢٢.
1 / 21
فُرصها الثمينة التي تضفي على أقلِّ منه مكانة العظمة والجلال.
وبزهده وورعه وفضله شهد العلماء.
قال فيه أبو نصر عبيد اللَّه بن سعيد السجزي الحافظ:
حللت عن التصنع في وداد ... فلم تر في توددك اعوجاجا
وقد كثر المداجي والمرائي ... فلا تحفل بمن رأى وداجا
حييت معمرًا وجزيت خيرًا ... وعشت لدين ذي التقوى سراجا
وقال فيه الذهبي:
". . . وكان ذا عبادة وتهجد، وملازمة للتصنيف، مع الجلالة والمهابة، وكان متعففًا نزيه النفس، كبير القدر، ثخين الورع" (^١).
وقال فيه ابن الجوزي:
". . . وجمع الإمامة والعفة والصدق وحسن الخلق والتعبد والتقشف والخضوع وحسن السمت والصمت عما لا يعني" (^٢).
أعماله:
قضى معظم عمره في التدريس والإِملاء والقراءة والتأليف. وكان زاهدًا في أعمال الدولة ومناصبها، فلم يتولَّ منها غير القضاء في آخر عمره بعد إلحاحٍ شديد، وبشروط اشترطها لنفسه كما سيأتي.
توليه التدريس:
كان الشيخ أبو عبد اللَّه الحسن بن حامد، هو الذي يقوم بتدريس الفقه
_________
(^١) سير أعلام النبلاء ١٢/ ٣٣٣.
(^٢) المنتظم ٨/ ٢٤٣ و٢٤٤.
1 / 22
والأصول على مذهب الإمام أحمد في وقتط أبي يعلى، فقصده وتتلمذ عليه كما سبقت الإشارة الى ذلك.
ولمَّا أراد الشيخ بن حامد أن يحج عام ٤٠٢ اثنتين وأربعمائة، سُئِلَ عمن يتولى التدريس أثناء غيابه، فأشار إلى القاضي أبي يعلى، وقال هذا الفتى (^١).
ولمَّا رجع ابن حامد من الحج توفي في الطريق وذلك عام ٤٠٣ ثلاث وأربعمائة (^٢)، فتولى أبو يعلى التدريس والافتاء مكانه في جامع المنصور على كرسي عبد اللَّه بن أحمد (^٣).
وفي عام ٤١٤ أربع عشرة وأربعمائة، سافر الى مكة لأداء فريضة الحج ثم عاد -بعد رجوعه- الى مواصلة التدريس، والتأليف والإِفتاء، (^٤) فذاع صيته وانتشرت أخباره، وازدحم الناس عليه يسمعون منه ويسألون عما يشكل عليهم، ويقرأون عليه ويكتبون عنه، وقد نقلت عند ذكر مكانته العلمية عن إبنه أبي الحسين حكاية ما كان عليه مجلسه من الزحام، وما كان يحضرهُ من الأعيان والنقباء والشهود والقضاة والفقهاء.
وقد تخرج على يديه الجمع الغفير من فقهاء الحنابلة، ومن أبرزهم أبو الوفاء بن عقيل، وأبو الخطاب الكولذاني، والخطيب البغدادي، وغيرهم ممن تقدم ذكرهم عند ذكر تلاميذه.
توليه القضاء:
لمَّا توفي رئيس القضاة إبن ماكولا عام ٤٤٧ سبع وأربعين وأربعمائة (^٥)، شغر منصبه في القضاء فخوطب أبو يعلى لِيَلي القضاء بدار الخلافة والحريم،
_________
(^١) طبقات الحنابلة ٢/ ١٩٥.
(^٢) شذرات الذهب ٣/ ١٦٦، والمنتظم ٧/ ٢٦٧، وطبقات الحنابلة ٢/ ١٩٦.
(^٣) طبقات الحنابلة ٢/ ٢٠٠.
(^٤) طبقات الحنابلة ٢/ ١٩٦.
(^٥) شذرات الذهب ٣/ ٢٧٥.
1 / 23
فامتنع ثم كرر عليه فقبل بشروط اشترطها لنفسه منها:
١ - ألا يحضر أيام المواكب الشريفة.
٢ - ألا يخرج في الإستقبالات.
٣ - ألا يقصد دار السلطان.
٤ - وفي كل شهر يقصد نهر المعلى يومًا وباب الأزج يومًا ويستخلف من ينوب عنه في الحريم، فأُجيب إلى ذلك (^١).
وقُلد القضاء في الدماء، والفروج، والأموال، ثم أُضيف الى ولايته قضاء حرّان، وحلوان، فاستناب فيهما (^٢).
وقد استعان بمن يثق به فردّ إليهم القضاء في بعض الأبواب، فجعل القضاء بباب الأزج إلى الجيلي. ثم عزله لعدم صلاحيته، وجعل النظر في عقُود الأنكحة والمداينات بباب الأزج إلى تلميذه أبي علي يعقوب، وجعل النظر في العقارات بباب الأزج أيضًا إلى أبي عبد اللَّه البقال، واستناب بدار الخلافة ونهر المعلى: أبا الحسن السيبي.
وظل أبو يعلى على منصبه في القضاء إلى أن توفي (^٣).
وفاته:
بعد حياة حافلة بالعلم والعمل، ونشر العلم بالتدريس والفتوى والكتابة والتأليف، توفي القاضي أبو يعلى بمدينة بغداد، وذلك ليلة الاثنين التاسع عشر من شهر رمضان المبارك عام ٤٥٨ ثمان وخمسين وأربعمائة هجرية،
_________
(^١) طبقات الحنابلة ٢/ ١٩٨.
(^٢) المرجع السابق ٢/ ١٩٩.
(^٣) طبقات الحنابلة ٢/ ٢٠٠.
1 / 24
وصلى عليه ابنه أبو القاسم يوم الاثنين بجامع المنصور (^١)، ودُفِن بمقبرة حرب (^٢)، وقد عطلت الأسواق واجتمع في جنازته جمع لم ير مثله، وحضره القضاة والأعيان، وأرباب الدولة، وجماعة الفقهاء، والشهود، وكان قد أوصى أن يغسله الشريف أبو جعفر، وأن يُكفن بثلاثة أثواب، وألا يُدفن معه إلا ما عَزله لنفسه من الأكفان، وألا يخرق عليه ثوب ولا يقعد لعزاء (^٣).
_________
(^١) طبقات الحنابلة ٢/ ٢١٦.
(^٢) تاريخ بغداد ٢/ ٢٥١، والمنتظم ٨/ ٢٤٤.
(^٣) المنتظم ٨/ ٢٤٤.
1 / 25
التعريف بالكتاب:
ويشمل:
١ - اسم الكتاب
٢ - نسبته إلى المؤلف
٣ - نسخه
٤ - قيمته العلمية.
٥ - مادته العلمية.
اسم الكتاب:
" كتاب الروايتين والوجهين"
نسبته إلى المؤلف:
تظافرت الأدلة على صحة نسبته إليه فمن ذلك:
أ- أنه منسوب إليه في نفس المخطوطة، ولم أجد من نسبه إلى غيره أو ذكر خلافًا في نسبته إليه.
ب- نسبه إليه عددٌ من المتقنين، منهم:
١ - إبنه أبو الحسين صاحب طبقات الحنابلة في الطبقات (^١)، في ترجمة أبيه أبي يعلى.
٢ - أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد البغدادي صاحب ذيل طبقات الحنابلة في ذيل الطبقات (^٢)، في ترجمة أبى الحسين محمد بن أبي يعلى.
٣ - العليمي في المنهج الأحمد (^٣)، في ترجمة القاضي أبي يعلى وترجمة ابنه أبي الحسين.
_________
(^١) ٢/ ٢٠٥.
(^٢) ١/ ١٧٧.
(^٣) ٢/ ١١٢ و٢٣٦.
1 / 27
٤ - المرداوي في مقدمة الإِنصاف (^١) ذكره ضمن المتون التي نقل منها.
٥ - ابن العماد في شذرات الذهب (^٢) في ترجمة أبي الحسين محمد بن أبي يعلى.
٦ - الذهبي في تاريخ الإِسلام (^٣)، في ترجمة أبي يعلى.
جـ- كثيرًا ما يقول المؤلف: "قال شيخنا أبو عبد اللَّه" وشيخ أبي يعلى هو: أبو عبد اللَّه الحسن بن حامد.
د- نقل أبو الحسين محمد بن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (^٤)، في ترجمة أحمد بن العباس بن الأشرس، نصًا من كِتاب الروايتين منسوبًا إلى أبيه فقال: "فنقلت من كتاب الروايتين للوالد السعيد، قال: واختلفت الرواية في الخنثى إذا مات".
فنقل أحمد بن أبي عبدة: أنه ييمم، لأنه يحتمل أن يكون ذكرًا فلا يغسله النساء، ويَحتمل أن يكون أُنثى فلا يغسله الرجال.
ونقل أحمد بن أشرس: أنه يغسله الرجال ويصلُّون عليه، ومعناه: أنه يُغَسل من فوق ثوب، كما قلنا في الرجل إذا مات بين النساء، والمرأة بين الرجال، انتهى.
وهذا نص عبارة كتاب "الروايتين والوجهين" (^٥)، في الجنائز، في مسألة تغسيل الخنثى.
_________
(^١) ١/ ١٣.
(^٢) ٤/ ٧٩.
(^٣) الورقة (١٩٤) من الجزء (١٢) من النسخة التركية رقم (٢٩١٧) مكتبة أحمد الثالث. الموجود صورتها في المكتبة المركزية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية برقم (٨٠٢/ ف).
(^٤) ١/ ٥٣.
(^٥) الورقة (٣٣) في المخطوطة وص ١٠٩ من المطبوع.
1 / 28