القراءات المتواترة وأثرها في الرسم القرآني والأحكام الشرعية
القراءات المتواترة وأثرها في الرسم القرآني والأحكام الشرعية
প্রকাশক
دار الفكر
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى
প্রকাশনার বছর
١٤١٩ هـ - ١٩٩٩ م
প্রকাশনার স্থান
دمشق
জনগুলি
مقدمة بقلم فضيلة الدكتور وهبة الزحيلي
رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله منزل الكتاب، ومجري السحاب، ومعلّم العلوم والآداب، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على رسولنا المصطفى محمد بن عبد الله، أمين وحي الله، والمستنير بخزائن علم الله، ومبلّغه للأمة والناس كافة، وعلى آله وصحبه الهادين المهتدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فإن العلم النافع والباقي الأثر، فتح وفتوح وتحصيل، وعلم الشريعة الإسلامية يحتاج لكل هذا، ليتحقق النضج، وتنمو المعارف وتترسخ، ويتحقق الهدف المنشود من العلم، ألا وهو القدوة الحسنة، وإعداد الأمة الإسلامية إعدادا كريما، حضاريا وثقافيا، دنيا وآخرة، ومصدر العلوم النافعة كلها هو كلام الله تعالى، لمن استطاع الاستنارة به، وإدراك معانيه ومقاصده، والإفادة من معينه.
ولا تتحقق الإفادة من كتاب الله ﷿ على الوجه الأمثل إلا بفتح متجدد يغترفه المؤمن من الكلام الإلهي الأزلي الموجّه لبني الإنسان، والفتح لا يكون إلا بفتوح وتوفيق من الله تعالى العلي الأعلى، فبه يتم الفتح وإنارة القلب والعقل، وكل من الفتح والفتوح لا يحصل إلا بتحصيل علوم الشريعة، وإتقانها، للتمكن من الإفادة من كلام الله الذي هو في قمة البلاغة والفصاحة والبيان، والطريق الوحيد لإنقاذ الإنسان.
ولقد كثرت التصانيف حول القرآن الكريم بالمئات لدى علمائنا من السلف الصالح والخلف المعتدل، ولكل عصر أسلوبه وتطلعاته، بحسب المستوى الثقافي والعلمي، وعصرنا يتطلب سهولة الأسلوب وإشراق العبارة، والإيجاز والبعد عن الاستطراد، وتبيان المعاني تبيانا مباشرا وقريب التناول، وشاملا للمطلوب.
والدراسات المعاصرة حول القرآن العظيم مفيدة جدا إذا تميزت بالدقة والشمول وعقد
1 / 11
الموازنات، وتقريب المعاني ضمن إطار علمي سديد، ومن أجل تحقيق غرض مفيد، مع التزام ضوابط اللغة ومقاصد الشريعة.
وهذه الرسالة التي أشرفت عليها، ونال بها من جامعة القرآن الكريم بالسودان الأخ الدكتور محمد الحبش درجة الدكتوراة بامتياز، أسهمت إسهاما طيبا وبارزا في إغناء الدراسات القرآنية، ولا سيما ما تفردت به من تحقيق وتدقيق في مقدماتها، ومن بيان أثر القراءات المتواترة في الأحكام الشرعية، العقدية والفقهية، بل وفي نطاق الجوانب الأربعة التي وفّاها بحثا الأخ الحبش: وهي الرسم القرآني، واللغة العربية، والأحكام الاعتقادية والفقهية، التي تم إحصاؤها إحصاء دقيقا، مع بيان منشئها من دلالة القراءة المعتمدة للآية القرآنية، في حالات محصورة.
وسبب النجاح البارز في هذه الرسالة: هو ما قدمته من توافر الأوصاف الثلاثة التي ذكرتها للعلم الصحيح، فالدكتور محمد توصل إلى فتح علمي واضح المعالم فيما تعرض له، وانضم إليه الفتوح الإلهي على بصيرته وقلبه بسبب إخلاصه في رفع راية كتاب الله تعالى، وتوّج الفتح والفتوح بتحصيله المكتمل من دراسة الشريعة والآداب في رحاب جامعة دمشق، وازداد شرفا ومعرفة بحفظه لكتاب الله ﷿، وإتقانه القراءات ترتيلا، وإجادة، وتجويدا، وجمعا وتصنيفا، فحاز بذلك الفضل والتفوق، وأدت رسالته ما يصبو إليه كل مسلم غير متخصص أو بعيد الصلة عن قراءات القرآن الكريم، القراءات العشر المتواترة، وأفادت المتخصص أيضا بهذا التصنيف والجمع المفيد.
وإني لأترقب للأخ الدكتور محمد الحبش مستقبلا زاهيا إذا تابع نشاطه العلمي، وثابر على اكتناه مدلولات كتاب الله سبحانه، ليستفيد منه إخوانه ومحبّوه، فهو ذكي ألمعي، ومتحدث جيد.
ولا أنسى أن ما توّج به هذا الكتاب من تقديم فضيلة العلامة أستاذنا الجليل الشيخ محمد صادق حبنكة، يعدّ تزكية كافية، تعلو كل ما سواها، وفضيلته يتميز بالحسّ المرهف، والأدب العالي والتواضع الجم، ودقة العلم، والإخلاص لدين الله وشرعه تعليما وتدريسا، وممارسة، وتوجيها، فإن أثنى علي، فأنا تلميذه وثمرته، أحسن بي الظن، فجزاه الله عني وعن الأمة الإسلامية خير الجزاء بما علّم وأرشد، ووجّه وأفاد، والله يتولى الصالحين.
أ. د: وهبة الزحيلي رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق- كلية الشريعة
1 / 12
مقدمة بقلم فضيلة الشيخ صادق حبنكة رئيس مجلس قراء دمشق
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر باسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا. والصلاة والسلام على من أنزل عليه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَداعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجًا مُنِيرًا، وعلى آله وصحبه الذين هم: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا وعلى أتباعهم ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين.
وبعد فقد ترك عندي الأخ الكريم. الصالح المستقيم. رسالته التي قدمها لحيازة الشهادة العالمية العالية التي تسمى (الدكتوراة) لأطلع عليها، فأنا شاكر له على حسن ظنه بي وحسن اختياره لموضوع الرسالة، فإنه موضوع جدير بأن ينشر بيد أمينة تقية نقية. تخشى الله، ولا يستهويها ما سواه، لأن النشر الإعلامي والكتابي أصبح في متناول الأيدي المختلفة: ومن الناس من يدس الدسائس، ويتلقط الشبه فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، ومنهم من يتحامل على حملة القرآن. وهم أهل الله وأشراف أهل رسوله، فينكر عليهم التزامهم بما أخذوه بالسند الصحيح المتصل، وتقيدهم بما تلقوه من الشيوخ الثقات، ويعد ذلك من إضاعة الوقت، والتفريط بالجهود والملكات، ذاهلا عن أن الله شرفهم بخدمة كتابه المجيد، تحقيقا لقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ زاعما أن هذه الخدمة من الأشياء التقليدية الموروثة. وليس لها أصل ثابت، ناسيا قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وقوله سبحانه: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
، وقوله ﷻ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ* وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا، ويرى هذا القائل أن الاشتغال بغير ما أقامهم الله به واختاره لهم أجدى وأولى جهلا منه بالحقيقة. ومن جهل شيئا عاداه كما أن من لم يدرس الفقه الإسلامي ويطلع على تمحيص مسائله، ودعم أحكامه بالأدلة الصحيحة، يعيب على الفقهاء دراستهم للفقه، وعنايتهم بفهم الأحكام الثابتة، متناسيا حاجة بل اضطرار المجتمع الإسلامي بل
1 / 13
الإنساني إلى الأحكام الفقهية المدروسة، ولو درس المعرضون عن دراسة الأحكام الشرعية، فقه الفقهاء لقدروا الجهود، واعترفوا بقيمة الإنتاج أي إني لا أتهم المنكر على أهل القرآن بضعف الإيمان ولا بالشك في رواية القرآن فقد يكون حديثه المشبوه. واتجاهه الخاطئ بسبب التحرر الفكري فهو في حاجة إلى الإيضاح، وحسن البيان.
وإن في هذا الكتاب القيم الذي أصدره الأستاذ الفاضل الشيخ محمد الحبش، ما ينبه الغافلين، ويرشد المسترشدين.
هذا، وقد تميز التشريع الإسلامي بحفظ قرآنه من التبديل والتحريف وأحكامه من الابتداع والتحريف، كما تميز بصحة الأسانيد وضبط الروايات فليس لأحد أن يبدل حرفا من كتاب الله.
حتى ولا رسول الله. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي* وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا* ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ* قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ. إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وقال سبحانه: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى، وقال تعالت قدرته وتقدست أسماؤه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فالقرآن الكريم، ألفاظه توقيفية، ورسمه توقيفي، وتأويله توقيفي، فقد ورد: «من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ وإن أصاب»، وورد أيضا: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار».
أما إخواننا بل أشرافنا الذين حفظوا كتاب الله، وجمعوا القراءات حسب الأصول فهم على قسمين:
القسم الأعلى هم العلماء الذين درسوا وحققوا، وعرفوا ودققوا، ولهم باللغة العربية معرفة دقيقة، وبعلوم الشريعة صلة وثيقة، وقد أخذوا القراءات وبحثوا عن توجيهها، وتدبروا الآيات واطلعوا على ما يستنبط منها من الحكم والأحكام، والعبر والمواعظ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
والقسم الثاني من الحفظة لم يحيطوا بما أحاط به الأولون السابقون، ولكنهم أتقنوا الأداء بالتلقي، فإذا تعرض لهم مشكك بما أخذوا أو مضلل عما سلكوا، تحيروا في الصواب، ولم يحوروا
1 / 14
بجواب. لهذا كله كان لموضوع هذا الكتاب الصادر الأهمية الضرورية، ليكون تبصرة للمستبصرين، وهداية للمنصفين التائهين، ومسرة للمؤمنين، وقرة عين للعلماء المخلصين.
ولئن قال قائل إن التآليف المستحدثة الصحيحة، لم تأت بجديد، فذلك من المدح الذي يشبه الذم، فإن التقيد بصحيح النقول، من أمانة العلم وترك الفضول، وهو أرجح من الاعتماد على وحي الأفكار المتحررة، التي لم تتقيد بالأصول، ولا بما جاء عن الرسول، ويكفي لنتاج المستمسكين جدة وضاءة، وعملا صالحا متقبلا، حسن العرض وإحكام الترتيب والتنسيق، ومخاطبة العصر بأساليبه، وإن كسوة العروس وحليتها حين تجلى تميزها عن بقية المتجمعين والمتفرجين، والطعام الطيب يزيد طيبا ويشتهى بحسن اختيار أوانيه وترتيبه على الخوان.
وليس في الخدمات الدينية أشرف من خدمة كتاب الله الكريم.
على أني لم اقرأ الكتاب المعروض بحليته الجديدة إلّا تصفحا لبعض أقسامه واطلاعا على فهارسه، ولكن ثقتي الوثيقة بمخرجه ومنتجه الأستاذ الفاضل محمد الحبش، الذي عرفته من خلال استماعي لكلماته في المناسبات وسلوكه الديني واستقامته وانضباطه على قواعد الشرع: أولا، وشهادة العالم الجليل فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي .. الذي أحصى ما فيه واطلع على مبانيه ومعانيه ثانيا، جعلني هذا وذاك أشهد بصحة ما يحتوي، وأكبر هذا الإنتاج المفيد.
ولا أخفي بهذه المناسبة أن الشيخ وهبة الزحيلي حفظه الله، وزاده بالشكر من خير ما أعطاه، له في قلبي مكانة مكينة، ملكه إياها وهو أحق بها تواضعه بلا مذلة، واستقامته بغير انحراف، ودأبه على العلم الناصح والعمل الصالح، وما عملت يداه من الكتب المجيدة، في المواضيع المفيدة، فشهادته لكتاب الأستاذ الفاضل الشيخ محمد الحبش سندى، وهي حسبي على أنني لو أردت أن أباشر التمحيص قبل الحكم لم أصل إلى ما يصل إليه الأستاذ الزحيلي من النتيجة، ولست من أهل الاختصاص، وبضاعتي مزجاة، فأرجو الله لهذا الكتاب الخير واليمن وأن يجعل هذه الباكورة فاتحة لأمثالها وأحسن منها كما أسأله تعالى أن ينفعنا جميعا بالعلم، ويزيننا بالحلم، ويكرمنا بالتقوى، ويمنحنا صفاء المعرفة، وصدق التوكل ويرزقنا حفظ كتابه الكريم وفهم معانيه، والعمل بما فيه، والإخلاص بالأعمال، وأن يمن علينا بحسن الختام، والتلاقي بالجنان، إنه كريم منان.
طالب العلم صادق حبنكة الميداني
1 / 15
المقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على خاتم النّبيّين، وإمام المرسلين، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراط مستقيم سيدنا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فقد كتب الله سبحانه لي شرف المشاركة في خدمة القرآن العظيم، فأكرمني بحفظه طفلا حيث أجزت بقراءته من شيوخ قراء بلاد الشام، ثم شرفت بالعناية به وخدمة أهله الذين سمّاهم النّبي ﷺ أشراف الأمة، وأثنى عليهم المولى سبحانه في صريح التّنزيل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: ٣٥/ ٣٢].
لذلك فإنني لم أتردد في اختيار جهة البحث الذي سأطرقه في حقل الدراسات القرآنية، وكان أن أكرمني الله سبحانه بزيارة جمهورية السودان، وعرفت فيها جامعة القرآن الكريم، وهي من أهم المراكز العلمية المتخصصة في خدمة القرآن العظيم، حيث تضم اثنتي عشرة كلية علمية، تنتشر على ضفاف النيل، في عاصمة السودان، تتعاون جميعا في خدمة القرآن الكريم، إضافة إلى عدد من المراكز العلمية والمكتبات المتصلة بهذه الجامعة الكريمة.
وقد كنت منذ أن اشتغلت بالقراءات القرآنية أقلّب الفكر في مسألة واحدة هي: ما الحكمة من تعدد القراءات المتواترة على الرغم من أن مصدرها واحد؟ ولماذا كتبت في المصاحف بوجه واحد؟ ولماذا غابت عن الرسم الوجوه المتواترة الأخرى؟ مع أن الشاهد منها ليس أوثق إسنادا من الغائب؛ ولا هو أثبت في الاستدلال من أخيه، إذ سائر المتواتر في الثبوت والدلالة سواء، فقد حسم الأئمة القرّاء هذه المسألة قديما، واستقرّ الإجماع على المتواتر، واعتقدته الأمّة قرآنا، وأصبح ما أثر عن الأوّل من ردّ متواتر أو الإنكار عليه، محمولا على سبب واحد وهو عدم ثبوت التواتر لديه لا غير.
وقد كتب كثير من العلماء في حكمة القراءات المتواترة وأثرها في الرسم واللغة والفقه، ولكن بقي هذا الجهد في إطار العرض العام للمسألة، من غير أن يتناولها باحث بقلم الإحاطة والحصر،
1 / 17
وهو بحث لا بدّ منه ليتبين للناس ما غاب عنهم من دلالات المصحف الشريف الذي هو ولا ريب أساس التّشريع والأحكام لهذه الأمة عبر تاريخها التّشريعي.
وهكذا فقد تبدّت لي معالم البحث الذي تخيّرته، ووافقت عليه الجامعة الكريمة، وعيّنت مديرها العلامة الدكتور أحمد علي الإمام مشرفا على الرسالة، ثم التمست الجامعة الكريمة من الأستاذ الدكتور المفسّر وهبة الزحيلي أن يتكرّم بمتابعة الإشراف العلمي على الرّسالة (١). ولدى موافقته الكريمة فإنني أكون استوفيت أسباب هذه الدراسة، والتي أعدّ نفسي قد شرعت فيها منذ وقت طويل.
وعقب جلسات متواصلة خصّني بها أستاذي الدكتور وهبة، وجلّى لي فيها أصول البحث العلمي ووسائله، وحدّد لي منهج البحث وخطوطه العريضة استعنت بالله تعالى وشرعت بالمقصود. ويمكن تحديد أغراض الرّسالة في المقاصد التالية (٢):
أولا: تقديم الأدلة العلمية الواضحة على أن الوحي هو المصدر الوحيد للقراءات المتواترة على اختلاف وجوهها، وبيان أنه ليس لأئمة القرّاء أدنى اجتهاد في اختراع أي وجه، أو ترجيح متواتر على متواتر.
ثانيا: مناقشة الفكرة الشائعة حول التصنيف الثلاثي للقراءات: متواتر وآحاد وشاذ، وتقديم الأدلة والحجج على وجوب المصير إلى تسمية ثنائية وهي: متواتر وشاذ فقط.
ثالثا: دفع توهم التناقض بين الرسم القرآني العثماني وبين الفرشيات المختلفة (وهي الكلمات التي قرئت على غير مثال، ولا تنمى إلى أصول قواعدية) الواردة بالتواتر، والتي يلزم التسليم بثبوتها عن المعصوم ﷺ.
_________
(١) وذلك لما له من خبرة واسعة ومعرفة محيطة بعلوم القرآن الكريم، لعل أقرب دلالاتها ذلك التفسير الجليل الذي أصدره بعنوان التفسير المنير في ست عشرة مجلدة ضخمة، واستحق عليه جائزة أفضل تفسير قرآني معاصر قدمتها له الجمهورية الإسلامية في إيران، ثم أعقبه بالتفسير الوجيز ثم التفسير الوسيط. إضافة إلى مجموعة عظيمة من الإصدارات الفكرية المتلاحقة، نعدّ منها:
الفقه الإسلامي وأدلّته: في أحد عشر مجلدا مع فهارسه- أصول الفقه الإسلامي: في مجلدين كبيرين- آثار الحرب في الفقه الإسلامي في مجلد كبير. إضافة إلى عشرات من الكتب المختلفة في المعارف الإسلامية، وتدريسه في الجامعات العربية والإسلامية لأكثر من ثلاثين عاما، وإشرافه على عشرات رسائل الدكتوراة والماجستير وحلقات البحث العلمي.
(٢) تجد تفصيلا أوسع لمقاصد الدراسة في خاتمة البحث.
1 / 18
رابعا: إجراء مسح دقيق للمواضع التي اختلفت فيها المصاحف التي وزعها عثمان ﵁ في الأمصار، وتحقيق ضبط عددها، وإظهار أهمية معرفتها وحصرها.
خامسا: مناقشة الفكرة الشائعة بأن علم القراءات وقف على أهل الاختصاص؛ وهو توهم يدفع كثيرا من الباحثين إلى تجنّب الخوض في أي من مسائل علم القراءات على أساس أن هذا العلم ممنوع على غير أهله.
- ولأجل ذلك فقد عقدت عدة فصول تضع هذا العلم بين يدي الراغبين بالاطلاع عليه من الباحثين بأسلوب قريب يتيح للباحث الاطّلاع على الضروري من مسائل هذا العلم؛ مع تسليمنا بأن الاختصاص في هذا الفن والإحاطة بمسائله يحتاج إلى تفرّغ تام (١).
سادسا: بيان أثر القراءات المتواترة في المعارف الإسلامية من جوانب أربعة:
- الرسم القرآني، ودور هذه القراءات المتواترة في حفظ بعض الحروف التي لا نجدها في الرسم العثماني الشائع اليوم، وكذلك تحديد مسئولية القراء والحفاظ في ضبط ذلك.
- اللغة العربية، ودور هذه القراءات المتواترة في حفظ بعض اللهجات العربية التي توشك أن تندثر.
- الأحكام الاعتقادية، وفائدة هذه القراءات المتواترة في كشف بعض مجملات التنزيل، والمساعدة على توضيح مراد المولى سبحانه فيها.
- الأحكام الفقهية، وفائدة هذه القراءات المتواترة في تقرير بعض الأحكام الشرعية التي لا يمكن الاستدلال لها بالقراءة الواحدة.
وقد تقدمت في أعقاب هذه الدراسة بجملة من الملاحق والاقتراحات التي تتصل بهذه المقاصد، وتضعها في موضع التحقيق بإذن الله.
كما ألحقت بالبحث صورا هامة لمجموعة من المخطوطات القرآنية النادرة التي اعتمدت عليها في تقرير ما وصلت إليه، خاصة فيما يتصل بأثر القراءات في حفظ الرسم القرآني.
_________
(١) قمت بإفراد هذا البحث والإضافة عليه وأصدرته في كتاب مستقل بعنوان (الشامل في القراءات المتواترة) وقامت بطبعه ونشره دار ابن كثير والكلم الطيب مشكورتين.
1 / 19
ولن يفوتني هنا أن أتوجّه بالشكر إلى معالي فضيلة الدكتور الشيخ أحمد علي الإمام مدير جامعة القرآن الكريم، لما وجدته لديه من علم وحلم، وسعة اطّلاع في مدار البحث الذي طرقته، إضافة إلى ما لمسته فيه من أخلاق العلماء وتواضعهم.
وأكرّر الشكر للأستاذ الكبير، الفقيه المفسّر، الدكتور وهبة الزحيلي لتفضّله بالإشراف على هذه الرسالة، ولا شك أن ذلك مدعاة شرف وافتخار لأي باحث يجتهد في خدمة علوم الشريعة المطهرة.
وكذلك أخصّ بالشكر الأستاذ الدكتور عباس المحجوب عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي، والداعية الإسلامي المؤثر، لما كان يرعاني به من تشجيع وتوجيه، ولما رأيته فيه من فطرة واعية رائدة لطموحات شباب الصحوة الإسلامية.
والله أسأل أن يلهمني فيما قدمته الرشد، ويجنبني الزلل، ويكتب لي التوفيق فيما أرتجي، وما توفيقي إلا بالله ...
ربّنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم.
محمد الحبش دمشق في ١/ شعبان/ ١٤١٦ الموافق ٢٠/ ١٢/ ١٩٩٥
1 / 20
الباب الأول علم القراءات
1 / 21
الفصل الأول معنى القراءات وغاياتها
المبحث الأول تمهيد في الحفظ الإلهي للنّص القرآني
أنزل الله سبحانه القرآن الكريم رسالة عامة خاتمة، وجعل فيها سعادة الدارين، وحدّد للناس منهج حياتهم في الدنيا والآخرة. ولن تجد في وصف هذا الكتاب العظيم أبلغ من قول الله ﷿:
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: ٥٩/ ٢١].
وأوجز النّبي ﷺ خصائص هذا الكتاب العظيم بقوله:
كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصّراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن الرّد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته عن أن قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجنّ: ٧٢/ ١ - ٢]، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» (١).
_________
(١) أخرجه التّرمذي عن علي ﵁ في باب فضل القرآن، برقم (٢٩٠٨)، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحديث مقال، أي الحارث الأعور. ولكن الحديث وارد في الفضائل، وله شاهد يقويه من طريق محمد بن إسحاق، انظر الحاشية التالية.
1 / 23
وفي رواية: «إن القرآن لا يليه من جبار فيعمل بغيره إلا قصمه الله، ولا يبتغي علما سواه إلا أضلّه الله، ولا يخلق عن ردّه، وهو الذي لا تفنى عجائبه، من يقل به صدق، ومن يحكم به يعدل، ومن يعمل به يؤجر، ومن يقسم به يقسط» (١).
وفي رواية: «كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، ونبأ ما هو كائن بعدكم، وفيه الحكم بينكم، وهو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الصراط المستقيم، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتّبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب» (٢).
وقد أجمع العلماء على مبدأ عصمة النّص القرآني من الزّيغ والعبث والأهواء، وأيقن الباحثون أن النّص الذي تنزل به جبريل الأمين على النبيّ ﷺ هو النّص عينه الذي قرأه الناس في القرون الخالية وهو الذي يقرؤه الناس اليوم.
ومع أن كثيرا من الباحثين الغربيين تناولوا بالنقد والتحليل والجرأة سلامة النصوص المقدسة، وجزموا بتحريف كثير منها، غير أنهم لم يطالوا بنقدهم سلامة النّص القرآني إلا ما كان من بعض أصحاب الهوى الذين لم يجدوا من يهتم بأقوالهم وأفكارهم التي تفتقر إلى أدنى درجات التحقيق العلمي.
ولعل أوضح تجربة معاصرة في هذا الاتجاه هي ذلك البحث العلمي الرصين الذي قام به المفكر الفرنسي (موريس بوكاي) تحت عنوان: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، والذي انتهى من خلاله- وعلى طريقة البحث الموضوعي المجرد- إلى إثبات التحريف في التوراة والإنجيل، ثم إثبات سلامة النّص القرآني من أي تبديل أو تحريف أو تغيير. وقد لخّص (موريس بوكاي) نتيجة بحثه بقوله:
«إن لتنزيل القرآن تاريخا يختلف تماما عن تاريخ العهد القديم والأناجيل. فتنزيله يمتدّ على مدى عشرين عاما تقريبا، وبمجرد نزول جبريل به على النّبي ﷺ كان المؤمنون يحفظونه
_________
(١) رواه الدّارمي في فضائل القرآن: ٢/ ٦٧، وأورد رواية أخرى مقاربة لها، وكلاهما من طريق محمد بن كعب القرظي عن الحارث بن عبد الله، أي الأعور. (انظر الحاشية السابقة).
(٢) أورده ابن الأثير في جامع الأصول: ٨/ ٤٦٤، وقال: أخرجه رزين، وروى ابن كثير في فضائل القرآن مثله وقال:
رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه فضائل القرآن.
1 / 24
عن ظهر قلب، بل قد سجّل كتابة حتى في حياة محمد ﷺ. إن التّجمعات الأخيرة للقرآن التي تمت في خلافة عثمان، فيما بين اثني عشر عاما وأربعة وعشرين عاما بعد وفاة النّبي ﷺ قد أفيدت من الرقابة التي مارسها هؤلاء الذين كانوا يعرفون النّص حفظا. بعد أن تعلّموه في زمن التّنزيل نفسه، وتلوه دائما فيما بعد، ومعروف أن النّص منذ ذلك العصر قد ظلّ محفوظا بشكل دقيق، وهكذا فإن القرآن لا يطرح مشاكل تتعلق بالصحة.
إن القرآن- وقد استأنف التنزيلين اللذين سبقاه- لا يخلو فقط من متناقضات الرواية وهي السمة البارزة في مختلف صياغات الأناجيل، بل يظهر أيضا لكل من يشرع في دراسته بموضوعية، وعلى ضوء العلوم طابعه الخاص، وهو التوافق التام مع المعطيات العلمية الحديثة، بل أكثر من ذلك- ولما أثبتناه- يكشف القارئ فيه مقولات ذات طابع علمي من المستحيل تصور أن إنسانا في عصر محمّد ﷺ قد استطاع أن يؤلّفها، وعلى هذا، فالمعارف العلمية الحديثة تسمح بفهم بعض الآيات القرآنية التي كانت بلا تفسير صحيح حتى الآن.
إن مقارنة عديد من روايات التوراة مع روايات الموضوعات نفسها في القرآن، تبرز الفروق الأساسية بين دعاوى التوراة غير المقبولة علميّا، وبين مقولات القرآن التي تتوافق مع المعطيات الحديثة (١).
وهذا التسليم بموثوقية النّص القرآني تظاهرت عليه الأدلة من العقل والنّقل والواقع، إلى حدّ لا مزيد عليه، وحسبك من ذلك أن نسخ القرآن العظيم التي تطبع اليوم في العالم، وتتجاوز نسخها آلاف الملايين، لا يختلف بعضها عن بعض في كلمة أو حرف أو نقطة أو شكل.
ولعل المنفذ الوحيد الذي اتّخذه خصوم القرآن منفذا للحديث عن اختلاط مزعوم في النّص القرآني هو مسألة القراءات القرآنية، حيث يتوهم هؤلاء أنها ثغرة في عصمة النصوص، وأن الإقرار بها يستلزم القول بتوهين سلامة النّص القرآني، ووجود فقرات بشرية من صنع القرّاء ضمن التّنزيل القرآني الحكيم. ولعل الإجابة على هذا السؤال عينه هي التي كانت وراء اختياري هذه الدراسة.
_________
(١) دراسة الكتب المقدسة ص ٢٨٥. وقد أدى اشتغال الدكتور موريس بوكاي ببحوث توثيق الكتب المقدسة إلى إعلان دخوله في الإسلام في نهاية المطاف، وذلك في باريس عام ١٤٠٣ هـ/ ١٩٨٣ م.
1 / 25
المبحث الثاني الوحي هو المصدر الوحيد للقراءات المتواترة
ينبغي أن ننبّه هنا على أن أي جهد نبذله في خدمة القراءات هو في الحقيقة؛ جهد في خدمة الوحي الأمين الذي جاءت عبره القراءات المتواترة؛ ذلك أن القراءات القرآنية المتواترة جميعا، قرأ بها النّبي ﷺ أصولا وفرشا، وقد تلقّاها عنه ﷺ خيار أصحابه من بعده وأقرءوا بها الناس، وبذلك فإن سائر القراءات المتواترة توقيفية، لا مجال فيها لأدنى اجتهاد.
فالنّبي ﷺ هو الذي أقرأ أصحابه بتحقيق الهمزات وبتسهيلها، وكذلك بالفتح وبالإمالة، وبالإدغام وبالإظهار، وغير ذلك من أبواب القراءة المأذون بها والمروية بالتواتر، وهو الذي أذن بإقراء هذه الكلمة بوجه، وتلك بوجهين، وتلك بثلاث، وغيرها بأربع ... إلخ.
وجرى كل وجه جاء به النّبي ﷺ في القراءة على أنه وحي معصوم، له ما لأخيه من منزلة في الحجة والدلالة وجواز التّعبّد به. وفي ذلك شاعت القاعدة المشهورة لعلماء القراءة: تعدد القراءات ينزل منزلة تعدد الآيات (١).
وهكذا فإن القراءات المتواترة جميعا هي قراءة النّبي ﷺ، ولا قيمة لأي قراءة لم تحظ بالإسناد المتواتر، المتصل إلى النّبي ﷺ، وليس للأئمة القرّاء أدنى اجتهاد أو تحكم في نص القراءة المقبولة؛ بل إن مهمتهم تنحصر في ضبط الرواية وتوثيق النقل، وكان غاية ما فعله هؤلاء الأئمة أن تخصّص كل واحد منهم بنوع من أنواع القراءة التي سمعها عن أصحاب النّبي ﷺ كما نقلوها عنه ﷺ، وخدمها، وتفرغ لإقرائها وتلقينها، فنسبت إليه لا على سبيل أنه أنشأها وابتكرها؛ بل على سبيل أنه قرأ بها وأقرأ عليها، وإلا فالمنشأ واحد وهو المصطفى ﷺ عن الروح الأمين عن ربّ العالمين.
وهذه الحقيقة هي محلّ اتفاق بين علماء هذه الأمة، لم يقل بخلافها أحد، وسائر ما نقل عن المتقدمين محمول على أمر واحد لا غير؛ هو عدم ثبوت التواتر لديهم، كما سنأتي على تفصيله فيما بعد.
_________
(١) انظر الإتقان للسيوطي ١/ ٨٢.
1 / 26
المبحث الثالث حكمة القراءات
إذا استقرّ لديك اليقين على أن هذه القراءات المتواترة جميعا قد قرأ بها النّبي ﷺ وأقرأها؛ لم يكن لك أن تتوقف في إيمانك على العلة التي أدت إلى ذلك التّعدد، ولا أن تسأل عن الضرورة التي ألجأت إليه، فهو وحي أمين، وهي إرادة الله ﷿، وهو لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: ٢١/ ٢٣].
ولكن التسليم بربانيّة مصدر هذه القراءات في سائر وجوهها لا يتناقض مع البحث عن حكمها وأسرارها ودلالاتها، وهي التي يمكن أن يتلمسها المرء لدى دراسته لوجوه هذه القراءات ومعانيها.
والنتيجة التي ينتهي إليها كل باحث، من خلال قراءة واقع اللغة العربية قبل الإسلام، هي أن اللغة العربية كانت في حالة مخاض عسير، ولم يكن بالإمكان تصوّر ما تنجلي عنه تلك الحالة الصعبة، فقد ترسّخت العقدة القبلية لدى كثير من العرب، وحلّت محلّ الإحساس القومي، وتوزع كثير من العرب في ولاءاتهم بين الفرس والرّوم والحبشة، وظهرت فيهم تيارات محلية ضمن قوقعة الذات؛ تدعو إلى إحلال اللهجات المحلية محل اللغة العربية الشاملة، وظهرت حينئذ لهجات عربية ضالّة لا يمكن أن تلتقي على أصول واحدة إلّا مع استثناءات كثيرة تفوق الحصر وتخرج عن المنهج المطّرد.
ومما وصل إلينا من أشكال التقارب بين اللهجات العربية على سبيل المثال: كشكشة تميم، وسكسكة بكر، وشنشنة تغلب، وغمغمة قضاعة، وطمطمانية حمير، ورتة العراق، وهي كما نرى لهجات منسوبة إلى قبائل بعينها.
وثمة انحرافات لغوية أخرى لم تنسب إلى قبائل بعينها، ولكنها كانت شائعة فاشية، كالفأفأة، واللثغة، والغنّة، واللّكنة، والعقلة، والحبسة، والتّرخيم، والتّمتمة، واللفف، والارتضاخ، والرّطانة.
1 / 27
ويطول بنا البحث لو أردنا أن نسرد أشكال الانحرافات التي انتهت إليها لهجات القبائل المتوزعة في أطراف الجزيرة العربية، ولعل من أهمها ما كشفت عنه الحفريات في جنوب الجزيرة العربية، حيث ثبت أن بعض عرب اليمن كانوا ينطقون ويكتبون لغة عربية، ولكن من دون الحروف الصوتية الثلاث: الألف، والواو، والياء ... !!
ولقد نقل ابن عبد ربه وجوه هذه الانحرافات في موسوعته الكبيرة المسماة: العقد الفريد، وفيما يلي أنقل لك كلامه بنصه كما أورده في باب خاص، عقده تحت عنوان: آفات النّطق: «قال أبو العباس محمد بن يزيد النّحوي: التمتمة في المنطق: التّردد في التاء، والعقلة: التواء اللسان عند إرادة الكلام، والحبسة: تعذر الكلام عند إرادته، واللفف: إدخال حرف في حرف، والرّتة كالرّتج: تمنع أول الكلام، فإذا جاء منه شيء اتصل به، والغمغمة: أن تسمع الصوت ولا يبين لك تقطيع الحروف.
فأما الرّتّة: فإنها تكون غريزية. قال الراجز:
يا أيّها المخلّط الأرتّ
وأمة الغمغمة: فإنها قد تكون من الكلام وغيره، لأنها صوت من لا يفهم تقطيع حروفه.
واستأنف فقال: والطمطمة: أن يعدل بحرف إلى حرف، والغنّة: أن يشرب الحرف صوت الخيشوم، والخنّة: أشدّ منها، والتّرخيم: حذف الكلام، والفأفأة: التّردد في الفاء.
وأما كشكشة تميم: فإن بني عمرو بن تميم إذا ذكرت كاف المؤنث فوقفت عليها أبدلت منها شينا لقرب الشين من الكاف في المخرج.
وأما سكسكة بكر: فقوم منهم يبدلون من الكاف سينا كما فعل التميميّون في الشين.
وأما طمطمانية حمير ففيها يقول عنترة:
تأوي له قلص النعام كما أوت ... حزم يمانية لأعجم طمطم» (١)
بل أخذت الانحرافات اللغوية أشكالا أبعد من ذلك حتى شاع لديهم تسميتها باللغات: لغة
_________
(١) العقد الفريد لابن عبد ربه ٢/ ٤٧٥.
1 / 28
هذيل، ولغة قيس، ولغة كندة، وإن كنا نرى أن تسميتها باللغات ليس منهجا مستقيما؛ إذ لم تخرج في عمومها عن مفردات العرب، ومناهج نطقهم.
وذلك كله قبل الإسلام حيث كانت اللغة في مهدها في جزيرة العرب، وبوسعك أن تتصور مستقبل لغة فيها هذه الفوارق منذ أكثر من ألف وأربع مائة عام ... ! خصوصا إذا خرجت هذه اللغة عن إطارها التقليدي ضمن الجزيرة العربية لتمتد من خراسان وأذربيجان إلى الهلال الخصيب فالأندلس مرورا بالشمال الأفريقي كله، لا شك أنها ستصبح حينئذ ركاما هائلا من اللغات واللهجات التي لا يضبطها ضابط ولا يجمعا قانون. ومرارا كانت تأتي وفود العرب إلى النّبي ﷺ فتحدثه بلهجاتها ولغاتها فيخاطبها النّبي ﷺ بما تعوّدته من لهجاتها، فيكون ذلك مثار دهشة الأصحاب وعجبهم.
من ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، أن وفدا من حمير جاءوا إلى النّبي ﷺ فقالوا:
يا رسول الله أمن امبر امصيام في امسفر؟
فقال ﷺ: «ليس من امبر امصيام في امسفر».
وتعجب الأصحاب مما سمعوا، حتى تبين لهم أن الوفد حي من العرب يبدلون اللام ميما، والميم لاما. وكان سؤالهم: أمن البر الصيام في السفر؟ فجاء جواب النّبي ﷺ: «ليس من البر الصيام في السفر» (١).
ولولا القرآن الكريم، ودقة الضبط في روايته، وتلقيه ضمن حدود القراءات، لأصبحت العربية أثرا بعد عين، ولصار جمع العرب على لغة واحدة أشبه بجمع شعوب القارة الأفريقية اليوم على لغة واحدة.
ولا ينبغي أن نتصور جراء ذلك أن العرب كانوا عطلا عن البلاغة والبيان، فذلك ما لم نقله ولم نقصد إليه، فقد أوتي العرب الفصاحة والبلاغة، وتبوأ خطباؤهم وشعراؤهم منزلة رفيعة في الترتيب الطبقي للقبيلة، وسارت بقصائد شعرائهم الركبان، وعلّقت روائعهم على جدران الكعبة، ولا تزال إلى اليوم تلهم النّقاد والأدباء ما رقّ ودقّ، وعزّ وشقّ من لطيف العبارة،
_________
(١) مسند أحمد بن حنبل ٥/ ٤٢٤.
1 / 29
وعجيب البيان. ولكنهم على ذلك لم يكونوا يمتلكون كتابا أمّا يرجعون إليه في تمييز الصحيح من الدّخيل، ويقعّدون على أساسه قواعد نطقهم.
كذلك فإنهم لم يعدموا لسانا مفهما، يتحاورون فيه، ويتبادلون على أساسه حوائجهم ومعارفهم وخبراتهم، ولكن إرهاصات الشقاق اللغوي كانت قد تهيأت تماما، ومضت في سبيلها المتناكس، وشجع على ذلك نمو العصبية القبلية، والاتصال بالعجم، وغياب أي شكل جدّي من أشكال الوحدة العربية المطلوبة.
وبوسعك أن تتصور أي مستقبل كان ينتظر اللغة العربية في ضوء هذه المعطيات، لولا الثورة اللغوية التي أعقبت نزول القرآن الكريم، وانتشار قرّائه وحفّاظه في الأمصار، يجمعون الناس على منهج واحد، وبهم تبوأت اللغة العربية مكانها، وتأصّل الصحيح محل ما يجب هدمه من رطانة وانحراف، ولغات ضالة لا تنتمي إلى أصول الكلام العربي. وأمّا اللهجات العربية المحترمة، فقد تكفلت بحفظها القراءات القرآنية، التي أذن بها رسول الله ﷺ، ولدى الاستقراء فإنك تجد أنها تحتوي على كثير من اللهجات العربية، ولكنها محكومة بضابط من القواعد يمكن ردّها إليها، والاحتكام على أساسها.
لقد كانت اختيارات النّبي ﷺ في أمر القراءة المأذون بها، تتم فيما يمكن تسميته بمطبخ اللغة العربية على أساس الإجماع العربي، حيث تمّ تمييز الاصيل من الدّخيل من كلام العرب، وأمكن حينئذ أن تبدأ جهود علماء اللغة في تأصيل القواعد وتحريرها، الأمر الذي نتجت عنه علوم النحو والصرف والبلاغة والعروض وما لحق بها من معارف تفصيلية جعلت لغة العرب من أضبط اللغات قواعدا، وأكثرها تعليلا، وأوضحها معالجة.
وعلى ضوء ذلك تمّ ترتيب البيت الداخلي للسان العرب، وتوفرت الوثيقة المعتمدة لضبط اللسان العربي- وهي القرآن الكريم- وفق ما رتّله النّبي ﷺ من وجوه القراءات، وتلقّاه عنه أصحابه الكرام.
وهكذا فقد أصبحت الجزيرة العربية تعتمد لسانا عربيا واحدا، مهما اختلفت فيه من شيء ردته إلى الكتاب الإمام، بعد ذلك التفت العرب إلى أراضيهم المسلوخة عنهم في بلاد الشام والعراق والشمال الإفريقي، وقد تزاحمت فيها رطانات الأمم الغالبة، حتى لم يبق للعربية أثر يذكر في لغة
1 / 30
الحياة، فكانت بلاد الشام تتكلم لغات محلية إقليمية وأجنبية، فيها الآرامي، والسّرياني، والرّومي، وكان أهل العراق يتكلمون لسانا فارسيّا، وكان لبنان فينيقيّا، وكانت مصر ضائعة في لهجاتها الفرعونية القبطية والرومية، وكان الشمال الإفريقي يتكلم لسانا بربريا. على الرغم من الأصول العربية المؤكدة التي تنتمي إليها هذه الشعوب، ولم يكن ثمة شيء يكفل أن تعود تلك الشعوب إلى لسانها العربي بعد أن تركته قرونا كثيرة، لولا أن تمت نعمة الله على هذه الأمة بنزول القرآن الكريم، ولولا توفر الإرادة الكافية لدى الرعيل الأول في العهدين الراشدي والأموي لجمع القرآن العظيم- وثائق ومشافهات- ليصبح من ذلك الحين عماد اللسان العربي في النحو والنطق (١).
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصّلت: ٤١/ ٣].
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ [الرّعد: ١٣/ ٣٧].
_________
(١) انظر كتاب: التجويد وأثره في النطق العربي الصحيح للمؤلف، ص ١٥، وهو دراسة منهجية مقررة على المذيعين العرب، أعدت بطلب من مركز التدريب الإذاعي بدمشق التابع لجامعة الدول العربية.
1 / 31
المبحث الرابع الأصل اللغوي لكلمة (قراءة)
القراءات جمع قراءة؛ من قرأ، وجرى إطلاق السلف لفظة (قراءة) للتعبير عن صنيع القرّاء في أداء نصّ القرآن المجيد.
وقرأه يقرؤه قرءا وقراءة وقرآنا، والقراءة في اللغة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته- سمي القرآن قرآنا لأنّه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد
والآيات- السور بعضها إلى بعض، وهو مصدر كالغفران والكفران، واستقرأه: طلب إليه أن يقرأ، وأورد ابن منظور في اللسان عن ابن مسعود: تسمعت للقرأة فإذا هم متقارءون، أي يسمع بعضهم قراءة بعض. ولكني أرجح هنا اختيار السيوطي الذي ذهب إلى أن كلمة (قرآن) وضع إلهي، وليست اشتقاقا لغويا، ولذلك فإن الصحابة تحرجوا من جمعها على الجموع القياسية، واختاروا بدلا من ذلك كلمة: مصحف ومصاحف.
وقد وجد الاصطلاح سبيله إلى هذا المعنى اللغوي، فأصبحت كلمة قراءة إذا أضيفت إلى واحد من أعلام القرّاء تدلّ على منهج معين لهذا القارئ في التّلقي والأداء، أو في فرش بعض الحروف (١).
واشتهر من الصحابة قارئون كثير، فكان يقال: قراءة ابن مسعود، وقراءة أبيّ، وقراءة زيد بن ثابت، وقراءة أم سلمة.
ولم تكن تلك القراءات تؤدي المعنى ذاته الذي أصبحت تؤديه فيما بعد، إذ لم يكن لكل صحابي أصول وفرش ينفرد به عن إخوانه، كما أن التدوين لم ينهض بوصف اختياراتهم في سائر الآي، بل غاية ما وصلنا عنهم اختيارات في قراءة بعض الآيات، أو انتهاج بعض الأصول.
_________
(١) الفرش هو الكلمة من القرآن تقرأ على غير مثال. ويقسم علماء القراءة مناهج القرّاء إلى:
١ - أصول: وهي قواعد القراءة لكل قارئ كمد الميمات وتحقيق الهمزات وإمالة الألفات وغير ذلك.
٢ - فرش: وهي الكلمات القرآنية بعينها وكيف قرأها كل قارئ، وسميت فرشا لأنها تفرش في التعليم على مواضع الآيات، ولا تندرج تحت أصول جامعة.
1 / 32