تصدير
1 - الريخ الثالث
2 - النظام الجديد
3 - أوروبا «الحرة»
4 - الدعاية الخفية
5 - الصحف السرية
6 - حكومة هتلر
7 - ألمانيا النازية
8 - ألمانيا الأخرى «غير النازية»
9 - السلام الدائم
مصادر البحث
تصدير
1 - الريخ الثالث
2 - النظام الجديد
3 - أوروبا «الحرة»
4 - الدعاية الخفية
5 - الصحف السرية
6 - حكومة هتلر
7 - ألمانيا النازية
8 - ألمانيا الأخرى «غير النازية»
9 - السلام الدائم
مصادر البحث
ألمانيا النازية
ألمانيا النازية
دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (1939-1945)
تأليف
محمد فؤاد شكري
تصدير
هذه قصة سنوات لا أخال القارئ الكريم قد نسي شيئا مما حملته في طياتها من مفاجآت وحوادث سببت للإنسانية آلاما مبرحة وأدخلت على حياة الأمم تغييرات ظاهرة، ما يزال الجنس البشري يئن من آثارها، وكان لنا - نحن المصريين - نصيب من هذه التجربة المؤلمة. فمن منا لا يذكر ليالي الغارات الجوية الطويلة وحلكة ظلامها! ومن منا لا يذكر الرعب الذي استولى على النفوس عندما كاد العدو يطرق أبواب الإسكندرية أيام معركة العلمين الحاسمة! ومن منا لم يسكن إلى نفسه هنيهة يسألها المصير لو أنه قدر للنازيين وأحلافهم أن يغمروا وادي النيل بجحافلهم ولو إلى زمن قصير! ومن منا لم يتشوق لمعرفة شيء صحيح عن ذلك النظام الجديد الذي كانت تشيد بذكره أبواق الدعاية النازية من محطات إذاعتها وقتذاك، فتحدثت عنه كأنما كان غاية ما ابتكره إنسان لسعادة إنسان، وكأنما كان الغرض منه بناء عالم مثالي وثيق الأركان تكثر فيه الخيرات وتعيش فيه الشعوب محررة غنية وتحيا حياة مطمئنة رخية!
لقد فاجأتنا جميعا الحرب الهتلرية الخاطفة في الأيام الأولى من شهر سبتمبر عام 1939 فأذهلت هذه المفاجأة الأكثرين وإن كان هناك قلائل ممن كانوا يتوقعون قيام الحرب قبل نشوبها فعلا ببضع سنوات منذ وصل أدولف هتلر إلى منصب مستشارية الريخ الألماني في شتاء عام 1923، وزادت مخاوفهم عندما أحرق النازيون الريخستاج في آخر فبراير من العام نفسه. وشاءت المصادفات أن أكون بإنجلترا في صيف ذلك العام، فألقيت نفسي وسط خضم من النشرات والكتب والمطبوعات والأحاديث والإذاعات، ينقسم أصحابها فريقين: أحدهما يحذر العالم مما سوف يتعرض له من أخطار وشرور جسيمة من جراء وصول الهتلريين إلى الحكم، والآخر يحاول أن يجد في الاستجابة لرغبة الشعب الألماني وسيلة مؤاتية تحول دون انتشار المذاهب الهدامة، وتقيم من ألمانيا حاجزا منيعا يقف في وجه البلشفية الروسية يمنعها من التغلغل في أوروبا الوسطى والوصول إلى أوروبا الغربية كذلك. على أنه كان مما استلفت نظري في لندن في صيف ذلك العام أن الإنسان أينما سار في شوارعها أو جلس في مطاعمها كان يقابل طائفة من الألمان الهاربين من وجه النازية في بلادهم، وبدأ الحديث من ذلك الحين عن مشكلة اللاجئين ولما يمض على الهتلريين في الحكم أربعة شهور.
وفي صيف عام 1934 أتيحت لي الفرصة لمشاهدة بعض العواصم الأوروبية فوجدت عجبا: باريس لا تزال تتأرجح بين اليسار واليمين، وتكاد تفترسها الفوضى على أثر ما اتضح من أن بعض الوزراء في حكومة المسيو «شوطان
Chautemps » كانوا ضالعين مع المحتال الفرنسي «ساشاستافيزكي
Sacha Stavisky » في عملية إصدار سندات مالية مزيفة، فانتحر ستافيزكي في فبراير 1934 عند افتضاح أمره، وكثرت الإشاعات بأن المسئولين هم الذين رأوا التخلص منه بقتله فاستقال رئيس الحكومة ووقعت التحامات دموية بين الشرطة والمتظاهرين الذين ثاروا ضد حكومة «دلاديه
Daladier » الجديدة. وعندما زرت باريس في صيف ذلك العام كان الفاشيون الفرنسيون بزعامة «دي لاروك
de la Rocque » يحملون بشدة على الجمهورية، ويثيرون الاضطراب في كل مكان. وكان دي لاروك يدعو لتأييد مبدأ الزعامة المسئولة في فرنسا، أي نفس المبدأ الذي كان يرتكز عليه النظام النازي في ألمانيا.
وفي روما كان «موسوليني
Mussolini » قد بلغ ذروة مجده وحتم الفاشيست على كل زائري عاصمتهم من الأجانب وقتذاك أن يزوروا المعرض الفاشيستي الكبير حيث كانوا يعرضون «تاريخ» الحركة الفاشية في صور وأشكال منوعة، ويضعون في أبهاء المعرض عدة آثار تفسر ما حدث وقت ظهور الحركة الفاشية وزحف الفاشيين على رومة. على أن أهم ما استلفت نظري في ذلك الوقت أمران: أولهما أن وزارة الخارجية الإيطالية ما كانت تأذن في تلك الأيام لأحد من الباحثين الذين يدرسون التاريخ بالاطلاع على الوثائق الخاصة بالدبلوماسية الإيطالية في القرن التاسع عشر، فخالفت بهذا العمل ما درجت عليه الحكومات الأوروبية الأخرى، وقد اتضح فيما بعد أن إيطاليا كانت تعد العدة للاعتداء على الحبشة، واعتبرت لذلك الوثائق التاريخية القديمة من أسرار الدولة التي يجب أن يمنع الباحثون من معرفة شيء عنها، وأما الأمر الثاني فهو أنه على الرغم من صلابة بنيان الدولة الفاشستية الظاهري وما كانت تذيعه الدعاية الإيطالية من أن الدوتشي والشعب الإيطالي كانا يدا واحدة وكتلة متماسكة، فقد قابلت أفرادا عديدين ينقمون على حكومة موسوليني ويضمرون لها العداء ولا يحملون الشارة الفاشية إلا مرغمين؛ لأنه بدون هذه الشارة التي تدل على أنهم قيدوا أسماءهم في نقابات العمل المتعددة كانوا معرضين للاحتجاز بدوائر الشرطة أو السجن إذا قوي الاشتباه في أمرهم.
وفي فينا كان الحرس الأهلي
Heimwehr
الذي استندت إليه حكومة «دلفوس
Dollfuss » قد قام بحركة واسعة لإبادة الاشتراكيين الديمقراطيين في النمسا فاستمرت المعركة في فينا أربعة أيام (12-16 فبراير 1934)، وكانت انتصارات الحكومة «والهايمفهر» كبيرة، وظن دلفوس أن الأمر قد استتب له ونال مؤازرة إيطاليا الفاشية؛ ولكن دلفوس كان قد أخرج على ما يبدو من حسابه قوة أخرى جديدة بدأت تنمو ويقوى شأنها في النمسا منذ وطد الهر هتلر دعائم الحكم النازي في ألمانيا. وسمع الكاتب عديدين من النمساويين يتحدثون عن تأييدهم للنازية وتعاليمها ويتوقون للانضمام إلى ألمانيا الكبرى وتحقيق «الأنشلوس
Anschluss » ويضمرون لليهود عدواة عظيمة، ومع أن هؤلاء كانوا ينظرون إلى إخماد حركة الاشتراكيين الديمقراطيين كعمل مجيد فإنهم ما كانوا يرضون عن دلفوس واعتماده على موسوليني وإيطاليا ويريدون إبعاده من الحكم، وعندما لقى الكابتن روم
Roehm
وغيره من رؤساء كتائب الهجوم
S. A.
حتفهم في ألمانيا في آخر يونية 1934 في حركة التطهير الواسعة للتخلص من العناصر التي اتهمت بالاعتدال زادت حماسة أنصار النازية في النمسا، واكتنفت حكومة دلفوس الصعوبات من كل جانب، وفي 25 يولية اغتال النازيون وصنائعهم دلفوس وهو بدار المستشارية، فعبأ موسوليني جيشه على الحدود حتى يمنع تدخل ألمانيا الهتلرية في شئون النمسا.
أما ما حدث بعد ذلك من ازدياد بطش النازيين وسطوتهم في أوروبا، فإن القارئ الكريم سوف يجد ذلك مبسوطا في فصول الكتاب، ويكفي أن أذكر الآن ما كان لهذه الحوادث الجسام من أثر حملني على التفكير في أمر النازية ومعرفة شيء عن أصولها. وقد أتيحت لي في صيف عام 1937 الفرصة مرة أخرى لزيارة إنجلترا وفرنسا، فوجدت باريس مشغولة بمعرضها الدولي العظيم، أما لندن فكان الحديث فيها يدور حول ما عرف وقتذاك باسم سياسة «التهدئة والتسكين»: ومعناها من الوجهة العملية، التسليم بكل ما كان يريده النازيون من توسع على حساب الدول المجاورة وعدم إزعاجهم في شيء؛ حتى لا تتأزم الأمور فتنساق الدول الغريبة مرغمة إلى الدخول في حرب كان لا يرغب فيها أحد من أبناء فرنسا أو إنجلترا. ووجد أنصار التهدئة والتسكين مسوغا لسياستهم من تلك الوعود التي كان لا يبخل بها الهر هتلر عقب كل حادث من حوادث اعتداءاته المتكررة على الحقوق والالتزامات التي أقرتها وأوجدتها الاتفاقات الدولية، فكان من نتائج هذه السياسة عقد اتفاق «ميونخ
Münich » المشهور في 29 سبتمبر 1938 لاقتطاع السوديت من تشكوسلوفاكيا وضمها إلى ألمانيا النازية، واعتقد رئيس الوزارة الإنجليزية وقتذاك المستر نيفل تشمبرلين
Neville Chamberlain
أنه نجح في المحافظة على السلم في العالم؛ لأنه عاد إلى بلاده يحمل في حقيبته تصريحا مشتركا وقعه الهر هتلر وألغى بمقتضاه الحرب كوسيلة لفض ما قد يحدث من خلاف أو نزاع بين إنجلترا وألمانيا في المستقبل. ولكن هتلر جريا على عادته ما لبث حتى نبذ وعوده ظهريا واغتصب البقية الباقية من تشكوسلوفاكيا في مارس 1939. وكان إقدامه على هذه الخطوة منذرا ببداية تحول الدول الغربية من سياسة التهدئة والتسكين إلى خطة مقاومة القوة بمثلها. ومن ذلك الحين لم يغب عن متتبعي تطور الحوادث في أوروبا أن الحرب لا بد واقعة، وظلت حفنة يسيرة من أنصار التهدئة يبذلون كل جهد لتجنيب العالم ويلات الحرب المدمرة، وحاول رجال المال في لندن وغيرها استمالة النازيين إلى السلم بأن صاروا يعرضون على ألمانيا قروضا مالية عظيمة، ويعدون بفتح الأسواق لتجارتها، ولكن جهودهم باءت بالفشل. وفي سبتمبر 1939 أعلنت إنجلترا الحرب على ألمانيا وتبعها سائر حلفائها وذلك عقب إغارة الألمان على بولندة، ثم أحرز النازيون انتصارات باهرة وافتتحوا معظم بلدان أوروبا الوسطى والغربية وأتاح لهم محور برلين- رومة السيطرة على إيطاليا وإسبانيا، وخشيت كل من السويد وتركيا بأسهم وبقيت إنجلترا وروسيا وحدهما تحملان في أوروبا عبء النضال ضد ألمانيا. وبعد أن بسط النازيون سلطانهم على أوروبا بدأت دعايتهم تتحدث عن النظام الجديد، وعن إنشاء عالم مثالي لا في أوروبا وحدها بل وفي سائر القارات التي كان يطمع النازيون في امتلاكها تحقيقا لأهدافهم في بسط السيطرة الجرمانية على العالم أجمع.
وفي أثناء ذلك كله عظم الاهتمام بمعرفة شيء مما كان يجري من حوادث خلف تلك الجدران العالية التي شيدها النازيون حول قلعتهم الأوروبية، والتي ظنوا أن أحدا لن يجد بها ثلمة ينفذ منها ليشهد بناظريه ما كان يفعله النازيون عند تطبيق هذا النظام الجديد الذي بشرت به دعايتهم. وكانت قد أتيحت لي الفرصة قبل ذلك، فدرست شيئا عن النازية وأساليبها في السنوات القليلة التي سبقت نشوب الحرب الهتلرية، ووجدت في نفسي ميلا إلى مواصلة هذه الدراسة، لا سيما عندما بدأ «روميل» زحفه في الصحراء صوب الإسكندرية، وحدث في غضون ذلك أن ندبتني وزارة المعارف في أغسطس 1941 مفتشا بالتعليم الثانوي فوجدت لدي في أثناء السفر الطويل من بلد إلى آخر متسعا من الوقت قرأت فيه ما وقعت عليه يداي من مؤلفات ومطبوعات تتناول تاريخ الأمة الألمانية والحركة النازية والسياسة الأوروبية في السنوات التي سبقت قيام الحرب الهتلرية، ووصلت من دراستي هذه إلى نتيجتين: أولاهما أن هذا النظام الجديد الذي روج له النازيون إنما هو شر نظام أنتجته قريحة إنسان، وثانيتهما أن تطبيق هذا النظام في أوروبا سوف يكون الأداة التي يهدم بها النازيون أنفسهم تلك القلعة التي خيل إليهم أنهم قد أحكموا تأسيس بنيانها، ثم وجدت من واجبي أن أبسط شيئا مما وصلت إليه من نتائج، فشجعني على إلقاء بحث في هذا الموضوع جميع إخواني من أساتذة مدرسة الزقازيق الثانوية الكرام، وعلى رأسهم حضرة المربي النابه الأستاذ الكريم السيد هاشم عوض ناظرها وقتذاك. وفي مساء 10 مايو 1943 ألقيت بالقاعة اليونانية بالزقازيق محاضرة موضوعها: (النازي والنظام الجديد في أوروبا)، وقد شجعني ما لقيته من اهتمام حضرات الأفاضل الذين تكرموا بالاستماع إلى هذه المحاضرة على المضي في دراستي منذ ذلك الحين إلى وقت زوال الهتلرية. والآن أقدم إلى القارئ الكريم قصة انهيار ألمانيا السريع، وهي قصة مروعة حقا، راجيا أن أكون قد وفقت في إبراز صورة واضحة لذلك النظام الذي أرادت ألمانيا الهتلرية أن تفرضه على أوروبا فأثارت مقاومة الشعوب ضدها، وكان تطبيقه السبب الذي أدى إلى انهيارها في النهاية.
على أن هذا البحث ما كان يمكن أن يتم في صورته الحاضرة من غير تلك المعاونة الصادقة التي تفضل علي بها حضرات الإخوان الكرام الأساتذة المحترمين عبد المقصود العناني المدرس الأول للمواد الاجتماعية بمدرسة الحلمية الثانوية، وسيد محمد خليل المدرس بالقبة الثانوية، والأستاذ فؤاد بطرس زكي ليسانسيه في التاريخ من كلية الآداب بجامعة الملك فؤاد الأول، وعبد الرحمن محمود عبد التواب مفتش الآثار العربية ... فلحضراتهم جميعا خالص شكري وتقديري.
دكتور محمد فؤاد شكري
القاهرة: ديسمبر سنة 1947
الفصل الأول
الريخ الثالث
في شهر نوفمبر من عام 1918 سرت روح التمرد والعصيان في صفوف الجيش والبحرية الألمانية واندلع لهيب الثورة في «كييل» و«همبورج» وعدة مدن أخرى؛ ففي برلين خرجت الجماهير الصاخبة إلى الشوارع تطلب «الصلح والحرية والخبز!» وفي 8 نوفمبر أعلن قادة هذه الثورة من الاشتراكيين الديمقراطيين أن «آل هوهنزلرن» قد نزلوا عن عرش أجدادهم، ثم نادوا بقيام الجمهورية، وأرغم القيصر «ولهلم الثاني» على ترك العرش، وأعلن الاشتراكيون الديموقراطيون الجمهورية، ومع ذلك ظلت المظاهرات على شدتها ووقعت الالتحامات العنيفة في طول البلاد وعرضها، وخصوصا بين الاشتراكيين والشيوعيين. ووسط هذه الثورات والاضطرابات تغير وجه التاريخ في ألمانيا؛ فقد انعقدت الجمعية الوطنية لوضع دستور «ويمار»، ووقع الوفد الألماني في «فرساي» على شروط الصلح - في 28 يونية 1919 - وفي أغسطس من السنة نفسها بدأت قانونا حياة «الريخ الثاني» أو«جمهورية فرساي» - على حد قول الهر هتلر - وهي جمهورية ويمار المعروفة.
ومع أن تاريخ هذه الجمهورية يشتمل على العوامل التي مهدت بشتى الطرق لقيام السيطرة النازية في ألمانيا، فيكفي أن نشير الآن إلى كثرة ظهور الأحزاب السياسية التي تألفت في حياة هذه الجمهورية، وكانت هذه الأحزاب جميعها ترغب في إعادة الطمأنينة إلى البلاد، وتنشد الاستقرار الداخلي وتريد غسل العار الذي لحق بألمانيا المغلوبة في معاهدات فرساي، وتعمل على رد اعتبارها بين مجموعة الدول الأوروبية الكبيرة. وكان من بين هذه الجماعات السياسية حزب العمال الألمان لمؤسسة «أنتون دركسلر
Anton Drexler » وهو من العمال المتعطلين، وكان عدد أعضاء هذا الحزب عند إنشائه في عام 1919 ستة، ما لبثوا أن صاروا سبعة عندما انضم إليهم في العام نفسه «أدولف هتلر». ومن ذلك الحين بدأت هذه الجماعة صفحة جديدة من حياتها، فأخذ الحزب ينمو، واتسعت دائرة نشاطه، وأطلق عليه هتلر اسم «حزب العمال الألمان الوطني الاشتراكي».
ومع أنه لا يعنينا في هذا الفصل سرد تاريخ هذا الحزب، فمن الواجب أن نشير إلى حقيقة واحدة: هي أنه ظل ينمو ويقوى ساعده في الوقت الذي ساءت فيه أحوال ألمانيا الاقتصادية، سواء أكان ذلك من أثر التضخم المالي الذي قضى على الطبقة المتوسطة، أم من أثر الأزمة العالمية الاقتصادية المعروفة في الثلاثينات الماضية، وهي الأزمة التي طوحت بملايين العمال إلى خارج المصانع، ونشرت البطالة في كل بلد ودولة، فقد أعطت هذه الظروف جماعة هتلر النازيين الفرصة لرد أسباب ذلك الاضطراب الكبير إلى قسوة معاهدات الصلح في فرساي، وإلى جشع اليهود، وإلى خيانة الشيوعيين وأعداء الوطن الداخليين الذين تعمدوا إشعال الثورة فطعنوا جيش القيصرية في ظهره، ومكنوا حلفاء الحرب العالمية الماضية من الانتصار على ألمانيا وإذلالها، كما جعلت هذه الظروف من السهل على الحزب النازي أن يسرف في بذل الوعود يوزعها ذات اليمين وذات الشمال، حتى يستميل إلى صفوفه جماعة العسكريين الناقمين بسبب الهزيمة وكبار رجال المال الحانقين لضياع أرباح صناعة الحرب، والسياسيين المحترفين من رجال العهد البائد التواقين إلى استئناف نشاطهم السياسي، وأفراد الطبقة المتوسطة «البورجوازي» الذين هدر الإملاق كرامتهم، والعمال المتعطلين الذين تذوقوا مر العيش وشظفه، وغير هؤلاء من الطوائف والجماعات التي حنت إلى يد الزعيم القوي تسيطر من جديد على تنظيم حياتها ونشاطها، وتتكفل بمسئولية تصريف شئونها حتى تصل بها إلى بر السلامة دون أن تحملها مشقة التفكير في تدبير شيء من ذلك: شأن الألمان في كل زمان ومكان.
وفي هذه الظروف الشاذة، كبر حزب النازي وترعرع؛ فقد نشرت الصحيفة الألمانية «فولكشير بوبختر» في عدد خاص صدر في 23 مارس 1932 إحصائية بعدد أعضاء هذا الحزب منذ تأسيسه إلى قبيل وصول أدولف هتلر إلى مستشارية الريخ الألماني، يتبين منها أن الأعضاء الذين كانوا سبعة في عام 1919 ومنهم هتلر نفسه، قد بلغوا 3000 في 1920، و27000 في 1925، و49000 في 1926، و72000 في 1927، و108000 في 1928، و178000 في 1929، و389000 في 1930، و862000 في ديسمبر 1932، و920000 في يناير 1933.
وهذه الإحصائية إنما نهدف من وراء إثباتها إلى توضيح حقيقتين: الأولى، ازدياد عدد أعضاء الحزب في سنوات الأزمة الاقتصادية، والثانية: أن عدد الأعضاء بالقياس إلى مجموع الأمة الألمانية كان في الواقع صغيرا ضئيلا، ولا يدل بأي حال من الأحوال على أن الحزب النازي كان مرآة الرأي العام الصحيح في ألمانيا؛ بل إن هذه الحقيقة الأخيرة لا تلبث أن تزداد وضوحا إذا انتقلنا إلى الشهور التالية عندما اشترك النازيون في الانتخاب لمجلس الريخستاج في 6 نوفمبر 1932؛ فقد نالوا وقتذاك 11705256 صوتا من 26138892، أي بنسبة 32٪ تقريبا. ومع أن زعيمهم بلغ منصب المستشارية في 30 يناير 1933 بفضل مناورات سياسية وحزبية سوف يأتي ذكرها، ومع أن النازيين سيطروا على أداة الانتخاب وأحكموا التدبير والتنظيم، واستطاعوا إثارة الرعب في قلوب الشعب الألماني من خطر البلشفية عقب حريق الريخستاج المدبر في 27 فبراير من العام نفسه؛ فقد نالوا في الانتخابات التالية في 5 مارس 1933 نحو 15874973 صوتا أي بنسبة 43,9٪، فلم يكن للنازيين حتى في أوج عظمتهم الأغلبية التي تمكنهم من الانفراد بالحكم في ألمانيا، والادعاء بأنهم يمثلون الشعب الألماني حقيقة.
ومع ذلك استطاع النازيون أن يفرضوا سيطرتهم التامة على بلادهم، وبذلك استطاعوا أن يصلوا إلى فرض هذه السيطرة على الشطر الأكبر من القارة الأوروبية، ثم باتوا يطمعون أخيرا في التمتع بالسيطرة على بقية أنحاء العالم.
ولم يكد هتلر يتسلم زمام الحكم حتى أخذ يعمل جاهدا على تنفيذ برنامجه الضخم بعد أن أصبح صاحب الحول والطول في ألمانيا.
فمن أقواله المأثورة: «إن الريخ الأول هو دولة بسمارك، والريخ الثاني هو جمهورية فرساي، والريخ الثالث هو دولتي.» أي إن الريخ الثالث يبدأ من اليوم الذي عين فيه أدولف هتلر مستشارا للريخ الألماني في 30 يناير 1933. وقد ظلت دولة أدولف هتلر قائمة إلى أن زالت من الوجود بسبب تحالف الديمقراطيات ضدها، وتحطم ذلك النظام الجديد الذي شاءت أن تفرضه فرضا على شعوب أوروبا.
ومنذ قيام الريخ الثالث مرت سياسة ألمانيا الخارجية في مرحلتين: تميزت الأولى منهما بمحاولة تمزيق معاهدات فرساي بشتى الوسائل تحت ستار العمل على استرداد مكانة ألمانيا كدولة عظيمة بين الدول الأوروبية، أما المرحلة الثانية: فقد تميزت بانتصار ألمانيا في هذه المناوشات التمهيدية، وإقدام الريخ على تلك المغامرة الجريئة التي قصد منها بسط السيطرة الجرمانية على أوروبا، إما بالوسائل السلمية وإما بخوض غمار الحروب.
لذلك لم تكد تنقضي شهور معدودات على وصول هتلر إلى منصب المستشارية حتى أقدمت ألمانيا في أكتوبر 1933 على الانسحاب من مؤتمر تخفيض السلاح، والخروج من عصبة الأمم، ثم أخذت من ذلك الحين تتسلح علانية وفي غير توان، بينما وقفت الدول الغربية مكتوفة الأيدي حتى لقد رفضت فرنسا ما تقدمت به بولندة من عروض للقضاء على النازية وهي ما تزال في مهدها. وعلى ذلك فقد نشدت بولندة السلامة في توقيع ميثاق عدم اعتداء مع ألمانيا في 26 يناير 1934، كان من أثره أن استطاع الريخ تأييد جماعة النازيين في دانتزج الحرة أرضا ومدينة.
وفي 30 يونيو من العام نفسه قضى الهتلريون في ألمانيا ذاتها على المعتدلين من أعضاء الحزب الوطني الاشتراكي في حركة التطهير الواسعة التي كان من ضحاياها الكابتن «روم» وزملاؤه الذين أخذوا على النازية تطرفها. وفي الشهر التالي دبر النازيون قتل مستشار النمسا «دولفوس» على الرغم من الصداقة القائمة بين هذا المستشار وزعيم إيطاليا الفاشية وقتذاك ، بل إن قتله كان بسبب هذه الصداقة ذاتها ، ولم يسفر ضجيج موسوليني ورغاؤه عن شيء! ثم أحرزت ألمانيا الهتلرية نصرا جديدا عندما أوقف رئيس الوزارة الفرنسية «لافال» كل مساعدة للجماعات المعارضة للنازية في إقليم السار، وذلك عندما اتخذت العدة للبت في مصير هذا الأقليم بالتصويت العام، فحصل النازيون في 17 يناير 1935 على أكثرية ساحقة مكنتهم في شهر مارس من إدماج السار في ألمانيا. وفي هذا الشهر نفسه أعلن أدولف هتلر أن ألمانيا ترفض المواد العسكرية الخاصة بعدم تسلحها في معاهدات صلح فرساي، فأدخل التجنيد الإجباري في البلاد، ثم مزقت إنجلترا وألمانيا من مواد هذه المعاهدات ما يتعلق بالتسليح البحري، ووصلتا إلى اتفاق جديد أجاز لألمانيا إنشاء أسطول بنسبة 35٪ من قوة الأسطول البريطاني، ثم بناء أسطول من الغواصات مساو لأسطول الغواصات البريطاني. وظنت إنجلترا - وعلى رأسها حكومة رمزي مكدونلد في ذلك الحين - أنها إذا أقامت جبهة متحدة من إيطاليا وفرنسا إلى جانبها لمراقبة ألمانيا النازية فإنها تستطيع ضمان السلم؛ فأنشأت جبهة «ستريزا
Stresa »، ولكن هذه الجبهة كان مقضيا عليها بالفشل منذ تأليفها؛ لأن موسوليني عندما انضم إليها كان يرجو في نظير ذلك أن تطلق يده في أرض الحبشة؛ لذلك لم يطل عمر جبهة «ستريزا» أكثر من أسبوعين وغزت إيطاليا بلاد الحبشة. ولما ترددت الدول في توقيع «العقوبات» على إيطاليا على نحو جدي، ووجد الهر هتلر أن إيطاليا الفاشية بعد أن أصبحت من وقت اعتدائها على الحبشة وانفصام عرى الصداقة بينها وبين الدول الغربية - وخصوصا بريطانيا - قد صارت مرتمية في أحضان ألمانيا، أقدم الزعيم الألماني على تحطيم اتفاقات «لوكارنو
Locarno » وأرسل جنده في مارس 1936 لاحتلال منطقة الراين (وهي منطقة تقرر أن ينزع سلاحها منذ 1919)، وأفاد هتلر من هذه المغامرة عندما فشلت الدول الغربية - وبخاصة «فرنسا وإنجلترا» - في الاتفاق على عمل مشترك فيما بينهما للمحافظة على اتفاق لوكارنو وتعزيزه، ثم لم تلبث أن رفعت «العقوبات» عن إيطاليا في صيف العام نفسه، وكان معنى هذا انهيار عصبة الأمم، فكان من أثر ذلك أن جرؤ «أرثر جريزر
Grieser » رئيس مجلس شيوخ مدينة دانتزج الحرة ومن كبار النازيين ، على امتهان العصبة مرة بعد أخرى. وعلاوة على ذلك أفاد هتلر من حاجة إيطاليا إلى صداقته، فضغطت الدولتان (ألمانيا وإيطاليا) على النمسا للحصول من هذه الدولة الضعيفة على عدة امتيازات في مصلحة ألمانيا في صيف العام نفسه، وفي هذا الوقت أيضا شجع الحليفان الجديدان الثورة المندلعة في إسبانيا ضد حكومتها الجمهورية (6 يولية 1936)، فأخذا من ذلك الحين يؤيدان علنا الجنرال «فرانكو
Franco » وأنصاره الفاشيين، بإرسال عتاد الحرب والرجال لمساعدة الثوار، ولم تستطع بريطانيا بسبب تردد فرنسا أن تفعل شيئا سوى إرغام هذه الدولة الأخيرة على اتخاذ موقف «الحياد»، والموافقة على اتباع سياسة «عدم التدخل» في شئون إسبانيا. أما روسيا السوفيتية فقد ظلت وحدها تمد الجمهورية الإسبانية بالمعونة. وحيال هذا الضعف الظاهر من جانب الدول الغربية، رأت بلجيكا في أغسطس 1936 أن السلامة في اتباع خطة «أفياد»، فانفصلت عن الدول الغربية، وأدى انفصالها إلى تقصير خط الدفاع عن حدود فرنسا الشرقية. ومنذ أكتوبر اتفقت كل من إيطاليا وألمانيا في «برختسجادن» على اتباع سياسة مشتركة عمومية. وعندما منعت بريطانيا الحكومة الإسبانية من إثارة مسألة التدخل الإيطالي الألماني في إسبانيا أمام عصبة الأمم جرؤ الهر هتلر على تمزيق البقية الباقية من مواد معاهدات فرساي، حتى إذا ما حذر «بلوم» رئيس الوزارة الفرنسية الألمان من المساس بمراكش الإسبانية، أعلن الألمان والإيطاليون في يناير 1937 أن ألمانيا وإيطاليا سوف تتبعان من هذا الحين سياسة مشتركة على أساس ما تقتضيه مصالح «محور برلين-روما» الذي خرج إلى عالم الوجود في «برختسجادن»؛ فكان معنى هذا قيام محالفة ألمانية إيطالية صريحة ضد الديمقراطية ثم الشيوعية في أوروبا وفي العالم أجمع. وبذلك تبدأ المرحلة الثانية من مراحل سياسة النازيين الخارجية.
ومما يميز هذه المرحلة وقوع عدة حوادث جسام أدت في النهاية إلى اشتعال نيران الحرب العالمية الثانية؛ فقد ظل الألمان والإيطاليون في الشهور التالية بين يناير ويولية 1937 - وعلى الرغم من الوعود الشفوية المتكررة التي أصدروها لتقرير رغبتهم في التزام خطة «عدم التدخل» - يعملون لتأييد الثوار الفاشيين في إسبانيا بكل وسيلة حتى ظهر في أوائل العام التالي أن النصر في النهاية سوف يكون من نصيب (فرانكو) وجماعته، وأن الهزيمة السياسية - ولا شك - سوف تكون من نصيب تلك الدول الديمقراطية التي التزمت سياسة «عدم التدخل». وعلاوة على ذلك أفاد النازيون من توتر الموقف السياسي في أوروبا كل فائدة، فأقدم هتلر على غزو النمسا، ثم ضمها إلى ألمانيا عنوة واقتدارا (في 11 مارس 1938)، وحول النازيون أنظارهم بعد ذلك صوب جمهورية تشيكوسلوفاكيا، فأسفر اتفاق ميونخ (في 30 سبتمبر 1938) بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا عن سلخ بلاد السوديت وضمها إلى ألمانيا. ومع أن الهر هتلر كان قد أكد للمستر تشمبرلين أن السوديت آخر ما يطمع فيه من الأراضي الأوروبية، فإنه ما لبث حتى نقض عهده في مارس من العام التالي، وضم مقاطعتي بوهيميا ومورافيا التشيكية في حكومة واحدة تحت الحماية الألمانية واحتل سلوفاكيا. وفي 22 مارس طلبت ألمانيا أرض «ميميل» من «ليتوانيا» واستولت عليها. وفي أول سبتمبر اعتدت ألمانيا على بولندة، ثم قرر هتلر يوم الاعتداء عليها أن يضم مدينة دانتزج الحرة إلى الريخ الثالث.
وكان الاعتداء على بولندة الشرارة التي أشعلت نار الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك كفلت وحشية الغزو الألماني إخضاع بولندة في وقت قصير، لا سيما وقد اضطرت الجيوش الروسية إلى اختراق حدود بولندة الشرقية، حتى إذا كان آخر سبتمبر اقتسمت ألمانيا والروسيا البلاد البولندية فيما بينهما، ثم استطاعت ألمانيا التفرغ للجبهة الغربية، فاكتسحت جحافلها في ربيع 1940 خمس دول مستقلة فاحتلت الدانمرك في أبريل، وأخضعت النرويج بين 9 أبريل و10 يونية، وغزت في 10 مايو تلك الدول التي ظلت محايدة وهي بلجيكا وهولندة ولكسمبرج. وبعد تسليم الملك ليوبولد البلجيكي حطم النازيون مقاومة الحلفاء، فسقطت باريس في أيديهم في 14 يونية ثم احتلوا شطرا كبيرا من فرنسا - بما في ذلك شواطئها الشمالية والغربية - بمقتضى هدنة عقدت مع فرنسا في 22 يونية. وفي أغسطس 1940 بدأت معركة بريطانيا. وفي سبتمبر تدفق الألمان على رومانيا بموافقة حكومتها. وفي 19 نوفمبر اجتمع الملك البلغاري بوريس بالهر هتلر في برختسجادن، فكان النظام الجديد موضع الأحاديث التي دارت بينهما، وأسفر هذا الاجتماع عن تدفق جيوش النازيين على بلغاريا في فبراير 1941، حتى إذا كان يوم 2 مارس من العام نفسه، أعلن «فيلوف
Filoff » رئيس الوزارة البلغارية أن الحكومة الألمانية طلبت إرسال جندها إلى بلغاريا متعهدة في الوقت نفسه بأن مهمة هؤلاء الجنود وقتية، وأن الغرض من إرسالهم المحافظة على السلم في البلقان. بيد أنه لم يلبث أن اتضح في الشهر التالي أن «السلم» المقصود إنما كان اتخاذ بلغاريا قاعدة للهجوم منها على يوغسلافيا واليونان، وقد احتل النازيون هذه البلاد مع شركائهم الإيطاليين في أوائل أبريل. وفي مايو احتل الألمان جزيرة كريت. وفي يونية 1941 بدأ الغزو الألماني لروسيا. •••
تلك إذن كانت الحرب الخاطفة، وفيها انتصر الألمان على طول الخط كما شهدنا حتى نهاية عام 1941، ولكن هذه الانتصارات كانت ضئيلة القيمة في الواقع؛ إذ كان الألمان قد خسروا معركة بريطانيا، وكان في استطاعة الإنجليز أن يحشدوا أكبر قواتهم الإمبراطورية أو يضموا إلى صفهم الديمقراطية الأمريكية الكبرى؛ الولايات المتحدة، ثم غيرها من الشعوب الحرة في الشرق والغرب؛ لمنازلة عدوهم في معركة حاسمة.
ومن جهة أخرى، صادف الألمان منذ البداية عدة صعوبات سببتها هذه الحرب الخاطفة، أهمها: أن كثيرا من مراكز الانتاج الصناعي والزراعي ما لبث أن دمر أو تعطل بفعل الحرب، كما أن أسرات عديدة سرعان ما صارت تفر أمام جحافل النازيين الزاحفة على بلادها، يطلب أفرادها مكانا أمينا يلجئون إليه من شبح الموت الذي يطاردهم، وكان من هؤلاء الحيارى الفارين كثير من الزراع والصناع الذين هم دعامة الإنتاج الاقتصادي في أوطانهم، وعدا هذا فقد فضل عديدون من زعماء الصناعة في البلاد المهددة بالغزو والاحتلال مغادرة منشآتهم الصناعية والهجرة إلى الدول المحايدة أو المتحالفة ضد ألمانيا، فنجم من ذلك كله أن حل الارتباك محل الجهد «المنظم»، وتوقف الإنتاج أو كاد في البلدان المخربة المنهوبة، فماذا يصنع النازيون لتدارك هذه الحال؟
كان لا بد من إصلاح أداة الإنتاج الاقتصادي بأي ثمن لأمور واضحة جلية؛ فالحرب ما تزال مستعرة الأوار ، والتعبئة الكاملة تقتضي الانتفاع بكافة الموارد لمواصلة القتال، ناهيك بالرغبة في إحراز النصر ضد بريطانيا، ولا يتسنى كل ذلك بغير استقرار تلك الشعوب المغلوبة على أمرها واستكانتها إلى العمل المنتج في الحقل والمصنع. ولكن كيف يطمئن المغلوبون إلى التعاون مع الغالبين إذا كان مجرد العيش في ذلة هو ما ينبغي عليهم أن يطمعوا فيه؟ لا بد إذن من تخدير أعصابهم، ولا بد إذن من التمويه عليهم، وكان الحيارى الذين أصابتهم الهزيمة ونزلت بهم الكوارث أشد الناس إقبالا على تصديق كل قول مموه وتعليل النفس بقرب انقشاع الغمة. وعرف شيطان النازي هذا الضعف في الشعوب المقهورة، فراحت الدعاية تدق الطبول وتنفخ في الأبواق مبشرة بأن شمس «النظام الجديد» سوف تبدد تلك الحلوكة المخيمة على الدول التي خضعت لسلطانهم.
وما كان النازيون يقصدون من تخدير أعصاب المغلوبين استئناف النشاط الاقتصادي وتوفير أسباب التعبئة الكاملة فحسب، بل إن كسب الوقت كان من أهم أهدافهم، حتى تتوطد دعائم ذلك النظام، وحتى تمر فترة من الزمن تكفي لتغلغله في كيان أوروبا الاقتصادي والسياسي؛ لأن هذا التغلغل من شأنه أن يرغم الشعوب المغلوبة على تعود هذا النوع الجديد من الحياة، فيكفل مرور الزمن ورسوخ العادة إخماد المقاومة رويدا رويدا، ويضمن استسلام الشعوب إلى العيش في ظل السيطرة النازية في النهاية، فإذا ما انقضى زمن طويل على سريان هذا النظام صار من المتعذر على الديمقراطية حتى بعد انهزام الهتلريين وانقضاء دولتهم اجتثاث هذا النظام من أصوله ومحو أثره من الوجود.
وكانت الدعوة إلى النظام الجديد وسيلة مؤاتية تتيح الفرصة باسم المساهمة مع ألمانيا المنتصرة في تشييد صرح الحضارة الجديدة لأولئك النفعيين من الكويسلنجيين واللافاليين الذين لا تخلو منهم أمة مقهورة، ولأولئك المغامرين المكبوتين من الكتاب وأشباه المفكرين الذين إذا فشلوا في حياة الفكر الحر الطليق وازور المجتمع عنهم وأهمل أمرهم تلمسوا في فلسفة «النظام الجديد» ينبوعا جديدا ينهلون منه - كأنما قد تفتقت أذهانهم هم وحدهم حتى فهموا ما استغلق على غيرهم - ثم انقلبوا يكيدون لأبناء أوطانهم انتقاما لما توهموه غمطا لمواهبهم وازدراء لثمرات قرائحهم.
وعلى ضوء الاعتبارات السابقة نستطيع أن ندرك لماذا لم تعمل النازية على الدعاية للنظام الجديد في بداية العراك، ولماذا لم يكن النظام الجديد نفسه من أهداف الحرب، فلم يسمع به أحد إلا بعد انهيار فرنسا وإخفاق الألمان في معركة بريطانيا. وعلى ذلك فقد بدأت الدعوة لهذا النظام وئيدة وانية في شهري يولية وأغسطس من عام 1940، ولم تبلغ ذروتها إلا في أغسطس وسبتمبر، وكان الغرض منها إقناع الشعوب المهزومة بأن النازيين إنما يريدون إعادة تنظيم الحياة الأوروبية في عالم مثالي جديد، وأن بريطانيا هي العقبة الكأداء التي يحول عنادها وإصرارها على المقاومة دون تحقيق هذا النظام، وأنه لا سبيل إلى تشييد صرح هذه الحاضرة المثالية إلا بالتعاون مع النازيين؛ حتى يمكن أن توضع أسس ذلك البنيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يريدونه للعالم، وأن من شروط النجاح في هذا العمل الباهر أن يتم التضامن الوثيق مع ألمانيا من أجل مكافحة الإنجليز وإرغام بريطانيا العظمى على التعاون مع النازيين وأحلافهم في إقامة هذا النظام والاعتراف بمزاياه، وإنها لكثيرة.
الفصل الثاني
النظام الجديد
وهنا يصح للقارئ يسأل: وما أمر هذا النظام الجديد؟
ونحن إنما نستمد معلوماتنا عن هذا النظام من كتب النازيين ونشراتهم وصحفهم وما إلى ذلك، وفي مقدمة هذه المصادر كتاب «كفاحي» للهر هتلر، ويعتبره النازيون ضروريا لتقريب الاشتراكية الوطنية إلى أذهان الجماهير على الرغم من صعوبة أسلوبه وغموض معانيه، وكذلك مؤلفات «ألفرد روزنبرج
Rosenberg » رسول النازيين وفيلسوفهم الأكبر، ومن بينها كتابه في عام 1922 عن مبادئ الحزب الاشتراكي وأهدافه، وكتابه المشهور في عام 1930 عن «خرافة القرن العشرين». وقد أعد هذا الكتاب لطبقة المفكرين من «ذوي المواهب العقلية» الذين توسم فيهم النازيون القدرة على إدراك ما يدق فهمه على الجماهير من خفايا هذه الوطنية الاشتراكية. أما كتاب المطالعة أو القراءة الأولية فقد وضع لجماعة الشباب الهتلري. ومن بين تلك المصادر كذلك كتاب «أرنست برجمان
Bergmann » عن «عقائد الدين الجرماني الخمس والعشرين»، وبحوث كل من «روبين
Dr. Ruppen » و«هينكل
Hinkel » و«إزوالد شبنجلر
Sieburg » و«فردريك سيبورج
Spengler »، والأستاذ «أرنست هوير
Hauer » وغيرهم. وكذلك لا ينبغي أن يفوتنا أن نذكر برنامج الحزب النازي نفسه وقد وضع في عام 1920.
ويتضح مما يذكره جميع هؤلاء الكتاب أن «التعاليم النازية» ترتكز على حقيقة أساسية واحدة، هي أن الحضارة الحالية يهودية في صميمها تنكر البطولة وترفض النضال والصراع من أجل الحياة، فتحرم الإنسان لذلك من صفات النبل والشرف؛ ولذلك كانت هذه الحضارة التي يقوم عليها النظام اليهودي العالمي في الوقت الحاضر ملوثة بجراثيم الانحلال، وينخر فيها الفساد ولا مفر من تحطيمها في النهاية؛ حتى ينفسح الطريق لقيام نظام آخر معارض لهذا النظام اليهودي المادي. وعلى أساس هذه المغالطة استند النازيون في رسم تلك القواعد التي شيدوا عليها صرح النظام الجرماني الجديد في ألمانيا أولا ومن بعد ذلك في أوروبا.
وخلاصة هذه القواعد أنه كان للوطنية الاشتراكية فضل السبق في إدراك حقيقة العالم في وضعه الصحيح؛ فهي لذلك صاحبة الحق وحدها في قيادة الحرب الصليبية - أي حرب الصليب المعقوف - من أجل بعث الإنسانية وإحيائها وتغيير النظام القائم، على أن يتم ذلك البعث والتغيير على أيدي جنس بشري كتبت له السيادة منذ الأزل على بقية شعوب العالم: الأمر الذي لا يتسنى حدوثه قط دون أن يطبق ما أسماه النازيون «مبدأ الزعامة» أو «الزعامة المسئولة
Feuhrer Prinzip » ومعناه أن تنقاد الحياة في الدولة لتنظيم عسكري دقيق من شأنه تركيز السلطة في شخص زعيم مطلق التصرف يطيعه المجتمع طاعة عمياء، ويكون وحده المسئول عن هذا المجتمع، ويفسر ذلك «فردريك سيبورج» في قوله: «إن الجرماني يتميز فقط بمقدار الخدمة التي يؤديها للدولة، فلا ينبغي أن يوجد بألمانيا مجرد أفراد عاديين من البشر، وإنما المطلوب هو وجود جرمانيين يفنون أنفسهم في تأدية هذه الخدمة والدولة التي من هذا النوع تعرف باسم دولة الزعامة
Feuhrerstaat
وشعارها «أمة واحدة، ودولة واحدة وزعيم واحد».»
ولذلك لم يلبث زعيم الوطنية الاشتراكية «أدولف هتلر» أن نال بفضل مبدأ الزعامة المسئولة، حقا مقدسا يتحتم بمقتضاه على كل جرماني أن يدين له بالطاعة العمياء وينفذ إرادته دون مناقشة، وقد وضح ذلك «هانز فرانك
Hans Frank » وكان من فطاحل القانونيين النازيين - عندما قال في خطبة له في أكتوبر 1935:
إن الاعتراف بقدسية القوانين التي يوقع عليها أدولف هتلر باسمه لهو أعظم واجباتنا إطلاقا؛ لأنها مستلهمة من روح الأمة الجرمانية؛ ذلك أن الله وحده أعطاه السلطة، فهو لذلك الرسول الذي أرسله الإله ليذود عن حقوق الجرمان في العالم.
بل لقد تطرف النازيون في هذا الخلط؛ إذ أكد «فابريكوس
Fabricus » أن الزعيم هتلر إنما ينتمي إلى «أولئك الذين ينفذون إرادة الله ويحققون حياة السيد المسيح في هذه الحياة الدنيا على نحو منقطع النظير».
ومن أسس التعاليم النازية كذلك أن الجرمان هم سادة الجنس البشري وهم أولئك الذين قدر لهم من الأزل أن يؤلفوا الطبقة الحاكمة في العالم، ويعتمد النازيون في ذلك على أن الشعب الجرماني أرقى الأجناس البشرية وأنقاها قاطبة، ورغبة في تدعيم هذه السيطرة العالمية ابتدع النازيون ما أسموه «نظرية الدم»، وبمقتضاها وزعت أجناس البشر طبقات ومنازل؛ فوضعوا في الطبقة العليا الجرمان أهل الريخ الألماني
Reichdeustche ، ويليهم في نفس الطبقة العليا الجرمان الذين لا يعيشون في الريخ ويعرفون باسم «الأقرباء
Volksgenosse » أو
Volksdeutsche . ويأتي بعد هؤلاء النورديون الخلص (أمثال الدانمركيين والنرويجيين والسويديين)، ثم النرلنديون والنورمانديون، ثم الأنجلو سكسون وغيرهم من «الأقرباء» التيوتون. أما الطبقة السفلى فقد وضعوا فيها الزنوج، ثم وزعوا فيما بين هاتين الطبقتين - العليا والسفلى - بقية الأجناس الأخرى بالترتيب التالي: الطورانيون، ومنهم الأتراك والهنغار، ثم المغول، ومنهم الفن والبلغار، ثم الأجناس الخليطة مثل الرومانيين، ثم السلاف، ثم اليهود، ثم شبه الزنوج.
ومما تجدر ملاحظته أن النازيين أخرجوا من هذا التقسيم الكلت واللاتين، على أن يجري اختيار الطبقة التي يليق في نظر النازيين وضعهم فيها حسب الظروف ومقتضيات الأحوال، مسترشدين في إجراء هذا الاختيار بأمور ثلاثة: هي وثوق الصلة والقرابة التي تربط بين هذين الجنسين والأجناس التي تتألف منها الطبقة العليا، ثم درجة نقاوة الدم، وأخيرا مقدار استعداد هذين الجنسين لممارسة شئون الحكم.
وعدا هذا أنكر النازيون أن آسيا والشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض كانت جميعها مهد الحضارة، بل ادعوا أن أقدم ثقافات العالم إنما ظهرت في البقاع النوردية - أي في طرف بحر البلطيق الغربي - ولذلك سهل عليهم الادعاء بأن عبقرية الجنس الجرماني ونشاطه أو حيويته هما وحدهما اللذان أخرجا إلى الوجود كل ما كان ذا قيمة في عالم الفن والعلم والصناعة. وفضلا عن ذلك سوغ النازيون فكرة السيطرة الجرمانية بادعائهم أن الجرمان من الناحية البيولوجية الصرفة أصلح الأجناس قاطبة للنضال من أجل البقاء، ومن شأن هذه الصلاحية ذاتها أن تمكنهم في النهاية من السيطرة على العالم أجمع، فالأقدار وحدها إذن هي التي اختارت الجنس الجرماني لهذه السيطرة.
وقد ترتب على القول بوقوع الاختيار على الجرمان منذ الأزل لممارسة هذه السيطرة العالمية أن أصبح من الواجب على الجرمانيين ألا يعترفوا بغير قانون واحد، هو ذلك القانون الجرماني الذي يخول هذا الجنس المختار أن يفعل كل ما يحقق في النهاية دعم السيطرة الجرمانية العالمية، مهما كانت هذه الفعال مخالفة للقواعد الخلقية والأحكام القانونية المعروفة، بل رفض الجرمان أن يعترفوا بهذه القواعد والأحكام بدعوى أنها من مخلفات الحضارتين الرومانية والمسيحية، وكل منهما في نظر النازيين حضارة منحلة تمسكت بها أجناس وضيعة ولا يمكن أن يسترشد بمبادئها الجنس الجرماني الرفيع الشأن، سواء أكان ذلك في حياته الداخلية أو في علاقاته الخارجية مع الدول وسائر الأمم. وإلى جانب هذا، اعتبر النازيون أن الغرض من كل نشاط خارجي إنما هو تعزيز الكيان الجرماني الداخلي، حتى يستطيع الريخ أن يبذل بفضل القوة التي يكسبها نشاطا خارجيا جديدا لا تلبث ثمرة نجاحه أن تندمج في الكيان الجرماني الداخلي، فيبذل الريخ بفضل ذلك نشاطا خارجيا أقوى، وهكذا يستمر هذا النشاط قويا مجددا حتى يتم للجنس الجرماني «المبجل» إحراز السيطرة على العالم، أي إن التنظيم الداخلي في نظر النازيين كان حجر الأساس في بنيان «دولة الزعامة»، والأداة التي لا غنى عنها لتحقيق السيطرة الجرمانية العالمية.
وقد استرشد النازيون في هذا التنظيم الداخلي بقواعد مرسومة أهمها ضرورة استخدام جميع القوى البشرية والمادية الموجودة في الدولة واستغلالها إلى أقصى حدود الاستغلال؛ وذلك لتهيئة أداة الحرب والقتال التي تمكن الجرمان من الاستيلاء على الأرض التي يدعي النازيون أن من حقهم أن يملكوها، ثم توطيد مركزهم كأسياد مسيطرين على هذا العالم. وكان معنى ذلك أن يعبئ النازيون جميع الأيدي العاملة ثم أدوات الصناعة والزراعة وسائر وسائل الإنتاج في الدولة، وهو عمل شاق جسيم ما كان يستطيع النازيون أن يقدموا عليه دون الالتجاء إلى الحيلة والدهاء تارة والقسوة الصارمة والغدر تارة أخرى؛ حتى يزيلوا ما يوجد من عقبات داخلية قد تحول دون تنفيذه.
وعلى ذلك فقد اصطنع النازيون الاعتدال في أول الأمر مع مخالفيهم من المواطنين الذين لم ينضووا تحت لواء الوطنية الاشتراكية، وأفاد النازيون من هذا الاعتدال المصطنع؛ لأنهم كما - سبق القول - لم يكونوا بالأغلبية التي تستطيع الانفراد بالحكم عند وصولها إليه، كما استطاعوا عن طريقه تسخير جميع الأيدي العاملة والانتفاع بموارد الثروة التي كان يملكها رجال الصناعة والمال، ولم يكن هؤلاء قد أدركوا بعد جسامة الخطر الذي يتهددهم، وكان غرض النازيين من تسخير هذه القوى إعداد آلة الحرب اللازمة لتنفيذ برنامجهم.
وفي سبيل تهيئة وسائل الحرب استرشد النازيون في إدارة شئون الدولة بمبدأ الاكتفاء الذاتي أو الأوتاركية الاقتصادية
Economic Autarchy
حتى تستطيع الدولة في وقت الحرب مقاومة الحصر البحري إذا استلزمت ذلك خطة الدفاع؛ وحتى تجد من المواد الداخلية المستمدة من إنتاج الأرض ما يكفيها إذا اتخذت خطة الهجوم. أضف إلى هذا أن الأوتاركية الاقتصادية من شأنها إيجاد «الموازنة» بين العوامل الداخلة في تكوين الدولة الاقتصادي، فلا تصبح الدولة صناعية صرفة أو زراعية صرفة. وقد عارض النازيون في أن تظل دولة الريخ صناعية صرفة؛ لأن النازية نظرت دائما إلى الزراعة كعمل حيوي لتربية العقل السليم في الجسم السليم، وهي تربية ضرورية لإنشاء ذلك الجنس وتلك الطبقة من السادة الجرمان الذين كان من حقهم ممارسة شئون الحكم والسيطرة على العالم دائما.
على أنه مما تجدر ملاحظته أن العمل بمبدأ الاكتفاء الذاتي يحرم على النازيين إنشاء الصلات التجارية مع العالم الخارجي؛ وبخاصة لأنهم كانوا يخشون أن تؤدي هذه الصلات إلى ضياع ذلك الخلق الجرماني «الرفيع» الذي يميزهم من غيرهم كأمة. ومع ذلك أجاز النازيون التجارة، ومع العالم الخارجي في حالات معينة، أهمها: أن تكون هذه التجارة وسيلة يتمكن النازيون بفضلها من تجهيز أداة الحرب وإعدادها بكل سرعة، ثم تحقيق «الاكتفاء الذاتي» نفسه، وذلك إما بافتتاح الأقاليم الغنية بالموارد الطبيعية التي كانت تنقصهم، وإما بتهيئة الوسائل لإنتاج ما يمكن أن يستعيضوا به عن تلك الأشياء التي لم توجد في داخل دولتهم، وهذا فضلا عن جلب الكماليات التي قد يطلبها الشعب لمجرد الترفيه عن نفسه كالبن مثلا. ثم أجاز النازيون الاتجار مع الأمم الأخرى إذا نجم من ذلك ربح لهم أو توقعوا إصابة هدف سياسي معين من وراء هذه التجارة.
وكان من قواعد التنظيم الداخلي كذلك أن توجد الدولة مجتمعا من أفراد متجانسين في تركيبهم الجثماني والعقلي، وتعمل للمحافظة على كيانه وضمان رقيه؛ وذلك حتى تحقق غرضا أسمى بفضل إشرافها على التربية والتعليم؛ هو تنشئة أجيال جديدة من الشباب القادرين على حمل السلاح وبذل النفس في سبيل تأدية الرسالة الجرمانية على خير وجوهها، وحرص النازيون لذلك على أن ينشئوا شبابهم تنشئة صارمة؛ حتى يصبحوا قساة غلاظ الأكباد لا يعرفون شفقة ولا رحمة، وأصحاب عجرفة وعنجهية وكبرياء لا تلين قلوبهم الصلدة لعاطفة حب أو صداقة، بل إن النازيين كانوا يشترطون الالتحام في المعارك الدموية كآخر مرحلة من مراحل التعليم والتربية لتنشئة أولئك الرجال الأفذاذ
Supermen
الذين تتألف منهم طبقة الأسياد المعدة للحكم والسيطرة. وكانت الأعمال اليدوية الوضيعة من نصيب تلك الشعوب المسخرة المغلوبة على أمرها.
ومع أنه كان من واجب الدولة - على حد قول النازيين - المحافظة على كيان المجتمع وضمان رقيه، فقد كان من رأيهم أن على الدولة أن تضحي بهذا الواجب المزدوج إذا دعت الحاجة الملحة إلى انصرافها بدلا من تحقيق هذه الغابات إلى امتلاك تلك الأراضي التي كان من حق الجنس الجرماني أن يمتلكها في سبيل الوصول إلى السيطرة العالمية. •••
هذه إذن كانت أهم القواعد التي بنى عليها النازيون صرح النظام الجديد في أوروبا؛ ومن الواضح أنهم كانوا يعتبرون الجنس الجرماني أرقى أجناس البشر إطلاقا وأنقاها دما، ومن حقه بفضل هذه الرفعة ونقاوة الدم أن يتمتع بالسيطرة على العالم، ولا بد للوصول إلى هذه السيطرة من تسخير سواد الأمة الألمانية لخدمة طبقة السادة الممتازين أصحاب الحكم في الدولة، ثم تسخير سواد الشعوب الأوروبية وشعوب العالم جميعها لخدمة الجنس الجرماني. وكانت دعامة هذا النظام الجديد ومساك حياته «الزعامة المسئولة»، أي تلك الزعامة التي كانت مسئولة في داخل الريخ عن الشعب الألماني، وفي خارج الريخ عن بقية شعوب العالم في النهاية، وهي زعامة تقوم على أساس الطاعة العمياء لشخص الزعيم في جميع التنظيمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الريخ وفي أوروبا وفي العالم. وأما رسالة الجنس الجرماني فكانت لا تقتصر على تقويض أركان الحضارة الرومانية المسيحية في أوروبا، بل تريد أن تفرض على الإنسانية نوعا جديدا من الحضارة التي عرفوها باسم حضارة الصليب المعقوف أو حضارة الأرض والدم، الأرض التي تخلق العقول السليمة في الأجسام السليمة، والدم الذي يخول الجنس الجرماني حق السيطرة العالمية. •••
وكان النازيون يعتقدون أنه لا معدى لهم عن إخضاع القارة الأوروبية لسيطرتهم الجرمانية؛ حتى يتسنى لهم إحراز السيطرة العالمية. واستندوا في ضرورة امتلاك القارة إلى أنه كما تحتم عليهم أن يقيموا في داخل ألمانيا كتلة صلدة متماسكة قوية تمكن الريخ من احتلال ذلك المركز المعد له في أوروبا، فإنه تحتم عليهم كذلك أن يضموا إلى هذا الريخ أرضا شاسعة في القارة الأوروبية ذاتها؛ حتى يؤلفوا من هذه الممتلكات كتلة أخرى صلدة متماسكة تمكن الجرمانية من فرض سيطرتها التامة على سائر أنحاء العالم؛ لأن النازيين كانوا يعتبرون أوروبا مركز العالم أو المحور الذي يشد إليه ويجذب حوله أقاليم الأرض وبلدانها بفضل الروابط التاريخية والثقافية والاقتصادية والصناعية والعسكرية التي ربطت بين أوروبا وكل أقطار العالم.
ولذلك فكر فلاسفة النازيين وجهابذتهم تفكيرا طويلا عميقا في الطرق والوسائل التي يجب أن يتبعوها من أجل «جرمنة» القارة الأوروبية، وأسفر هذا التفكير الطويل العميق عن نظرية عرجاء مشوهة هي نظرية «الحكم بحق الدم»، وهي تكمل في الحقيقة نظرية «الزعامة المسئولة»، ومعناها أن تكون السيطرة الحكومية في جميع البلدان المفتتحة والتي خضعت لقواعد النظام الجديد من نصيب الجنس الجرماني وحده؛ فيباشر أبناؤه شئون الحكم بها ويحرم أهلها في الوقت نفسه من ضمانات القانون الألماني والأنظمة الألمانية التي وضعت لصون نقاوة الدم والشرف الألماني، وكان ذلك منشأ الصلة بين هذه النظرية ونظرية الدم السابقة. بيد أنه مما تجدر الإشارة إليه أن السادة النازيين ما كانوا يقصدون في يوم من الأيام تطهير أو تنقية دماء تلك الأجناس الوضيعة غير الجرمانية؛ لأنهم امتنعوا عن إدماجها في الجنس الجرماني «المبجل».
وعلى ذلك فقد سلك النازيون عند محاولة «جرمنة» أوروبا طريقين: فقد ميزوا بين المناطق التي يقطن بها جرمانيون أنقياء الدم - وما زالت واقعة خارج حدود دولة الريخ الثالث وقتذاك - والمناطق التي تقطن بها شعوب غير جرمانية؛ فسموا الأولى «المناطق المفقودة»؛ أي تلك التي خسرها الجرمان في العصور السابقة وبات من واجبهم أن يعيدوها إلى أحضان الجرمانية ويدمجوها في الريخ الألماني بشريطة أن يجري ذلك من غير إعداد أو تهيئة سابقة، فتسري عليها القوانين الألمانية مباشرة وتخضع بمجرد هذا الاندماج لجميع الأنظمة النازية. وأما عند جرمنة المناطق الأخرى فقد وجدوا من الضروري إجراء إعداد وتهيئة سابقة قبل إدماج هذه المناطق في الريخ الألماني نهائيا. واتبع النازيون في ذلك عملية ذات شبه كبير بما يعرف بنظام الدوائر ذات المركز الواحد. وتفسير ذلك أن النازيين كانوا يبدءون باعتبار الريخ مركزا لدائرة أولى يضم محيطها عدة أقاليم تقطن بها أجناس غير جرمانية، فصاروا يعملون لإعداد وتهيئة هذه الأقاليم الواقعة في داخل محيط الدائرة حتى إذا ما فرغوا من ذلك أدمجوها في مركز الدائرة وهو الريخ الألماني واستطاعوا بفضل ذلك أن يؤلفوا من الريخ والأقاليم المندمجة فيه مركزا ثانيا لدائرة أخرى جديدة أجروا بداخلها نفس العملية، وهكذا دواليك حتى يتمكنوا من «جرمنة» شطر من القارة الأوروبية قبل أن تنزل بساحتهم الهزيمة.
وكان الأسلوب الذي اتبعه النازيون في تهيئة وإعداد الأقاليم التي أرادوا إدماجها في الريخ الألماني سهلا، قوامه ضمان سيادة الجنس الجرماني أولا، ثم ربط هذه الأقاليم بالريخ الألماني ربطا وثيقا من الناحية الاقتصادية على أساس أن يكون الغنم كله في نصيب الألمان والغرم كله واقعا على الأهلين الذين صاروا يسخرون في خدمة الريخ. وفضلا عن ذلك فإن النازيين ما كانوا يتورعون عن استخدام جميع الحيل والطرق الشيطانية لإبادة العناصر الأجنبية في الأقاليم التي أرادوا إعدادها قبل إدماجها في الريخ. فكان من وسائلهم تلك الهجرة الاختيارية التي أسفرت عن «إرغام» اليهود على مغادرة ألمانيا، ثم اقتلاع أسرات بأكملها من مواطنها بقضها وقضيضها للعيش والعمل في مناطق غريبة بعيدة، كما فعلوا مع التشيك واليهود في بقية أوروبا، ثم إقفار البلاد من أهلها وسكانها، وذلك بمنع النسل إما بالتفرقة بين الزوج وزوجه على غرار ما فعلوا مع البولنديين عندما نقلوهم للعمل الإنتاجي في الريخ، وإما بتعقيم الأفراد تعقيما إجباريا، أو العمل بنصيحة فلاسفة النازيين أمثال «بانز
Banse » و«جونثر
Geunther » وغيرهما ممن أشاروا باستخدام الطرق العلمية لتقليل العناصر الأجنبية أو إبادتها، وكان غرضهم من ذلك التخلص من البولنديين وإفناءهم، ومن هذه الطرق قتل المرضى وذوي العاهات بدعوى الإشفاق عليهم من أن تستبد بهم الآلام على نحو ما فعلت ألمانيا مع الأشرار والمعتوهين والمرضى الميئوس من شفائهم وغير المرغوب في وجودهم عموما. واستطاع النازيون أن يقتلوا حوالي مائة ألف شخص في داخل الريخ نفسه في مدة عامين «1939-1940»، وتولى هذا العمل الرهيب رجال الجستابو، فاختاروا مراكز هذه المجزرة في البلدان الثلاثة الآتية: «جرافنيك
Grafeneck » بالقرب من «شتوتجارت»، «هارثيم
Hartheim »، و«بيرنا
» بالقرب من درسدن.
وكان من أثر هذه الأساليب الجهنمية أن انتشرت «موجات الانتحار» التي ذهب ضحيتها كثيرون في بلدان أوروبا المقهورة، من ذلك ما جاء في جريدة «لونوفوطان» البارسية في عدد 16 يناير 1941 أن حوالي نصف سكان بلدة «أبفيل
Abbeville » القريبة من ساحل القنال الإنجليزي لقوا حتفهم في موجة انتحارية غريبة جعلت هؤلاء المنكوبين يلقون بأنفسهم في نهر «السوم»، أو يختفون من عالم الوجود دون أن يتركوا أثرا وراءهم، وقد اتضح بالكشف الطبي على بعض الجثث التي أمكن العثور عليها في النهر أن الوفاة إنما حدثت جراء ضربات شديدة على الرأس بآلة ثقيلة، أي إن الوفاة لم تكن بسبب الغرق. •••
وقد كسب الألمان الجولة الأولى من معركة السيطرة على أوروبا، وفي أثناء الأعوام الثلاثة الأولى من انتصارهم ظهر كأنما قد توطدت أركان قلعتهم الأوروبية نهائيا، فمضوا يطبقون النظام الجديد في البلدان التي افتتحوها واحتواها الريخ الثالث ضمن حدوده.
وظهر عند تطبيق النازيين هذا النظام الجديد أنه كان يشتمل على ناحيتين: إحداهما سياسية، والأخرى اقتصادية، يتممان بعضهما بعضا، وهدفهما المشترك فرض السيطرة الجرمانية على القارة الأوروبية، مستندين إلى ذلك التراث التاريخي القديم الذي انحدر إليهم من دولة الجرمان العنيدة ذات السيطرة على أوروبا في العصور الوسطى. وعلى ذلك فقد ارتكزت الفكرة الرئيسية التي قامت عليها «جرمنة» أوروبا على جوهر التنظيم الأوروبي في تلك العصور؛ فقد أنكر النازيون أن العالم الأوروبي استطاع خلال القرون العشرة الماضية أن يقطع شوطا بعيدا في تكوينه الاقتصادي والسياسي حتى ظهرت تلك الدول التي جمعها إطار الخريطة الأوروبية في عام 1939، وهي الدول التي بنت وجودها في الحقيقة على قيام «الدولة الوطنية» منذ أن أخذ في التصدع كيان العصور الوسطى السياسي والاقتصادي والاجتماعي في عصر النهضة الأوروبية الحديثة، وعلى وجه الخصوص منذ بزغت شمس القرن السادس عشر. فمن أقوال «ألفريد روزنبرج» المشهورة: «كانت الدولة الوطنية المثل الأعلى الذي أرادت أن تحققه الثورة الفرنسية، أما الثورة الوطنية الاشتراكية العظيمة (أي الثورة النازية) فقد تمخضت عن مولود جديد، هو الإمبراطورية الجنسية ... ولذلك ينبغي أن تزول الدولة الوطنية من الوجود أو تتحول إلى إمبراطورية قوامها الجنس وحده.»
ولما كان النازيون ينقمون على الحضارة الأوروبية أنها يهودية مادية ويريدون إزالتها، فقد سهل على الدعاية النازية كخطوة تمهيدية، وفي سبيل الدعوة إلى السيطرة الجرمانية أن تمجد تراث العصور الوسطى على اعتبار أن الحضارة في تلك العصور بلغت أوجها في الفترة التي ظهر الجرمان فيها قوام الإمبراطورية الرومانية المقدسة. فذكرت إحدى صحفهم
Deutsche Allegemeine Zeitung
في عدد 27 يناير 1941:
لا نجد - نحن الألمان - ما يخجلنا من العصور الوسطى، بل على العكس من ذلك كانت تلك العصور فترة من الزمن تثير الإعجاب وتدعو حقا إلى الفخر بها؛ لأنها أنتجت نوعا من الحضارة أو الثقافة الممتازة، وهذا على الرغم من ذيوع بعض الآراء الطريفة التي نجح الإنجليز في الإيحاء بها إلى الأمريكيين عن هذه العصور، حتى انطبعت في أذهان هؤلاء كأنها حقائق ثابتة.
وقبل ذلك ببضعة أعوام ذكر «ملر فان در بروك
Moeller Van Der Bruck » في كتابه الذي ظهر عن ألمانيا وإمبراطوريتها الثالثة، في عام 1934:
نحن لا نفكر في أوروبا القائمة اليوم؛ لأنها حقيرة وتافهة، ولكنا نفكر في تلك التي قامت بالأمس، والتي سوف تقوم في الغد بفضل ما يمكن انتشاله وإنقاذه منها! نحن نفكر في ألمانيا الخالدة على ممر الأيام والدهور! في ألمانيا القديمة! أي تلك التي مضى ألفان من الأعوام على ظهورها.
وقبل ذلك أيضا ذكر الأستاذ «بانز
Banse » في كتابه عن «المجال والأمة في عالم الحرب»:
إن من واجب النهضة الجرمانية أولا أن تعمل على بعث الروح الجرمانية من الأعماق ثقافيا وسياسيا، على أن يكون من غرضها جعل التفكير والحديث والنشاط «أو العمل» جرمانيا خالصا في الأرض الجرمانية، ومن واجبها ثانيا أن تجعل الأرض التي تقطن بها شعوب جرمانية داخلة بأملاكها ضمن حدود دولة موحدة قوية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون الدولة الألمانية المعروفة بحدودها المرسومة في عام 1914.
وفي الواقع أراد النازيون إعادة الخريطة الأوروبية إلى ما كانت عليه بين عامي 918-1268 ميلادية، أي من وقت قيام أسرة سكسونيا إلى سقوط آل هوهنشتاوفن، فنشروا في كتاب المطالعة الأولية للشبيبة الهتلرية خريطة بعنوان «الجرمان يحققون وحدة أوروبا»، وهي خريطة الإمبراطورية الرومانية المقدسة حوالي عام 1000 ميلادية، أي بحدودها الممتدة من جنوبي مملكة الدانمرك في الشمال إلى أعلى الحذاء الإيطالي في الجنوب، وتقع في داخل حدود هذه الإمبراطورية الجرمانية كل من دوقية بوهيميا ومارك «أو عواصم» مورافيا والنمسا ودوقية كارينثيا وفريزلند ودوقية اللورين، وكل هذه كانت تقطن بها شعوب جرمانية. وفي شرقي هذه الحدود رسم النازيون دوقية بولندة ثم مملكة هنغاريا. وفي الغرب رسموا مملكة برجنديا. وقد أظهر النازيون في هذه الخريطة مملكة الدانمرك ودرقية بولندة ومملكة هنغاريا ومملكة برجنديا كدويلات أو إمارات تدين بالتبعية والطاعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة.
هذه إذن كانت الخريطة التي أراد النازيون أن يرسموها للمجتمع الأوروبي الحديث؛ لإحياء المجد القديم على حد قولهم؛ أو لتحقيق سيطرة السادة الجرمان على أوروبا. وفي السنوات الثلاث الأولى استطاع النازيون إدراك ما أرادوا إلى حد كبير، ذلك بأنهم أدمجوا في الريخ الثالث كل المناطق الجرمانية مثل النمسا «التي سميت بالعواصم الشرقية
Ostmark »، والسوديت ودانتزج والممر البولندي، وأقاموا من دانتزج والممر البولندي ما أسموه الأقليم أو المقاطعة الشرقية
Ostgebiet ، وأسموه كذلك إقليم الملاحظة أو المراقبة
Warthegau ، وعينوا عليه حاكما هو «زعيم الإقليم
Gauleiter »، ثم أدمج النازيون أرض «أوبين ومالميدي
Oupen et Malmédy »، وكانت هذه مقاطعة بلجيكية منذ عام 1919، ثم اللورين على أن تكون جزءا من مقاطعة ألمانية أسموها العواصم الغربية
Westmark . وفضلا عن ذلك عمد النازيون إلى تهيئة كل من لكسمبرج والإلزاس وشلزويج-هولشتين الدانمركية لإدماجها جميعا في الريخ الألماني، واتخذوا من التدابير ما يكفل ذلك، فأبعدوا العناصر الأجنبية القاطنة بها كاليهود أو الفرنسيين أو البولنديين، ثم جعلوا «الريخمارك» العملة المتداولة قانونا في هذه الأقاليم وأدخلوا لكسمبرج والإلزاس واللورين ضمن سياج ألمانيا الجمركي. وقد مر بنا كيف جزأ النازيون تشيكوسلفاكيا وأنشئوا من بوهيميا ومورافيا حكومة واحدة وضعوها تحت الحماية الألمانية. على أن هذه «الحماية» ما لبثت أن أدمجت في الريخ الثالث ابتداء من أول أكتوبر 1940.
وكان من أثر الهدنة التي وقعها الألمان مع الفرنسيين في غابة «كوومبين
Compiègne » في 22 يونية 1940 أن رسمت خريطة فرنسا على نحو أسفر عن اقتطاع جميع الأرضين التي كانت تقطن بها شعوب جرمانية حوالي عام 900 ميلادية، ثم انضمام هذه الأراضي من الناحية العملية إلى ألمانيا. فقد استرشدد النازيون باعتبارات عسكرية واقتصادية معينة عندما احتلوا أقاليم السواحل الفرنسية المطلة على القنال الإنجليزي والمحيط الأطلنطي ، ولكن هذه الاعتبارات وحدها لا تفسر سبب استيلائهم على شمبانيا وبرجنديا وإقليم جبال الجورا الصخرية. ومن السهل معرفة السبب الذي دعاهم إلى احتلال هذه الأقاليم إذا روجعت خريطة «شعوب أوروبا حوالي سنة 900م»، وهي خريطة رسمها «شبرد
W. R. Shepherd » في أطلسه التاريخي المعروف؛ إذ يتضح من هذه الخريطة أن النازيين إنما اقتطعوا من فرنسا جميع الأقاليم التي كانت تسكنها شعوب جرمانية حوالي القرن التاسع الميلادي.
ولم يقف النازيون عند ذلك بل إنهم جزءوا يوغسلافيا؛ فأنشئوا «دولة كرواتيا الجديدة
Croatia » في مايو 1941، ورسموا لها نفس الحدود التي كانت لمملكة كرواتيا القديمة حوالي عام 1000 ميلادية، ثم أدمجوا في الريخ أجزاء يوغسلافيا الأخرى التي كانت تابعة للمملكة الجرمانية أو الإمبراطورية الرومانية المقدسة في ذلك الحين، وهي «كرنيولا
Carniola
وسلوفينيا».
أما بولندة التي كانت في القرن العاشر الميلادي تدفع الجزية للإمبراطورية الرومانية المقدسة - أي للأمة الجرمانية - فقد أراد النازيون أن يقيموا بها «حكومة» على غرار دوقية بولندة القديمة، ولم يكن يقطن بها جرمانيون؛ ولذلك فإنه بمجرد إخضاعها واقتطاع تلك الأراضي التي اقتسمتها فيما بينها كل من ألمانيا والروسيا وسلوفاكيا، أنشأ الريخ مما تبقى من أرضها الحكومة العامة لبولندة
Le Gouvernement Général ، وعين «هانز فرانك
Hanz Frank » حاكما عليها ويعد من فطاحل رجال القانون النازيين، وكان يشغل وقتذاك منصب وزير العدل في الريخ الألماني. ولما كان معروفا أن نظرية نقاوة الجنس الجرماني تمنع النازيين من محاولة «جرمنة» العناصر الأجنبية؛ فقد أصبح من المتوقع أن تظل هذه «الحكومة العامة» بمثابة دولة بولندية يقطن بها إلى جانب البولنديين أولئك اليهود الذين طردهم الألمان من البلاد التي استحوذوا عليها، وخصص النازيون لإقامة اليهود مساحة معيشة عند لوبلين
Lublin
قرب الطرف الجنوبي الشرقي لهذه «الحكومة العامة»، واهتم النازيون بتوثيق الروابط الاقتصادية بين هذه «الحكومة العامة» وألمانيا على أساس استغلال مرافق البلاد لفائدة الريخ وتسخير أهلها في خدمته. غير أن سرعان ما حدث في 15 أغسطس 1940 أن أفصح «هانز فرانك» عن نوايا الريخ الجديدة عندما قال: «نحن نقيم الآن في هذه البلاد وكجرمانيين لن نغادرها أبدا؛ ولذلك فإنا سوف نعامل هذه البلاد في المستقبل كجزء لا يتجزأ من ألمانيا الكبرى، لا غنى عنه لمجال قوتها
Macht-raum
ولن ينظر إليها على أنها أقاليم محتلة فحسب.»
وكان مما دعا النازيين إلى تغيير خطتهم الأولى أنهم وجدوا من السهل عليهم بعد انتصاراتهم الساحقة في مايو 1940، أن يتبعوا أسلوب «الدوائر ذات المركز الواحد» من أجل جرمنة بعض أجزاء بولندة المتاخمة للريخ، فأرادوا إنشاء كتلة جرمانية من تلك «الحكومة العامة» التي أسسوها، وذلك بإقصاء وإبادة العناصر البولندية وغيرها من العناصر التي كانت تقطن بهذا المركز الجديد الذي أرادوا إنشاءه، فضلا عن التمهيد لإعداد دائرة الحكومة العامة قبل إدماجها في الريخ الألماني. وبناء على ذلك ألغى الألمان في ديسمبر 1940 «الرعوية البولندية» قانونا، وأصبح البولنديون في وضعهم الجديد بمثابة «القصر» أو «المحميين
Schutzgbefohlene »، ثم ما لبث حتى ظهر أثر تطبيق النظام الجديد من الناحية العملية في فرض ضريبة إضافية قدرها 15٪ يدفعها البولنديون المقيمون في الحكومة العامة، علاوة تلك الضرائب التي تدفعها الطبقتان الأخريان: طبقة جرمان الريخ
Reichdeutsche ، وطبقة الجرمان الأقرباء
Volksdeutsche ، أي إن البولنديين صاروا هم واليهود في مستوى واحد، وكانت هذه الضريبة الإضافية تدعى ضريبة «الموازنة الاجتماعية
Sozialausgleichsabgabe » وكان الغرض من ذلك أن يدفع البولنديون الضريبة الإضافية - على حد قول النازيين - كنوع من التكفير أو التعويض عن ذلك المركز الوضيع الذي كانوا يشتغلونه بالقياس إلى مركز طبقة الجرمان الرفيعة الشأن، ولم ينتظر الهتلريون حتى تتم عملية إعداد «الحكومة العامة» لإدماجها في الريخ الألماني نهائيا، بل عمدوا إلى تجزئة أرضها إلى إقطاعيات أعطيت للنازيين الذين صاروا يؤلفون طبقة «البارونات» على غرار ما حدث إبان العصور الوسطية. ومما عزز هذا التنظيم الإقطاعي، أن العلاقة بين الجرمان «النازيين» والشعب البولندي كانت تشبه في جوهرها علاقة السيد برقيق الأرض في إقطاع العصور الوسطى. وفضلا عن ذلك فقد اختار النازيون الموظفين الذين أوفدوهم إلى بولندة لتطبيق «النظام الجديد» بها من حثالة القوم، ثم تفتق ذهنهم عن اصطلاح جديد أضافوه إلى معجم اللغة الألمانية، ترجمته الحرفية «صالح أو لائق للخدمة في بولندة
» وكانوا يطلقونه على كل شخص سيئ السمعة يميل إلى الإجرام وإتيان المخازي. فإذا ارتكب أحد الألمان جرما يستحق عقوبة الحبس طبع النازيون على تذكرة تحقيق الشخصية أو بطاقة العمل المعطاة له كلمة «لائق للخدمة في بولندة»، أما إذا تكرر إجرامه ألحق على الفور بالخدمة في بولندة. •••
وفي الواقع كان هناك - عدا ما ذكرنا - أدلة كثيرة تشير إلى رغبة النازيين في الرجوع بأوروبا إلى التنظيم الذي كان سائدا خلال العصور الوسطى، على أن المهم في ذلك كله أن هؤلاء النازيين كانوا متأثرين بالاعتبارات التاريخية والسياسية والاقتصادية والعسكرية التي سلف بيانها، فأرادوا فتح القارة الأوروبية بأسرها: من «نارفيك» شمالا، إلى بحر إيجه جنوبا؛ حتى يمكنهم اتساع رقعة ممتلكاتهم من امتلاك ذلك المجال الذي عدوه ضروريا لاستمرار حياتهم
Lebens raum
وقوتهم
Macht raum . وقد أدرك هذه الأطماع الظاهرة حلفاء النازيين وأولئك الذين تعاونوا معهم؛ فاعترف «موسوليني» في خطاب له في 23 فبراير 1941 بدخول كل من فرنسا المحتلة وبلجيكا وهولندة ولكسمبورج، وإسكندناوة والدانمرك في نطاق النفوذ الألماني. وكان هناك ميدان واحد فحسب يستطيع أن يجد فيه مجالا للتوسع حلفاء النازيين والمتعاونون معهم من أمثال إيطاليا وإسبانيا، ولم يكن هذا الميدان سوى القارة الأفريقية. •••
أما وقد أفلح النازيون إلى حد كبير في تحقيق حلم العصور الوسطى ورسموا للقارة الأوروبية تلك الخريطة التي مكنهم انتصارهم من تخطيطها، فإن معرفة النتائج التي أسفر عنها تطبيق النظام الجديد في البلدان المفتوحة من شأنه أن يبين مقدار ما لحق بالشعوب المقهورة من أذى جسيم في عهد السيطرة النازية؛ إذ إن تطبيق النظام الجديد من الناحية الاقتصادية خاصة كان معناه سلب الشعوب المغلوبة ونهب كنوزها وتجريدها من وسائل العيش وحرمانها حق الحياة في أمن واستقرار، وقد اتبع النازيون عدة أساليب شيطانية حتى يكسبوا سرقاتهم الصبغة القانونية؛ كابتكار ما أسموه سياسة الريخمارك، وإصدار أوراق نقد معينة، وسك قدر من العملة الصغيرة كي يستخدمها الجنود الألمان في البلدان التي افتتحوها، ثم المطالبة بنفقات الاحتلال الألماني في أوروبا المحتلة، هذا عدا أعمال السلب والنهب سافرة كانت أو مقنعة مما يدخل في قائمة الأسلاب والمغانم .
وكان المقصود من سياسة الريخمارك أن يصبح «المارك الألماني
Reichmark » العملة المتداولة قانونا في جميع البلدان التي خضعت لسيطرة النازيين؛ وذلك حتى يسلب النازيون الشعوب المغلوبة على أمرها وينهبوها، فقد عمد النازيون إلى وضع سعر «المارك» حسب مشيئتهم وأهوائهم، يرفعون قيمته أو يخفضونها تبعا لما كان عليه سعر العملة المحلية في البلدان المفتتحة، فتجدهم مثلا في هولندة ولكسمبرج وأوبين ومالميدي وغيرها يرفعون سعر المارك بدرجة عظيمة حتى تصبح العملة المحلية رخيصة بالقياس إلى الريخمارك مع أنها كانت تلك البلدان ذات قيمة أعلى من قيمة المارك الألماني قبل الغزو النازي، وفي البلدان التي أدمجها النازيون مباشرة في الريخ الثالث مثل دانتزج والنمسا وغيرها خفض هؤلاء سعر المارك الألماني حتى تصبح قيمته متساوية مع قيمة العملة المحلية وكان سعر هذه العملة أقل من سعر الريخمارك قبل الفتح الألماني. ومما هو جدير بالذكر أن رفع الريخمارك وخفضه كان من حيث الشكل عملا قانونيا لا غبار عليه.
وكان المقصود من خفض سعر الريخمارك صون العلاقات التجارية والاقتصادية واستقرار هذه العلاقات بين البلدان التي أراد النازي إدماجها في الريخ وبين الريخ نفسه، أما في غير ذلك من البلدان التي كانوا لا يريدون إدماجها في الريخ فإنهم كانوا يقصدون من رفع سعر الريخمارك إعطاء الفرصة للألمان حتى يتمكنوا من شراء منتجاتها بأبخس الأثمان فضلا عن استطاعتهم أن يبيعوها المنتجات الألمانية بأثمان باهظة، أضف إلى هذا أن بعض هذه البلدان التي قصد النازيون أن ينهبوها كان يقطن بها عناصر أجنبية كالبولنديين في «وارثجو
Warthegau » والبلجيكيين والفرنسيين في لكسمبورج والبلجيكيين في «أوبين ومليدي»، وكان هؤلاء يمتلكون الشطر الأكبر من ثروة هذه البلاد المادية والنقدية. وعلى ذلك أعطى رفع الريخمارك الفرصة للنازيين حتى يغتصبوا لأنفسهم تلك الثروة بأقل ثمن ممكن، وعلاوة على ذلك فإنه لم يكن يقصد من وضع سعر للريخمارك على هذا النحو الاستيلاء على السلع والمنتجات والغلات الزراعية فحسب، بل تمكين الألمان على وجه الخصوص من شراء أسهم الشركات والمؤسسات الصناعية والمالية بأثمان بخسة؛ أي الاستيلاء على شطر كبير من رءوس الأموال - منقولة كانت أو ثابتة - كخطوة لا غنى عن اتخاذها في تلك البلدان المفتوحة؛ تمهيدا لفرض سيطرة الجرمان الاقتصادية على أوروبا بأجمعها في النهاية.
وقد ظهر أثر وضع سعر للريخمارك في التبادل التجاري كذلك بين الريخ الألماني، وتلك البلاد التي خضعت لسلطان النازيين، فمن المعروف أن التجارة الدولية تؤثر دائما في سعر العملة؛ بمعنى أنه إذا زادت صادرات دولة عما تستورده نتج عن ذلك «فائض» في ميزانها التجاري، واعتبر ذلك في صالحها، كما أنه ينهض دليلا على أن السعر يرتفع في الدولة المستوردة عما هو عليه في الدولة المصدرة، وفي ظروف التجارة الدولية العادية، تسعى الدول التي زادت وارداتها على صادراتها من أجل إعادة الموازنة وإزالة هذا «الفائض» باتخاذ وسائل شتى معروفة، من أهمها محاولة زيادة الصادرات، وعقد القروض الخارجية، والدفع من أرصدة الذهب وغير ذلك. ولكن التبادل التجاري بين الريخ الثالث والبلدان المفتتحة كان يخضع لقواعد أخرى.
فقد عمد النازيون من أيام الفتح الأولى إلى استنزاف جميع منتجات الدول المغلوبة على أمرها لحاجتهم إلى هذه المنتجات، صناعية كانت أم زراعية، فعظمت صادرات الدول المفتتحة إلى الريخ دون أن تستطيع استيراد شيء يذكر من ألمانيا، ونجم عن ذلك أن صار لهذه الدول كافة «فائض» لمصلحة ميزانها التجاري، أي إن الريخ الألماني أصبح - بمعنى آخر - مدينا لهذه الدول بمبالغ طائلة، حتى لقد بلغ دين الدانمرك على الريخ الثالث حتى يوم 30 نوفمبر 1941، 849 مليون كرونر، وهذا فضلا عن قروض من نوع آخر نشأت من قيام الدنمرك بنفقات الاحتلال الألماني لبلادها، وقد بلغت هذه النفقات حتى 31 ديسمبر 1941 حوالي 907 ملايين؛ أي إن الاحتلال الألماني كلف هذه البلاد مدة عام ونصف ما يزيد على 1700 مليون كرونر. وفي أول يناير 1942 بلغ دين الدانمرك على ألمانيا 2000 مليون كرونر.
ومع هذا، فقد منع الألمان تلك الدول «المصدرة» التي ظلت دائنة للريخ بأموال طائلة من أن تستورد من دولة أدولف هتلر شيئا من تلك السلع والمتاجر اللازمة لها، والتي كان لا غنى عن استيرادها؛ حتى تتعادل كفتا الميزان التجاري بين الريخ وهذه الدول المغلوبة على أمرها من جهة ؛ وحتى تستخلص هذه الدول ما كان لها من ديون جسيمة على ألمانيا من جهة أخرى. وقد ابتكر شيطان النازي وسيلة أخرى للإمعان في نهب الأمم المقهورة؛ إذ صار الريخ يمتنع عن دفع أثمان السلع المصدرة إليه بدعوى عدم إخراج العملة الألمانية من الريخ، واعتاض عن ذلك بأن صار يطلب إلى البنوك المركزية في البلدان المفتتحة أن تقوم بسداد المطلوب من الريخ لحساب تلك البلاد على شريطة أن يكون الدفع بالعملة المحلية الوطنية نفسها؛ فلا يكون السداد بالريخمارك الألماني. ولما كانت قيمة الريخمارك تزيد كثيرا على قيمة العملة المحلية حسب السعر الحكومي في البلدان المنهوبة فقد ترتب على ذلك أن أضحت الأثمان التي يدفعها النازيون للسلع والمتاجر المصدرة إليهم بخسة ضئيلة، وعلاوة على ذلك كان معنى تكليف البنوك المركزية بالدفع من الناحية العملية خصم هذه الأثمان من حساب نفقات الاحتلال الألماني التي فرضوها على البلدان المختلفة. وبفضل هذه الأساليب الملتوية صار الألمان يستولون على منتجات البلاد المقهورة، دون أن يدفعوا شيئا من أثمانها. ولا جدال في أن هذا العمل كان ضربا من السرقة يستره قناع قانوني زائف.
وكان من خطط النازيين عند فرض السيطرة الجرمانية الاقتصادية على أوروبا اتخاذ برلين مركزا للتجارة الأجنبية في هذه القارة؛ حتى تحتل برلين ذلك المركز الممتاز الذي استمتعت به لندن في عالم الاقتصاد والمال قبيل الحرب الأخيرة، فأصروا على أن تجري المعاملات التجارية والمالية بين أية دولة وأخرى عن طريق برلين دائما؛ مثال ذلك أنه إذا كان أحد الهولنديين مدينا بمبلغ من المال لشركة بلجيكية، فإنه يستحيل عليه أن يسدد حسابه بالدفع رأسا إلى الشركة البلجيكية، بل صار حتما عليه أن يدفع هذا الدين بالريخمارك إلى مؤسسة معينة أنشأها الألمان في برلين لمباشرة جميع العمليات التجارية والمالية الخاصة ببلجيكا، فتتولى هذه المؤسسة الدفع بالريخمارك إلى الشركة البلجيكية. أما ما كان يحدث فعلا فهو أن تكلف هذه المؤسسة «البنك المركزي» في بلجيكا بأن يقوم هذا البنك بعملية الدفع من حساب نفقات الاحتلال بالطريقة التي سبق بيانها ، أضف إلى ذلك أن الألمان كانوا يحتمون على الدول المحتلة التي تتبادل التجارة فيما بينها أن تودع برلين مبلغا من الريخمارك يرصد لحسابها، ويستخدم في أعمال التصفية التجارية. ويتكون هذا الرصيد بسبب إرغام هذه الدول على تصدير منتجاتها إلى الريخ ومطالبتها بتأدية خدمات مالية معينة وإجبارها على إعطاء ضمانات من الذهب والسندات وما إلى ذلك من وسائل أخرى. بيد أن هذه الدول ما كانت تحصل على شيء من الريخ في مقابل إنشاء هذا الرصيد، ذلك بأن الريخ درج دائما على الدفع عن طريق البنوك المركزية بالأساليب التي سبق ذكرها. على أن الريخ إلى جانب ذلك كله كان يحصل على عمولة كبيرة في نظير قيامه بهذه العمليات المالية والتجارية بين الدول. فكان من نتائج ذلك كله أنه أصبح من المتعذر على أية دولة من الدول التي خضعت لسلطان النازيين أن تنظم شئون حياتها الاقتصادية على النحو الذي كانت تقتضيه مصلحتها أو بما يمكنها على الأقل من مواجهة مطالب الألمان الاقتصادية والمالية المرهقة.
وثمة ترتيب آخر ابتكره النازيون لصرف مرتبات جنودهم في البلدان المحتلة؛ فقد اخترعوا ما أسموه «سندات إذنية عسكرية
Wehrmachtspverflichtung »، وكانت هذه من فئات كبيرة «50000 ريخمارك فما فوق» وتحمل تعهدا بدفع قيمتها، وقصر التعامل بهذه السندات الإذنية العسكرية على البلدان التي تصدر فيها، ومنع التعامل بها في داخل الريخ نفسه، كما أنه تعذر تحويلها إلى الماركات الألمانية بالرغم من أن القيمة المدونة بها كانت بالريخمارك. ثم طبع النازيون أوراق بنكنوت أسموها أوراق مكاتب أو بنوك الأقراض الألمانية
Reichskreditkassenscheine
ومهمة هذه المكاتب أو البنوك إصدار أوراق البنكنوت من الفئات الصغيرة «50، 20، 5، 2، 1، 0,50 ريخمارك»، علاوة عن سك عملة نقدية صغيرة للمعاملات اليومية، وكان من المتعذر كذلك التعامل بهذه الأوراق والنقود خارج المنطقة المحتلة التي كانت تصدرها ومن باب أولى الريخ نفسه. على أنه مما تجدر ملاحظته أن تلك السندات الإذنية وأوراق البنكنوت ما كانت في الحقيقة إلا وسيلة لإقراض مبالغ معينة للجنود الألمان تمكنهم من شراء منتجات البلدان المحتلة، وذريعة يتخذها الريخ للامتناع عن صرف مرتبات الجنود بالعملة الألمانية حتى لا تنتقل العملة الألمانية إلى البلدان المفتوحة أو تنفق بها. وفضلا عن ذلك أرغمت «البنوك المركزية» في البلدان المحتلة على قبول هذه السندات الإذنية والبنكنوت والنقود وتحويلها إلى عملة محلية، على أن ترصد في مقابل ذلك السندات الإذنية العسكرية وغيرها لحساب الريخ الختامي فتخصم قيمتها من نفقات الاحتلال، ووعد النازيون بتسوية حساباتهم في آخر الأمر مع البلدان المحتلة عند انتهاء الحرب. وبلغت قيمة ما أصدرته البنوك المتنقلة في بولندة في العامين الأولين من الاحتلال 1000 مليون ريخمارك، وفي النرويج والدانمرك 500 مليون. وعندما امتدت الحرب إلى الأراضي المنخفضة صدر قرار في 15 مايو 1940 أجاز لتلك البنوك إصدار أو «إقراض» ما قيمته 3000 مليون ريخمارك لقوات الاحتلال النازية وهيئاتها في الدنمرك والنرويج وهولندة وبلجيكا ولكسمبورج وفرنسا، فبلغت قيمة ما صدر حتى أواخر عام 1941 في جميع البلدان المحتلة - ما عدا تشكوسلفاكيا - 4000 مليون ريخمارك أو حوالي 340 مليون جنيه إنجليزي. ولم يكن إصدار هذه السندات الإذنية وما إليها يستند إلى غطاء كاف من الذهب أو غير ذلك من الضمانات الثابتة. ثم ما لبثت كمية الأوراق والعملة المتداولة أن زادت، ولكن اختفت من الأسواق السلع والمنتجات؛ لأن الألمان كانوا يستولون عليها أولا بأول، مما أدى إلى تضخم في النقد كبير، ارتفعت بسببه أثمان الحاجيات ارتفاعا فاحشا جعل الشعوب المقهورة وقتذاك تعيش في ضنك وبؤس شديدين.
وكانت «نفقات الاحتلال الألماني» من وسائل السلب والنهب التي تفتقت عنها أذهان النازيين؛ فقد استغلت الدعاية النازية في البلدان المحتلة مسألة تعويضات الحرب التي فرضها الحلفاء على ألمانيا المهزومة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وطفق دعاتهم يتحدثون عن تلك الأضرار البليغة التي أصابت بلادهم بسبب هذه التعويضات، ثم أخذوا يطمئنون الدول المقهورة بأنهم بالرغم من انتصارهم لا يريدون أن يفرضوا أية تعويضات من ذلك النوع عليها، بل يكتفون عوضا عن ذلك بتحصيل النفقات التي يسببها احتلال الجنود الألمان لبلادهم حتى إذا وضعت الحرب أوزارها لم يعد للريخ وجه للمطالبة - كما فعل الحلفاء في الحرب السابقة - بأية تعويضات عند عقد الصلح النهائي. ولم يكن ذلك كله إلا وعودا كاذبة؛ لأن الغرض من نفقات الاحتلال كما فرضها الألمان على البلدان المحتلة إنما كان مجرد السلب والنهب، ذلك بأن النازيين لم يقدروا قيمة نفقات الاحتلال على أساس ما كانت تستطيع أن تدفعه البلدان المفتتحة دون إرهاق لمواردها أو تعطيل لمرافقها وإنتاجها؛ بل إنهم لم يحاولوا اتخاذ ما يتكلفه جند الاحتلال الألماني من نفقات - معتدلة كانت أم فادحة - أساسا لتقديرهم، وإنما قدر النازيون نفقات الاحتلال على أساس ما كانت الدول قبيل انهيارها قد خصصته من أموال في ميزانياتها للدفاع عن سلامتها في أثناء الحرب، مع العلم بأن النفقات المخصصة للدفاع في أوقات الحروب إنما هي نفقات غير عادية، ويستلزم تقديرها تقليل المصروفات في أبواب الميزانية الأخرى. وعلى ذلك كانت نفقات الاحتلال التي طلبها النازيون جسيمة مرهقة بلغت نسبتها في فرنسا مثلا 140٪ من مجموع ميزانية الحرب في عام 1939، وفي بوهيميا ومورافيا حوالي 114٪ من مجموع ميزانية الحرب في تشيكوسلوفاكيا للعام نفسه، وهكذا كان الحال في سائر البلدان المحتلة. ويتبين جسامة ما نهبه الألمان بسبب نفقات الاحتلال هذه إذا وقفنا على حقيقة التعويضات التي أرغمت ألمانيا على دفعها بعد صلح فرساي، فقد بلغ ما دفعته إلى الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى 10 بلايين مارك تقريبا في مدة سبع سنوات بين عام 1924-1931، وذلك عندما كان الاتفاق الخاص بالتعويضات ما يزال ساريا، ولكن الألمان استطاعوا أن يجمعوا من فرنسا وبلجيكا وهولندة والدانمرك والنرويج وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا في سنة واحدة من سنوات سيطرتهم على أوروبا حوالي 7 أو 8 بلايين مارك، أي إنهم جمعوا في عام واحد حوالي 80٪ مما دفعه الألمان من «تعويضات» كانت موزعة على سبع سنوات، بل إن التعويضات التي دفعتها ألمانيا إلى فرنسا في خلال هذه السنوات السبع كانت أقل من 4 بلايين مارك. أما النازيون فقد استمروا حتى نهاية الحرب يحصلون مثل هذا المبلغ من فرنسا كل ستة شهور كنفقات احتلال. ومما يجدر ذكره أن ألمانيا في سنوات التعويضات السابقة (1924-1931) استطاعت أن تعقد قروضا خارجية بلغت 25 بليون مارك، أي ما يزيد على ما دفعته هي من تعويضات مرتين ونصف مرة. من المعروف أن ألمانيا لم تسدد معظم هذا الدين، بل رفضت أن تدفع التعويضات بعد عام 1931، وزيادة على ذلك منع النازيون في ظل نظامهم الجديد الدول المحتلة من أن تعقد أية قروض، وظلت ألمانيا متمسكة بنفقات الاحتلال حتى وقت انهيارها.
غير أن كل هذه الوسائل لم تكن كافية لسد جشع النازيين ونهمهم، فلجئوا إلى حيل أخرى لابتزاز الأموال واغتصاب ثروة البلدان المقهورة. وكان من أساليب النهب والسلب التي درجوا عليها مصادرة أملاك العدو، وقد بلغت قيمة هذه الأملاك في بولندة مثلا 100 مليون جنيه إنجليزي، والاستيلاء على رءوس أموال الأعداء المستثمرة في البلدان التي احتلها النازيون، وقد بلغت قيمة رءوس الأموال البريطانية وحدها حوالي 250 مليونا من الجنيهات الإنجليزية، والاستيلاء كذلك على أملاك اليهود ومصادرة ثراوتهم، وكانت قيمتها في الريخ الثالث وحده تتراوح بين 250-500 مليون جنيه إنجليزي، وفي تشيكوسلوفاكيا حوالي 125 مليون جنيه إنجليزي، هذا إلى مصادرة أموال الجمعيات أو الهيئات التي اعتبرها الريخ معادية له على غرار ما فعلوا في هولندة بمقتضى قرار أصدروه في 6 يولية 1940، وبجانب هذا كله فرض النازيون الغرامات على المجالس البلدية والسلطات المحلية في المدن، مثال ذلك أنهم فرضوا على بلدة «تروندهيم
Trondheim » في النرويج غرامة قدرها 60000 كراون أو ما قيمته 13000 دولار، نظير ما بدا منها من العداء نحو الجنود الألمان. كما فرضوا على «لهاي» في هولندة مبلغ 60000 جلدر أو 30000 دولار مقابل إتلاف ثلاث سيارات عسكرية ألمانية كانت متروكة على قارعة الطريق، وعلى مدينة باريس 20 مليونا من الفرنكات أو 400000 دولار؛ لأن أحد الأفراد رفع العلم البريطاني فوق أحد الفنادق بدلا من علم الصليب المعقوف، وعلى «أورليان» بفرنسا مليونا من الفرنكات لتعطيل أسلاك التليفون، ثم تكررت الغرامة ثلاث مرات، وللسبب نفسه أجبرت المدن النرويجية «ستافنجر
Stavanger » و«روجالند» و«هوجيسند» على دفع غرامات بلغ مجموعها 500000 «كراون».
ولم يكن هذا كل ما نهبه النازيون من البلدان المحتلة؛ فقد استولى الألمان بمقتضى اتفاقات الهدنة التي عقدوها مع البلدان المغلوبة على أسلاب كثيرة، كما أنهم ما لبثوا حتى صادروا الذهب المودع بالبنوك؛ فبلغ مقدار ما جمعوه حتى أواخر عام 1941 حوالي 90 بليون مارك أو 36 بليون دولار أو 9000 مليون جنيه إنجليزي، وهذا المبلغ بالذات - على حد قول الهر هتلر في سبتمبر 1939 - يساوي كل ما أنفق على التسليح في ألمانيا منذ أن وصل النازيون إلى الحكم في بداية عام 1933 إلى وقت سيطرتهم على أوروبا. •••
ولم تقف أعمال السلب والنهب التي انطوى عليها النظام الجديد عند هذا الحد؛ فقد عمدوا إلى نقل الآلات وأدوات الصناعة، بله المعامل برمتها من البلدان المفتوحة إلى الريخ الألماني، وإرغام «العمال» على الهجرة إلى ألمانيا والعمل في مناجمها ومصانعها وحقولها، ذلك بأن الألمان كانوا قد أنشئوا منذ 1935 ما أسموه «الوحدات المتحركة الاقتصادية» ووضعوها تحت إشراف الجنرال «توما» أحد قوادهم، وكانت مهمة هذه الوحدات في وقت السلم أن تقسم ألمانيا إلى «أقاليم دفاعية
Wehrkreise » بلغت ثمانية عشر إقليما؛ وذلك لتعبئة النشاط الاقتصادي في البلاد استعدادا للحرب، حتى إذا نشبت فعلا أصبحت مهمة هذه الوحدات المتحركة أن تنقل أدوات الصناعة وآلاتها من المناطق المعرضة للخطر في داخل الريخ نفسه إلى أماكن أكثر أمنا، وكذلك نقل أدوات الصناعة من البلدان المفتتحة إلى الريخ الألماني. وقد نجم عن هدم المصانع ونقل آلاتها إلى ألمانيا أن انتشرت البطالة في البلدان المحتلة وحرم ملايين العمال وسائل العيش في بلادهم. وابتدع النازيون لحل مشكلة البطالة الطارئة «علاجا» زاد من بؤس الشعوب المحتلة، ذلك بأن النازيين كانوا في حاجة مستمرة إلى الأيدي العاملة لإدارة ومواصلة الإنتاج الحربي؛ فعمدوا إلى إرغام العمال المتعطلين في بلادهم على «الهجرة» إلى ألمانيا للعمل بمصانعها، وابتكروا وسيلة شيطانية لإحصاء هؤلاء العمال المتعطلين وإجبارهم على الذهاب إلى ألمانيا للعمل بمصانعها، وذلك بأن سلطات الاحتلال النازية ما لبثت حتى ألزمت العمال العاطلين أن يقيدوا أسماءهم بسجلات مكاتب العمل نظير إعطائهم «بطاقة بطالة» ينالون بمقتضاها مكافأة معينة يعتاضون بها عما كان يدفع لهم من أجور في أثناء العمل. وكان العمال لا يستطيعون الحصول على المقادير المخصصة لهم ولأسراتهم من المؤن والأغذية إلا إذا أبرزوا هذه البطاقات إلى جانب بطاقات التموين العادية المعطاة لهم. غير أن السلطات النازية كانت تشترط في الوقت نفسه أن يجد العمال المتعطلون عملا ملائما في زمن قصير، وكان ذلك مما يستحيل تنفيذه للأسباب التي بسطناها، وعلى ذلك كان يطلب إلى هؤلاء العمال إما أن يرضوا بالذهاب إلى ألمانيا وإما أن تسحب منهم بطاقات البطالة، فإذا رفضوا السفر إلى ألمانيا كان من السهل بعد ذلك على مخازن البيع الحكومية أن تتذرع بشتى الوسائل حتى لا تصرف مقادير التموين المخصصة للعامل وأسرته، ولم يكن للعامل إزاء ذلك إلا أن يقبل الذهاب إلى ألمانيا حتى يطرد شبح الجوع عن نفسه وذويه.
وقد ذكرت الإحصاءات الرسمية الألمانية أن عدد العمال الأجانب في ألمانيا حتى 27 أكتوبر 1940 بلغ 1600000 منهم حوالي 500000 من أسرى الحرب، وفي يناير 1941 بلغ عددهم 2000000، وكان لا يدخل في عدادهم التشيك؛ لأن العمال من التشيك صاروا لا يعدون من الأجانب بعد إدماج «حماية بوهيميا ومورافيا» في الريخ الألماني منذ أول أكتوبر 1940، ثم زاد عدد العمال الأجانب في الريخ بعد أن وافقت إيطاليا في فبراير 1941 على إرسال 320000 عامل إلى ألمانيا. وكان من أثر حملة الألمان في بلاد البلقان أن أسر الألمان حوالي 500000 من يوغوسلافيا أرسلوا منهم للعمل في الريخ 250000؛ وكذلك جمع النازيون من مملكة كرواتيا الجديدة 50000 عامل، وبلغ عدد الأسرى من البريطانيين واليونانيين الذين أرسلوا للعمل في ألمانيا 230000، فكان عدد الأجانب المشتغلين في ألمانيا حتى صيف 1941 بين 2700000 و3000000 رجل، يضاف إليهم عدد من التشيك وأسرى الحرب الذين كانوا يشتغلون بعض الوقت فقط.
وكان هؤلاء جميعا يعملون في ظروف قاسية مرهقة؛ إذ إن متوسط ساعات العمل في الأسبوع الواحد بلغت حوالي ستين ساعة على أقل تقدير، وكان العمال يقيمون في ثكنات ثم طلب إليهم أن يدفعوا من أجورهم الضئيلة نفقات السكن والطعام عدا بعض الضرائب المحلية والتأمين ضد المرض والحوادث وما إلى ذلك. وأما إذا استطاع العامل بعد هذا كله أن يرسل شيئا من المال لمساعدة أسرته فإن حكومة الريخ كانت تستولي على ما يرسله، ثم تكلف بنوك الدول المحتلة بدفع ما تساويه هذه المبالغ من العملة المحلية.
ولعل أقسى ما في هذه المسألة أن الألمان كانوا يرسلون هؤلاء العمال الأجانب إلى المناطق المعرضة لغارات الطائرات البريطانية، وقد ذاق العمال الدانمركيون الأمرين بسبب اشتغالهم في مصانع وأحواض «لوبيك» و«همبورج» وغيرها، بل إن الألمان ما كانوا يسمحون بوقف العمل حتى في أثناء الغارات، وهلك بسبب ذلك عدد عظيم من العمال الهولنديين بميناء «همبورج» في إحدى الغارات الشديدة في نوفمبر 1941، أما النازيون فقد فسروا هذه الكارثة بقولهم: «إن هؤلاء العمال كانوا متعبين إلى حد لم يدع لأحد منهم فرصة لمغادرة المكان والالتجاء إلى المخابئ.»
الفصل الثالث
أوروبا «الحرة»
طبق «النظام الجديد» أول ما طبق في البلدان المحتلة، وكان ينطوي على ضروب من السلب والنهب حرص النازيون على أن يصبغوها بصبغة قانونية؛ ولذلك فقد بات من المتوقع ألا تخضع الشعوب المقهورة لسيطرة النازيين، وأن تعمل على تقويض أركان النظام الجديد الذي فرضه الألمان عليهم بشتى الطرق، وقد سبق القول إنه كان من أهداف الدعاية النازية استمالة بعض العناصر في البلدان المحتلة إلى التعاون مع النازيين في سياسة النظام الجديد بدعوى المساهمة في تشييد صرح ذلك العالم المثالي، الذي يكفل تحت زعامة الريخ الثالث كل طمأنينة وعيش سعيد للشعوب الأوروبية كافة. ومع أن النازيين قصدوا من هذه الدعاية دعم السيطرة الجرمانية على أوروبا، ثم على العالم أجمع، ومع أن تطبيق النظام الجديد أسفر قبل كل شيء عن نهب هذه الشعوب المقهورة وتسخيرها في خدمة «السادة» الجرمان، فقد أفلح النازيون في تصيد طائفة من المغامرين الذين قبلوا التعاون معهم في كل بلد فتحوه، فقد وجدوا في فرنسا أنصارا يؤيدونهم بزعامة «لافال» و«دارلان» و«مارسيل ديا
Déat »، ثم في النرويج الميجر «فيدكون كويسلنج
Vidkun Quisling »، وفي تشيكوسلفاكيا الكولونيل «مورافيش
Moravec » والدكتور «فوسيك
Fousek »، وغيرهما، وفي يوغسلافيا الجنرال «نديش
Nedié » عن سربيا، والدكتور «بافليش
» عن كرواتيا، وفي هولندة الدكتور «مسرت
Mussert »، ثم في الدانمرك كلا من «فريتز كلوسن
Frits Clausen »، والدكتور «سكفينوس
Scavenius » وزير الخارجية، و«بيترسن
» وزير العدل، ثم في اليونان «تسولاكجلو
Tsolakoglu ».
غير أنه إذا استثنيت فرنسا، حيث كان يحاول الماريشال «بيتان» و«لافال» و«ديا» استمالة شطر كبير من الشعب الفرنسي للتعاون مع الريخ الثالث؛ لأصبح عدد الكويسلنجيين في كل بلد من البلدان المفتوحة والمحتلة لا يزيد في الحقيقة على 5٪ من مجموع سكانها، بل إن هذه النسبة تقل كثيرا في بولندة وتشيكوسلفاكيا وسربيا واليونان والنرويج ودول البلطيق، فلا يزيد في هذه الدول عدد المتعاونيين مع النازي على 1٪ من السكان، وفي بولندة على وجه الخصوص لم يستطع النازيون استمالة أحد إليهم، فلم يجدوا بها غير الجرمان الأقارب
Volksdeutsche
على استعداد لمؤازرتهم. والأوكرانيون وحدهم هم الذين كانوا يميلون إلى التعاون مع الهر هتلر.
ولذلك لم يكن سواد الشعب في هذه الدول المغلوبة على أمرها يوما من الأيام قانعا بالعيش الذليل في ظل الاستغلال النازي المرهق، والأدلة على ذلك متوفرة؛ فهناك الصحف النازية نفسها في الريخ وفي البلدان المحتلة والمفتوحة كانت تشكو مر الشكوى من امتناع الشعوب المقهورة عن التعاون مع الريخ في دعم أركان النظام الجديد، كما كانت هذه الصحف تنشر بعض أخبار المقاومة المنظمة لتعطيل الإنتاج الاقتصادي على وجه الخصوص، ثم هناك الأخبار والنشرات التي كانت تتسرب إلى العالم الخارجي، هذا إلى جانب ما يقصه عدد من سعداء الحظ الذين أفلتوا من معسكرات الاعتقال أو من قبضة الجستابو الملطخة بالدماء.
ومن هذه المعلومات كافة يتبين أن مقاومة هذه الشعوب المقهورة كانت على نوعين: إيجابية وسلبية.
فقد اهتم الغزاة الألمان دائما من بداية الفتح في البلدان التي سقطت في قبضتهم بتجريد الجيوش الوطنية والمدنيين من الأسلحة؛ لأن النازيين الذين يعرفون حق المعرفة مقدار كراهية هذه الشعوب المغلوبة لهم لم يطمئنوا إلى العيش بين وطنيين مسلحين؛ ولذلك تشدد النازيون في جمع الأسلحة وكلف الجستابو ورجال الشرطة بهذه المهمة، ووقع النازيون عقوبة الإعدام فورا في البلدان المفتوحة على كل ممتنع عن تسليم ما لديه من أسلحة وذخيرة. ومع ذلك أخفق النازيون فيما أرادوا إخفاقا ملموسا؛ إذ استطاع أهل الدول المهزومة إخفاء عدد لا يستهان به من الأسلحة سرعان ما ظهر أثرها في حوادث الاغتيال المتكررة التي ذهب ضحيتها كثيرون من الألمان، ومن صنائعهم الذين قبلوا التعاون معهم. ومع أن الألمان عمدوا إلى اتباع طريقة أخذ الرهائن ثم إعدام المئات منهم عند وقوع حوادث الاغتيال، فإن هذه القسوة لم تفد شيئا في ردع الوطنيين أو تخفيف وطأة هذا النوع من المقاومة الإيجابية؛ بل إن هذه البلدان المفتوحة والمحتلة سرعان ما أصبحت مراكز شديدة الخطر للمقاومة الإيجابية ضد السيطرة النازية.
وكان تنظيم أول مراكز المقاومة الإيجابية في تشيكوسلفاكيا، وسبب ذلك أن حكومة هذه البلاد أدركت من أيام «ميونخ» المعروفة أن الحرب لا محالة واقعة، وأن الوطن سوف يسقط عاجلا أو آجلا تحت نعال الألمانيين، وأن الاحتلال الأجنبي لبلادهم سوف يطول أمده؛ فعمدت الحكومة منذ سبتمبر 1938 بوضع الإرشادات والتعليمات المفصلة لتوضيح ما ينبغي أن يقوم به أهل البلاد من ضروب المقاومة ضد العدو في المستقبل، وبعد انهيار الجيش التشيكو سلفاكي. وكان أهم ما عني به التنظيم الحكومي السري التأكد من وجود أكبر مجموعة ممكنة من الأسلحة الحديثة لدى الأهالي، كالبنادق والمدافع الرشاشة وغير ذلك، مخبأة في حرز مكين يعجز الجستابو أو الجيش الألماني عن العثور عليه، وكذلك نظمت الحكومة جيش المقاومة الإيجابية تنظيما دقيقا؛ فأنشأت الرتب العسكرية ووزعتها على العسكريين والمدنيين على السواء، فكان هناك القواد والضباط والجنود وهكذا.
فما هو إلا أن احتل الألمان من غير قتال بلاد السوديت في أكتوبر 1938، ثم بوهيميا ومورافيا في مارس من العام التالي حتى خرجت إلى عالم الوجود هذه المقاومة الإيجابية المنظمة تبغي إلحاق الأضرار البليغة بعتاد الحرب النازي واغتيال الألمان وصنائعهم. وقد برع التشيكوسلفاكيون في هذا النوع من المقاومة حتى إن «حامي» بوهيميا ومورافيا «هيدريش
Heydrich » والمعروف باسم «جزار مورافيا»، الذي أغتيل في 27 مايو 1942 على أيدي جمعية سرية تابعة للجيش الوطني، رأى أن يوقع الإعدام على 400 من القواد وأركان الحرب والموظفين والصناع والفلاحين التشيك، كما قبض على عدد من الوطنيين بلغ «1400»، ووجه الجستابو إلى هؤلاء جميعا طائفة من التهم المنوعة: منها أنهم نجحوا في إخفاء بعض الأسلحة التي أنتجتها المصانع التشيكية للحرب لأسباب وطنية، وأنهم نظموا حركة المقاومة المعروفة باسم «الإبطاء المتعمد» في الإنتاج، وأنهم قاموا بأعمال «تخريب» واسعة، أو كانوا على اتصال مستمر بطريق اللاسلكي مع لندن، أو أتلفوا آلات وأدوات الصناعة العسكرية الألمانية وهكذا. وكان من بين الذين أعدموا الدكتور «فرانكنبرجر»، وهو من كبار رجال وزارة الزراعة، اتهمه الجستابو بالعمل على تعطيل تسليم الحبوب والغلات الزراعية الأخرى «التشيكية» إلى سلطات الاحتلال الألماني. ومع ذلك وعلى الرغم من بطش الجستابو وقسوة الاحتلال النازي، فقد ظلت تشيكوسلفاكيا من مراكز المقاومة الإيجابية القوية ضد النازي في أوروبا.
وأما ثاني المراكز الهامة لهذه المقاومة الإيجابية فكان يوغوسلافيا؛ إذ جعل نشاط الجماعات السرية المنظمة حياة الجند الألمان والإيطاليين والهنغاريين والبلغاريين الذين يحتلون بلادهم حياة شقاء وإرهاق مستمر، فهناك شطر من الجيش اليوغسلافي السابق تحت قيادة الجنرال دراجا ميخائيلوفتش كان يعمل جديا كوحدات مدربة على القتال العنيف في غابات البوسنة، ثم في سائر أنحاء البلاد بعد ذلك، وهناك جماعة التشتنك
Cetnik
كانت مهمتها العمل في الجبل الأسود وكرواتيا ودلماسيا، ثم هناك جماعة الشيوعيين ويعرفون باسم «البارتيزان
» كانت مهمتهم الهجوم على مدن يوغسلافيا الشمالية، ثم أخيرا هناك «حزب الفلاحين الكروات» القديم وكانت يوغسلافيا الجنوبية ميدان نشاطه.
وكان جيش الجنرال ميخائيلوفتش يتراوح بين العشرين والمائة ألف جندي نظامي، ويضم إليه عددا من النساء، وقد درب هذا الجيش بحيث كان من السهل على جنده خلع الأردية العسكرية وإخفاء السلاح في الليل، حتى إذا بدأ النهار عادوا إلى أعمالهم العادية كفلاحين أو رعاة خنازير أو صناع أو عمال وهكذا، فلا يمضي وقت قصير حتى يلتحم هؤلاء ثانية في معركة دامية مع جيش الاحتلال، وعبثا كان يحاول الجستابو والجند الألمان عقب المعركة البحث عن الأسلحة أو الذخائر أو الأردية العسكرية. وفي خريف 1941 خاض هذا الجيش غمار معركة حامية في «سابي
Saboé »، استخدم فيها اليوغسلافيون المدافع الثقيلة تحت أنوف الجستابو وسلطات الاحتلال، ومن ضروب المقاومة التي برع فيها هذا الجيش الهجوم على السكك الحديدية ومناجم الفحم ومحطات توليد الكهرباء والجسور والقناطر ومخازن الذخيرة وثكنات الجند الألمان والمطارات وهكذا.
وفي كثير من الأحايين كان يتعاون «التشتنيك» و«البارتيزان» و«حزب الفلاحين الكروات» مع جيش ميخائيلوفتش، إلا أن مهمة «التشتنيك» الأساسية كانت مفاجأة جيش الاحتلال في جماعات شبه عسكرية سريعة الحركة مسلحة بأسلحة من الطراز الأول، فينزلون بالعدو أضرارا بليغة ويفرون بسلام. وأما مهمة «البارتيزان» و«الفلاحين الكروات» فكانت إرهاق المدن التي يحتلها الألمان والإيطاليون واغتيال الخونة والألمان المتغالين في أساليب التعذيب والإجرام، ثم تخليص الرهائن والغنائم أو تعطيل نقلها.
وعندما كانت هذه الجماعات تعمل متضامنة كانت تؤلف قوة كبيرة وجد الألمان والإيطاليون من جراء نشاطها أن يحتفظوا في هذه البلاد في أثناء الشهور الستة الأولى من عام 1942 بعدد من الفرق العسكرية لا يقل عن ست أو سبع فرق، على الرغم من الحاجة الملحة إلى استخدام هذه القوة العسكرية في ميادين القتال، وهناك أدلة متعددة على مقدار ما أنزلته هذه القوات بالألمان وحلفائهم وصنائعهم من خسائر جسيمة في الأرواح والعتاد الحربي. فقد حدث في يولية 1943 أن قتل الوطنيون اليوغوسلافيون ما لا يقل عن 100 إيطالي عندما هجموا فجأة على الثكنات الإيطالية في جزر دلماسيا التي تقع في البحر الأدرياتيكي تجاه إيطاليا، وقد ترتب على هذا الهجوم أن إيطاليا لم تلبث أن أعلنت التعبئة العامة في ألبانيا، وكذلك ألغيت إجازات جميع أفراد قوات المحور في البلقان وأرسلت سريعا النجدات الكبيرة إلى اليونان. بيد أنه لم تمض أيام قلائل على هذا الحادث المروع حتى اشتبك اليوغوسلافيون الوطنيون مع الألمان في معركة كبيرة في منطقة وادي كمارينكا التي تبعد نحو 50 إلى 60 ميلا جنوب سراجيفو الشرقي عاصمة البوسنة، ثم حدث في شهر سبتمبر من العام نفسه أن التحم اليوغوسلافيون الشيوعيون مع الألمان ومع جماعة الأوستاشي الكرواتية الموالية لهم في منطقة «سنج»، كما استعرت نيران الحرب بينهم وبين الألمان في الجبل الأسود وفي الهرسك، وغنم اليوغوسلافيون كميات كبيرة من الذخائر واستولوا على عدة مدن. وفي أكتوبر كانت قوات الجيش اليوغوسلافي الوطني لا تزال تواصل عملياتها الهجومية بنجاح في الجبل الأسود والهرسك والبوسنة، ودارت معارك عنيفة في ساحل دلماسيا وفي سلوفينيا وعلى حدود ألبانيا وفي كرواتيا، خصوصا مقاطعة سلافونيا على طول حدود هنغاريا. ثم استطاعت العصابات الوطنية أن تقف على بعد ميل واحد من زغرب وأن تقطع خطوط تموين المدينة، هذا عدا ما فعلته من أعمال التخريب المتعددة كانتزاع خطوط السكك الحديدية ونسف الجسور في جميع هذه المناطق. واضطر الألمان من جراء ذلك إلى اتخاذ عدة تدابير، منها ما أذاعه راديو بودابست منذ يولية عن استعداد القيادة العسكرية الألمانية في سربيا لمنح مكافأة مالية كبيرة لمن يأسر الجنرال ميخائيلوفتش حيا أو ميتا، أو يستطيع استبعاد شره بأية وسيلة كانت. وفي أكتوبر أعلنت الحكومة المجرية الأحكام العرفية في مناطق المجر الجنوبية وفي المناطق المحتلة وفي المنطقة المتاخمة لدولة كرواتيا الضالعة مع الألمانيين.
وفي 14 أكتوبر أذاع الراديو الألماني أن الفيلد ماريشال روميل تولى القيادة العليا للأعمال الحربية الموجهة ضد الثوار اليوغوسلافيين، وعبثا حاول الألمانيون استمالة زعيم حزب الفلاحين الكرواتي عندما عرضوا عليه منصب رئيس الدولة إذا أيد الألمان وحث العصابات الكرواتية على التخلي عن نشاطهم، فوضعه الألمان تحت رقابة شديدة. وكان من جراء تسليم إيطاليا أن صارت الوحدات الإيطالية الباقية في يوغوسلافيا تتعاون مع الجيش اليوغوسلافي الوطني في الجبل الأسود وفي سلوفينيا وفي دلماسيا. وفي أكتوبر كانت جميعها تقاتل إلى جانب اليوغوسلافيين، وفي 26 من الشهر نفسه أحرز اليوغوسلافيون الأحرار انتصارا عظيما عندما استولوا بعد قتال عنيف على بلدة «فارس-ميدان» وهي آخر مركز للصناعات الثقيلة في البوسنة كان لا يزال في أيدي الألمان. وفي أواخر عام 1943 تفوق في الميدان الماريشال «تيتو
Tito » يقود القوات «الوطنية» وسمي جيشه بجيش التحرير، واستطاع أن يقض مضاجع الألمان، حتى تمكن جيشه - إلى جانب القوات الوطنية الأخرى - أن يشغل ما لا يقل عن أربع عشرة فرقة ألمانية، واضطر الألمان إلى جلب إمدادات من اليونان وألبانيا لا تقل عن خمس فرق. وفي بداية عام 1944 كان القتال لا يزال محتدما في جميع ساحات الجبهة في شرقي البوسنة وفي كرواتيا وبالقرب من زغرب وفي دلماسيا وغيرها.
وقد نجم عن نجاح هذه الجيوش الوطنية تعطيل السكك الحديدية الرئيسية والخطوط الاحتياطية الممتدة صوب الجنوب الشرقي إلى البلقان واليونان، كما عطلت الملاحة في نهر الدانوب بإغراق السفن في مجرى هذا النهر، فاختل النقل من جراء ذلك بين ألمانيا وبلاد البلقان اختلالا كبيرا. وهكذا لم يلبث أن وجد الألمان الذين بنوا آمالا عريضة على إمكان الاستفادة من استغلال ثروة يوغوسلافيا المعدنية والاستيلاء على غلاتها الزراعية أن الفشل يحيق بخططهم جميعا.
وقد سبقت الإشارة إلى الأساليب التي اتبعها النازيون في إبادة البولنديين واليهود منهم خاصة؛ ولذلك فقد ظلت بولندة منذ سقوطها في أيدي النازيين مركزا رئيسيا من مراكز المقاومة الإيجابية والسلبية في أوروبا النازية. ومع أن الألمانيين ارتكبوا مع أهل هذه البلاد فظائع تقشعر من هولها الأبدان، إلا أن ذلك لم يخفف شيئا من حدة هذه المقاومة، بل على العكس من ذلك، قويت هذه المقاومة وزادت عنفا من جراء هذه الفظائع. وكان من المنتظر بعد الغزو، منذ أن تم للنازيين ما أرادوا من تنظيمات تضمن لهم السيطرة وبخاصة في أثناء عامي 1940، 1941 أن يرتفع قليلا ذلك الكابوس الجاثم على صدور البولنديين، ولكن هروب الكثيرين منهم إلى الخارج للقتال مع جيوش الأمم المتحدة، ثم إصرارهم على المقاومة في داخل بلادهم، وزيادة مشاغل الألمان من جانب آخر منذ اشتعلت الحرب الروسية الألمانية، كل ذلك جعل النازيين يمعنون في أساليبهم الوحشية لإبادة البولنديين، فأوقعوا بيهود وارسو مذابح كانت أقساها مذبحة شهر مايو 1943 المروعة، كما أكثروا من اعتقال المئات من المثقفين. وفي يونية اتهم حوالي السبعمائة شخص من هؤلاء بأنهم اشتركوا في هيئات سرية تعمل ضد الألمان. واشتد بطش النازيين فنسفوا بالديناميت أو أحرقوا 2000 «ورشة»، و3000 متجر، و100 ألف بيت في المنطقة المخصصة لليهود في مدينة وارسو وحدها. ومن بين المآسي التي وقعت في عام 1943 أن النازيين لم يلبثوا أن نقلوا الأطفال البولنديين الذين تزيد أعمارهم على اثنتي عشرة سنة مع غيرهم من المراهقين إلى معسكرات العمل الإجباري في ألمانيا. وحدث عندما وصلت في شهر مارس قوافل كثيرة من صغار الأطفال إلى بوميرانيا - وكانت أعمار أغلبهم تختلف بين أربع سنوات وعشر - أن هرع النساء البولنديات في هذه الجهات لتولي هؤلاء الصغار بعنايتهن، فقامت سوق لبيع الأطفال، وكان الحراس الألمان يبيعون الطفل الواحد بأربعين ماركا فحسب، ولم يكن غريبا بعد هذا كله أن تصبح بولندة من مراكز المقاومة الخطيرة في أوروبا المحتلة.
وقد حاول النازيون بشتى الوسائل أن يخمدوا هذه المقاومة بنوعيها «سلبية وإيجابية» وهي لا تزال في مهدها ولكنهم أخفقوا، فلم تلبث الصحف النازية أن نشرت أخبار المقاومة، وكان أهم ما شكت منه ظهور العصابات المسلحة من اللصوص وقطاع الطرق البولنديين الذين دأبوا على مفاجأة مراكز الشرطة الألمانية المنعزلة والحراس الألمان، ومقر قيادة الجستابو نفسه. بيد أنه لم يكن من أغراض هذه العصابات المسلحة الاستيلاء على المال أو الطعام، بالرغم من انتشار المجاعة في بولندة؛ بل إن أهم ما كان يعني هؤلاء اللصوص وقطاع الطرق العثور على أولئك «الجلادين» و«الجزارين» الألمان الذين أهلكوا ألوف البولنديين ليقتلوهم ويستولوا على سلاحهم وذخيرتهم. ومنذ خريف 1941 نظمت هذه العصابات المسلحة، ونجم عن هجومها المتكرر على مخازن الذخيرة والسلاح أن صارت بولندة تحتفظ بقدر وافر من الأسلحة والذخائر مخبأة في جهات متعددة؛ انتظارا لليوم الذي يستطيع البولنديون فيه رفع راية الخلاص والاقتصاص من «جلاديهم» وقت الهجوم على قلعة هتلر الأوروبية.
وكانت اليونان كذلك مركزا رئيسيا للمقاومة الإيجابية في أوروبا؛ فقد أنزل الألمانيون والإيطاليون الذين اشتركوا في احتلال هذه البلاد كما أنزل الألمانيون في كريت، والبلغاريون في مقدونيا صنوف العذاب بالأهلين. ولعل أقسى ما نزل بهم حرمانهم من الأطعمة واستيلاء سلطات الاحتلال على العقاقير الطبية والضمادات وما إلى ذلك، حتى انتشرت المجاعة المخيفة في اليونان وكريت، ومات الأطفال من الجوع والبرد والمرض، وسقط الرجال في شوارع المدن منهوكي القوى، وظلت جثث الموتى مبعثرة في الطرق. وقد بلغ عدد ضحايا الجوع والتعب والبرد والمرض خمسمائة في كل يوم من أيام سنة 1942، واشتدت وطأة المجاعة في العام التالي، حتى ذكرت المصادر العلمية في أنقرة أن حوالي خمسمائة يوناني من طبقة العمال في أثينا وبيريه ماتوا جوعا في النصف الأول من شهر أكتوبر «1943»، وفي نوفمبر كانت اليونان تواجه كارثة وطنية لا مثيل لها بسبب ما تعانيه من نقص في الأطعمة، أضف إلى ذلك أن «السادة» الألمان والإيطاليين ثم البلغاريين بعد ذلك ظلوا يتفننون في ابتكار الأساليب لإلحاق الأذى بالأهلين، كأنما الغرض من الاحتلال هو إبادة الشعب اليوناني عن بكرة أبيه؛ ولذلك كله لم يكن هناك بد من أن تكون اليونان من مراكز المقاومة الشديدة في البلقان، فإن فلول الجيش اليوناني الباسل ظلت تحارب في جبال «أبيروس» ومقدونيا وتساليا وطراقية وكريت، حتى اضطر الإيطاليون بسبب هذه المقاومة العنيدة إلى الاحتفاظ (1942) بعدد من الفرق لا يقل عن ست عشرة فرقة في اليونان وكريت، وأرغم الألمان على الاحتفاظ بثماني فرق. وفضلا عن ذلك فقد عمد الألمان إلى اعتقال عدد كبير من أهل القرى - وبخاصة في كريت - بمثابة رهائن، وأعدموا معظمهم، ثم صاروا يحرقون القرى كلما نشبت بينهم وبين العصابات اليونانية أو الكريتية معركة من المعارك، أو اعتدى اليونانيون على ضباط الاحتلال الألمان أو الإيطاليين، أو أتلفت عصاباتهم القطارات أو عطلت النقل العسكري. ومع ذلك أعد رجال العصابات بجزيرة كريت في شهر سبتمبر 1943 جيشا من 15000 محارب، بينهم جنود من البريطانيين والنيوزيلنديين للهجوم على حاميات المحور عندما يغزو الحلفاء هذه الجزيرة وتتصدع أركان القلعة الهتلرية، واستطاعت العصابات الكريتية إنشاء مستودع للأسلحة بفضل الهجوم على حاميات المحور وقوافله، وألفوا لهم قيادة عامة تحت أوامر الجنرال «ماندا كاس». وقد استمرت أعمال المقاومة في اليونان على شدتها، ثم لم تلبث أن امتدت إلى المناطق التي كان يشملها الاحتلال البلغاري في شمال اليونان، ثم احتج اليونان على الاحتلال البلغاري لمقدونيا، ونزح كثيرون من سكان هذه المناطق المحتلة إلى الجبال حيث ألفوا العصابات تحت قيادة ضباط الجيش اليوناني. ومع أن النازيين عندما غزوا بلاد اليونان واجتاحوها صادروا جميع السفن الشراعية، فقد استولى رجال العصابات على عدد من هذه السفن وسلحوها بالمدافع السريعة وصاروا يستخدمونها لنقل الإمدادات إلى الأسر الجائعة. وفي نوفمبر شرع الألمان يعدون العدو للقيام بأعمال حربية هجومية ضد خمسين ألف جندي من رجال العصابات اليونانية المرابطين في المنطقة الجبلية بين تساليا وأبيروس. •••
وكان من أساليب المقاومة الإيجابية، ما يعرف باسم «حركة الإبطاء المتعمد» في العمل والانتاج
Go Slow Movement ، وكذلك أعمال التخريب
Sbotage ، وهذان النوعان في الحقيقة من أشد ضروب المقاومة الإيجابية خطرا على النازيين، في وقت اشتدت فيه حاجتهم إلى كل ما يمكن إنتاجه من أغذية وأردية صوفية وقطنية وأسلحة وذخائر ومصنوعات وغيرها؛ لإعداد التعبئة العامة ومساعدة النازيين على إحراز السيطرة الجرمانية في القارة الأوروبية، ثم دعم هذه السيطرة في النهاية.
فمن المعروف أنه كان يوجد لدى الألمان في الحرب العالمية الثانية من الأغذية الاحتياطية - بفضل ما سلبوه من الدول الخاضعة لسيطرتهم - كمية تزيد على ما كان لديهم من الأغذية في الحرب الأولى. بيد أن «التخريب» الذي كان يحدث في أدوات الإنتاج كان أعظم خطرا عليها - بلا مراء - من تخريب أعوام الحرب الأولى (1914-1918م). وكذلك أدت حاجة الألمان الملحة إلى المنسوجات الصوفية والقطنية إلى تدبير حملة الشتاء المعروفة في عام (1941-1942) من أجل جمع الملابس الصوفية والقطنية، ودل اهتمام الألمان بهذه الحملة على أن مخازنهم ومصانعهم في الريخ وفي البلدان الخاضعة لهم، قد أصبحت خالية من الصوف والقطن، حتى كان الجنود الألمان المرسلون للقتال في الميدان الروسي يرتدون ملابس النساء الداخلية من صوفية وقطنية طلبا للتدفئة.
وعدا ذلك دلت الحملة الروسية على أن القيادة العسكرية الألمانية أخطأت التقدير إلى مدى بعيد؛ فقد ظل القتال على شدته منذ نشوب الحرب مع الروسيا في صيف 1941؛ ولذلك لم يستطع الهر هتلر الاستغناء عن مقاتلته في شتاء (1941-1942) لإرسالهم من ميدان القتال إلى المصانع والمناجم وغيرها لإنتاج الأسلحة والذخائر الضرورية لهجوم الربيع، بل على العكس من ذلك أرسل النازيون منذ يناير 1942 سيلا من القوات الجديدة إلى الجبهة الشرقية، حتى أقفرت المصانع تماما من العمال الألمان واضطر النازيون إلى الاعتماد كل الاعتماد على الصناع والعمال الأجانب الذين جلبوهم بكثرة عظيمة من البلدان المحتلة للعمل في المصنع والمنجم والحقل، مع العلم بأن الألمان كانوا حتى صيف 1941 يستخدمون من هؤلاء العمال - ومن بينهم أسرى الحرب - حوالي 3000000 رجل كما سبق ذكره.
بيد أن الاعتماد في الإنتاج على العمال «الأجانب» سواء في داخل الريخ أو في الدول المحتلة، لم يلبث أن مهد الفرصة لظهور حركة الإبطاء المتعمد كأسلوب من أساليب المقاومة الإيجابية الشديدة. ومعنى الإبطاء المتعمد: الإهمال المقصود في العمل، وإتلاف الآلات بدعوى جهل طرق استعمالها، وتضييع الوقت سدى في مناقشات لا طائل تحتها، وتظاهر العمال بالغباوة والبلادة والجهل والخوف في المصنع، وعدم فهم الأوامر والإرشادات والتعليمات على الرغم من إلقائها عليهم المرة بعد المرة، وترك المواد والآلات تسقط وتتحطم أو تتلف «سهوا» أو «قضاء وقدرا»، وهكذا مما يجر إلى تبديد الوقت والجهد ويؤدي في النهاية إلى نقص الإنتاج إلى حد ملحوظ.
ولم تكن حركة الإبطاء المتعمد هذه مقصورة على المصنع وحده؛ بل كانت منتشرة في الحقل وفي مصالح النقل بالسكك الحديدية والأنهار وغيرها، وفي المنازل حيث يقوم بخدمة «السادة» الألمان النساء البولنديات خاصة، فيتعمد العاملون في هذه النواحي بسبب إبطائهم الشديد تضييع الوقت سدى، ثم تخريب أو إتلاف الآلات والأدوات وما إليها، وكل ذلك بدعوى الجهل والنسيان أو التظاهر بالغباوة. ومن أمثلة ذلك وضع الزجاج أو المسامير خطأ أو سهوا في علف المواشي، أو إحراق الملابس الصوفية أو تعمد الإبطاء في أوقات الحصاد حتى تتلف المزروعات بتعرضها للعواصف والعوامل الجوية، أو إخفاء الحبوب، أو ذبح الماشية، أو تعريضها للموت فجأة. ولعل أكبر نجاح صادفته هذه «الحركة» كان في مناجم الفحم حيث يتعذر على الملاحظين الألمان مراقبة كل عامل على حدة، ومع أن النازيين كانوا يوقعون عقوبات شديدة، تبلغ حد الإعدام على كل من تثبت عليه تهمة الإبطاء المقصود أو إتلاف الآلات وغيرها أو التخريب عموما، فقد ظلت حركة «الإبطاء المتعمد» على شدتها، بل كثيرا ما وجد العمال الأجانب وسيلة للانتقام شر انتقام من رؤساء العمل الألمان الذين كانوا يشتدون في ملاحظة العمال المشتغلين في المصانع وغيرها ويوقعون عليهم العقوبات الصارمة لإبطائهم.
وقد نجحت حركة الإبطاء المتعمد وانتشر التخريب في أوروبا النازية انتشارا كبيرا، فصارت الشعوب المقهورة يباري بعضها بعضا في إتقان هذا النوع من المقاومة الإيجابية، فامتاز البولنديون - إلى جانب قيامهم بأعمال التخريب الكبيرة - بالبراعة في إرهاق أعصاب الأسرات الألمانية التي اعتمدت في إدارة منازلها على «الخدم» البولنديين، كما اعتمدت في أعمال زراعتها على سواعدهم، فأنزل البولنديون بهذه الأسرات خسائر فادحة في المنزل وفي الحقل على السواء. أما النرويجيون الذين كانوا يشتغلون في المصانع وأحواض السفن الألمانية فقد اتخذوا لهم شعارا: «العمل مدى ساعتين في اليوم فحسب لحساب هتلر وست ساعات لحساب الملك هاكون!» ولم يقل عنهم حماسة في ذلك البلجيكيون والهولنديون والتشيك. ومن الحوادث التي تدل على إمعان التشيك في هذا النوع من المقاومة، ما وقع في فينا في 17 نوفمبر سنة 1941 عندما ألقي القبض على ثلاثة منهم وأعدموا رميا بالرصاص؛ «لادعائهم - كما جاء في التقرير الرسمي - أنهم من رجال الجستابو حتى يستطيعوا المضي في أعمالهم غير القانونية!» والحقيقة هي أن هؤلاء الرجال كانوا بدعوى تنفيذ أوامر الجستابو، يكلفون المصانع إنتاج أشياء ومصنوعات لا داعي لها، اقتضى صنعها استهلاك كمية كبيرة من الخامات سدى، إلى جانب تضييع جهود العمال وأوقاتهم في هذه المصانع. •••
وكان من آثار هذه «الحركة» أن نقص الإنتاج كثيرا في المصانع التي كانت تشتغل في أوروبا النازية لحساب الألمان، مثال ذلك أن الإنتاج في تشيكوسلفاكيا في خريف 1941 كان يقل 40٪ عما كانت هذه الدولة تنتجه في الظروف العادية، هذا على الرغم من توفر الخامات والأيدي العاملة بها. وفي مصانع «سكودا» المشهورة قل الإنتاج بنسبة 33٪، وفي مصانع مدافع «برين
Bren » المعروفة قل الإنتاج بنسبة 40٪، وفي مناجم الفحم البلجيكية قل الإنتاج منذ خريف 1941 بنسبة 36٪، ومع أن الألمان أحضروا إلى هذه المناجم عمالا كثيرين، وزادوا من ساعات العمل بها ، فقد ظل الإنتاج في ديسمبر 1941 ويناير 1942 ينقص 30٪ عن إنتاج العام السابق. •••
أما الفرنسيون فقد كانوا في طليعة الشعوب التي أتقنت هذا النوع من أنواع المقاومة الإيجابية، حقيقة ظل الفرنسيون في بادئ الأمر في شبه ذهول كبير من صدمة ذلك الانهيار الذي حطم في نفوسهم كل أمل وكل رجاء في المستقبل، حتى نجحت الدعاية النازية في استمالة الأنصار والمتعاونين مع رسل النظام الجديد في فرنسا، ولقيت هذه الدعاية كل تأييد من جانب حكومة فيشي. ولكن الأساليب النازية لم تلبث أن أزالت الغشاوة الثقيلة التي أسدلت على عيون الفرنسيين وأبصارهم عندما وجدوا «السادة» الألمان لا يبغون من تطبيق النظام الجديد سوى نهب فرنسا وسلبها، كما أنهم ظلوا محتفظين بالأسرى الفرنسيين كرهائن حتى يضمنوا سكون هذا الشعب المقهور إلى العيش الذليل، وإرغامه على الرضا وقبول السيطرة الجرمانية على أمل الإفراج عن هؤلاء (المليونين) من الرجال الذين ينتظر عودتهم الأهل والأقرباء في كل بيت من بيوت فرنسا تقريبا. وهذا أيضا عدا حوالي 100000 عامل فرنسي، حتى أغسطس 1942 أرغموا على العمل في ألمانيا بالوسائل التي تقدم ذكرها. وكان من عوامل إحياء الأمل والرجاء في قلوب الفرنسيين إخفاق الألمان في معركة بريطانيا، وإخفاقهم الأول في الحملة الليبية المعروفة، وكذلك عنف القتال في الجبهة الروسية؛ فأفاق الفرنسيون من سباتهم رويدا رويدا، ثم أدركوا أن الجحافل النازية لم تعد تلك الجيوش المظفرة والتي يستحيل قهرها.
لذلك بدأ الفرنسيون منذ أواسط عام 1941 يتقنون أساليب المقاومة الإيجابية. ولما كان النازيون يعتمدون على العمال الفرنسيين في المصانع الفرنسية لإنتاج آلات الحرب، فقد وجد الفرنسيون مجالا واسعا «للتخريب» و«الإبطاء» في المصانع، ومن ذلك الحين كشف الألمان أن الطائرات التي تخرجها المصانع الفرنسية لا تصلح للملاحة الجوية، وأن كثيرين من طياريهم يفقدون الحياة عند محاولة اختبارها قبل إرسالها إلى ميدان القتال، كما كشفوا أن «خرطوش» البنادق والمدافع المرسل من المصانع الفرنسية يصل في الغالب خاليا من المواد المفرقعة. وفي مرسيليا وجد الألمان أن جزءا كبيرا من الأغذية المعدة لتموين الجيش الأفريقي يتلف ويعطب قبل إنزاله إلى سفن النقل. ومن طريف ما يذكر عن أساليب حركة الإبطاء المقصود أن ضابطا نازيا عهد إليه في إنشاء مطار في فرنسا في أرض ممهدة نوعا، فاستخدم في هذا العمل عددا كبيرا من الفرنسيين، ولكن انقضت أربعة أشهر دون أن يتم إعداد هذا المطار، وعند البحث اتضح أن سبب ذلك هو أن العمال الفرنسيين كانوا يتظاهرون دائما بعدم فهم الأوامر والإرشادات والتعليمات الألمانية، فإذا طلب إليهم مثلا إقامة بناء في ناحية ما حفروا الأرض بدلا من ذلك، وإذا طلب إليهم العكس أقاموا عليها بناء أو شقوا بها ترعة أو حفروا فيها خندقا وهكذا، حتى لم تعد الأرض بعد هذه الشهور الأربعة تصلح لإنشاء المطار على الإطلاق. وكان الفرنسيون يعمدون إلى المناقشة والجدل مع رؤساء العمل الألمان دائما عند إعطاء التعليمات الخاصة بأي عمل في المصنع أو في الحقل، فيتخذون من الجدل الطويل وسيلة لتضييع الوقت وتحقيق فكرة «حركة الإبطاء المتعمد»، ولم تفلح عقوبات الألمان الصارمة - ومنها الإعدام - في إخماد هذه المقاومة.
وكان من أسباب ازدياد المقاومة ما طلبه الهر هتلر من تقديم فوج جديد من العمال الفرنسيين عددهم «470000»، يرسل منهم إلى ألمانيا قبل نهاية شهر يونية من عام 1943 «220000»، أو أن يوضعوا على الأقل تحت تصرف جماعة «تودت» في فرنسا ذاتها، بينما يقدم الباقون وعددهم «250000» في أثناء الأشهر الثلاثة التالية. فقابل الشبان الفرنسيون هذا الطلب بكل أنواع المقاومة العنيفة، واعتصم أهل مقاطعة سافوي بالجبال فرارا من التعبئة، وبلغ عدد الذين لجئوا إلى الجبال والغابات حوالي الثلاثة آلاف، ثم حدث مثل هذا تماما في البرينيه العليا وبريتاني والفنديه، وبلغت نسبة الهاربين في هاتين المقاطعتين الأخيرتين 75٪ من الأهلين، وقذف الشعب في إحدى مواني بريتاني الصغيرة ببعض رجال النازي إلى البحر، واتسعت حركة العصيان بين الفلاحين في مدن أخرى وتفاقمت تفاقما كبيرا. وفي مقاطعتي سانت كلو وجورا عظمت المظاهرات احتجاجا على نقل العمال الفرنسيين عنوة إلى ألمانيا، ووقع اعتداء على رجال الشرطة. وعندما أرغم العمال الفرنسيون على الذهاب إلى القطارات لحملهم إلى ألمانيا عطل المتظاهرون سير هذه القطارات، وأتاحوا الفرصة لفرار كثير من هؤلاء المجندين. وفي سافوي أخذ الإيطاليون يحاصرون الشبان الفرنسيين الذين التجئوا إلى بلدة «أنسي» الصغيرة، ولم يعدم هؤلاء بدورهم وسيلة للانتقام من مطارديهم، فانقضوا فجأة ذات يوم من أيام شهر أغسطس على أحد المراكز الإيطالية على حدود سويسرة وقتلوا قائد هذا المركز، بينما احتدمت المعارك في الشهر نفسه في سافوي العليا بين رجال العصابات والقوات المسلحة، واضطر الألمان إلى إرسال النجدات لاحتلال منطقة الحدود بأكملها، فوصل في سبتمبر إلى دوفيني وإيفيان وغيرها حوالي 9000 جندي ألماني لمحاولة القضاء على «الماكي»، وهي «عصابات» الوطنيين الفرنسيين الذين اعتصموا بالجبال في سافوي العليا فرارا من العمل تحت إمرة الألمان. وفي سبتمبر كان عدد عصابات «الماكي» حوالي 12000 من الشبان المزودين بالأسلحة والأدوات الخاصة وأجهزة الراديو، وكل ما يفيد في تخريب السكك الحديدية بنوع خاص.
وقد روى مراسل جريدة «جازيت دي لوزان» قصة ما يجري في المنطقة الجبلية من الحوادث، فقال:
ترى شابا من عمال المزارع يبدو مسالما لا خوف منه يدخل بدراجته مزرعة معينة خصصت له، ثم يستقر في حجرة من حجرات بيت صاحب المزرعة بعد تبادل كلمات مع زوجته، ولا يكاد يستقر به المقام في تلك الحجرة حتى يخرج من حقيبته جهاز اللاسلكي ويأخذ في استخدامه، ويجد هذا الشاب بعض الصعوبة في الاتصال بالذين يريد الاتصال بهم، ومع أنه يعلم أن في استطاعة سيارات «البوليس السري الألماني» معرفة مكانه بعد عشرين دقيقة من استخدامه جهازه اللاسلكي فإنه يظل يرسل رسالته إلى نهايتها، على أن إرسال هذه الرسالة يستغرق عادة مدة طويلة، حتى إن الشاب لا يكاد ينتهي من عمله حتى يرى إحدى سيارات الجستابو تدخل المزرعة، ويخرج منها الجنود الألمان مسرعين إلى الحجرة التي كمن فيها الشاب وهم يطلقون النار دون إنذار إلى أن يقع الشاب صريعا مضرجا بدمائه، ويمكن أن يقال، قياسا على ما يحدث هناك: إن قانون هذه العصابات لا يعرف رحمة ولا شفقة؛ إذ إن أنباء هذا الحادث لا تكاد تنتشر في البلاد وتبلغ مسامع رؤساء هذه الجماعة حتى يعمدوا إلى حيلة للانتقام، ذلك بأن سيارة «البوليس» السري الألماني بعد أن تلتقط رسالة مستعجلة تقصد إلى «جراج» معين ويخرج منها جنود الجستابو ويتقدمون نحو أبواب «الجراج»، وبينما هم يحاولون فتح هذه الأبواب إذا بوابل من رصاص المسدسات يفاجئ الألمان ويقتلهم جميعا عدا السائق، فإنه يضرب ضربا أليما ويطلق سراحه.
وفي الواقع يحيا هؤلاء الشبان حياة محفوفة بأشد الخطر ويضحون بكل شيء حتى بأرواحهم في سبيل أداء واجباتهم.
ومنذ استسلام إيطاليا (في أغسطس وسبتمبر 1943) ترك الجنود الإيطاليون كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر في أيدي الثوار في مقاطعتي سافوي وسافوي العليا، كما أن عددا من الضباط والجنود الإيطاليين الذين لم يستطيعوا الالتجاء إلى سويسرة لم يلبثوا أن انضموا إلى هؤلاء «الثوار»؛ كي لا يتمكن الألمان من نزع سلاحهم. وفي نوفمبر نشب القتال بين الألمان والوطنيين الفرنسيين في عدة مدن، منها تولوز ومرسيليا، ثم لم يعد نشاط الوطنيين مقصورا على الجبال، بل أخذ يمتد بسرعة في جنوب فرنسا وفي بريتاني. وفي تولوز اعتدى الوطنيون على الجنود الألمان وقتلوا كثيرا منهم. وفي مرسيليا وقعت مصادمات خطيرة في الشوارع قتل فيها عدد من الألمان. وفي «كان» وغيرها صار لا ينقطع صوت إطلاق الرصاص كلما أرخى الليل سدوله، وقد يكفي أن نذكر آخر الإحصائيات التي عملت وقتذاك عن خسائر الفرنسيين الوطنيين لمعرفة مبلغ ما وصلت إليه المقاومة الإيجابية في فرنسا من عنف وشدة؛ فقد قدر عدد ضحايا الوطنيين الفرنسيين في حوادث المقاومة بنحو 40000، هذا بينما بلغ عدد المسجونين لاشتراكهم في حركة المقاومة السرية نحو نصف مليون. •••
ويتضح مبلغ خطر هذه المقاومة الإيجابية من مراجعة طائفة من حوادث التخريب التي وقعت في أوروبا النازية بين أغسطس 1941، ونوفمبر 1943.
ففي شهر أغسطس 1941 كان عدد حوادث السكك الحديدية في بولندة - حسب الإحصاءات الرسمية الألمانية - 128 حادثا؛ أي بما يزيد على أربعة حوادث يوميا.
وفي ليلة من ليالي سبتمبر 1941 استولى حوالي 400 من التشنتيك و1500 من المدنيين على مناجم الفحم في لجسلاني
Ljeslani
في البوسنة «في يوغسلافيا»، وكان يقوم على حراسة هذه المناجم 75 رجلا قتلوا جميعهم في ملحمة دامية نسفت بعدها هذه المناجم بالديناميت. ثم ضرب التشنيك محطة توليد الكهرباء المجاورة قبل انسحابهم، وقدرت الحكومة الكرواتية هذه الخسارة بمبلغ 12 مليون كونا (العملة الكرواتية الجديدة).
وفي 16 سبتمبر 1941 نسفت بالديناميت في بولندة قنطرة السكة الحديدية الرئيسية بين «برسلاو» و«وارسو»، وهذا الخط من أعظم خطوط التموين أهمية بين ألمانيا والجبهة الشرقية (الروسية).
وفي 10 أكتوبر أذاع الحاكم الألماني في إقليم «أليسوند
Allesund » في النرويج أن الأهالي ألحقوا أضرارا جسيمة بالتحصينات الألمانية.
وفي 15 ديسمبر نسفت بالديناميت في بلجيكا الشرقية الأسلاك الرئيسية في محطة «بريسو شارات
Bresoux Charatte » لتوليد الكهرباء، وهي تمد ألمانيا الشمالية الغربية.
وفي 4 نوفمبر نسفت بالديناميت أجزاء في منجم فحم «موتيجني» في إقليم «جراند-لينج».
وفي يناير 1942 أصدر رئيس الشرطة في باريس أمرا بالقبض على عصابة من المحاربين يتزعمها عامل يبلغ من العمر 22 سنة، مهمتها إشعال الحرائق في المصانع وتخريب الآلات. وفي الشهر نفسه أعلنت الحكومة الألمانية رسميا أن صعوبة تموين يوغوسلافيا واليونان بالطعام ناشئة من أن عددا كبيرا من موظفي السكك الحديد اليوغوسلافية قد انضموا إلى جيش الجنرال ميخائيلوفتش وإلى جماعات «التشتنيك».
وفي 2 فبراير عين الماجور كويسلنج رئيسا لحكومة النرويج، فتبع ذلك سلسلة من أعمال التخريب؛ إذ أشعلت الحرائق في محطة السكة الحديد في «أوسلو»، ثم انفجرت عدة قنابل في بناء البرلمان النرويجي
Storting ، وفي الجامعة والمسرح الحكومي، ثم أشعلت النيران في أكبر مصنع نرويجي للمطاط في «أسكيم
Askim »، وفي مصنع آخر في «درامن
Drammen » وقد خرب المصنعان تماما، وكذلك اشتعلت النيران في «برجن» وفي «لكسفاج
Laxevaag » في مصنع للآلات وفي أحواض السفن.
وفي 21 مايو 1943 أذيعت أنباء عن وقوع اضطرابات خطيرة في عاصمة بلجيكا، وأن الوطنيين البلجيكيين دمروا أخيرا 33 قاطرة، منها 5 قاطرات كانت تجر 18 مركبة محملة بالذخيرة، وعطلوا أو حطموا مؤسسات هامة أخرى.
وفي 31 مايو 1943 أشعل رجال عصابات التخريب النار في أعظم مصنع نسيج في رومانيا للمرة الثانية، وأتلفوا ألوف الكيلوجرامات من المواد الخام، وقدرت الخسائر ببضعة ملايين لي.
وفي اليوم نفسه أذاعت وكالة الأنباء البلجيكية أن المخربين نسفوا ثلاث محطات مترو في منطقة لييج، وقد نسف منزل عمدة بلدة شوشين.
وفي 3 يونية دمر الوطنيون الفرنسيون منجما يستخرج منه البوكسيت وهو أهم مصدر للألمونيوم، وكذلك دمروا في المدة القصيرة السابقة نحو 300 قاطرة، 1200 عربة مشحونة بمعدات الحرب والمواد الغذائية والجنود، ثم نسفوا ثلاثة جسور.
وفي 18 يونية قتل أكثر من أربعمائة جندي ألماني كانوا في طريقهم إلى اليونان عندما هاجمت جماعة من المخربين القطار الذي كان يقلهم في متروفيكا في كرواتيا وأخرجوه عن الخط. وقد ثأر الألمان لأنفسهم بإحراق المدينة ولم تعد القطارات تمر بهذه المنطقة لكثرة حوادث التخريب في السكك الحديدية حتى بلغ المعدل خمسة قطارات في اليوم الواحد على الرغم من الوحشية التي يستخدمها الألمان في التشفي والانتقام.
وفي 28 يونية أذاعت وكالة الأنباء البلجيكية أن ثلاثة من البلجيكيين وفرنسيا أعدموا على إثر وقوع انفجار شل حركة النشاط في منجم فحم في «لامبو سارت» بمقاطعة هانيولت في بلجيكا، وكذلك نشرت الصحف السرية البلجيكية في هذا الوقت خبرا مفاده أن 38 قاطرة و251 عربة وست «ورش» تابعة للسكك الحديدية دمرت في خلال شهر واحد. وقالت إحدى الصحف السويدية: إن الوطنيين البلجيكيين نسفوا بالديناميت القضبان الحديدية بين «كوتري» و«موسكرون» وبين «تيرلمون» و«لوفان» في عدة أماكن، وقد خرج قطار محمل بالجنود النازيين العائدين إلى ألمانيا عن القضبان، واعتدى الوطنيون كذلك على عدة قطارات ألمانية محملة بالجنود والعتاد الحربي في «غنت» و«جودارفيل» و«ترموند» و«لييج».
وفي 23 يولية جاء من اليونان أن العصابات دمرت جسرين على نهر لوروس، ثم هاجمت القوات المعادية التي كانت تريد إصلاح الجسرين وقطعت المواصلات التليفونية بين بعض المدن. وفي 23 أغسطس أذيع من ستوكهولم نبأ خاص جاء فيه أن أكبر مصنع للألمنيوم في الدانمرك، وهو مصنع «دانسك أليومنيوم فابريك» في كوبنهاجن دمر تدميرا تاما بفعل الأيدي المخربة.
وفي 27 أغسطس وردت الأنباء بأن الجنود الألمان أطلقوا النيران على المتظاهرين في ساحة «الراد هوسيلادن» الواقعة في قلب كوبنهاجن، وقد اشتدت مقاومة الدانمركيين النازيين حتى أذيع عن طريق الراديو الدانمركي أن الضرر الذي أحدثه المخربون بمصنع المعدات الكهربائية في كوبنهاجن يقدر بمائة ألف جنيه إسترليني على قاعدة أسعار ما قبل الحرب. وقد ظهر من التحقيق أنهم دخلوا المصنع وهم يحملون المسدسات وتغلبوا على الحراس ووضعوا ثلاث قنابل أحدثت ضررا مروعا.
وفي 29 أكتوبر وضعت العصابات الفرنسية أربعين طنا من المواد المتفجرة في مصنع بارود بمدينة «لانجو»، فحدث انفجار مروع سمع في أنحاء ولاية المارن العليا وأحدث الانفجار ضررا بليغا.
وفي 17 نوفمبر حدث انفجار في «جرينوبل»، نسفت من جرائه محطة توليد الغاز، وكذلك مصنع الأسلحة والبارود الألماني.
وفي 19 نوفمبر جاء في الأنباء التي أذيعت من زوريخ أن أعمال التخريب في ازدياد مطرد في موانئ كونستنتزا وفينا ولتر وباساد الواقعة على نهر الدانوب، وكانت تخرج من هذه الموانئ صنادل مشحونة طعاما من النمسا ورومانيا عادة إلى ألمانيا. •••
وفيما يلي بعض الأمثلة التي توضح مبلغ الضرر الذي ألحقته هذه المقاومة الإيجابية بأداة الحرب الألمانية.
من ذلك أن حوالي مليون ونصف خرطوشة صنعتها الشركة «الوطنية البلجيكية» لصنع الأسلحة في «هرستال
Herstal »، لم يلبث أن وجدها الألمان عند وصولها إلى ألمانيا خالية من المواد المفرقعة، كما أن شركة «ستروين» الفرنسية انتجت كمية كبيرة من أجزاء الدبابات وجدها الألمان غير صالحة للاستخدام، فانتقموا من عمال هذه الشركة، بأن اختاروا منهم عددا أعدموهم رميا بالرصاص أمام زملائهم. ومن هذه الأمثلة كذلك أن النازيين عندما احتلوا فرنسا الشمالية وأحصوا ما يمكن أن تنتجه مصانعها من دبابات وطائرات قدروا ما يمكن أن تنتجه هذه المصانع في الشهر الواحد بمائتي دبابة وخمسمائة طائرة. وعلى أساس هذا التقدير وزعوا الخامات على المصانع، ومع ذلك وجد الألمان بعد مدة أن متوسط ما يمكن أن تنتجه هذه المصانع في الشهر الواحد لا يزيد على خمسين طائرة، وأربعين دبابة. •••
على أنه كان من أهم عوامل المقاومة بنوعيها (الإيجابي والسلبي) تأليف ذلك الجيش الكبير الذي يضم تحت لوائه جميع الشعوب المغلوبة على أمرها في أوروبا النازية، والتي تتوق إلى الخلاص من نير النازي وطغيانهم، هذا الجيش هو «جيش النصر
V. Army » وعلامته حرف
V
المشهور، ومقر قيادة هذا الجيش في لندن، ويتولى تنظيمه الكولونيل «بريتون
Britton ». وكان لجيش النصر عدة فروع منظمة في الدول المحتلة، بل لقد امتد نشاطه إلى كل بلد وقرية من بلدان أوروبا النازية وقراها، وكان يربو عدد «جنده» على ملايين كثيرة من الرجال والنساء، ومع أن أكثر هؤلاء كانوا عزلا من السلاح؛ إلا أنهم لم يعدموا وسيلة تمكنهم دائما من النضال ضد الخونة والكويسلنجين وغيرهم من أنصار العدو الذين باعوا أرواحهم رخيصة للنازيين في أوروبا.
وكانت مهمة جيش النصر الكبرى مراقبة هؤلاء الخونة والكويسلنجين لمنعهم من إلحاق الأذى بأوطانهم عن طريق التعاون مع النازيين، ومحاولة فض جماعاتهم وأحزابهم، وكان لدى جيش النصر قوائم كاملة بأسماء هؤلاء، فكان جنود هذا الجيش يكشفون أمر الخونة للناس ويخطون أسماءهم على الجدران في الشوارع ويرهقونهم بتكرار الوعيد والتهديد في خطابات يرسلونها إليهم من غير إمضاءات، وكثيرا ما كان يختفي نفر من هؤلاء الكويسلنجين دون أن يتركوا أثرا وراءهم، أو إذا أمكن العثور على جثة واحد منهم، وجد حرف
V
مرسوما عليها. ولم يفلح النازي والجستابو في حراسة أنصارهم أو في تعطيل جهود جيش النصر، بل إن جند هذا الجيش كثيرا ما وجدوا في الظلام الدامس من جراء الإغارات الجوية المتكررة في فرنسا وبلجيكا وهولندة فرصة مواتية للمضي في نشاطهم، فكانوا يفتحون المجاري، ويزينون بوابات وحواجز القنوات (خصوصا في هولندة)، ويغيرون وضع المصابيح الحمراء لتضليل الدوريات الألمانية، وكثيرا ما كان رجال الجستابو يجدون في الصباح عددا من الجند الألمان ملقى في المجاري أو في القنوات أو مصابا بحادث.
وكان جيش النصر يمضي في نشاطه وفق برنامج منظم فيذيع قائده «الكولونيل بريتون» على الأثير أسماء الخونة ذوي الخطر الذين ينبغي التخلص منهم، أو أسماء أولئك الذين يعملون كجواسيس لحساب الجستابو، فلا ينقضي وقت قصير حتى يكون أكثر هؤلاء قد اختفوا من الوجود، بينما يعمد الجستابو أنفسهم إلى قتل الجواسيس الذين تذاع أسماؤهم حرصا على سلامة نظام «البوليس» السري الألماني نفسه.
وفي الحق أن جيش النصر كان يطيع أوامر قائده وإرشاداته بكل دقة، ومن أمثلة ذلك أن «الكولونيل بريتون» نشر في بداية عام 1942 اسم الدكتور وليم منجلبرج
Mengelberg
عن كبار الموسيقيين الهولنديين، بين أسماء الخونة الذين يتعاونون مع النازي، فحدث في أول احتفال موسيقى أقامه «منجلبرج» في أمستردام بعد هذه الإذاعة أن قابله الجمهور في قاعة كادت تكون خالية، بكل أنواع الاستنكار حتى شعر «منجلبرج» بتعذر الإقامة في وطنه، واضطر إلى مغادرة هولندة والطواف في سويسرة والبورتغال يقيم بها الاحتفالات الموسيقية.
غير أن أكبر الخدمات التي كان يؤديها جيش النصر، إنما هي نشر المقاومة السلبية وتنظيمها في أنحاء أوروبا النازية. •••
وكان يقصد بالمقاومة السلبية امتناع الشعوب المقهورة عن التعاون مع النازيين الذين يحتلون بلادهم، وعدم الدخول معهم في غير الصلات التي تفرض الظروف الواقعية وجودها وفي حدود الاتفاقات أو التنظيمات الرسمية أو شروط الهدنة، وما إلى ذلك. وإعطاء كل معونة ممكنة لقوات الأمم المتحدة في الحرب ضد النازي، ويدخل في ذلك: تغذية الرأي العام عن طريق الصحافة السرية الحرة - وسيأتي الكلام عنها - وذلك لتأليف كتلة وطنية متماسكة، ترفض التعاون مع الألمان، وتعد العدة لاستقبال يوم الخلاص من نيرهم، ثم إيواء الطيارين البريطانيين وغيرهم من طياري الأمم المتحدة الذين ينجون من الموت عند سقوط طائراتهم في أرض العدو، وتدبير فرار هؤلاء الطيارين ومعاونتهم على اجتياز الحدود أو عبور المانش بسلام إلى شواطئ إنجلترا، كما حدث في النرويج والدانمرك وهولندة وبلجيكا وفرنسا، ثم تسهيل مرور «اللاجئين» والفارين من معسكرات الاعتقال الألمانية، كالبولنديين واليهود وأسرى الحرب، وترك الأنوار مضيئة من أعلى النوافذ «سهوا» وقت الغارات على أمل إرشاد الطائرات المغيرة إلى أهدافها.
وهكذا كثرت أساليب هذه المقاومة السلبية وتنوعت، وكانت أعظم ظهورا في البلدان التي لا تساعد جغرافيتها أو ظروفها السياسية أو وقوعها تحت رقابة جيش الاحتلال ورجال الجستابو الشديدة على إتقان أهلها أساليب المقاومة الإيجابية، ومن ثم امتازت كل من الدانمرك وهولندة وبلجيكا وبولندة وفرنسا أخيرا بإتقان أساليب المقاومة السلبية، ولو أنه مما ينبغي ذكره أن هذه البلاد جميعا قد أخذت تتحول من مجرد اتباع أساليب المقاومة السلبية الآنفة إلى القيام بأعمال التخريب على نطاق واسع والاشتباك مع العدو في معارك دامية.
وكان الدانمركيون أصحاب الفضل الأول في ظهور نوع المقاومة المعروفة باسم «إعطاء الكتف البارد للضيوف النازيين
Den Kold Skudde »، أي إهمال أمرهم، وعدم الاهتمام بهم، والتمسك بحرفية الاتفاقات الرسمية في المعاملات التي لا مناص من وجودها بين الألمان والدانمركيين، مما أحاط العلاقات المحدودة القائمة بين النازيين وأهل البلاد بجو من «البرود» الشديد، وكان الملك الدانمركي «كرستيان» نفسه زعيم هذه الحركة التي كانت تجعل النازيين يشعرون بعمق الهوة التي تفصل بينهم وبين الشعب الدانمركي كما كانت تجعل من المستحيل على هؤلاء النازيين أن ينتظروا من الدانمركيين غير العداوة الشديدة نحوهم. ومن مظاهر هذه الحركة امتناع الشابات الدانمركيات عن مخالطة الألمان أو الاجتماع بهم في المراقص وإلحاق الإهانة والأذى بأنصار المعاونة مع النازي من جماعة «فريتز كلوسن
Clausen »، والتظاهر بجهل اللغة الألمانية، أو الإجابة على ما يلقيه الألمان على الجمهور من أسئلة باللغة الإنجليزية، وكذلك وضع الورود والأزهار على قبور الطيارين الإنجليز الذين يجدون مثواهم الأخير في الدانمرك ورسم حرف النصر -
V - والحروف الأولى من اسم سلاح الطيران الملكي البريطاني
R. A. F.
على جوانب قبورهم، إلى غير ذلك من الأمور التي دفعت أحد الواصلين من الدانمرك يصف هذه المقاومة بقوله: «من المشكوك فيه أن يلقى أي غاز من ضروب المقاومة نوعا أشد إزعاجا وإيلاما مما يلقاه الألمان في الدانمرك!»
بيد أن الدانمركيين لم يقنعوا بهذه الأساليب، بل أخذت تظهر إلى عالم الوجود حركة سرية واسعة النطاق غرضها التدمير والتخريب في المصانع التي تشتغل لحساب ألمانيا، حتى اضطرت حكومة برلين في أواسط عام (1943) إلى إرسال «بلاغ نهائي» بشأن القضاء على هذه الحركة الخطيرة، والمطالبة بمحاكمة الذين يقترفون أعمال التخريب أمام محاكم ألمانية بدلا من المحاكم الدانمركية التي لا تعترف بعقوبة الإعدام. وفي أغسطس أعلنت حالة الطوارئ في عدة مدن هامة مع أن الملك «كرستيان» لم يلبث أن أصدر نداء إلى شعبه ناشده فيه التمسك بأهداب الهدوء والنظام، وسواء أحدث ذلك نتيجة ضغط السلطات الألمانية عليه أو لأنه كان لا يزال يفضل خطة «إعطاء الكتف البارد» للضيوف الألمان - فإنه لم تمض ساعات من صدور هذا النداء حتى عادت حوادث التخريب سيرتها الأولى، بل واشتدت وطأتها، ودمر المخربون مصنع «دانسك أليومنيوم فابريك» في كوبنهاجن - مما سبق ذكره - وعلى ذلك احتل الألمان في 24 أغسطس 1943 مدينة كوبنهاجن احتلالا تاما، وأذاع راديو «كالاندبرج» وكان تحت سيطرتهم، نداء يحض العمال في كوبنهاجن على عدم الانقياد إلى دعاة الاستفزاز والثورة، «الذين يوزعون منشورات غفلا من التوقيع يدفعونهم بها إلى أعمال التخريب والتدمير».
ومع هذا فقد ذهبت نصائح الألمان سدى، وترتب على الاحتلال الجديد وقوع حوادث خطيرة، منها التحام الجنود الألمان مع الدانمركيين في مناوشات دامية، ونسف مستودعات الذخيرة في منطقة الأحواض في كوبنهاجن، وفرار جزء من الأسطول الدانمركي إلى موانئ السويد، وإقدام البحارة الدانمركيين على إغراق جميع البوارج الحربية التي كانت في ميناء كوبنهاجن والتي لم تستطع الخروج من الميناء، ثم تمكن عدد كبير من ركوب الزوارق البحرية وفروا عليها إلى السويد أيضا.
وعندما قدمت السلطات الألمانية بسبب هذه الحوادث، إنذارا إلى حكومة الدانمرك طلبت فيه السيطرة العامة على البلاد، رفضت الحكومة هذا الإنذار، وهددت الملك بالاستقالة إذا قبل إنذار الألمان، فأعلن «فون هانيكين» القائد العام الألماني الأحكام العرفية في منشور جاء فيه:
إن الحوادث الأخيرة برهنت على أن الحكومة الدانمركية عاجزة عن المحافظة على النظام في الدانمرك، ولما كانت الاضطرابات التي يسببها سماسرة العدو موجهة ضد الجيش الألماني، فإني بناء على ذلك أعلن الأحكام العرفية في البلاد كلها.
وكانت الخطوة التالية، أن اعتقل الألمان الملك والوزراء وولي العهد وأسرته، وحدثت من جراء ذلك التحامات عنيفة بين جنود الحرس والألمان عند قلعة «سود جنفري» التي اعتقل بها الملك، على بعد عشرة أميال شمالي كوبنهاجن، وكذلك وقعت التحامات أخرى في ثكنات «ريجرسيورجس»، وفي مدينة «سفند بورج»، و«مستفيد» بجوار كوبنهاجن، وزيادة على ذلك اعتقل الألمان جميع الضباط النظاميين في الدانمرك وقبضوا على رئيس حزب المحافظين، وزعيم هذا الحزب في البرلمان ووزير الشئون الكنسية السابق وزعيم الشباب المعروف «إكسل مولر»، وأحد الشيوخ، وزعماء نقابات العمال. ثم شرعوا يضطهدون اليهود؛ فقبضوا على رئيس الجالية اليهودية في كوبنهاجن، وكان شيخا يناهز الثانية والسبعين، ومعه خمسون من زعماء اليهود، كما عمدوا إلى أخذ «الرهائن» لتقوية الحكم الإرهابي، وهددوا باعتقال زعماء العمال «كرهائن» حتى يخمدوا موجة الاضطراب التي اكتسحت «هلسنجوير» وتسع مناطق أخرى. ثم زادت الأزمة تعقدا عندما استقال في آخر الأمر «سكافينوس» رئيس الوزارة ورجال حكومته، ورفض رجال «البوليس» الدانمركي أداء يمين الإخلاص للقائد الألماني العام «فون هانيكين». ونجم عن هذا الأمر الأخير أن احتل رجال الجستابو وجنود الهجوم جميع مراكز الشرطة بالعاصمة في آخر أغسطس 1943.
ومع هذا، فإن الإجراءات الألمانية الصارمة لم تأت بالنتيجة المرغوبة، فقد استمرت الاضطرابات في كوبنهاجن وفي غيرها من المدن، واتسعت حركة التخريب في الفترة التالية واضطر الألمان بسببها إلى إصدار منشور جديد يعمم حالة الطوارئ في الدانمرك كلها ويصر على التشدد في تنفيذها 7 سبتمبر، ولكن أحدا لم يرتدع، فقد جاء في نبأ من استكهولم في 29 أكتوبر أن المواصلات والحركة العامة قد عطلت في أنحاء الدانمرك بسبب ظهور حركة تخريب جديدة واسعة النظاق، وأن العصابات دخلت محطة ومصنعا لآلات اللاسلكي التي تكشف اقتراب الطائرات المغيرة، فقتلت حارسا وتغلبت على بقية الحراس وحطمت جزءا من المصنع بالقنابل، وأن عصابات أخرى أشعلت النار في مخازن الألمان في «أودنسي» و«أسبرج».
وفي أواخر عام 1943 كانت هذه المقاومة لا تزال على أشدها، فالمصانع تنقطع عن العمل، ويضرب عمالها لأتفه الأسباب، وتكثر حوادث النسف والتدمير بدون توقف في جميع أنحاء البلاد، من ذلك نسف قطار حرب ألماني كان ينقل قوات ألمانية إلى الدانمرك لتعزيز الحامية النازية فيها. وإزاء هذه المقاومة الخطيرة، اضطر الألمان على ما يبدو، إلى تعديل خطتهم بعض الشيء، فبعث الهر هتلر في أواخر نوفمبر رسالة إلى الملك كرستيان، الذي كان لا يزال حتى هذا الحين في شبه اعتقال رسمي ، يقول فيها إنه يقدر موقف الملك ويدرك الصعوبات التي تكتنفه من كل جانب، وأنه لهذا يتوق إلى مقابلته للبحث عن الوسائل التي تكفل علاج هذه المشاكل من الجانبين، «لا سيما أن الدانمرك أصبحت في مفترق الطرق، ويجب أن تساهم بنصيب كامل في جهود المحور الحربية»، وهذا الغرض الأخير كان يستحيل على الملك قبول تحقيقه؛ لذلك رفض «كرستيان» هذه المقابلة واعتذر عن ذلك بأنه لا يزال مقيد الحرية ولا يستطيع فعل شيء ما دام محروما من الحرية الكاملة في العمل، وما لم يرد وزراؤه المعزولون إلى مناصبهم: هذا إلى أن حالته الصحيحة لا تمكنه من تجشم مشاق الأسفار. ولما كان يعرف أن هناك ما يشغل الفوهرر في الوقت الحاضر، فقد أمل أن تتاح لهما فرصة أخرى للاجتماع في وقت قريب! وهكذا جاء رد الملك كرستيان مثلا في الحقيقة من أمثلة حركة «إعطاء الكتف البارد» للضيوف النازيين، التي يتقنها الملك الدانمركي الإتقان كله.
وكذلك أتقن الهولنديون أساليب المقاومة السلبية، وبذل النازيون من مدة جهودا جبارة لإقناع سواد الشعب الهولندي بأن الألمان يلقون إقبالا على معاشرتهم والتعاون معهم من جانب شطر كبير من أهل البلاد، وحتى يقيموا الدليل على صحة دعواهم أكثروا من نشر الصور الشمسية المزيفة، فمنها ما أظهر جماعة من الضباط الألمان يجلسون في أحد الأندية إلى جانب شابات هولنديات، أو بعض الجنود الألمان يتحدثون مع الأطفال ويلاعبونهم وهكذا، كما نشروا صورا جميلة «مزيفة أيضا» لهتلر الطفل، ترسمه كملاك طاهر؛ وذلك حتى يجتذبوا قلوب الهولنديين إلى محبة زعيمهم، ولكن الإخفاق التام كان نصيب هذه المحاولات المزرية جميعا.
بل على العكس من ذلك، لم يلبث الهولنديون بدورهم أن عمدوا إلى أعمال التخريب والتدمير واتخاذ جميع الوسائل التي تؤدي إلى تعطيل الإنتاج وإثارة القلاقل والاضطراب في أنحاء البلاد. وتتضح خطورة الحالة في هولندة وما بلغت إليه من التوتر أن رئيس الجستابو في هذه البلاد اضطر إلى إصدار عدة أوامر «في أواخر يولية 1943» جاء في أحدها «أن على قوات البوليس العسكري والمدني إطلاق النار في الحال وبلا إنذار على كل تجمهر يشاهد في الميادين العامة أو الشوارع يشترك فيه أكثر من خمسة أشخاص»، أضف إلى هذا إعلان الأحكام العرفية في جميع البلاد الهولندية على أيدي «سايس إينكارت» حامي هولندة النازي ... وقد جاء في مرسوم هذه الأحكام ما نصه:
يحاكم أمام المجلس العسكري ويحكم عليه بالإعدام كل شخص يشترك في الاجتماعات العامة مهما يكن نوعها، وكل من يرفض أن يقوم بالعمل المكلف به ولو كان رفضه سلبيا، وكل من يشترك في الاعتصاب أو يضرب عن العمل، وكل من يحمل سلاحا أو يكون السلاح في حوزته، وكل من يتمرد أو يثور ضد السلطات العامة، وكل من يكتب أو ينشر أو يوزع منشورات من شأنها إثارة الخواطر أو تعكير صفو النظام العام.
ولهذه الفقرة الأخيرة أهمية خاصة؛ لأنها تشير إلى وجود وذيوع ما يعرف في أوروبا النازية باسم «الصحف السرية»، وهذا إلى أنها تتضمن اعترافا واضحا بخطر الدور الخفي الذي كانت تلعبه هذه الصحافة الحرة في تقويض أركان النظام الجديد لا في هولندة وحدها، بل وفي أوروبا الهتلرية جميعها. •••
وقد انتشرت المقاومة السلبية في البلدان المحتلة في أوروبا النازية حتى إن الأطفال وصغار السن لم تكن حماستهم تقل عن حماسة البالغين وكبار السن في إظهار كراهيتهم للألمان، وإصرارهم على عدم التعاون معهم، من ذلك أن جريدة «لوبايي رييل
Le Pays Réel » البلجيكية، وهي صحيفة «لبون ديجريل
Dégrelles » من كبار أنصار النازي في بلجيكا، شكت ذات يوم من أن «المدارس تحرض الأطفال على الثورة»، ثم ذكر المحرر لإثبات ذلك: «أنه صادف تلميذتين صغيرتين تنشدان في الترام أنشودة وطنية تنتهي بما معناه أن بريطانيا العظمى سوف تكسب الحرب لا محالة، فلما سألهما أين تعلمتا هذه الأنشودة أجابتاه: «في المدرسة».» ولم يلبث البلجيكيون أن أخذوا يحتلون مكانا ظاهرا بين الشعوب المقهورة التي أتقنت أساليب المقاومة السلبية ضد النازي. ومما لا شك فيه أن هذه المقاومة كانت تستمد قوتها من «الصحف السرية» المتعددة التي ما فتئت تعمل على نقل أخبار العالم الخارجية إلى البلجيكيين في صورتها الصحيحة، وتحض أهل البلاد على عدم التعاون مع الألمان وتحيي في نفوسهم الأمل في قرب ساعة الخلاص، وتشجعهم على التآزر في سبيل إلحاق الأذى بآلة الحرب الألمانية.
ومع أنه كانت هناك فئة من البلجيكيين الضالعين مع الألمان إلا أنها كانت أقلية لا تذكر، وقد أصبحت موضع الكراهية والازدراء في البلاد، كما أن العمال والمهندسين البلجيكيين الذين سخرهم الغزاة لإنتاج ما يحتاجون إليه لم يكونوا يزيدون على عشر السكان، ومع هذا فقد اتحدت كلمتهم على تعويق الإنتاج بكل ما في طاقتهم من حيلة أو جهد. أضف إلى ذلك أن ملك البلجيكيين «ليوبولد» قد لزم العزلة منذ مدة طويلة في قصره في «لاكن» على بعد عشرة كيلومترات من بروكسل، لا يقابل أحدا من الغزاة، ويأبى التعاون معهم؛ ولذلك تركه الألمان في مقره مقيد الحرية، غير عابئين به، كما قالوا «ما دام لا يستطيع شيئا في سجنه الحالي». •••
وكان من أهم أنواع المقاومة السلبية تدبير المظاهرات في البلدان المحتلة احتجاجا على أساليب النازي الحكومية، ولإقامة البرهان على أن هذه الشعوب المغلوبة ترفض التعاون مع النازيين إطلاقا. وفي أغلب الأحيان كان الطلبة يتزعمون هذه المظاهرات، كما حدث في «مظاهرات الجامعات الهولندية» في عام 1940، في جامعتي «دلفت
Delft » و«ليدن
Lyden » عندما احتج الطلبة على إخراج الأساتذة اليهود من هاتين الجامعتين، بل إن إصرار «سايس إنكارت
Seyss Inquart » حاكم هولندة النازي على تشريد اليهود الهولنديين وإبادتهم سرعان ما أسفر عن وقوع التحامات دموية بين الهولنديين الوطنيين من جانب والنازيين والهولنديين المتعاونين معهم من أنصار «مسيرت
Mussert » - كويسنلج هولندة - من جانب آخر، ووقعت هذه المعارك خصوصا في أمستردام ولهاي في شهري يناير وفبراير 1941.
وفي العامين الآخرين امتدت عدوى المظاهرات إلى البلدان الأخرى التي وطد النازيون فيها أقدامهم؛ فجاء من «أثينا» في مايو من عام 1943 أن الطلبة فيها أحدثوا شغبا على إثر حادث قتل فيه الجنود الإيطاليون أحد الطلبة اليونانيين، وقد اعتصم الطلبة في أحد أبنية الجامعة، وأخذوا يرجمون الجنود الإيطاليين بالحجارة وهم ينشدون النشيد الشيوعي الدولي. وكذلك جاء من سلوفاكيا في الشهر نفسه ما يفيد قيام مظاهرات كبيرة في المدة الأخيرة في شرق هذه البلاد احتجاجا على قلة المواد الغذائية بها، ووقوع حوادث محزنة أمام المتاجر الخالية. وفي شهر نوفمبر من العام نفسه 1944 جاء من استوكهلم أن سياسيا أجنبيا زار فينا بعد مؤتمر موسكو أغسطس 1944، أفضى إلى مراسل جريدة «داجنس» في زوريخ بتصريح جاء فيه قوله:
تجتاح النمسا كلها موجة من التفاؤل حتى لقد زاد فيها نشاط الجمعيات السرية وأعمال التخريب زيادة ملحوظة، وقد أعيد تأليف المحنة الوطنية التي أنشئت في خريف سنة 1941، وعهد إليها بإدارة الأعمال السرية في البلاد، واختيرت لجنة فرعية للجنة المعروفة باسم لجنة المقاومة لغرض واحد هو عرقلة أعمال النازي، وقد أصدرت هذه اللجنة منشورا دعت فيه جميع العاملين ضد النازي إلى توحيد صفوفهم والتعاون في أعمالهم، وناشدت النمساويين جميعا الاهتمام بالاشتراك مع جميع الشعوب المقهورة وخاصة جيرانهم منها في الجهود التي تبذلها لتظفر بحريتها.
وكان هذا المنشور يتضمن آراء عملية بشأن طريقة تنظيم المقاومة، ويطلب إلى الجنود أن يفروا إلى إقليم الحدود وينضمنوا إلى الوطنيين المحاربين، وكثيرا ما كان يحدث الاعتداء على الموظفين وجنود الهجوم الألمان مما أدى إلى القبض على الناس جملة وصدور أحكام كثيرة بالإعدام. ويقول مصدر آخر إن عقد مؤتمر موسكو شدد عزائم المقيمين في التيرول، وستير مارك؛ فأخذوا يشعلون نيرانا هائلة في أعلى الجبال. وقد سارت مظاهرات في أحياء العمال في فينا ورفعت الرايات النمساوية على كثير من المباني، فتدخل جنود الهجوم الألمان حينئذ، وقبضوا على مئات من الناس. وقد أبدى السكان مقاومة عنيفة فأطلق الجنود النار عليهم وجرحوا كثيرين. وقد شوهدت أعلام كثيرة مرفوعة كتبت عليها العبارة التالية: «لتحيا الجمهورية النمساوية».
وفي باريس دبر الطلبة المظاهرات ضد النازي، ومن أمثلة ذلك المظاهرات التي دبرها الطلبة في الحي اللاتيني في أغسطس 1940، في أثناء معركة بريطانيا، وعقب فشل الألمان في هذه المعركة، وقد أطلق الألمان الرصاص على هؤلاء المتظاهرين في كل مرة. ثم مظاهرة 11 نوفمبر 1940 وهذه دبرها الطلبة واشترك فيها أهل باريس لإحياء ذكرى الهدنة وزيارة قبر الجندي المجهول تحت «قوس النصر»، ولم ينفض المتظاهرون في ذلك اليوم إلا بعد إطلاق رصاص المدافع الرشاشة عليهم في «ميدان الإتوال
»، وقبض الجستابو على مائة وخمسين طالبا تتراوح أعمارهم بين ثلاث عشرة وثماني عشرة سنة، لم يعرف أهلهم عن مصيرهم شيئا منذ ذلك الحين.
وهناك - عدا ذلك - المظاهرات والالتحامات العديدة التي سبقت الإشارة إليها عند الكلام عن مقاومة الفرنسيين ضد تعبئة العمال لتسخيرهم في العمل الإنتاجي في ألمانيا. وكان من جراء إقدام الريخ على تعبئة العمال الفرنسيين أن توجه طلاب الجامعة والمدارس العليا في باريس إلى الماريشال «بيتان» في يولية 1943 بالخطاب التالي:
امتنعنا منذ أكثر من عامين عن كل مظاهرة من شأنها أن تعكر صفو الأمن العام وتعرقل أعمال الحكومة. ولكن سكوتنا لا يعني أننا قبلنا الحوادث التي وقفنا منها موقف المتفرجين المنكوبين. فقد وقع حادث ترحيل آلاف العمال الفرنسيين إلى ألمانيا موقع الاشمئزاز والسخط في نفوسنا، وكان إعجابنا كله متجها إلى الكثيرين من زملائنا الذين تركوا البلاد لمواصلة الكفاح ضد العدو الذي يحتل أرضنا ويستغلنا، وقد كنا في الوقت نفسه نعلل النفس بآمال النهضة الوطنية التي كنت تمثلها في نظرنا، والتي وعدتنا بها في رسائلك. ولكن الحوادث - مع الأسف - كذبت وعودك وأدت إلى انهيار صرح آمالنا. فقد رأينا فرنسا تزداد خضوعا للألمان وذهبت إلى حد التطوع تحت أعلام قاهرها، تلك الأعلام التي بدأ النصر يتحول عنها. أما الآن فقد أزفت الساعة التي يجب علينا فيها أن نستأنف تقاليد الجامعة التي كانت فيما مضى تعرب للملوك بكل حرية عن شكاوى الأمة، وتعبر بكل قوة عن مطالب الفرنسيين.
إننا مثلك نبغض تلك الأكاذيب التي أضرت بنا ضررا كبيرا، ويجب أن نضيف إلى هذه الأكاذيب أكذوبة الهدنة والتعاون التي دفعت بنا إلى قبول ما قبلته بلجيكا وهولندة والنرويج وبولندة ويوغوسلافيا مكرهة. ولنذكر بوجه خاص أكذوبة «الحملة في سبيل الحضارة» تحت لواء زعيم ينكر جوهر هذه الحضارة ويحتقر حقوق الإنسان. وتلك الأكذوبة الأخرى التي تنحصر في استبدال خمسين ألف مريض من الأسرى بخمسمائة ألف عامل. ونحن الآن نرفض أن نكون ألعوبة لمثل هذه الأكاذيب ، ونصرح بأن الواجب يقضي على جميع الفرنسيين بأن يرفضوا رفضا تاما كل أمر يرمي إلى العمل لتأمين انتصار ألمانيا. وإنه لمن العار علينا أن نعمل في سبيل قضية نعلم حق العلم أنها غير عادلة ولا تتفق مع استقلال فرنسا والمحافظة على حضارة البشر، فجميع زملائنا سيهربون متى وجدوا الفرصة المؤاتية بدلا من أن يساهموا في تعزيز أداة الحرب الألمانية. إن فرنسا ملأي بالغابات والجبال حيث يمكننا انتظار الساعة التي نستطيع فيها الانضمام إلى جيش تحرير الوطن. أما من يستطيع منا الفرار فلن يتردد في الانضمام إلى الزعماء الذين يمثلون روح المقاومة ويستحقون ثقتنا وإعجابنا، وسيسافر الذين يكرهون منا على السفر إلى ألمانيا وهم يعتزمون مساعدة إخوانهم العمال على تحطيم الروح المعنوية فيها، وتخريب مهمات عدونا اللدود. إننا لسنا من الملكيين ولا من المجانين، ولكننا طلبة وطنيون، وسنكافح ونتألم مع زملائنا البواسل في جامعات وارسو وبلغراد ولوبليانا وأكسفورد وكمبردج، وهارفرد، ومونتريال، ولوفان، وليتين، في سبيل انتصار مثلنا المشتركة. •••
هذه صورة موجزة لما كان يجري من ضروب المقاومة في أنحاء أوروبا النازية، وقد ألحقت أضرارا لا يستهان بها بعتاد الحرب الألماني من جهة، كما عطلت أداة الإنتاج الاقتصادي إلى درجة كبيرة. وقد ظهر كيف أرغمت هذه المقاومة الألمان على الاحتفاظ بقوة مسلحة كبيرة في جميع البلدان المقهورة لصيانة قلعتهم الأوروبية من أن تنهار جدرانها، هذا عدا جيش الجستابو الجرار الذي انبث أعضاؤه في كل قرية ومدينة لتأييد الاحتلال الألماني، ولمراقبة أعداء «النظام الجديد» في أوروبا الهتلرية، فأبقى الألمان عدة فرق في البلقان منذ تحولت هذه البلاد، بفضل الجيوش والعصابات اليوغوسلافية والبونانية خصوصا إلى ميادين قتال جديدة، أصبح من واجب النازيين أن يخوضوا فيها غمار معارك دموية عنيفة حتى يعيدوا فتحها من جديد، وبدءوا يدفعون أثمانا غالية «لانتصاراتهم». ثم عبأ الألمان قوى «البوليس» النظامي، ورجال الجستابو في بقية أوروبا النازية لصون الأمن، والقضاء على عناصر الفوضى والاضطراب ، والمحافظة على حياة رجال الاحتلال الألمان، وحياة معاونيهم الكويسلينجيين من أهل البلاد الذين قبلوا التعاون معهم .
ومع ذلك فإن المقاومة لم تكن وحدها مصدر كل متاعب النازيين في أوروبا؛ فسرعان ما صارت مقاومة أهل البلاد المقهورة، منذ أفاقوا من الذهول الذي أصابهم على أثر صدمة الغزو الأولى، تستند إلى تيار خفي لم يلبث أن زادها قوة على قوة، وأقض مضاجع الألمان وشرع بقوض أركان النظام الجديد في أوروبا. هذا التيار الخفي هو «الدعاية المضادة» أو الدعاية الخفية، ذلك السلاح السري الذي ظل نصله مرهفا رغم أنوف النازيين، لا في أوروبا النازية وحدها بل وفي الريخ الثالث، دولة أدلف هتلر نفسه.
الفصل الرابع
الدعاية الخفية
كانت الدعاية من الأسلحة القاطعة التي أجاد النازيون استخدامها كل الإجادة منذ قبضوا على أزمة الحكم في ألمانيا. ومن الحقائق المعروفة الآن، أنهم كانوا يقصدون من نشر دعايتهم إلى تأييد أركان الحزب النازي في دولة الريخ الثالث، ثم إدماج الريخ في الحزب النازي نفسه، وفرض مبادئهم وتعاليمهم فرضا على الشعب الألماني؛ حتى يتمكنوا من تأليف تلك الكتلة الصلدة المتماسكة التي كانوا يرون أنه لا غنى عن وجودها إذا أرادوا الوصول إلى السيطرة العالمية المنشودة. وكانوا يقصدون كذلك إلى تهيئة بقية الشعوب الأوروبية وإعدادها لاعتناق هذه المبادئ والتعاليم، وقبول سيطرة السادة النازيين عليهم. وقد نجحوا في داخل بلادهم نجاحا منقطع النظير كان من نتيجته أن أصبح الحزب يسيطر كل السيطرة على الحياة الألمانية، ويدفع بالأمة دفعا عن يقين وعقيدة، أو دون تفكير وتدبر أو تحت ضغط ما سلطوه من صنوف الإرهاب على الشعب الألماني، إلى مناصبة الأمم الأخرى العداء والالتحام معها في معارك الحرب الطاحنة. ولم يكن من أهداف «الدعاية» الداخلية بطبيعة الحال أن يعود الشعب الألماني التفكير مطلقا؛ لأن التفكير من شأنه أن يبعث المرء على أن ينقد كل ما يعرض له من مشاكل، ويدعو إلى مناقشة أعمال رجال الحكم، ويسبب لذلك صعوبات جمة تتطلب جهودا معينة لإزالتها، ولا يتفق وجودها مع برامج النازيين وخططهم.
ومن ناحية أخرى، أصاب النازيون نجاحا كبيرا في بقية أوروبا، وبخاصة في فرنسا والأراضي المنخفضة والبلقان، فظهر في هذه البلدان التي خضعت لطغيانهم سلما، أو من غير مقاومة تذكر، فريق من الكويسلنجيين تقدم ذكرهم، قبلوا التعاون مع النازيين، وأيدوا السيطرة الأجنبية في بلادهم، ومع أن خروج كل هؤلاء إلى الميدان، بمجرد وقوع الاعتداء النازي على أوطانهم، كان مفاجأة دهش لها العالم، فإن الحقيقة هي أن النازيين ظلوا منذ مدة طويلة يلقون بشباكهم في البلاد المجاورة لهم، وكذلك في الأقطار البعيدة عنهم حتى يتصيدوا الموالين لهم، وحتى يجذبوا إليهم الأنصار والمؤيدين، يشترونهم بالمال تارة وبالوعد «أو الوعيد» تارة أخرى. ولعبت الدعاية النازية في ذلك كله دورا دل على مهارة فائقة، واستطاعت أن تقنع كثيرين من هؤلاء الموالين والأنصار «بالأمور» التي شاء النازيون أن يقف العالم كله على «حقيقتها»، ومن هذه «الأمور» - على سبيل المثال - أن اليهود والشيوعيين يأتمرون بالعالم، وأن من الخير كل الخير أن تتحد الشعوب الأوروبية مع النازيين في بناء حضارة جديدة، وأن الكاثوليك أيضا مع أعداء الحضارة، وأنه ينبغي أن يمهد السبيل إلى ذلك كله بإزالة ما لحق بألمانيا من إساءات في معاهدات صلح فرساي المعروفة، وإدخال هذه الدولة في زمرة الدول الكبيرة على قدم المساواة معها وإشراكها في توزيع موارد العالم الأولية. ومن بين هؤلاء «المقتنعين» بصحة هذه الأقوال وجد النازيون ضالتهم، وبفضل مؤازرتهم استطاعوا شيئا فشيئا تحطيم روح الشعوب المعنوية حتى إذا جد الجد وأزف موعد الغزو، اعتمد النازيون على تسليم أهل هذه البلاد في غير حرب أو مقاومة، ثم كان لهم ما أرادوا حتى قيل إن الجيش الألماني في فتوحه الخاطفة الأولى دخل بلادا كان قد سبق فتحها وإخضاعها منذ مدة طويلة.
بيد أن دور الدعاية النازية لم ينته في الحقيقة عند ذلك، بل سرعان ما طلب إليها بعد الانتصار الخاطف أن تنشر الدعوة بين الشعوب المقهورة لقبول النظام الجديد على نحو ما تقدم ذكره، ومن ذلك الحين صار النازيون يحرصون على تفسير معنى النظام الجديد ، ويقيمون البرهان بعد البرهان على أنه النظام الذي يكفل من جميع النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية دعم أركان تلك الحضارة الجديدة التي أطالوا الحديث عنها في السنوات الماضية. ثم اجتهدوا حتى يحببوا أساليبهم وطرائقهم إلى أهل البلاد المفتوحة، وينشروا بينهم تعاليمهم ومبادئهم، ويشوقوهم إلى الإقبال على مناصرتهم وتأييدهم، والتعاون معهم لا لتعزيز شكل الحكم الجديد وتأييد أداته، بل ومن أجل إقصاء العناصر المعارضة جميعها، والقضاء على المقاومة بمختلف أنواعها، وتسخير الأهلين في إنتاج عتاد الحرب، ثم إشراكهم أخيرا في معارك الحرب القاتلة.
واعتمد النازيون على الصحافة والراديو في نشر الدعوة إلى النظام الجديد، ووجدوا في إثارة الإشاعات والأقاويل سلاحا ماضيا لا يقل في أثره عن فعل الكلمة المكتوبة، أو الأحاديث التي ينقلها الأثير إلى كافة الأرجاء، واستند النازيون فيما كانوا يذيعون إلى مبادئ معينة، وصلوا إليها كما قالوا بعد دراسة سيكولوجية الجماعات والشعوب، وأهمها: أن التكرار الكثير من شأنه أن يلصق في ذهن المخاطب نوع الصورة أو الفكرة التي يريد أصحابها أن تعلق في ذهنه وتتغلغل في فؤاده، وأن الكذب الفاضح يجد من سامعه قبولا وتصديقا؛ لأن الشخص إذا اعتاد الكذب «الصغير» في حياته اليومية، وصار لا يصدق الأكذوبة الصغيرة، بل الأكاذيب الضخمة وحدها هي التي تترك أثرا عالقا في نفسه، وأن مثل الجماهير في قدرتها على التفكير كالقطيع من الغنم الذي لا إدراك له ولا تمييز عنده.
ولما كان من شرائط نجاح «الدعاوة» أن تظل الآراء والأقوال الموحى بها والمنقولة إلى الجماعات من نوع واحد وعلى وتيرة واحدة، فقد أصبح ضروريا أن تحاط هذه الجماعة بسياج قوي يعزلها عن غيرها من الجماعات، فلا تجد الآراء والأقوال المغايرة طريقا تنفذ من هذا السياج إليها. ولذلك أنشئت «الرقابة» وصارت مهمتها في الدول الديكاتورية - وفي ألمانيا بطبيعة الحال - السهر على أن يكون الكتاب والناشرون والقصيصون والمهيمنون على التعليم وتربية النشء، ومن إليهم، كالرسامين، ومديري المسارح، ومخرجي الصور المتحركة وشركات النشر والتوزيع من طراز معين. ذلك بأن هؤلاء جميعا من أصحاب العلم والرأي، وينبغي لذلك أن يسير تفكيرهم في مجرى واحد، فلا يترك الفكر حتى يخرج عن هذا الطريق المرسوم أو يطغو على جوانب هذا المجرى، ولما كانت عدوى الرأي والفكر أخطر من غيرها على النظم القائمة وكانت الصحف السيارة بفضل ما تنشره من أخبار أو تعده من بحوث مبسطة تقرب المعاني وما تشاء من آراء إلى أذهان الجماهير، وتوحي إليها بما تريد أن توحي به أعظم أداة إلى جانب الراديو لإذاعة ما يبغي أصحابها وكتابها إذاعته، وضع النازيون مراسلي الصحف على وجه الخصوص تحت رقابة شديدة، ثم صار الرقيب لا ينشر رسائلهم إذا اشتملت على خبر أو رأي من شأنه أن يفتح أذهان القوم، أو يجعل الشك من ناحية ما يعيشون فيه يتسرب إلى نفوسهم.
ولذلك لم تكد الدعاية النازية تبدأ في نشر الدعوة إلى النظام الجديد من أواسط عام 1940 تقريبا حتى طبق النازيون «الرقابة» الصارمة في البلاد المفتوحة، فسيطروا على الصحافة وعلى «الراديو»، وكانت لهم في ذلك أساليب وطرائق منوعة، الغرض منها جميعا تنظيم نشر الأخبار وإذاعة الآراء التي يوافق النازيون على نشرها وذيوعها. ومن بين تلك الأساليب والطرائق أن يحدث نشر الخبر في البلدان المفتوحة في وقت واحد، على شريطة أن يدرج الخبر أو يدبج المقال في صفحة معينة وفي مكان معين في جميع الصحف وفي جميع المدن، وإذا كان الغرض ترويج فكرة معينة والإيحاء برأي من الآراء لخدمة مآربهم، أفرغوا هذه الفكرة وهذا الرأي في قوالب منوعة تستسيغها أفهام الجماهير والشعوب التي يراد نقل الخبر إليها أو نشر الرأي المعين بين ظهرانيها، والغاية من ذلك ألا يتسرب خبر أو يذيع رأي لا يرغب النازيون فيه، وأن يكون النشر مقصورا على ما يريدون أن يعرفه سواد الناس وخاصتهم، وفي الصيغة التي تروقهم.
ولهذا التصرف في نظر النازيين عدة مزايا، أولها: تهيئة الفكر حتى يقبل تفسير حادث معين سبق أن دبر النازيون وقوعه منذ مدة، مثال ذلك: الحملة العنيفة التي أثارها النازيون ضد بولندة بدعوى أن البولنديين يسيئون إلى الأقلية البولندية التي تنتمي إلى أصل ألماني
Volks genosse
في بلادهم شر إساءة، ولا يتورعون عن ارتكاب كل جرم من أجل إفناء هذه الأقلية؛ وذلك حتى يشعلوا نيران الحقد والكراهية في نفوس الألمان ضدد الشعب البولندي، وحتى يستنكر الرأي العام الأوروبي أعمال البولنديين الإجرامية المزعومة، فلا تجد بولندة من يعطف عليها حينما تنزل بها الكارثة، ويجتاح الألمان أرضها.
والمزية الثانية: هي أن يألف أهل الريخ أنفسهم، بسبب ما تغمرهم به الدعاوة النازية من أخبار وآراء متلاحقة وعلى وتيرة واحدة - السكون إلى ما يتلقونه من زعمائهم والرضى بما يلقى في روعهم - فينصرفون عن إعمال الفكر والروية، اطمئنانا إلى أن قادتهم إنما يقومون بمهمة التفكير وإعمال الرأي بدلا عنهم، فيصبحون في الحقيقة شبه آلات مسيرة يحركها الزعماء ويوجهونها حسبما يريدون.
ولزيادة أحكام هذا الجهد التوجيهي المنظم - أو كما يسميه النازيون
Gleichschaltung - عني النازيون بكل صغيرة وكبيرة من مسائل النشر، فأصدروا أوامر عدة تقيد الصحف فيما تنشر، وترغمها على اتباع أنظمة خاصة في تدوين الأخبار. ولما خشوا أن تتسرب إلى الصحف آراء مغايرة لآرائهم على الرغم مما قد يتخذونه من احتياطات، حرص النازيون على أن يكون محررو الصحف والكتاب من الأفراد الذين يثقون بهم كل الثقة، ويطمئنون إلى ميولهم ونوع تفكيرهم، ومن ثم أخذوا يبعدون عن إدارات الصحف في جميع البلدان المحتلة، الكتاب والمحررين المشكوك في إخلاصهم، والذين يعتبرونهم من أعداء النظام الجديد، وأحلوا مكانهم أفرادا من الذين يقبلون التعاون معهم. ثم لم يلبث أن دعاهم الحرص إلى إنشاء صحف محلية تكتب باللغة الألمانية في عواصم البلدان المفتوحة، حتى يضمنوا تنفيذ التعليمات التي تصدرها مراكز الدعاوة الألمانية الرئيسية في الريخ، على علاتها ومن غير تعديل أو تحوير يذهب - ولا شك - بقيمتها وأثرها، مهما كان التعديل أو التحوير طفيفا في ظاهره. ومن ثم أصدر النازيون في باريس صحيفة
Zeitung
الألمانية، وفي وارسو
Warschauer Zeitung
كما أصدروا صحفا أخرى في كركاو، وبلغراد، وبراج، والنرويج، والدانمرك، وكرواتيا، وسلوفاكيا، هذا عدا المئات بل الآلاف من الصحف الصغيرة والمجلات المصورة والنشرات وغير ذلك. ومع أن هذه الصحف كانت تصدر في بلدان مختلفة؛ فقد جاءت جميعها متفقة في الشكل والتبويب وفي نوع الأخبار والبحوث التي تنشرها، حتى لتكاد تكون كلها في الحقيقة نسخا متعددة من صحيفة واحدة، فلا يشعر القارئ بأي اختلاف، ولا يميز بعضها عن بعض سوى ما يدرج في مكان الأنباء المحلية. •••
وكان من أثر هذه الرقابة الصارمة، وهذا «الجهد التوجيهي المنظم» الذي تقوم عليه الدعاوة النازية وإدارتها، أن وجد أهل البلاد المقهورة أنفسهم آخر الأمر في عزلة كاملة عن بقية العالم، يقرءون ما يسمح به «التنظيم» النازي فحسب، ولا يدرون من أحوال الشعوب الأخرى غير ما يجيز النازيون معرفته. ولكن سرعان ما نجم عن هذا الوضع الشاذ رد فعل عميق في نفوس هؤلاء المقهورين، والسبب في ذلك تلك العزلة ذاتها التي فرضت عليهم في وقت عظمت دعاوة النازيين إلى النظام الجديد، وكثرت أقاويلهم التي وصفوا بها «مزايا» النظام المزعومة. هذا بينما وجد الأهلون بالبرهان الساطع مما يلمسونه في حياتهم اليومية أن هذه الدعاوة وهذه الأقاويل كاذبة؛ لأنه بدلا من العيش في ظل حياة وادعة مطمئنة - كما أسرف النازيون في وعودهم - أصبح الأذى من نصيبهم، وصار الظلم ينزل بهم من كل جانب، ويعيشون عيش الذل والضعة في كنف نظام يعمل على انحلال الأسرة وتشتيت أفرادها، ويسخر الشباب والنساء وكبار السن والصغار في العمل الإنتاجي المرهق لمصلحة الريخ وحده، ويسلب أقوات الأهلين ويتركهم يتضورون جوعا ويموتون من العري والبرد زرافات ووحدانا كما حدث في بلاد اليونان وغيرها. لذلك صار من الطبيعي أن يداخلهم الشك في كل ما يقرءونه ويسمعونه عن النظام الجديد، وباتوا لا يصدقون ما تروجه الدعاية النازية من ادعاءات وأقاويل عن مزايا هذا النظام، ويتوقون إلى الخلاص منه.
ومنذ شعرت هذه الشعوب المقهورة بأن الدعاية النازية: إنما تريد أن تضللهم بما تنشره عليهم من أكاذيب لم يكن المقصود منها في الحقيقة سوى إخماد الروح المعنوية فيهم وتستخيرهم في خدمة مآرب النازيين، وإحكام السيطرة الجرمانية على الشعوب الأوروبية المحقرة. بدأ عهد ما صار يعرف في تاريخ المقاومة في أوروبا المحتلة باسم «الدعاوة المضادة» أو «الدعاوة الخفية».
والواقع أنه كان من المنتظر أن تظهر إلى عالم الوجود هذه «الدعاوة المضادة»، عندما تنتهي موجة الفتوح الخاطفة النازية، وبمجرد أن تفيق الشعوب المقهورة من أثر صدمة الغزو العنيفة؛ إذ يسترد المذهول، سمعه وبصره، ويستعيد إدراكه ووعيه، ومن ثم يصبح في استطاعته أن يميز بين أقوال النازيين وفعالهم، ويمعن النظر فيما يشاهده حوله، ولم يكن من السهل على المغلوب المقهور أن يفيق من ذهوله، ما دامت آلة الحرب النازية الضخمة ماثلة أمامه، وما دام النازيون المنتصرون يستأثرون بأكاليل الغار، ويدوسون تحت نعالهم شعوبا برمتها، وما دام النصر حليفهم في كل مكان وزمان. لذلك أصبح من الضروري أن تلحق بالنازيين الهزيمة، وأن تعترض أعمالهم العسكرية بعض العقبات الكأداء؛ حتى يزول من الأذهان ذلك الزعم بأنهم شياطين لا سبيل إلى قهرهم، وحتى يدرك أهل البلاد المفتوحة أنهم بشر يقعون في الخطأ ويعتريهم الضعف، وأن مقاومتهم والتغلب عليهم في حيز الإمكان.
ولما كانت التعاليم النازية لا تستند إلى شيء من المبادئ التي أخذ بها العالم المتحضر منذ أجيال وقرون، ولما كانت دعواهم في إنشاء النظام الجديد الذي يريدونه دعوى عات جبار لا يرضى عن إذلال الشعوب غير الجرمانية بديلا، ولما كان البرهان قد قام على أن النازيين بشر قد يفلت النصر من أيديهم، وقد تدركهم الهزيمة، فإنه سرعان ما اجتمعت الأسباب التي أفضت إلى ظهور ضروب المقاومة المختلفة التي شهدناها في أوروبا المحتلة، وإلى ظهور الدعاوة المضادة. وغنى عن البيان أن المقاومة والدعاية الخفية سارتا جنبا إلى جنب، بل إن الذي حدث فعلا هو أن الدعاوة المضادة سبقت المقاومة بعض الشيء، كما أنها كانت في الحقيقة من أساليب المقاومة السلبية المبكرة، هذا إلى أنها كانت من عوامل انتشار المقاومة ذاتها وتوجيهها - كما سيأتي ذكره بعد.
وعلى ذلك كان من أسباب ظهور الدعاوة المضادة، مسلك النازيين أنفسهم في تطبيق النظام الجديد في أوروبا المحتلة، كما كان من عواملها المباشرة هزيمة النازيين في معركة بريطانيا المشهورة «من 8 أغسطس إلى 31 أكتوبر 1940»، هذا على الرغم من جهودهم الجبارة المتوالية، وبخاصة عندما أطلق «جورنج » سلاحه الجوي على لندن في ثمانية وعشرين هجوما كبيرا في وضح النهار ما بين السادس من شهر سبتمبر والخامس من شهر أكتوبر، فقد تطلع أهل البلاد المقهورة إلى نتيجة هذا الصراع العنيف، ولم تفد «رقابة» النازيين الصارمة شيئا في كتم أخبار الخسارة الجسيمة التي نزلت بسلاحهم الجوي. وفي هذه الشهور العصيبة أخذ ينمو الشعور بضرورة المقاومة لدى الشعوب المغلوبة، ثم لم يلبث أن وجد هذا الشعور مكانا في صحف البلدان المحتلة تحت أنوف النازيين، وعلى الرغم من وجود «الرقابة» الصارمة التي أنشأوها، فكان فشل النازيين في هذه المعركة الجوية الهائلة موضع أحاديث القوم وتعليقاتهم، بل وموضع «نكاتهم» في بعض الأحايين، وزادت جرأتهم عندما صار البريطانيون بعد ذلك يرسلون الحملات الجوية المدمرة على أوروبا المحتلة وعلى ألمانيا ذاتها - وهي التي قال عنها جورنج: إنها محوطة بحلقة حديدية من الاستحكامات القوية - فتكررت إغارات البريطانيين على فرنسا الشمالية والغربية وعلى الدانمرك وهولندة وبلجيكا والنرويج، ومن هذه الأحاديث والتعليقات بدأت تظهر «الدعاوة المضادة»، ووجدت هذه الدعاية الخفية في بادئ الأمر طريقها إلى الصحف التي أجاز النازيون صدورها. فقد صارت هذه الصحف تنقل أخبار المعارك الجوية إلى قرائها بكل دقة وأمانة، وكثيرا ما حاول محرروها الإفلات من الرقابة الصارمة، وقد نجحت محاولاتهم في بعض الأحايين. ومن أمثلة ذلك أن صحيفة بلجيكية نشرت ذات يوم خبرا فحواه أن «خمسين قاذفة قنابل ألمانية شوهدت تطير صوب بريطانيا، ولم يعد منها ست وأربعون»، فجاءها إنذار شديد من سلطات الاحتلال الألمانية. ولم تكد تمضي بضعة أيام حتى نشرت هذه الصحيفة نفسها خبرا آخر عن قاذفات ألمانية ذهبت للإغارة على بريطانيا فقالت: «شوهدت اليوم 34 قاذفة ألمانية تطير صوب إنجلترا، وقد عادت منها 43 طائرة إلى قواعدها سالمة!» فأغلقت السلطات إدارة هذه الصحيفة. وهناك تلك الصحيفة الدانمركية التي أرادت أن تنقل إلى قرائها خبر إغارة موفقة قامت بها الطائرات البريطانية ودمرت مصنعا كان يشتغل لحساب ألمانيا في هذه البلاد، ومنعت سلطات الاحتلال نشر خبر هذه الإغارة حتى مضى يومان، فذكرت إدارة الأخبار الألمانية في اليوم الثالث من وقوعها أن الإغارة التي حدثت لم تكن ناجحة وأن كل ما أصابه الطيارون الإنجليز بقذائفهم كان بقرة واحدة، فانتهزت الصحيفة الدانمركية إذاعة خبر الغارة، وحاولت أن تبين لقارئيها مدى الضرر الحقيقي الذي نجم عنها، على خلاف ما ادعته الدعاية النازية، فأثبتت الخبر كما صاغته السلطات الألمانية، ثم أضافت التعليق الآتي: «ولا تزال هذه البقرة تحترق!»
وبطبيعة الحال لقيت قصة البقرة التي لا تزال تحترق، ذيوعا كبيرا، لا يقل في الحقيقة عن ذيوع قصة الطيارات النازية الثلاثة والأربعين التي عادت إلى قواعدها سالمة! ووجد الأهلون في الأراضي المنخفضة والدانمرك وغيرها في ترديد هاتين القصتين على وجه الخصوص وسيلة للسخر بالسادة النازيين الذين ظلوا في فترة الحرب الأولى يمنون النفس بقهر البريطانيين وغزو بلادهم، وأعلنوا عن هذه الأمنية العزيزة لديهم مرارا وتكرارا، وأكثروا من ترديدها زهوا وافتخارا حتى وضعوا «أغنية» في هذا المعنى:
نحن ذاهبون - أو مبحرون - إلى إنجلترا
Wir fahren gen Engelland .
وصارت الدعاية النازية تذيع هذه الأغنية في برامجها، وأصبحت الأغنية المفضلة أيضا من الجند النازيين في كل مناسبة، وكان الغرض من إذاعة هذه الأغنية وترديدها إخماد أي أمل لدى الشعوب المقهورة في إمكان الاعتماد على بريطانيا في نجدتهم. ولذلك لم يكد يظهر فشل النازيين وعجزهم، وتعرف حكاية الطائرات الثلاثة والأربعين وقصة البقرة ذات الحظ السيئ حتى زالت هيبة الألمانيين إلى حد كبير من النفوس، كما تزعزع الاعتقاد في أن النصر لا بد أن يكون دائما من نصيب السادة الألمان. ثم اتخذ السخر بالنازيين في هولندة وبلجيكا والدانمرك وفرنسا خصوصا أشكالا منوعة، منها أن أهل الموانئ في هذه البلدان المفتوحة صاروا ينقبون عن الإعلانات القديمة وجداول مواعيد قيام السفن في القنال الإنجليزي، حتى إذا عثروا على عدد من هذه الجداول أو الإعلانات، أعادوا لصقها على جدران ثكنات الجند الألمان، والبنايات العسكرية الألمانية، ثم كتبوا في ذيلها يستفهمون: «وما موعد قيام المركب التالية إلى إنجلترا؟» وفضلا عن ذلك فإن كثيرين من أهل هذه الموانئ صاروا يعترضون الجند الألمان في الطريق حتى يسألوهم إذا كانوا يعرفون أن الهر هتلر قد ابتاع حديثا أقوى جهاز للراديو في العالم! فإذا لم يكن الجندي لبقا متيقظا وسأل بدوره ولماذا يشتري الهر هتلر هذا الجهاز، أجابوه على الفور: «لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تأتيه بإنجلترا!» ولعله كان من نتائج إخفاق الألمان في مشروع غزو إنجلترا اختفاء «الأغنية» السابقة، ثم ظهور أغنية أخرى سماها أصحاب «الدعاوة المضادة» بأنشودة «عدم الوصول قط إلى هناك - أي إنجلترا
Niegelungenlied .» •••
وكان من أسباب نمو «الدعاوة المضادة» قيام الحرب بين ألمانيا النازية والروسيا في يونية 1941. صحيح أن النصر ظل حليف الألمانيين في المعارك الأولى من هذه الحرب، واقتطع النازيون من دولة السوفييت أقاليم شاسعة، وكان من المنتظر أن يضعف إيمان الشعوب المقهورة من جراء هذا الانتصار السريع في بداية الحملة الروسية، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، لعدة أسباب: منها أن اشتباك النازيين في حرب مع الروسيا التي لا تعرف الجماهير عنها سوى أنها من الأقطار السحيقة ذات الموارد التي لا تنضب من الرجال الصالحين لحمل السلاح، لا بد وأن يخلق لأداة الحرب النازية مشاكل عويصة، لا يكفي النصر السريع لتذليلها ما دام هذا النصر غير حاسم، وما دامت الجيوش الروسية الجرارة تتخذ خطة المراوغة والاستدراج، وتفوت على النازيين كل فرصة للالتحام مع أعدائهم في معركة فاصلة ترغم الروس على التسليم وطلب الهدنة ثم الصلح مع ألمانيا. وقد أصابت الشعوب المغلوبة كبد الحقيقة في تفكيرها هذا، وسرعان ما وضح على الرغم من الانتصارات الأولى، أن النازيين لا يستطيعون شن الحرب الخاطفة في أملاك الاتحاد السوفيتي ذات الأطراف المترامية ومناطق الإنتاج الكثيرة المتباينة؛ ولذلك فإنه بدلا من أن يكون النصر النازي المبكر في هذه الحرب سببا في إخماد «الدعاوة المضادة»، أصبح على العكس من ذلك من أسباب ازدياد «الدعاية الخفية» وانتشارها.
أضف إلى هذا أن الحملة الروسية - على نحو ما سبقت الإشارة - اقتضت إرسال مئات الألوف من الألمان المجندين إلى جبهة القتال، هذا إلى جانب الفرق المتعددة من أبناء الدول البلقانية الضالعة مع النازيين خصوصا، ونشأت عن هذه الحال معضلة جديدة في الريخ الثالث، هي تزويد المصانع المشتغلة في إنتاج عتاد الحرب الألماني بالأيدي العاملة، وعمد النازيون إلى تذليل هذه الصعوبة بنقل العمال الأجانب للعمل بالمصانع والمناجم الألمانية، ثم تنظيم إنتاج المصانع والمناجم في البلدان المحتلة تحت إشراف سلطات الاحتلال ورجال الجستابو. وقد تقدم بحث مشكلة العمال الأجانب في الريخ عند الكلام عن «الاقتصاد النازي» في أوروبا؛ ولذلك كانت تعبئة الأيدي العاملة وتسخير الأهلين في الإنتاج الألماني من أهم أسباب نمو حركة «الدعاوة المضادة»، ثم إمعان أهل هذه البلدان المغلوبة في اتباع خطة المقاومة بنوعيها معا: السلبي والإيجابي.
وزيادة على ذلك فإنه سرعان ما ظهر أن الحملة الروسية قد كلفت النازيين أثمانا باهظة في العتاد والرجال، وأن تقهقر الروس أمام الجحافل النازية الزاحفة عليهم، كان يجري وفق خطة موضوعة إلى حد كبير؛ لأن الروس علمتهم تجارب الحروب الماضية منذ أكثر من مائة عام - وبخاصة إبان حملة نابليون المشهورة على بلادهم في عام 1812 - أنه كلما أوغل العدو في أرضهم الشاسعة وبعد عن مراكز تموينه، سهل على عصابات المقاتلين الروس قطع خطوط مواصلاته وإرهاق مؤخرته، مما يجعل النصر بعيدا عن متناول يده والغلبة في نهاية الأمر لهم. ومن المعروف أن الروس اتبعوا في حملة نابليون خطة «الأرض المحروقة»، واتبعوا في الحرب الهتلرية الماضية خطة إحراق الأرض بما عليها، وتدمير المرافق وأنابيب المياه وتخريب المساكن وإقفار القرى والدساكر من أهلها، ونقل مخزونها من المؤن والأغذية؛ وذلك حتى لا يجد الفاتح مأوى أو مأكلا أو موضعا لراحة أو استجمام، وقد ظهرت نتائج ذلك كله عندما اعترف النازيون بأن الحرب الروسية سوف يطول أمدها، وأن الشتاء سوف ينزل عليهم ببرده القارس وهم في الميدان الشرقي المتعب، وأن أساليب الحرب الخاطفة والوحدات الميكانيكية السريعة، لا تفيد شيئا في كسب نصر سريع، على غير ما كان جمهور القادة وسواد الشعب الألماني يتوقع. وهناك أدلة كثيرة على أن النازيين ما كانوا ينتظرون أن يمتد أجل الحرب إلى شتاء العام التالي (1941-1942). وقد أحدثت هذه الخيبة المرة أثرا عميقا في نفوس النازيين، كما أحيت آمالا عريضة في صدور الشعوب المقهورة. وفي الفصول التالية سوف نتحدث عن أثر هذه الخيبة في داخل ألمانيا ذاتها. •••
وفي نهاية العام نفسه (ديسمبر 1941)، جد عامل آخر كان ذا أثر بعيد في نمو الدعاية الخفية، وانتشار الدعاوة المضادة في أوروبا النازية: هذا العامل هو دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب ضد النازيين وأحلافهم. وجاء دخول الولايات المتحدة الحرب - إلى جانب اعتبارات أخرى قيمة - بمثابة الهزيمة الشنيعة لأداة الدعاية النازية. فقد كان انضمام هذه الديموقراطية العظيمة إلى جانب البريطانيين والأمم المتحدة معهم في الصراع ضد طغمة النازيين نذيرا بأن الحملة الروسية المشئومة على السادة النازيين سوف تزداد شؤما عليهم بمرور الأيام والشهور، وأن الحرب سوف تجد ميادين جديدة خارج القارة الأوروبية تنتقل إليها، ولا يكون للنازيين أمل الانتصار فيها أو الاحتفاظ بالقدرة على السبق في العمليات العسكرية دائما، وأن الحلفاء الجدد عاملون - ولا شك - على إيجاد جبهات للقتال ثانية وثالثة، توزع جهد النازيين وتشتت قوى إنتاجهم، وأن عتاد الحرب من مؤن وأغذية وخامات وذخائر وأسلحة وعقاقير وأدوية، وأيد عاملة ورجال، سوف يتدفق تدفقا على روسيا المحاربة الصامدة، وأن أي أمل لدى النازيين في النصر لا بد وأن ينقضي ويزول عاجلا، وأن فرصة التحرر من سلطان النظام النازي الجديد لا بد آتية، وأن العاملين من أجل الحرية في جميع البلدان المغلوبة على أمرها سوف يظفرون بالخلاص قريبا إذا هم ساهموا من جانبهم بنصيب في إلحاق الهزيمة الماحقة بالنازيين وبأذنابهم من الكويسلنجيين والمتعاونين معهم في أوروبا النازية.
والواقع أن انحياز الديمقراطية الأمريكية إلى المبادئ التي ناضل البريطانيون وحلفاؤهم من أجل تعزيزها كان حدثا عظيما، لا في تاريخ هذه الحرب الضروس وحدها، بل وفي تاريخ الحضارة الإنسانية كذلك. فمن المعروف أن النازيين ظلوا ينشرون دعاوتهم في جميع أرجاء العالم المتمدين - ومنها الأمريكتان: الشمالية والجنوبية - منذ اللحظة التي وصلوا فيها إلى مراكز الحكم في ألمانيا 1933. وقصة الطابور الخامس ونشاط أعضاء هذا الطابور من الموضوعات التي صار لا يجهلها إنسان منذ أن خلعت ألمانيا النازية القناع وامتشقت حسام الغزو والفتح في وجه الديمقراطيات «المتداعية». ولم تتورع دولة الريخ الثالث لنشر دعاوتها عن استخدام سفاراتها وقنصلياتها في الدول الأجنبية، كخلايا ومراكز لجمع شتات رعاياها فيما وراء البحار، وتنظيمهم في شكل جماعات تأتمر بأمر «الفوهرر» وتذعن لمشيئة الزعيم ورغباته، حتى تألفت من بين الألمان، وأقارب الجرمان، والذين ينحدرون من أصل ألماني ولكنهم تجنسوا بجنسيات غير ألمانية، جماعة ضخمة صارت بمثابة الأداة التي يعتمد عليها الريخ في إضعاف الروح المعنوية لدى الشعوب غير الجرمانية، وبذر بذور الانقسام بين الأهلين، واستمالة الأنصار وهلم جرا. ثم ظهرت من بين أعضاء الطابور الخامس الكبير طائفة من المخربين والمدمرين الذين كانت مهمتهم إضعاف أداة الإنتاج الاقتصادي وتعطيلها في الدول التي شعر النازيون بالخوف من ضخامة مواردها. ولذلك حرصت الدعاية النازية، كما حرص وكلاء النازي في الولايات المتحدة الأمريكية على أن يكثر إنشاء الخلايا النازية بحيث تكون شبكة عريضة تمتد في أرجاء هذه الديموقراطية العظيمة، وكان الغرض من هذا التنظيم نشر الدعاوة القوية ضد دخول الولايات المتحدة الأمريكية هذه الحرب الطاحنة بأي حال من الأحوال، مستندين فيما يبثونه من آراء وينشرونه من كتابات ويروجونه من أقوال، إلى رغبة سواد الشعب الأمريكي في التمسك بخطة الحياد التقليدية وعدم الاشتباك في حروب قد يخرج منها صفر اليدين إلى جانب ما تكلفه هذه الحرب عادة من ضحايا جسيمة في الأموال والأرواح كما حدث في الحرب العالمية الأولى ... أو كما قال النازيون وصنائعهم!
ومع هذا فإن تمسك الولايات المتحدة بخطة الحياد حيال ذلك الصراع العالمي لم يكن كل ما رغبه النازيون، بل كان من أهدافهم القريبة تنظيم مقاومة فعالة تقف في وجه كل محاولة ترمي بها الدولة إلى تحديد أسلحتها وزيادتها وتقوية استحكامات الدفاع بما يقتضيه هذا الدفاع من بناء السفن الحربية وتجهيز أدوات الحرب الحديثة وما إليها، حتى إذا جد الجد وحدث ما لم يكن في الحسبان، شعرت هذه الديموقراطية العظيمة بنقص استعدادها العسكري ، وخشيت لذلك دخول الحرب، فإذا لم يمنعها هذا الخوف، لحقت بها الهزيمة سريعا، أو ظلت عاملا ثانويا لا يقدم ولا يؤخر في سير الحرب ولا يغير شيئا من نتائجها الحاسمة.
وقد أصاب النازيون بعض النجاح فيما أرادوا، وتأخر بالفعل دخول الولايات المتحدة الحرب مدة، وظلت الشعوب المقهورة تردد أثناء ذلك هذا السؤال: هل تخوض هذه الجمهورية العظيمة غمار الحرب إلى جانب «الديموقراطية» وتساهم في تحرير الأمم وخلاصها؟ ومتى تنحاز الولايات المتحدة إلى جانب البريطانيين وأحلافهم؟ ولا شك في أن انضمام هذه الجمهورية إلى جانب الأمم المتحدة كان غنما كبيرا يقدر أهل البلدان المغلوبة قيمته، كما كان النازيون يدركون خطر الآثار المترتبة عليه. وقد شمرت الدعاية النازية عن ساعدها في شهور الحرب الأولى حتى تمنع نزول هذه الكارثة ... وكانت المهمة شاقة متعبة؛ لأنه لم يكن من واجبها تعزيز رغبة الحياد في داخل الولايات المتحدة فحسب، بل كان عليها أيضا أن تدخل الطمأنينة إلى قلوب الشعب الألماني نفسه في دولة الريخ الثالث؛ لأن الألمان كانوا ما يزالون يذكرون ما أحدثه اشتباك الولايات المتحدة الأمريكية من رجحان كفة الحلفاء السابقين في الحرب العالمية الأولى، ثم هزيمة القيصرية وانتشار الفوضى والاضطراب في البلاد سنوات عدة، حتى وصل النازيون من جراء ذلك كله إلى الحكم والسلطان على أنقاض جمهورية ويمار البائسة. ولعبت الدعاية النازية في هذه المسألة الشائكة دورا غريبا. فبينما كان وكلاؤها وعمالها يبذلون كل جهد في العالم الجديد لاستمالة الرأي العام الأمريكي إليهم وإلى قبول مبادئهم، وكسب صداقة الأمريكيين وعطفهم على «مطالبهم»، والتمتع بثقتهم، كانوا من ناحية أخرى في داخل ألمانيا ذاتها يحطون من قدر الأمريكيين، ويعتبرونهم من بين الأمم المنحلة التي يسيطر اليهود على شئونها وينفثون سمومهم القاتلة في كيانها.
بيد أنه سرعان ما تبين أن الدعاية النازية في الولايات المتحدة كانت فاشلة، فلم يكد يمضي عام واحد على بداية اعتداء النازيين على أوروبا حتى أصدر رئيسها «فرانكلين ديلانو روزفلت» تصريح «الحريات الأربع» المشهور في 7 يولية 1940 الذي قال فيه:
نأمل أن يطلع علينا المستقبل الذي نعمل على إعداده في الوقت الحاضر بمدنية تقوم دعائمها على حريات البشر الأساسية، وأولى هذه الحريات: حرية القول والرأي، والثانية: الحرية التي تجعل في استطاعة كل إنسان أن يعبد الله وفق معتقده، والثالثة: الحرية التي يحصل عليها الإنسان بالتحرر من نير البؤس، والرابعة: الحرية التي تنتج عن التحرر من الخوف، وليست هذه الحريات أحلاما بعيدة المنال يتطلب تحقيقها أجيالا طويلة، ولكنها مبادئ حقيقية ملموسة يجب على جيلنا الحاضر أن ينشرها في العالم أجمع.
فدل هذا التصريح - تصريح الحريات الأربع - على أن الديموقراطية الأمريكية العظيمة لا يمكن بأي حال أن توافق على مبادئ النازيين وتعاليمهم أو تقبلها، وأنها تسير في الحقيقة بخطى حثيثة صوب الانضمام إلى جانب بريطانيا ومجموعة الأمم المتحدة، وأن الفشل الذريع كان في نهاية الأمر نصيب الدعاية النازية في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الواقع كان التناقض واضحا بين هذه «الحريات الأربع» التي أراد الرئيس الأمريكي ذيوعها حتى تصبح أساسا تقوم عليه حضارة البشر، وبين المبادئ التي انطوى عليها ذلك النظام الجديد، الذي كان يطبقه النازيون في أوروبا المحتلة تمهيدا لفرض السيطرة الجرمانية على أمم العالم قاطبة.
وفي الشهور التالية ترقبت الشعوب التي وقعت تحت نير النازيين بزوغ فجر ذلك اليوم الذي يصبح فيه وقوف الولايات المتحدة إلى جانب الأمم المتحدة حقيقة واقعة، ولم يفد طغيان النازي على أيدي رجال الجستابو الملطخة بالدماء، ولا قسوة سلطات الاحتلال الألماني ولا الرقابة الصارمة، شيئا في إخماد آمالهم أو عزلهم عن بقية العالم ومنع تسرب الأخبار إليهم. وظل الحال على ذلك، حتى جاء اليوم الذي استطاع أن يجتمع فيه رئيس الحكومة الإنجليزية «ونستون تشرشل» برئيس الجمهورية الأمريكية على ظهر سفينة حربية وسط المحيط الأطلنطي، ووضع الزعيمان «وثيقة الأطلنطي» التاريخية في يوم 14 أغسطس 1941، فكانت هذه الوثيقة بمثابة العهد الأعظم الذي يتمسك به كل شعب يرغب في الحياة الحرة الصادقة في عالم يقوم على مبادئ إنسانية عالية تضمن له البقاء في ظل سلام مستقر لا يهدده طمع الدول الكبيرة ولا يجد فيه النازيون ومن سلك مسلكهم طريقا يمكنهم من تحقيق أغراضهم. وأي برهان أقوى على إيمان الديموقراطية الأمريكية بقدسية المبادئ الإنسانية النبيلة التي تناضل من أجلها بريطانيا والأمم المتحدة، من قول الزعيمين في المادة السادسة من هذه الوثيقة أنهما يأملان بعد سحق الاستبداد النازي أن تتوطد دعائم السلم الذي ينتج لجميع الأمم وسائل العيش بسلام في دائرة حدودها، ويمكن الناس في جميع أنحاء المعمورة من العيش في مأمن من الشقاء والخوف؟ وأي تنديد أشد من هذا التنديد بمبادئ النازية الغاشمة وتعاليمها؟ والحقيقة أنه لم تكد تمضي فترة وجيزة على وضع هذا الميثاق التاريخي حتى اعتدى اليابانيون اعتداءهم الأثيم الغادر على «بيرل هاربور» في 7 ديسمبر 1941، وفي 11 منه أعلنت ألمانيا وإيطاليا الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية، فأعلنت أمريكا الحرب عليهما!
وجدد صدور وثيقة الأطلنطي نشاط أنصار المقاومة السلبية والإيجابية في أوروبا النازية ووجدت «الدعاوة المضادة» في المبادئ التي تضمنتها هذه الوثيقة وسيلة لإحياء الأمل في النفوس وزيادة الثقة في النصر القريب. ولعل أظهر آثار هذه «الوثيقة» أن الشعوب المقهورة صارت تتخذها مثالا تنسج على منواله في تحديد الأغراض والأهداف التي تسعى جماعات المقاومة لتحقيقها. فقد استرشد أنصار المقاومة السرية في فرنسا بمبادئ هذا الميثاق في وضع أسس الاتفاق الذي أرادوا أن يجمع بين جبهة المقاومة الداخلية في فرنسا والفرنسيين الأحرار من أنصار «ديجول
De Gaulle » في العمل المشترك من أجل تحقيق البرنامج الذي يرتضونه لتنظيم الحياة الحرة المستقبلة في فرنسا ذاتها وفي إمبراطوريتها. وجرت هذه المفاوضة تحت أنوف النازيين وعلى الرغم من سيطرة الجستابو الرهيبة، على أساس إزالة حكومة فيشي الآثمة، وتمتع فرنسا «الموحدة» بمطلق السيادة في داخل البلاد وفي الإمبراطورية، بعد استرداد هذه السيادة وهذه الوحدة. ومعنى ذلك أن يسترد الشعب الفرنسي جميع حرياته المفقودة، بالقضاء على دكتاتورية النظام الوطني الاشتراكي الذي أنشأه النازيون في البلاد، وبإنزال العقوبة الشديدة بأولئك الذين تعاونوا مع أعدداء الوطن وساعدوا على تحطيم حقوق الفرنسيين وألحقوا الأذى بمصالحهم ودنسوا شرفهم، وبإعطاء فرنسا جميع الضمانات الداخلية والخارجية، التي تكفل الحرية والاحترام والأمن والطمأنينة لكل مواطن في داخل البلاد، وتمنع عدوها التاريخي من غزوها، ثم تمكنها من رد عدوانه إذا حدثته النفس بالاعتداء عليها مرة ثانية، وكذلك بالإبقاء على فرنسا أمينة على تقاليدها الجمهورية والديموقراطية، وإحياء مثلها العليا في الحرية والإخاء والمساواة! وقد سمي هذا الاتفاق الذي عقد في عام 1942 ب «الميثاق الأطلنطي الفرنسي».
وفي الحق إن الدعاوة المضادة أو الدعاية الخفية قد بلغت أشدها في عام 1942 وصار من المتعذر على النازيين إخمادها مهما استخدموا من أساليب، بل إن حوادث المقاومة الإيجابية التي زادت زيادة كبيرة في ذلك العام أيضا، كان من شأنها هي الأخرى تأييد الروح المعنوية لدى الشعوب المقهورة، وتغذية الدعاوة المضادة بسلسلة لا تنقطع من الأخبار يجد الأهلوان في قراءتها شاحذا لهممهم من جهة ومسريا عن نفوسهم من جهة أخرى. وفضلا عن ذلك فقد لحقت بالنازيين في ذلك العام أكبر هزيمة «حاسمة» في ميدان من الميادين التي عقدوا على الانتصار فيها آمالا عريضة: وهو الميدان الأفريقي، ولم يكن هذا الميدان في يوم من الأيام - كما أذاعت الدعاية النازية والمحورية، بعد أن تذوق السادة النازيون طعم الهزيمة - من الميادين الثانوية؛ لأن فرض السيطرة الجرمانية على القارة الأوروبية ودعم أركان هذه السيطرة كان يقتضي نشر سلطان النازية أيضا في حوض البحر الأبيض. ومنذ بداية الحرب أدرك ثقاة الخبراء العسكريين، وفي مقدمتهم «ماكس فرنر
Max Werner » أن السيطرة على هذا البحر يقتضي دعمها الاستحواذ على الأراضي الواقعة في حوضه والتي تحد هذا البحر من جنوبه، أي الاستيلاء على أقطار البحر الأبيض الشرقي والقطر المصري وأفريقيا الشمالية والغربية، فكان يوما عظيما ذلك اليوم الذي فوت فيه البريطانيون وأحلافهم على النازيين فرصة النصر في معركة العلمين التاريخية في 4 نوفمبر سنة 1942. ولذلك كله لم يكن غريبا أن تظل الشعوب المغلوبة في أوروبا النازية، أشد الشعوب قلقا وترقيا لنتائج هذه المعركة الفاصلة، ولم يكن غريبا أن يكون البولنديون - وهم من أشد أنصار المقاومة بنوعيها السلبي والإيجابي - أول من عرف بخبر هذه الهزيمة!
فقد حدث في الساعة العاشرة والربع من مساء 4 نوفمبر 1942 أن كان جماعة من الرجال والنساء البولنديين من أنصار الدعاوة المضادة مجتمعين في أحد الأقبية حول جهاز للراديو ينصتون إلى الأخبار بسماعات وضعوها على آذانهم خوفا من أن يتسرب صوت الإذاعة إلى الخارج، فيكشف الجستابو مقرهم ويكون جزاؤهم الإعدام، وإذا بصوت المذيع يتحدث إليهم بلغتهم البولندية من محطة لندن
B. B. C.
وينقل إليهم خبر اندحار «روميل» في معركة العلمين وهزيمته في أفريقيا الشمالية! فكان لهذا الخبر وقع عظيم الأثر في نفوسهم: كيف لا وقد أحرز الحلفاء بعد ثلاث سنوات نصرا حاسما!
ولم يكن البولنديون وحدهم في هذا المساء هم الذين أنصتوا إلى الإذاعة البريطانية؛ فقد سمع هذا الخبر أيضا البورتغاليون، نقله إليهم الراديو بلغتهم البورتغالية، ولم يكن على البورتغاليين من حرج إذا استمعوا إلى إذاعة المحطة الإنجليزية؛ ولذلك لم يكد يشرق صباح اليوم التالي «5 نوفمبر» حتى كان الخبر قد انتشر في أرجاء أوروبا النازية. ولم يكن الراديو وحده صاحب الفضل في ذيوع خبر الهزيمة المنكرة الفاصلة؛ بل خرجت على أهل البلاد المقهورة في صباح اليوم نفسه «الصحف السرية» تحمل هذا النبأ العظيم إلى قرائها في بولندة والنرويج وهولندة وبلجيكا وفرنسا وغيرها، وكانت الصحف السرية من أعظم وسائل الدعاوة المضادة شأنا ومن أشدها خطرا على سلطان النازيين في أوروبا. •••
وهكذا بدا كأن إله الحرب قد أخذ ينصرف عن تأييد النازيين، وبدأت من ثم تنزل الهزائم بقواتهم بعد ذلك في كل ميدان تقريبا. ثم تفاقمت حوادث التخريب والتدمير في قلب قلعة هتلر الأوروبية. وقد مر بنا كيف أرغم النازيون على خوض غمار الحرب مع العصابات والجيوش اليوغوسلافية واليونانية وغيرها في البلقان، كأنما الحرب قد استؤنفت من جديد من أجل أن يفتح النازيون هذه البلدان مرة ثانية. وفي العام التالي «1943» انهزم «روميل» نهائيا في أفريقيا الشمالية والغربية، واستسلم «فون باولوس» قائد الجيش السادس الألماني مع هيئة أركان حربه أمام ستالينجراد، ثم غزا الحلفاء صقلية وإيطاليا وتوالت هزائم النازيين في الروسيا. وكان من حوادث هذا العام أيضا اجتماع أقطاب الديموقراطيات العظيمة في سلسلة من المؤتمرات في موسكو والقاهرة وطهران؛ لتوحيد الجهد من أجل إحراز النصر النهائي في الحرب ضد ألمانيا واليابان وإيطاليا، وتخليص الإنسانية من شرور النازية المستطيرة، ودعم الأسس التي ينبغي أن يقوم عليها عالم المستقبل على قواعد «الحريات الأربع» ومبادئ ميثاق الأطلنطي. •••
تلك إذن كانت العوامل التي أدت إلى ظهور الدعاوة المضادة في أوروبا النازية وسببت ذيوعها وانتشارها. وإنه يحق لنا الآن أن نتساءل عن أغراض هذه الدعاية الخفية، ثم ننتقل من ذلك إلى بحث الوسائل التي استخدمتها في دعاوتها ضد الطغيان النازي في أوروبا.
كان للدعاوة المضادة من أول الأمر غرض واحد؛ هو المساهمة في الجهد الذي تتطلبه زحزحة كابوس النازيين الجاثم على صدور أهل البلدان المقهورة، ومن أول الأمر أيضا، عرف الأهلون الذين حز في نفوسهم ما شهدوه من وقوع أوطانهم فريسة في أيدي الطغاة الباغين أنه كان من المستحيل عليهم أن يطردوا هؤلاء الغزاة الفاتحين من غير سلاح يشحذونه في وجوههم، ولم يكن هناك من سبيل إلى الحصول على الأسلحة أو إعداد الجيوش المنظمة في عدد كبير من هذه البلدان المغلوبة على أمرها ما دام النازيون أصحاب الحكم والسيطرة، وما دام النصر حليفهم، وما دام سواد الشعب - في المراحل الأولى من الحرب - ينظر إليهم كأنصاف آلهة خلقوا من غير طينة البشر وقدت قلوبهم من الصخر لا يلينون ولا يرحمون. بيد أنه من جهة أخرى، لم يلبث أن تبدد الذهول الأول رويدا رويدا، وسرعان ما صار طبيعيا أن يتساءل القوم عن خير الطرق المؤدية إلى جمع الشمل وتوحيد الكلمة وتوجيه الرأي لتدبير المقاومة ضد السادة النازيين وإضعاف شوكتهم. ومن ثم ظهرت أغراض الدعاوة المضادة أو الدعاية الخفية منذ اللحظة الأولى ذات معالم معينة واضحة يمكن تلخيصها في أن أصحابها صار دأبهم الآن إحياء الآمال في صدور مواطنيهم، وانتشالهم من الوهدة التي أرداهم فيها النصر الألماني، وإقناعهم بأن ساعة الخلاص لا بد آتية إذا هم أيقنوا أنه يستحيل على الغزاة مهما أوتوا من قوة وسلطان، أن يمحوا من عالم الوجود تقاليد الأمم وأمانيها وآمالها، وأن صاحب الإيمان في قدسية قضيته وعدالتها لا بد منتصر في النهاية. ثم كان من مقتضيات إحياء هذا الأمل في النفوس أن يسترد الأهلون الثقة، وأن تزول من أذهانهم الصورة التي رسمتها انتصارات النازيين الخاطفة، وأن يقوى الشعور بأنه ليس من العسير قط هزيمة أنصاف الآلهة هؤلاء.
ولذلك عنيت الدعاية الخفية عقب الاحتلال النازي في أوروبا بعدة أمور: أولها؛ نشر الأخبار المحلية التي منعت الرقابة النازية نشرها، وأكثر هذه الأخبار متعلق بموقف كبار الشخصيات حيال سلطات الاحتلال الألماني وعدم إذعان بعض هذه الشخصيات لأوامر النازيين الضارة بمصلحة الوطن، وكذلك حرصت الدعاوة المضادة على إذاعة أنباء المقاومة وحوادث التخريب والتدمير والمظاهرات في أرجاء البلاد، والغرض من ذلك كله إقامة البرهان على أن عرق الحياة ما زال ينبض في جثمان الأمة، وأن هناك من يرفض التسليم، وأن من الخير ألا يقنع الأهلون بالعيش الذليل في ظل الاحتلال الألماني.
أما الأمر الثاني: فهو أن الدعاية الخفية اتبعت أسلوب السخر بالسادة الألمان، وكان ذلك من السهولة بمكان، بسبب ما كانوا يبذلون من محاولات خادعة لكسب محبة الشعوب المقهورة وصداقتها، الأمر الذي جعلهم يتغالون في التودد إلى الأفراد وإظهار العطف على الأطفال وحديثي السن. هذا في وقت كانت أداة الحرب النازية تجد في سلب محصولات البلاد وأموالها وثرواتها، وتسخر الأهلين في الإنتاج المرهق لمصلحة الريخ، وتنقل النفائس التاريخية والتحف والكنوز، وتحرم الأهلين من الأقوات ووقود الدفء، وتستولي على الماشية، وتصدر الألبان ومنتجاتها إلى ألمانيا، وتترك أطفال الأمم المقهورة جوعى لا يجدون من الغذاء ما يسد الرمق ويقيم الأود، ثم لا تتهاون أخيرا في القبض على المئات والألوف من الرجال والنساء وإرسالهم إلى معسكرات الاعتقال، ولا تحجم عن إعدام الرهائن زرافات ووحدانا، بعد أن ترغم هؤلاء التعساء على حفر قبورهم بأيديهم!
أما الأمر الثالث: فهو أن الدعاوة كانت تعمد دائما إلى نشر أخبار العمليات العسكرية التي يقوم بها البريطانيون وحلفاؤهم، كما كانت تحرص على إذاعة أنباء الهزائم الألمانية بكل وسيلة، ولو أن هذه الهزائم كانت قليلة ومتباعدة في بداية تلك الحرب الطاحنة، وكان غرض الدعاية الخفية من ذلك إقامة الدليل على أن السادة النازيين لم يكسبوا المعركة الأخيرة بعد، وأن أمما ما تزال تناضل من أجل الحرية، وأن الألمان ما دام النضام قائما لا يستطيعون الادعاء بأن في قبضتهم تقرير مصير الشعوب نهائيا، وأن الإيمان بالنصر الأخير والثقة الكاملة هما أداة الشعوب العزلاء، وأن المستضعف وحده هو الذي يرضى بالعيش الذليل.
لذلك لم تكد تمضي مدة طويلة على استقرار الاحتلال الألماني في أوروبا النازية، وظهور جماعة الكويسلنجيين الذين دبروا مع النازيين منذ أمد طويل هزيمة أوطانهم، ثم أقبلوا يؤيدون الحكم الجديد ويتعاونون مع الطغاة، حتى اضطلعت الدعاوة المضادة بمهمة أخطر شأنا من غيرها، هي كشف القناع عن حقيقة ذلك النظام الجديد الذي فرضه السادة النازيون على أوروبا فرضا، وتحذير الأهلين مغبة التعاون مع الغزاة الفاتحين. لذلك نشطت الدعاية الخفية في إظهار أكاذيب الألمان وادعاءاتهم، وعكفت على تفسير القواعد التي بنى عليها هؤلاء نظامهم الجديد بأمثلة مستمدة مما كان يفعله الألمانيون كل يوم في البلدان المحتلة. ولما كان الاستقرار ضروريا لدعم أركان النظام الجديد، وكان من أهم عوامل هذا الاستقرار إقبال الأهلين على التعاون مع الفاتحين، فقد أثارت الدعاية الخفية حربا شعواء ضد الكويسلنجيين الذين أجرموا في حق الوطن بتيسير السبل على الألمان حتى يقيموا نظامهم الجديد على أنقاض الحريات القديمة والمثل العليا الإنسانية التي كسبها البشر بعد نضال قرون عدة. ولذلك أذاعت الدعاية الخفية أسماء «المتعاونين» ووجهت لهم النصح تارة والوعيد تارة أخرى، وحذرت الأهلين أن يثقوا بهم أو يركنوا إليهم أو ينسجوا على منوالهم. ومما يجدر ذكره أنه كثيرا ما حدث من جراء إذاعة شخصية بعض الكويسلنجيين المتسترين - وكانوا أشد خطرا من بقية المتعاونين مع السادة الألمان؛ لأنهم يعملون في كثير من الأحايين كعيون لقوات الجستابو على مواطنيهم - أن كان نصيب هؤلاء الموت في ظروف مريبة، وكانت الوفاة دائما على أيدي الجستابو نفسه تخلصا منهم، حتى لا يحملهم الشعور بالخزي والعار بعد افتضاح أمرهم على السعي للتكفير عن خطاياهم بكشف الستار عن كويسلنجيين آخرين ما يزال سواد الشعب يجهل وجودهم، وحتى لا يبوحوا بشيء مما قد يعرفونه عن نظام الجستابو الخفي في بلادهم.
وفي المدة الأخيرة، وعلى الخصوص بعد ذيوع خبر «ميثاق الأطلنطي» الذي سبق الكلام عنه والحديث عن أثره في أرجاء أوروبا النازية، صارت الدعاية الخفية تعنى بجمع كلمة الشعوب المقهورة على النظام الذي يصح لها اختياره من أجل العيش في ظل حياة هادئة مستقرة عند زوال دولة الصليب المعقوف من القارة الأوروبية، مثال ذلك ما فعلته هذه الدعاية في فرنسا ووضع مبادئ الميثاق الأطلنطي الفرنسي، في عام 1942، وما نشر في موسكو في يناير 1944 عن البرنامج الذي تحدثت عنه جريدة «وولنا بولسكا»، وهي صحيفة اتحاد الوطنيين البولنديين؛ إذ قالت إن البرنامج يتضمن عدة مسائل: منها مد حدود بولندة المحاربة غربا، وتسوية جميع الخلافات القائمة بين بولندة والاتحاد السوفيتي، وإنشاء نظام ديموقراطي برلماني في البلاد، وإخراج جميع العناصر الرجعية من بولندة، وتوزيع الأراضي على الفلاحين، والتوحيد بين البولنديين من غير نظر إلى عقائدهم السياسية، مع استثناء العناصر الرجعية في الخارج. كما ذكرت أن مهمة البدء بتغيير مركز بولندة في العالم، وإدخال التغييرات المنتظرة في بولندة نفسها يجب أن يكون من شأن البولنديين أنفسهم، ولا بد للديموقراطية البولندية من أن تبحث لها عن مخرج مما هي فيه وأن تجد هذا المخرج، وينبغي لها أن تبعث الوحدة الوطنية وتثبت أركانها في أثناء مناضلة المغير ومكافحته. •••
هذا، وقد تنوعت وسائل هذه الدعاية وتعددت، ومع هذا فإنه لم يكن قط من السهل على أصحابها - وهم جميع الوطنيين في كل أمة منهزمة ما عدا تلك الفئة القليلة التي قبلت التعاون مع الألمان - أن يوحدوا جهود دعاوتهم المضادة، أو ينشئوا بعض الصلة بينهم جميعا حتى يعرف فريق منهم ما يفعله الفريق الآخر، أو تبذل جماعة مساعدة قيمة قد تكون جماعة أخرى في حاجة إليها، إلى غير ذلك، بل إن من أبرز مظاهر هذه الدعاية الخفية استقلال «خلاياها» في العمل، فكانت كل منها منفصلة عن الأخرى، وبلغ من إمعان أصحابها في المحافظة على سرية هذا النشاط حدا جعل توزيع العمل ضروريا على الأفراد متفرقين حتى لا يعرف فرد ما يقوم به فرد آخر من نفس الجماعة الواحدة، وسبب ذلك، الخوف الشديد من بطش سلطات الاحتلال الألمانية في البلدان المقهورة، والخوف من الوقوع في مخالب رجال الجستابو المنتشرين في كل بلد وقرية، ثم الحذر من أن يقف أنصار النظام الجديد من الأهلين على حقيقة ما يفعله أصحاب هذه الدعاية الخفية، فيبلغون ما يعرفون إلى النازي، ويكون نصيب الوطنيين التشريد في معسكرات الاعتقال أو الإعدام، أو الاقتصاص الصارم من ذويهم.
وفي الواقع كان الأفراد، وحدهم في أول الأمر هم الذين أخذوا على عاتقهم نشر الدعاوة المضادة وترويجها، ووجد الفرد في اعتماده على نفسه فحسب فيما يريد فعله أو إذاعته وسيلة تخلصه من الوقوع في قبضة الجستابو. فظهر من ثم إلى عالم الوجود في أوروبا المحتلة فريق من الأفراد «أو الأشخاص» الذين ظل سرهم مكتوما إلى يومنا هذا، وكان بعض هؤلاء أصحاب جرأة عظيمة؛ إذ قاموا بعمليات التخريب والتدمير في الحقول والمصانع ومحطات السكك الحديدية وأحواض السفن وما إليها. ثم ظهر إلى جانبهم فريق من نوع آخر اكتفى أفراده بنقل الأنباء التي منعت الرقابة ذيوعها ونشرها بين مواطنيهم، حتى إذا وجد الناقل أو المتحدث مستمعا له، جمعت بين الاثنين روابط الكراهية للحكم النازي، ثم لم يلبث أن ينضم إليهم ثالث، ثم رابع، وهكذا حتى تكبر جماعتهم ويتعاون جميعهم في نقل الأخبار بعد أن يسلكوا كل الطرق في سبيل الحصول عليها. ومن أهم تلك الطرق الاستماع إلى الإذاعات الأجنبية «المحرمة» وعلى وجه الخصوص الإذاعة البريطانية المشهورة
B. B. C.
وهم في الأقبية ووراء جدران البيوت المغلقة، وكلهم عيون وآذان حتى لا تأخذهم الغفلة فيفتضح أمرهم ويكون نصيبهم الموت.
ومع أنه قد يسهل على المرء أن يعترف بأن الجماعة المخربة المدمرة كانت أكثر الجماعات جرأة وشجاعة، فإن ناشري الأخبار المسيئة إلى سمعة النازيين، ومروجي الدعاوة المضادة كانوا أيضا أصحاب جرأة وشجاعة فما كان في مقدورهم أن يفلتوا من أقسى العقوبات النازية إذا قدر لهم الوقوع في قبضة سلطات الاحتلال الألمانية.
ولم يكتف هذا الفريق من أنصار الدعاية الخفية بأن يظل نشاطهم مقصورا على نقل الأحاديث أو الاستماع إلى الإذاعة المحرمة، بل إنهم سرعان ما صاروا يجدون طرقا منوعة للهزء بالألمان والسخر بهم وإظهار أباطيلهم في كل فرصة مناسبة، وكانت فرنسا في طليعة الأمم التي أتقن أبناؤها هذا النوع من أساليب الدعاية الخفية، وعلى الخصوص في شهور الاحتلال الأولى، فمن ذلك أنه كثيرا ما كان يحدث أن يجد الألمان في باريس مكتوبا على إعلانات السيارات: «زوروا إيطاليا!» أو «تطوعوا في الجيش اليوناني!» وكثيرا ما كانوا يعثرون في مدن أخرى على عبارات مخطوطة على جدران المنازل وغيرها: «أيها اليونانيون قفوا هنا؛ لأن هذه فرنسا!» وحدث عقب معركة بريطانيا أن قرأ الباريسيون - ومعهم بطبيعة الحال رجال الجستابو وسلطات الاحتلال - عبارات بالطباشير على الجدران تنادي بحياة فرنسا وحياة إنجلترا، وحياة تشرشل والروسيا، كما وجد الألمان أن كثيرا من أعلام الصليب المعقوف قد أنزلت، ورفعت بدلا منها أعلام الجمهورية الفرنسية، ولم يستطع الألمان مكافحة هذه «الحملة الطباشيرية»، بل زاد أصحابها جرأة، ثم صاروا يصوغون عبارات جديدة مثل «يحيا ديجول، ويسقط الألمان!» ووجد أنصار الدعاية الخفية ميدانا واسعا لنشاطهم في داخل المصانع المشتغلة لحساب النازيين في فرنسا، فوزعت المنشورات العدة بين الصناع، وعنيت هذه المنشورات على وجه الخصوص بإذاعة أنباء هزيمة الألمان في معركة بريطانيا. وحدث ذات صباح أن قرأ الباريسيون بين مجموعة الإعلانات التي أجازها الألمان إعلانا طريفا فات ذكاء النازيين إدراك معنى ما به من عبارات التهكم اللازع؛ لأنه كان يحمل عنوانا جذابا: «إني أتهم إنجلترا!» أما بقية الإعلان فكان كالآتي:
إني أتهم إنجلترا؛ لأن إنجلترا هي التي غزت فرنسا في عام 1940؛ ولأن إنجلترا هي التي أخرجت إلى عالم الوجود فكرة ألمانيا العظمى أو الكبرى؛ ولأن إنجلترا هي التي ضمت إليها النمسا؛ ولأن إنجلترا هي التي اغتالت مانجان، وماجينو ، وبارتو، والملك إسكندر الأول «ملك يوغسلافيا»؛ ولأن إنجلترا هي التي قامت بتسليح نفسها تسليحا خطيرا وعبأت جيشها كله، بما في ذلك الرقيق؛ ولأن إنجلترا هي التي غزت النمسا وتشيكوسلوفاكيا، وهولندة، وبولندة وبلجيكا والنرويج؛ ولأن إنجلترا ... أوه ياللعجب من هؤلاء الإنجليز!
ولم يفطن النازيون إلى حقيقة ما يحمله هذا الإعلان من دعاوة مضادة إلا بعد أن شاهدوا الباريسيين يستغرقون في الضحك بعد قراءته، فأزالوه بعد مضي أربع وعشرين ساعة.
وفي بقية أوروبا النازية لم يقل أنصار هذا النوع من الدعاوة المضادة عن زملائهم في فرنسا؛ فالحملة «الطباشيرية» كانت تجد ميدانا فسيحا في كل بلد مقهور. ومن الحكايات المشهورة الواقعية ما حدث في بروكسل عاصمة بلجيكا، ذلك بأن الألمان علقوا ذات مرة في شوارع هذه المدينة إعلانا يحمل رسم «ونستون تشرشل» واقفا يطل على أسرة من أم وأولاد صغار أضناهم الجوع ولا يجدون على مائدتهم سوى صحاف فارغة، ثم كتبوا تحت هذه الصورة: «أيها الوحش! إنك تسقينا من العذاب كئوسا مرة؟» وكان الغرض من لصق هذا الإعلان إظهار أن بريطانيا وحدها هي المسئولة بسبب الحصار البحري الذي ضربته على أوروبا النازية، عن انتشار المجاعة في بلجيكا. ولكن حدث أن انتهز الأهالي فرصة الظلام الدامس فأجروا تغييرا في الصورة، حتى بدت رأس المستر تشرشل في الصباح التالي، وقد أعطيت «قصة» عجيبة كما نبت له شارب صغير، فظهر «أدولف هتلر» بدلا من المستر تشرشل يطل على هؤلاء الأطفال الجياع، وانطبق عليه القول: «أيها الوحش! إنك تسقينا من العذاب كئوسا مرة!»
ومن أمثلة هذه الدعاوة المضادة، ما كان يحدث في الدانمرك على نحو ما سبقت الإشارة إليه؛ فقد وجد أهلها أن خير وسيلة لبعث الثقة في النفوس وإشعال جذوة الوطنية إحياء الأناشيد والأغاني القومية الشعبية، وخصوصا في جوتلند الجنوبية «أو شلزويج»، حيث يعتز القوم هناك بهذه الأغاني القديمة ويجدون في ترديدها عزاء وسلوى؛ ولذلك صار مئات منهم يجتمعون للإنشاد في الهواء الطلق، وذاع خبر هذه الأناشيد القومية في أنحاء الدانمرك وسرت العدوى إلى كل مدينة وقرية، وخرج الأهلون في كل مكان لترديدها. وهكذا حدث في سبتمبر من عام 1940 أن قامت أكبر مظاهرة «غنائية» في كوبنهاجن، عندما اجتمع حوالي 150000 دانمركي في ساحة
Faelled Park
للغناء ذات مساء، وحدث مثل ذلك أيضا في بلدة
Esbjerg
حيث احتشد عشرون ألفا من سكانها البالغين 36 ألفا للغرض نفسه، وكذلك في «هازل
Hasle »، ووقع ذلك كله في وقت واحد وفي يوم واحد، حتى يعبر الدانمركيون عما يشعرون به نحو الوطن. وفي الواقع كان شهر سبتمبر من ذلك العام شهرا تاريخيا في قصة الدانمرك الوطنية؛ إذ قرر الشباب في أنحاء الدانمرك تأسيس جماعة «الشباب الدانمركي العامل» برئاسة «هال كوش
Hal Coch » أحد الأساتذة المعروفين. ثم تأسست في طول البلاد وعرضها «أندية تشرشل» تحت أنوف الجستابو وأنصارهم، وغنى الدانمركيون النشيد القومي الإنجليزي بعد أن وضعوا له معنى جديدا: «سوف يكسب تشرشل الحرب لا محالة!» حتى سمى النازيون تلك الحماسة الدافقة «بالمرض الإنجليزي»!
وفي هذه الظروف لم يكن من العسير على أصحاب الدعاوة المضادة أن يروجوا ما يشاءون من أقوال وأقاصيص من أجل إضعاف شوكة النازيين والسخر بهم. ومن النوادر التي انتشرت في هذه البلاد أن أحد بائعي السمك اعتاد المناداة على سمكة في أسواق كوبنهاجن: «سمك من الطراز الأول، وسمين كالماريشال جورنج!» فألقي القبض عليه وحبس مدة أسبوعين، ولكن لم يكد يطلق سراحه حتى استأنف المناداة على بضاعته قائلا: «سمك من الطراز الأول: ما يزال سمينا كما كان منذ أسبوعين!» وكذلك ظل الدانمركيون زمنا يجدون في موقف ملكهم كريستيان مثالا يحتذى في مقاومة الألمان، وحرصت الدعاية الخفية على إذاعة واقعة من وقائع هذا الملك مع السادة الألمان، وهي أنه كان من عادة الملك كريستيان أن يخرج كل صباح على حصانه للتجول في شوارع كوبنهاجن، فحدث ذات مرة أن مر ببناء من الأبنية العامة، فوجد الصليب المعقوف مرفوعا على أعلى البناء، فطلب إليه ضابطا ألمانيا وأخبره بمخالفة هذا العمل لنصوص الاتفاق القائم وقتذاك بين الدانمرك وألمانيا، فلما أجاب الضابط بأن العلم النازي قد رفع على هذا البناء بمقتضى أمر صادر من برلين، أعلن كريستيان نيته على إرسال جندي دانمركي لإنزال العلم النازي إذا ظل العلم مرفوعا إلى وقت الظهر. وفي الساعة الحادية عشرة والدقيقة الخامسة والخمسين كان العلم ما يزال مرفوعا، فظهر الملك وقال إن أحد الجند الدنمركيين سوف ينتزع العلم من موضعه في الساعة الثالثة عشرة تماما. فهدد الضابط بإطلاق الرصاص على ذلك الجندي، فأجاب الملك: «إذن يمكنك إطلاق الرصاص علي؛ لأني أنا هذا الجندي!» فاضطر الألمان إلى إنزال العلم بعد دقيقة واحدة.
وهكذا تنوعت الأمثلة وتعددت في كل بلد من بلدان أوروبا المحتلة. على أنه كان أيضا من أهم أساليب نشر الدعاية الخفية استخدام ما يعرف باسم «الخطابات المسلسلة»، وذلك أنه لما كان من المتعذر في كثير من الأحايين الحديث علانية في موضوع يهم الوطنيين تحت رقابة الجستابو وعيونهم، فقد كان ناقل الخبر يعمد إلى كتابة ما يريد إذاعته في رقعة صغيرة يضعها في كفه، حتى إذا صافح أحد الوطنيين ترك هذه الرقعة في يد ذلك الوطني الذي يعمد بدوره إلى نسخ عدة رقاع منها يوزعها على أصدقائه ومعارفه الذين يثق بهم، فيقوم هؤلاء بتوزيعها على آخرين بعد أن ينسخوا منها أعدادا أخرى وهكذا. وتتضمن هذه الرقعة عادة، خبر هزيمة لحقت بالنازيين، أو ذكر حادث تخريب أو تدمير، أو أمر تدبير مظاهرة كبيرة، أو مجرد تحذير الجمهور من بعض حيل النازيين الجديدة لسلب أموال الأهلين أو مواشيهم أو أغذيتهم، وكثيرا ما كانت هذه الرقاع تنقل بعض الأقاصيص التي يقصد من إذاعتها الترويح عن النفس والزراية بالسادة النازيين والسخر بهم وتقوية الروح المعنوية، وشد أزر المقاومة عند سلطات الاحتلال الألماني بجميع الطرق الممكنة. ومن ذلك ما يذكرونه في النرويج حيث أراد النازيون في بداية الاحتلال أن يجتذبوا النرويجيين بالتودد إليهم، ووجدوا «فيدكون كويسلنج» وأنصاره مقبلين على التعاون معهم، وكان من واجب أصحاب الدعاوة المضادة أن يبذلوا كل جهد حتى يعرف سواد الشعب أنه كان هناك أناس ما يزالون يشيدون بذكر الملك والوطن ويرفضون في قرارة نفوسهم العيش الذليل في ظل الاحتلال الألماني، هذا إلى ضرورة التمسك بأهداب الأمل والرجاء دائما. ومن الوقائع التي أذاعت أنباءها الدعاية الخفية ما حدث في «أوسلو»؛ إذ دخل أحد النازيين محلا تجاريا، ثم رفع يده محييا بالتحية الهتلرية وسأل البائعة أن ترشده إلى مكان بيع ملابس الرجال، وكان هذا النازي ينتظر أن تجيبه الفتاة بالتحية النازية ولكنها أبت ذلك، فأجابته على الفور: «يحيا الملك! خلفك إلى الشمال». وفي أبريل 1941 حدث أن استفسر رجال الاحتلال الألماني من أحد وكلاء الكنائس النرويجيين «تليفونيا»، عن مكان في كنيسته يتسع لإيواء مائة جندي ألماني، فأجاب الرجل: «بكل تأكيد! في استطاعتنا أن نجد مكانا يتسع لإيوائهم في فناء الكنيسة المخصص لدفن الموتى.» •••
غير أن الدعاية الخفية سرعان ما وجدت في «الراديو» و«الصحف السرية» أكبر أدواتها الفعالة في نشر دعاوتها ضد النازيين ونظامهم الجديد في أوروبا. ودل استخدام الراديو في الحقيقة على مهارة كبيرة وجرأة عظيمة من جانب أنصار المقاومة في أوروبا النازية، والسبب في هذا، أنه كان من مقتضيات التنظيم الألماني «الرقابة» الصارمة التي أنشئوها من أجل ترويج دعاوتهم للنظام الجديد من جانب، ومن أجل إخماد أية دعاوة مضادة من جانب آخر، أن يجري النازيون تفتيشا دقيقا لمصادرة جميع أجهزة الراديو ذات الموجات القصيرة خصوصا، وإصدار العقوبات القاسية على كل من يضبط متلبسا بجريمة الاستماع للإذاعات الحرة الأجنبية، وفي مقدمة هذه الإذاعات المرسلة من محطة لندن المشهورة
B. B. C. ، وزيادة على ذلك قام النازيون من جهة أخرى بتوزيع أجهزة للراديو ذات موجات معينة تمكن صاحبها من الاستماع للإذاعات النازية المحلية فحسب، هذا إلى أنهم دققوا على وجه الخصوص في التنقيب عن كل أجهزة الإرسال في حوزة الأفراد، وكان غرض النازيين من ذلك كله ألا يستمع الأهلون في البلدان المقهورة إلى أنباء لا يريد النازيون ذيوعها بينهم، وأن يتعذر على الوطنيين الذين رفضوا التعاون معهم، وكان ما يزال لديهم بقية من أمل في الخلاص من سلطانهم أن يقف بعضهم على حقيقة ما يفعله البعض الآخر ويقوم به من ضروب المقاومة ويأتيه من حوادث التخريب والتدمير، أو أن يستطيعوا إنشاء صلة تؤدي إلى جمع الكلمة وتوحيد الصفوف في وجه سلطات الاحتلال الألمانية.
ومع هذا فقد نجح كثيرون من أهل الشعوب المقهورة في الاحتفاظ بأجهزة الراديو ذات الموجات القصيرة، واتخذوا التدابير لإخفاء هذه الأجهزة، ورتبوا الاجتماعات «السرية» في أوقات الإذاعة الأجنبية للاستماع إلى ما يقوله أنصار الحرية في الأمم الديموقراطية. ثم عظم الإقبال على استخدام الراديو عندما صارت محطة الإذاعة البريطانية تنظم برامج باللغات الأجنبية، وقد بلغ عدد اللغات التي كانت تذيع بها هذه المحطة سبعا وأربعين، وتحتل الإذاعة البريطانية مكانا ظاهرا في تاريخ الدعاية الخفية والدعاوة المضادة بسبب ما كانت تنشره من أنباء وتعليقات على هذه الأنباء، ولم يكن يقصد من إذاعتها أن تقف الشعوب المقهورة على حقيقة ما يقع من حوادث وتطورات في أرجاء العالم من أجل القضاء على الطغيان النازي فحسب؛ بل كانت تبغي إلى جانب ذلك إحياء الأمل والرجاء في صدور الأهلين وشد عزيمتهم بفضل ما تنشره من أخبار القوات المحاربة الحرة إلى جانب جيوش البريطانيين والأمريكيين في ميادين القتال المتعددة، ثم بفضل ما كانت تنقله إليهم من أقوال الزعماء الأحرار الذين كانوا يتولون قيادة هذا النضال إلى جانب أقطاب الديموقراطية المعروفين في العالم، وكانت تظهر لهم بين وقت وآخر طرفا من الأساليب التي كان يتبعها النازيون لدعم أركان نظامهم الجديد في أوروبا وبسط سيطرتهم العالمية. وأخيرا صارت الإذاعة البريطانية إلى جانب ذلك كله تعنى أيضا بجمع كلمة الوطنيين الذين آلوا على أنفسهم مقاومة الاحتلال الألماني في بلادهم.
وقصة الإذاعة البريطانية (
B. B. C. ) طريفة حقا. فمن المعروف أن النازيين منذ خلص لهم الحكم في ألمانيا، كانوا أول من استخدم الراديو في الإذاعة السياسية لترويج مبادئهم قبل نشوب الحرب الماضية بعدة أعوام. ثم أتقن زعيم الدعاوة والنشر في ألمانيا الدكتور «جوبلز» تنظيم هذه الأداة حتى أصبح الراديو من أدوات الحرب الفعالة، وكان يعتمد عليه النازيون في تعبئة الرأي العام الألماني في بلادهم بما يذيعونه من أخبار وادعاءات مضللة كاذبة، وكذلك في حرب الأعصاب المشهورة لإضعاف جبهة المقاومة والدفاع في البلدان التي أرادوا اجتياحها. أما الإذاعة البريطانية فظلت في سنوات السلم لا تعني بالإذاعة الأجنبية. ثم استمر الحال على ذلك المنوال إلى أن وقعت الأزمة التشيكوسلوفاكية المعروفة في سبتمبر 1938، وعندئذ أدركت الحكومة الإنجليزية خطر الموقف، وأيقنت أنه من المتعذر عليها أن تنشر على الملأ آراءها، ورأي رئيس حكومتها وقتذاك المستر نيفل تشمبرلين، بين الشعوب الأوروبية بصدد هذه المسألة الشائكة ما دامت محطة الإذاعة البريطانية لا تعنى بتنظيم برامج أوروبية تاركة للنازيين وحدهم ترويج آرائهم وادعاءاتهم في أنحاء العالم، وكانت تقوم بذلك «وزارة الدعاية» النازية بإشراف الدكتور جوبلز وأعوانه. ولهذا تقرر في 27 سبتمبر من العام نفسه أن تنشر محطة الإذاعة البريطانية
B. B. C.
باللغات الفرنسية والإيطالية والألمانية جميع الخطب التي يلقيها رئيس الوزارة الإنجليزية، ثم الأنباء الهامة. واقتضى تنفيذ هذا القرار وقتذاك تنظيما واسعا لإعداد المترجمين والمذيعين، هذا إلى جانب إجراء تغييرات فنية منوعة. ثم لم تلبث هذه الصعوبات الفنية أن زادت عندما صارت «المحطة» ترتب برامج للإذاعة باللغتين الإسبانية والبورتغالية في صيف العام التالي «1939»، كما صارت تذيع بلغات أخرى بلغت في ذلك الحين سبعا. ثم ازداد العبء الملقى على عاتق هذه الإذاعة الأجنبية عقب نشوب الحرب الماضية مباشرة، وما تبع ذلك من نجاح الألمان في اجتياح عدة دول في وقت قصير، وإنشاء الحكومات «الحرة» التي صارت تمثل مجموعة الأمم المتحدة في لندن واتجاه الأنظار إلى بريطانيا كموئل للاجئين السياسيين والمضطهدين، ومن إليهم، بل وكمركز لتنظيم المقاومة الشديدة ضد الطغيان النازي. ثم غدت بريطانيا قلعة الحرية التي شاء النازيون أن يفرضوا عليها العزلة فرضا قبل غزوها هي الأخرى. وعلى ذلك نشطت الإذاعة البريطانية نشاطا عظيما في عامي (1940-1941)، وكان واجبها الأكبر أن تسمع أوروبا المقهورة صوت بريطانيا عاليا مرتفعا وسط ضوضاء أسلحة الحرب الميكانيكية وإغارات الطائرات النازية، وأن تسمع القلقين أو اليائسين دقات «ساعة بن» المشهورة، وكان عصيبا ذلك اليوم من أيام ربيع عام 1941 عندما هدمت قذائف النازيين بناية محطة الإذاعة البريطانية. ومع هذا فقد أعيد البناء على عجل وكانت الإذاعة النازية في هذه الأيام الشديدة «من عامي 1940-1941» تكاد لا تلقى منازعا أو منافسا في ميدان الدعاية الأوروبية أو العالمية.
ولكن الحال سرعان ما تبدل بعد ذلك؛ إذ تمكنت الإذاعة البريطانية من تنظيم برامج للإذاعة في أنحاء الممتلكات المستقلة، وفي بلدان الإمبراطورية المختلفة. وفي أغسطس وسبتمبر 1940 كانت قد أحكمت الصلة بطريق الأثير، بين لندن والولايات المتحدة الأمريكية، وقد مهد لذلك - ولا شك - ما قررته الولايات المتحدة ذاتها من ضرورة النزول إلى ميدان الصراع المستعر منذ أبريل في العام السابق «1939»، فلم يكد يمضي أسبوع واحد على استيلاء «موسوليني» على مملكة ألبانيا، حتى ألقى «روزفلت» خطابه المشهور على هيئة الاتحاد الأمريكي
في 14 أبريل سنة 1939، وقال: إن المسألة باتت في الواقع مسألة اختيار بين إقحام الحضارة الحالية في النزاع والحروب التي يثيرها العسكريون، وبين التمسك بمثل السلام العليا واحترام حقوق الفرد والحرص على المدنية التي ينبغي أن تظل جميع الشعوب متمتعة بها. ثم حدث بعد ذلك أن ذهبت أدراج الرياح جميع الجهود التي بذلها الرئيس الأمريكي من أجل تأمين سلامة الأمم ومنع نشوب الحرب، حتى جاء في آخر الأمر انهيار فرنسا في يونية 1940 مؤذنا في نظر الكثيرين من أهل الولايات المتحدة بقرب انتهاء الحرب في مصلحة ألمانيا، وبأن مقاومة بريطانيا لا طائل تحتها وأنه من المنتظر أن ترضى هذه الدولة بالتسليم عاجلا أو آجلا. وفي هذه الظروف، كان من واجب بريطانيا أن تبذل كل جهد حتى يقف الشعب الأمريكي على مقدار المقاومة التي تبديها من أجل الدفاع عن سلامتها، وإقامة البرهان. على أن هذه الجزر العظيمة لا يمكن أن ترضى بالتسليم للألمان حتى يفنى آخر رجل وامرأة بها، ووقع على عانق الإذاعة البريطانية
B. B. C.
إبلاغ هذه الرسالة إلى العالم الجديد، وكان لصوت المستر «ونستون تشرشل» السحري، أبلغ الأثر في نفوس الأمريكيين. وزيادة على ذلك فقد ظهر في تلك الآونة أن الرأي والشعور قد تحولا نهائيا إلى جانب الديموقراطية البريطانية في النضال الدائر؛ لأن الأمريكيين سرعان ما صاروا يطلبون في خريف 1940 معرفة الشيء الكثير عن جهود بريطانيا الحربية ويتساءلون لماذا تذيع لندن إلى الشعوب البريطانية في كندا ونيو فوندلند، والهند الغربية، بينما تترك الأمريكيين من غير الإذاعة لهم؟ ثم كان لأهل هذه الديموقراطية العظيمة ما أرادوا فكتبت جريدة «نيويورك تيمس» في 14 يولية 1940 تثني على جهود محطة الإذاعة البريطانية، ثم قالت ما معناه: إنه سرعان ما تبين من فحص بعض البرامج التي تذاع من هذه المحطة أن بريطانيا أصبحت الآن لا تضيع وقت المستمعين سدى في الإصغاء إلى روايات خيالية! ومن ذلك الحين أصبح الأثير الصلة الفعالة التي ربطت بين بريطانيا وأمريكا، ونقل الأثير خبر ميثاق الأطلنطي بين «روزفلت» و«تشرشل» في أغسطس 1941، وأسدت الإذاعة خدمات جليلة عقب حادث «بيرل هاربور» المشهور، وذلك في أثناء زيارة المستر تشرشل للولايات المتحدة وكندا. ومنذ صارت الولايات المتحدة ترسل جندها إلى الشرق الأوسط والهند، نقلت محطة الإذاعة البريطانية إلى هؤلاء برامج مذاعة من المحطات الأمريكية.
بيد أنه إلى جانب هذا كله، سرعان ما أتمت محطة الإذاعة تنظيم إذاعاتها الأجنبية لا لقوات الأمم المتحدة المحاربة في الميادين فحسب، بل ولأهل البلدان المقهورة في أوروبا النازية. ثم كان أظهر آثار هذا التنظيم ما حدث في ربيع عام 1941 عند بدء الدعوة لحملة جيش النصر
V-Army
المشهورة، ومع أنه قد سبق الحديث عن هذا الجيش عند الكلام عن ضروب المقاومة الإيجابية والسلبية في أوروبا الهتلرية، فإن ثمت حقيقة واحدة لا ينبغي إغفالها؛ هي أن الفضل في قيام هذه الحملة الواسعة يرجع في الحقيقة إلى الشعوب الأوروبية المقهورة نفسها أكثر من أي شيء آخر، وتفسير ذلك أن أحد أعضاء الحكومة البلجيكية السابقين، «المسيو فكتور ديلافيلي
Victor Delaveleye »، وهو من أولئك الذين عاهدوا النفس على الحديث من لندن إلى البلجيكيين في أرض الوطن، أراد أن يتحقق من أن هناك من يستمع لأحاديثه من مواطينه، فاقترح عليهم ذات مرة أن يحملوا شارة معينة ترمز إليهم هي حرف
V
حرف النصر، وأن يخطوا هذا الحرف بالطباشير على الجدران حتى يكون ذلك بمثابة علامة يعرف بها كل مستمع لإذاعته اللندنية غيره من المستمعين الآخرين، ونال هذا الاقتراح قبولا لدى مذيع آخر، يدعى «جيرسن
Geersens »، فطلب إلى مستمعيه من البلجيكيين في إذاعته الفلمنكية أن يفعلوا هم أيضا مثل إخوانهم، فأجاب أهل بلجيكا - من والون وفلمنك - هذه الرغبة، ثم لم يلبث أن ذاع الخبر، فتبع هؤلاء أهل البلدان الأخرى، وهكذا لم يجيء شهر أبريل من عام 1941، حتى كان حرف النصر
V
منتشرا من أقصى القارة الأوروبية إلى أقصاها من النرويج في الشمال إلى البلقان في الجنوب، وقد تقدم كيف تسلم الكلونيل «بريتون
Britton » إدارة هذه الحملة من لندن. وفي خريف العام نفسه أسدت هذه الحملة خدمة كبرى، عندما انتشر في أرجاء أوروبا «رمز» جديد لنوع المقاومة الإيجابية الخطيرة - وهو رسم السلحفاة - وكان هذا رمزا لحركة الإبطاء المتعمد! وقد سبق ذكر مبلغ الأضرار التي لحقت بأداة الحرب الألمانية من جراء هذا النوع من المقاومة. •••
هذا هو الدور الخطير الذي لعبته محطة الإذاعة البريطانية
B. B. C.
في إثارة المقاومة الفعالة في وجه السادة النازيين في أرجاء القارة. وواضح أن استخدام هذه الإذاعة كان من أمضى أسلحة الدعاوة المضادة أو الدعاية الخفية التي كانت ترمي إلى تقويض أركان النظام الجديد في أوروبا النازية؛ ولذلك، وقع النازيون عقوبات صارمة على كل متهم بالاستماع إلى الإذاعة البريطانية خصوصا، وتنوعت هذه العقوبات، من الحبس الانفرادي أو الإرسال إلى معسكرات الاعتقال، إلى السجن عدة سنوات أو الإعدام (وذلك على وجه الخصوص في كل من بولندة والنرويج، ثم في ألمانيا ذاتها)، إذا ثبت أن المستمع للإذاعة البريطانية يمتلك جهاز الراديو، ويدعو إخوانه ومواطنيه إلى منزله أو أي مكان آخر للاستماع معه؛ إذ إن النازيين كانوا يعتبرونه في هذه الحالة مروجا لدعاوة العدو ضد سلطات الاحتلال. وقد عنيت حكومات الأمم المتحدة المحاربة (في خارج أوروبا النازية) بإعداد قوائم طويلة بأسماء سيئي الحظ الذين ارتكبوا «جريمة» الإصغاء إلى محطات الإذاعة الأجنبية، وخصوصا محطة
B. B. C.
وصدرت ضدهم أحكام بالسجن أو الإعدام، واشتملت هذه القوائم أيضا على تواريخ صدور هذه الأحكام ذاتها بكل دقة. ولم يكن من العسير على الحكومات إعداد مثل هذه القوائم الكاملة؛ لأن الصحف النازية نفسها في البلدان المحتلة درجت على نشر أخبار هذه الأحكام بين الأنباء المحلية، على أمل أن يكون هذا النشر زاجرا للأهلين، يمنعهم من الاستماع للإذاعات الأجنبية، بيد أن صرامة هذه الأحكام لم تفد شيئا في ردعهم؛ لأن هؤلاء ما كانوا يجدون طريقا يعرفون به شيئا مما يحدث في بلادهم أو يجري في أوروبا النازية وفي العالم عموما غير الاستماع لأنباء محطات الإذاعة الحرة، وعلى وجه الخصوص المحطة البريطانية. وعلى ذلك فإنه بدلا من أن يفلح الألمان في إقناع سواد الشعوب المقهورة بالانصراف عن الإذاعة اللندنية، زاد إقبال الأهلين على هذه الإذاعة وصاروا يحكمون الأساليب التي تمكنهم من مراوغة الجستابو والإفلات من أيديهم.
وانتشرت في أرجاء أوروبا المحتلة أقاصيص عن وقائع كثيرة تبين في الحقيقة مدى فشل سلطات الاحتلال الألماني في مقاومة الإذاعة البريطانية. من ذلك أن أحد الجنود الألمان سأل ذات يوم في شارع من شوارع مدينة «بروكسل» رجلا من البلجيكيين عن الوقت، فتجاهل الرجل معرفة الألمانية، فسأل الجندي آخر، ولكنه لم يظفر منه بطائل. وعندئذ تقدمت إليه ابنة صغيرة وأظهرت دهشتها كيف لا يعرف هذا الألماني الوقت، مع أن كل إنسان يعرف أن الساعة هي السابعة والربع مساء. فدهش الألماني بدوره، وسألها كيف استطاعت هي أن تحدد الوقت بهذه السهولة دون أن تنظر إلى ساعة ما؟ فقالت: «الأمر يسير هل ترى أحدا من الناس في الشارع؟» فأجاب الألماني بالنفي، فقالت: «حسنا كل الشوارع تكون مقفرة الآن؛ لأن الناس يهرعون في هذه اللحظة إلى بيوتهم حتى يستمعوا للإذاعة الحرة، وهذه موعدها كل مساء الساعة السابعة والربع تماما!»
وحدث أن كتب أحد المتحمسين من أنصار التعاون مع ألمانيا في بلجيكا إلى جريدة «نوفو جورنال» البلجيكية، يشكو من أنه سمع في الترام حديثا بين تلميذتين: قالت إحداهما في أثنائه: «إن مدرس الإنجليزية في مدرستنا رجل عظيم حقا ! هل تدرين ماذا يفعل؟ إنه يبدي كل يوم تعليقات منوعة على الأنباء المذاعة من إنجلترا، إن النصر آت لا محالة!»
ومن الأقاصيص الطريفة ما حدث في بروكسل أيضا عندما غادر رجل مسن أحد المقاهي، فسأله رفاقه: «إلى أين؟» فقال: «إلى المنزل لأن هذا وقت الاستماع إلى الإذاعة البريطانية!» ثم ذهب الرجل إلى حال سبيله، ولكنه لم يكد يستقر به المقام في بيته حتى سمع طارقا، ثم لم يلبث أن دهش عندما وجد الجستابو في ردهة البيت يسألونه: «هل أنت الرجل الذي يستمع إلى الإذاعة البريطانية؟» فأجاب: «نعم، وأفعل ذلك كل يوم!» فسألوه: «وأين هذا الراديو؟» فأجاب: «ولكني لا أملك جهازا للاستماع، وإنما جدران المنزل رقيقة لدرجة تمكنني من الاستماع لإذاعة جهاز الراديو الذي يملكه جاري، وحضرته ضابط ألماني.»
الفصل الخامس
الصحف السرية
أما أخطر وسائل الدعاية الخفية وأشدها أثرا فكانت الصحف السرية التي انتشرت في أرجاء أوروبا النازية. وظهور هذه الصحف كان معناه في الحقيقة وجود حركة مقاومة خفية واسعة يصعب على سلطات الاحتلال الألماني ورجال الجستابو إخمادها، على الرغم من أن النازيين كانوا أصحاب السطوة في البلدان المفتوحة. ويعتبر ظهور هذه الصحف السرية، ورواجها برهانا ساطعا على أن الهتلريين قد فشلوا تماما، أولا: في كسب صداقة الشعوب المقهورة، واستمالتهم إلى التعاون معهم في ظل النظام الجديد من أجل دعم السيطرة الألمانية، وثانيا: على أنهم بالرغم من تنظيماتهم الواسعة ظلوا عاجزين عن كبح جماح الأهلين والقضاء على الروح المعنوية في البلدان التي دانت لسلطانهم. وزيادة على ذلك فقد قامت الصحف السرية بدور خطير في جمع وتوحيد الصفوف وشد أزر المقاومة ضد السادة الألمان، وهذا بفضل ما كانت تنشره من أنباء وموضوعات متعلقة بنشاط الديموقراطيات العظيمة ونضالها المميت من أجل خلاص الحضارة من شرور النازيين وطغيانهم من جهة، ثم بفضل ما كانت تقوم به من وسائل الدعاوة المضادة التي مر ذكرها. ويكفي برهانا على خطر المهمة التي ألقيت على عاتق هذه الصحف السرية، أنها كانت تعتمد في الأنباء التي تنشرها على إذاعات المحطة البريطانية
B. B. C. ، ومعنى هذا أن الصحف السرية تروج الأنباء التي يفرض النازيون عقوبات صارمة بلغت حد الإعدام في أحايين كثيرة على كل مستمع لهذه الإذاعة، مما يدل أيضا على أن جميع الجهود التي بذلها النازيون لمقاومة هذه الإذاعة الحرة قد ذهبت سدى ومن غير طائل.
هذا إلى أن نجاح الدعاوة المضادة في استخدام الصحف السرية دل على أن أنصار الدعاية عديدون بل ومنتشرون في أرجاء أوروبا المحتلة؛ لأن إصدار هذه الصحف السرية لم يكن بالأمر السهل الهين، فهناك قبل كل شيء مشكلة الحصول على الورق؛ لأن سلطات الاحتلال الألماني تهيمن على توزيعه، فلا يستطيع إنسان أو هيئة الحصول على الورق إلا إذا سمح الحاكم الألماني، وعرفت سلطات الاحتلال الوجوه التي يراد استخدامه فيها، وهذا إلى أن الكميات التي تسمح بها السلطات محدودة وتكاد تكفي حاجة البلاد العادية، فكيف يحصل إذن أنصار الدعاوة المضادة على الورق الذي يلزم لصحفهم؟ لا بد من وجود مؤيدين لهذه الدعاية الخفية قبل كل شيء من بين الأهلين الذين استطاعوا التمتع بثقة الألمان؛ لأن هؤلاء وحدهم هم الذين كانوا يحصلون على هذه الكميات المحدودة من الورق. وكانت هناك مجازفة أخرى؛ إذ كيف يحمل مصدرو الصحف السرية كميات الورق التي يحصلون عليها تحت أنوف هيئات الشرطة والجستابو اليقظين؟ وإذا استطاع أصحاب الصحف الإفلات من ذلك كله، فأين يجدون المطبعة التي تطبع صحيفتهم؟ بيد أنه كما كان هؤلاء يجدون أفرادا وشركات وطنية تعطيهم حاجاتهم من الورق خفية، فإنهم كانوا كذلك يجدون أصحاب مطابع لا يضنون على أصحاب الصحف السرية بما يريدون من أدوات الطباعة كالحبر والحروف والآلات وغير ذلك؛ وكان مصدرو الصحف دائما يعمدون إلى استخدام حروف الطباعة من «البنط» الذي لا تختص باستعماله شركة أو هيئة دون أخرى، حتى يصعب على رجال الجستابو الوقوف على المصدر الذي أمد الصحف السرية بأدوات الطباعة. ورغبة في أن يتعذر العثور على المكان الخفي الذي أقيمت فيه المطبعة السرية كثيرا ما كان أصحاب هذه الصحف يختارون مكانا منعزلا خوفا من أن يسمع القاطنون في الأماكن المجاورة صوت الآلات، ويعرف خبر وجود المطبعة، وقد حرص مصدرو الصحف السرية على ألا يعتمدوا على شركة واحدة لتموينهم بالورق أو مدهم بآلات الطباعة وأدواتها، أو يظلوا في مكان معين يطبعون فيه صحيفتهم مدة طويلة. والسبب في ذلك الإمعان في الحيطة حتى لا يتسرب شيء عن نشاطهم، أو يتعرض معاونوهم في هذا كله لإثارة سخط سلطات الاحتلال عليهم فيكون نصيبهم الموت أو التشريد لا محالة، فإذا ما تم طبع الصحيفة، صادف أصحابها صعوبة التوزيع، فكان عليهم أولا أن ينقلوا ما طبعوه من نسخ عدة قد يثير نقلها الريبة والشكوك، وأن يجدوا موزعين، يوصلون هذه النسخ إلى أيدي الأهلين في كل مدينة وقرية.
ومع هذا، وبالرغم مما كان ينتظر كل مشترك في أية عملية من هذه العمليات جميعها من عقوبة قاسية، الأمر الذي كان يعرفه الأهلون في أوروبا المحتلة حق المعرفة، وبالرغم مما كان ينزله النازيون بمصدري هذه الصحف ومحرريها وموزعيها من عقاب صارم يبلغ حد الإعدام في حالات كثيرة، فإن أصحاب الصحف السرية مضوا في إنجاز أعمالهم وطبع صحفهم وتوزيعها، وكان من الطبيعي أن يتمكن النازيون بين حين وآخر من القبض على بعض الأفراد المسئولين عن إصدار هذه الصحف وإعدامهم. ومع هذا فإن ذلك لم يفد شيئا في منع صحف أخرى، غير تلك التي مات أصحابها أو أرغموا على الفرار من قبضة الجستابو وترك أوطانهم، من الظهور في أماكن أخرى، وكثيرا ما كان يحدث أن تصدر الصحيفة نفسها التي ظنت سلطات الاحتلال الألماني أنه قد قضي عليها، محتفظة بنفس الشكل الذي اعتادت الظهور به، يتولى تحريرها آخرون لا يقلون وطنية ورغبة في مقاومة الطغيان النازي عن أسلافهم. •••
والوقوف على طرف من قصة هذه الصحف السرية وانتشارها يظهرنا على مبلغ نشاطها وأهمية الخدمة التي كانت تؤديها كأداة من أدوات الدعاية الخفية ذات الأثر الفعال في مكافحة دعاة النظام الجديد في أوروبا النازية. ولما كان عدد من أصحاب هذه الصحف ومحرريها قد استطاع الفرار إلى إنجلترا أو إلى غيرها من الدول الحرة المحاربة أو المحايدة، وكانت أسرات الكثيرين منهم ما تزال تعيش في البلدان المحتلة تحت رقابة الجستابو وفي خطر التعرض للموت أو التشريد والنفي إلى معسكرات الاعتقال، أو قضاء بقية العمر في غياهب السجون، إذا عرف النازيون شيئا عن نشاط أعضاء الأسرة الهاربين، فقد أصبح من المتعذر وقتذاك نشر أسمائهم أو تدوين قصة نشاطهم الخفي كاملة. ولذلك حرصت الحكومات الحرة المحاربة على أن تظل شخصيات هؤلاء الشجعان المغامرين بحياتهم مجهولة، واكتفت بتمجيد ذكرى الأبطال الذين لم يستطيعوا الخلاص والنجاة وكشفت سلطات الاحتلال الألماني أمرهم، فلقوا حتفهم على أيدي الجستابو اللعينة أو قدموا للمحاكمة أمام المحاكم الألمانية العسكرية، ونفذت فيهم أحكام الإعدام الرهيبة، وأصبح من حق التاريخ وحده أن يرفع ذكرهم عاليا، كمثال للتضحية الحرة النزيهة من أجل مصلحة الوطن، وفي سبيل خلاصه من ربقة الاستعمار الأجنبي.
وفي فرنسا بدأ ظهور الصحف السرية من وقت مبكر، عقب الاحتلال الألماني مباشرة. فقد سبب انهيار فرنسا كوارث عظيمة، وكان «بول سيمون» من بين الذين فقدوا ثرواتهم وهو من الوطنيين الممتلئين حماسة وغيرة، متوقد الذهن عظيم النشاط، قرر منذ اللحظة الأولى أن يشن بمفرده حربا شعواء على السادة الألمان. هذا إلى أنه وجد في هذه الحرب المزمعة وسيلة للترويج عن نفسه إلى جانب إشباع رغبته في الانتقام من غير الاصطدام بالنازيين المدججين بالسلاح والذين كان لا يجرؤ - وهو الأعزل - على الاصطدام بهم. لذلك عمد «بول سيمون» في أيام الاحتلال الأولى، إلى العمل على تعكير صفو الألمان، فصار لا يدع فرصة تمر دون أن يلصق على نوافذ سيارات ضباطهم وكبار رجالهم قصاصات الورق المعد لتغطية ألواح الزجاج حتى لا تتحطم وتتناثر قطعها وقت الإغارات، بعد أن يكتب عليها عبارات مثيرة، مثل: «من هو أجمل رجل آري في أوروبا؟ الدكتور جوبلز على وجه التأكيد!» و«من هو أعظم البلوتاركيين في أوروبا؟ - أي أعظم رجال الحكومة البلوتاركية أو التي تتألف من الأغنياء - الماريشال جورنج دون شك!» هذا عدا عبارات أخرى تهتف بحياة ديجول أو كتابة شعار الجمهورية الفرنسية المعروف: «الحرية والمساواة والإخاء»!
واعتمد «بول سيمون» من مبدأ الأمر على معاونة ثلاثة من الوطنيين، واستطاع مع زملائه العثور على حروف للطباعة صغيرة مصنوعة من الكاوتشوك - مما يلعب به الأطفال عادة - ثم اشترى الجماعة كل ما استطاعوا شراءه من ورق الزجاج المصمغ واستخدموا ذلك كله في لصق عبارات مماثلة لتلك التي تقدم ذكرها، من عبارات الدعاوة المضادة، على جدران باريس. وذات مساء، فكرت الجماعة في إنشاء صحيفة سرية. وبعد مضي أربع وعشرين ساعة كان «بول سيمون» يبذل كل جهد لإقناع أحد أصحاب المخازن المعدة لبيع الورق وأدوات الكتابة حتى يبيعه مطبعة من الكاوتشوك ذات حروف أكبر حجما من الحروف التي كانوا يستخدمونها وتمكنهم من طبع أربعة سطور في وقت واحد. وفي مكان سري أمين، وبعيد عن أعين رجال الجستابو، وبعد عمل شاق مضن استمر شهرا بأكمله وكلف أحدهم فقد إحدى عينيه من كثرة الإجهاد، تمكنت الجماعة من إخراج أول أعداد هذه الصحيفة السرية، وكان اسمها «فالمي
Valmy » وهو اسم المعركة التي أحرز فيها الفرنسيون أول انتصاراتهم على البروسيين في عام 1792 في أثناء حروب الثورة الفرنسية المعروفة. وأما الاسم الآخر فكان: «عدو واحد، هو الغاضب!
Un seul ennemi-L’envahisseur » وكانت جملة ما طبع من هذا العدد الأول خمسين نسخة فحسب، ولكن سرعان ما أحدث ظهور هذه الصحيفة أثرا عظيما وضجة هائلة، والسبب في ذلك أن ظهور «فالمي» كان تحديا صريحا لسلطات الاحتلال الألماني، وبرهانا ساطعا على أنه ليس من العسير أن يجد الوطنيون سبيلا للإفصاح عما يشعرون به نحو السادة الألمان من كراهية واستخفاف. هذا على الرغم من عيون الجستابو المنبثة في كل مكان، وعلى الرغم من سيف العقوبة الصارمة المسلط على أعناق كل من تحدثه النفس بمقاومة النظام الجديد.
بيد أن «بول سيمون» لم يلبث أن واجه بضع عقبات، أهمها ناشئ من عدم وجود ما يكفي من حبر الطباعة لإصدار العدد الثاني من صحيفته. ولما كان يعرف حق المعرفة أنه كلما قل عدد المشرفين على إصدار هذه الصحيفة، كان ذلك أعون على كتمان سرها، فضلا عن أنه لم يكن يريد أن يلحق بأصدقائه أي أذى بسبب ما قد يقدمونه لصحيفته من معاوية. فقد قرر أن «يسرق» ما يريد من حبر من مقر القيادة الألمانية العامة نفسه في شارع ريفولي، وكان من المتعذر على أي فرنسي الاقتراب من هذا المكان؛ لأن الألمان منعوا سير الفرنسيين في ميدان الكونكورد وفي الشارع الموصل إلى تمثال جان دارك، فكيف إذن يحقق «بول سيمون» رغبته؟ إن ما فعله «بول سيمون» ذات مساء حتى يدخل إلى مقر القيادة الألمانية العامة، ويأخذ ما يشاء من كميات الحبر اللازمة لمطبعته، ما يزال من الأسرار. ولا شك في أن هذا العمل كان يتطلب من «بول سيمون» شجاعة خارقة! ومهما يكن من شيء استطاع هذا الفرنسي أن يصدر العدد الثاني من صحيفته «فالمي» مطبوعا بمداد ألماني!
واتبع «سيمون» نظاما دقيقا في توزيع صحيفته؛ فقسم الموزعين إلى جماعات تعمل منفصلة، ولا تعرف إحداها شيئا مما تفعله الجماعة الأخرى، زيادة في الحيطة وحرصا على حياة المشرفين على إصدار الصحيفة وعلى حياة موزعيها أنفسهم. وتفنن هؤلاء في ابتكار الطرق التي مكنتهم من توزيع الصحيفة في أماكن لا تخطر على بال إنسان، كما حدث في مقر القيادة الألمانية العامة في شارع «ريفولي» في باريس، عندما عثر الجند الألمان وهم يلبسون خوذاتهم على نسخ مطوية بعناية من صحيفة «فالمي». على أن «بول سيمون» لم يلبث أن وجد في الشابات الباريزيات موزعات من الطراز الأول، يحملن نسخ صحيفته إلى كل مكان يذهبن إليه، حتى صار الجند والضباط الألمان أنفسهم يجدون هذه الصحيفة «المكروهة» مخبأة في جيوبهم، مما سبب لهم الحيرة والارتباك؛ لأن الجستابو ما كان ليدعهم يذهبون بسلام إذا عرف أن «فالمي» قد وجدت طريقا إلى الاستقرار في جيوبهم. وكان من بين هؤلاء الفتيات الجريئات عدد من اللواتي فقدن أزواجهن أو شهدن أخا يختفي وراء جدران مركز قيادة الجستابو العامة في شارع فوش، أو رأين السادة الألمان يسوقون الشبان لإرغامهم على العمل الإجباري في ألمانيا.
وسرعان ما ذاعت شهرة «فالمي» في أرجاء فرنسا، وصار توزيعها غير مقصور على باريس، بل صارت توزع في الأقاليم أيضا. وجد الجستابو من أجل ذلك كله في البحث والتنقيب عن أصحابها ومحرريها وموزعيها عندما بلغ ما يطبعه «بول سيمون» من جريدته حوالي العشرة آلاف نسخة في كل شهر. بيد أنه لم يكن من العسير على رجال الجستابو بما أوتوا من قوة وسلطان وبفضل ما بذلوه من جهود، أن يعثروا بعد مشقة عظيمة على المكان الذي تطبع فيه هذه الجريدة، وعندئذ تعرض أصحابها لخطر داهم. ولكن شاء حسن الحظ أن يبلغهم الخبر في الوقت المناسب، فغادر «سيمون» ورفاقه الوكر قبيل هجوم الجستابو ورجع هؤلاء بخفي حنين، ثم عادت الصحيفة إلى الظهور كعادتها، وبلغ عدد قرائها في أكتوبر من عام 1941 المائة ألف.
ومما تجدر ملاحظته أن «فالمي» لم تحاول معالجة شتى الأمور التي تتناولها بالأسلوب الجدي الذي يتطلب من القارئ إعمال الفكر وكد الذهن، كما أنها امتنعت عن إثارة الموضوعات الجدلية التي قد تعطي للألمان فرصة الرد ومحاولة الإقناع. فقد فطن محرروها إلى أن أمضى سلاح يستخدمونه ضد السادة النازيين إنما هو سلاح التهكم والسخرية والنقد اللاذع الذي يذهب بهيبة سلطات الاحتلال الألمانية، ويحطم ما يكون قد رسخ في أذهان الباريسيين الذين أذهلهم انهيار بلادهم بهذه السرعة الخاطفة، من أن النصر لا يمكن أن يفلت من قبضة الآلهة النازيين، وأن أحدا لن يجرؤ على نقدهم أو مقاومتهم. وفي الواقع ظلت«فالمي» تقض مضاجع الألمان مدة طويلة، وصار لا يهدأ لهم بال حتى يقبضوا على أصحابها وموزيعها، ومن ثم أحكم رجال الجستابو رقابتهم، وضاعفوا نشاطهم حتى استطاعوا في نهاية الأمر أن يعثروا على مكانها الجديد. ولكن صاحبها «بول سيمون» تمكن في اللحظة الأخيرة من الإفلات من قبضتهم، ونجا بنفسه عبر الحدود، قبل أن يطبق عليه الجستابو شبكتهم الحديدية، ثم اتخذ مقره في لندن يعمل مع جماعة الفرنسيين الأحرار في إنجلترا.
غير أن فرار بول سيمون لم يكن معناه نجاح النازيين في إخماد حركة الصحف السرية في فرنسا. ومع أن هؤلاء بدءوا يتشددون في مراقبة جميع العناصر المعادية في هذه البلاد منذ شهر ديسمبر1941، فإن الصحف السرية والمنشورات والرسائل الصغيرة وما إليها سرعان ما انتشرت انتشارا كبيرا حتى بلغ عدد النشرات الإخبارية السرية في تلك الآونة حوالي العشرين. ولم تكن «فالمي» الصحيفة الوحيدة التي صدرت منذ أيام الاحتلال الأولى؛ لأن صدورها ونجاة صاحبها سرعان ما أفضيا إلى ظهور صحيفتين أخريين: هما «بنتاجرول
» وهو اسم البطل الذي أوجده خيال «رابليه» أحد أعلام الأدب الفرنسي القدماء - و«ريزيستانس
Resistance » - أي المقاومة، وقد تبع ظهور هاتين الصحيفتين، إصدار صحف سرية أخرى، منها: «فرنسا الحرة
La France Libre » «صوت باريس
La Voix de Paris »، و«شعب فرنسا
»، و«النضال
Combat »، وغير ذلك.
ومما هو جدير بالذكر أن الأطباء في فرنسا «قبل عام 1943» أصدروا صحيفة علمية طبية، ظلت تعنى بجمع الحقائق التي تساعد على معرفة مبلغ الأثر السيئ الذي أحدثه الاحتلال الألماني وتطبيق النظام الجديد النازي في صحة الأهلين. وقد وصلت هذه الصحيفة السرية إلى نتائج معينة في هذا الموضوع: أهمها؛ أن عدة أمراض ناجمة عن سوء التغذية وقلتها مثل «الأنيميا وضعف الأعصاب وهكذا» صارت تفتك بالأهلين حتى بات متوسط الوزن الذي يفقده الشخص العادي ثلاثة كيلو جرامات في الشهر الواحد.
ولم يكن الوطنيون وحدهم هم الذين أصدروا هذه الصحف السرية، بل اشترك معهم في ذلك أيضا الشيوعيون، وكان لهؤلاء قبل الحرب الأخيرة صحيفة تدعى «الإنسانية
L’Humanité »، أغلقها النازيون في أيام الاحتلال الأولى، ولكنه لم تمض فترة صغيرة حتى عادت الجريدة إلى الظهور وصارت في عداد الصحف السرية ذات الخطر، وتولى تحريرها وإصدارها أحد الراديكاليين المعروفين في باريس وهو «جبرائيل بري
Gabriel Peri ». وكان «بري» هذا عندما بدأ يصدر صحيفته السرية رجلا مريضا بالسل، ولا يرجو شفاء من علته الصدرية؛ ولذلك انكب على عمله الجديد بكل همة مضحيا في سبيل مقاومة الاحتلال الألماني بكل ما يملك من مال وصحة، وظلت التبرعات تنهال على صحيفته من كل جانب، لا سيما وأنها صارت لا تقنع في عهدها الجديد بمجرد تأييد قضية الشيوعية، بل أخذت على عاتقها الدفاع عن مصلحة الوطن قبل أي اعتبار آخر، وهذا بترويج الدعاوة المضادة ضد السادة النازيين والعمل على تقويض أركان النظام الجديد في فرنسا، ولكن أيام «بري» كانت معدودة؛ فقد قبض عليه الجستابو، وأودع السجن مدة ساءت في أثنائها صحته كثيرا، وكاد المرض يفتك به لولا أن قرر الألمان إعدامه رميا بالرصاص، وقابل «بري» الموت برباطة جأش وعدم مبالاة وأخذ يردد أغنية من الأغنيات المفضلة لديه، وعبثا حاول جلادوه إرغامه على إبطال التغني بها، بل ارتفع صوته قليلا قبل إطلاق الرصاص عليه، وأثار عمل «بري» هذا إعجابا لا حد له، وعرفه الفرنسيون من ذلك الحين باسم «الرجل الذي مات وهو يغني»، وفي اليوم التالي زار ألوف من الباريسيين وغيرهم المكان الذي أعدم فيه، والذي كان لا يزال ملطخا بدمائه، ووضعوا عليه أكاليل الزهر.
بيد أن متاعب النازيين لم تنقض بوفاة «بري»؛ فقد ظلت تحمل راية المقاومة في فرنسا صحف جريئة، منها جريدة «التحرير أو الخلاص
Liberation »، وجريدة «بنتاجرول
»، أما جريدة «التحرير» السرية فقد عنيت بنشر أنباء محطة الإذاعة البريطانية
B. B. C.
وأسماء الذين أعدمهم الألمان ولقوا حتفهم على أيدي رجال الجستابو. هذا إلى أنها صارت تعني أيضا بتحذير الأهلين حتى لا يقعوا في فخاخ رجال الشرطة وشباكهم، وكانت تنشر كذلك أسماء الفرنسيين الذين قبلوا التعاون مع السادة النازيين في بلادهم، وعظم ذيوع هذه الجريدة حتى صار الضباط الفرنسيون الأسرى في المعتقلات الألمانية لايجدون صعوبة في الحصول على أعداد منها. وكان من بين المشتركين في تحريرها وإصدارها أحد أعضاء البرلمان السابقين عن مدينة ليون، وهو المسيو «أندريه فيليب
André Philip » أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة ليون، وقد عمل في أثناء الحرب كضابط اتصال مع قوات الحملة الإنجليزية في فرنسا، ثم أعيد إلى عمله في الجامعة بعد انهيار فرنسا، ثم استطاع بعد ذلك الفرار إلى إنجلترا. وقبل أن يغادر «أندريه فيليب» فرنسا كانت جريدة «التحرير» توزع خمسين ألف نسخة.
وكان أهم ما عنيت به هذه الجريدة تنظيم المظاهرات، وبث روح المقاومة السلبية في ليون وفي بقية فرنسا لتعطيل سياسة النازيين الأولى والتي أرادوا بها كسب مودة الفرنسيين وصداقتهم في المنطقة المحتلة. وزيادة على ذلك، اضطلعت هذه الجريدة بمهمة توحيد صفوف الفرنسيين حتى لاتظل المقاومة مقصورة على طبقة العمال وحدها؛ لأنه كان ينبغي أن ينضم أهل الطبقة المتوسطة أيضا إلى صفوفها، وكان هؤلاء ما يزالون يعقدون على الماريشال «بيتان
» الآمال في انقاذ فرنسا. فلما استقدم «بيتان» إلى «فيشي
Vichy » المسيو «ببير لافال
Laval » وأعاد استخدامه: انتهزت الجريدة هذه الفرصة لإثارة حملة شعواء ضد حكومة فيشي ونظامها، ولم يكن ذلك في الحقيقة أمرا عسيرا؛ لأن انضمام «لافال» إلى «بيتان» لم يلبث أن نفر القلوب في فرنسا المحتلة وقتذاك من الماريشال الطاعن في السن، وانفض من حوله الأنصار الذين عقدوا على زعامته الآمال العريضة، واستطاعت جريدة «التحرير» أن تكتب عقب هذا الحادث ما معناه: «إن الاختلاف الحقيقي بين فرنسا المحتلة وغير المحتلة، هو أن ألمانيا في فرنسا المحتلة هي العدو الأول، و«فيشي» هي العدو الثاني، أما في فرنسا غير المحتلة فإن «فيشي» هي العدو الأول، وألمانيا هي العدو الثاني!»
وتعتبر «بنتاجرول
» من أقدم الصحف السرية في فرنسا، إن لم تكن أقدمها جميعا. وقبل أن يستطيع «بول سيمون» الفرار من باريس، كان الألمان قد قبضوا على محرر «بنتاجرول» وأعدموه. وقد أسدت «بنتاجرول» خدمات جليلة في الفترة التي قدر لها الظهور في أثنائها، جاء في عددها الأول ما معناه: «إن هذه الصحيفة مخصصة لنشر الأنباء ولا يمكن أن يذهب نضالها ضد سلطات الاحتلال سدى، وغرضها نشر الأخبار التي يذيعها الراديو الإنجليزي، حتى يقف عليها كل من يتعذر عليهم الإصغاء إلى نشرة الأخبار البريطانية والذين يتألمون بسبب عجزهم هذا. إننا نرجو رجاء حارا أن يكون النصر من نصيب الإنجليز؛ لأن هذا من شأنه أن يخلص فرنسا ويرد إليها عددا من أقاليمها المفقودة ومستعمراتها، ثم يحقق لها النجاة من العبودية الاقتصادية والتضخم النقدي. وماينبغي أن ننسى أن إنجلترا قد أعلنت عن أغراضها الحربية التي تتضمن إعادة كيان الأراضي الفرنسية برمتها سليمة، وهذا هو السبب الذي يجعلنا نرغب في انتصارها، ولو أن هذا لا يعني بالضرورة إذلال الشعب الألماني ...» ولعل أهم ما يسترعي النظر في هذه الجريدة أنها أخذت على عاتقها مقاومة الدعاية النازية عند اشتداد إغارات الطائرات البريطانية على الموانئ الفرنسية، فكان مما قالته: «وإذا سلمنا بأن الإنجليز إنما يحاربون من أجلنا كما يحاربون من أجل مصلحتهم - وهذا هو الوضع الصحيح وما يحدث فعلا - فإنه يجب علينا ألا نلومهم؛ لأنهم إنما يفعلون ما يفعله جنودنا أنفسهم عندما ينسف هؤلاء الجسور أو يهدمون القلاع والحصون ...» ومع هذا فقد حرصت الجريدة على أن توضح لقارئيها أنها ليست بالصحيفة الإنجليزية، بل على العكس من ذلك، فإنه من الواجب على كل قارئ أن يساعد على وصول هذه الصحيفة إلى المواطنين الأحرار في بريطانيا العظمى، إذا استطاع إلى ذلك سبيلا؛ إذ ينبغي أن يعرف أصدقاؤنا وحلفاؤنا في إنجلترا، أن الأذى الذي يحاول أعداؤنا أن يلحقوه بهم بطريق النشر والكتابة في صحفهم لم يفد شيئا في تحطيم عاطفة الصداقة التي تشعر بها نحوهم الجمهرة العظمى من الشعب الفرنسي. وفي عدد من أعداد هذه الصحيفة جاء التعليق التالي: «إن هجوم الربيع 1941 الذي قام به هتلر، أفضى إلى إرسال الجيش الألماني إلى بلغراد، ولكن بلغراد هذه إنما هي عاصمة أوروبية وليست بكل تأكيد عاصمة بريطانيا العظمى! وهكذا يتعطل سير النظام الجديد مرة أخرى، والواقع أن من المستحسن كثيرا أن يذهب الألمان إلى أثينا وإلى بلغراد، ولا ينزلون في لندن!» وكان هذا تهكما واضحا.
والحقيقة أن «بنتاجرول» كغيرها من الصحف السرية كانت تعتمد على التهكم والسخر بالسادة النازيين فيما تكتب أكثر من اعتمادها على أي شيء آخر: الأمر الذي أثار سخط سلطات الاحتلال الألماني، وأوقد حفيظة النازيين ضد هذه الجريدة. وقبل إعدام صاحبها في نوفمبر 1941 بلغ عدد النسخ التي توزعها «بنتاجرول» عشرة آلاف نسخة!
وإلى جانب هذه الصحف السرية كان يوزع أيضا أنصار الدعاوة المضادة عددا من الكتب الصغيرة التي يسهل حملها في الجيب أو في حقيبة اليد الصغيرة. ومن أشهرها، كتيب انتشر انتشارا كبيرا في فرنسا المحتلة عنوانه «نصائح للأهلين في الأرض المحتلة
Conseils á L’Occupé »، وهو كتيب يقع في ست عشرة صفحة، وبلغ عدد ما وزع منه نيفا وسبعة آلاف نسخة. وهو يتضمن إرشادات فيما ينبغي أن يفعله كل رجل وامرأة في المسلك الواجب اتباعه حيال الألمان في بلادهم. وكلها إرشادات في الحقيقة لا غنى عنها من أجل إحكام أساليب المقاومة السلبية: وأهمها؛ الامتناع عن مخالطة الفاتحين، والتظاهر بجهل لغتهم والامتناع عن ارتياد المقاهي التي يؤمونها، ومقاطعة أصحاب المحلات العامة الذين يعلنون عن إمكان التخاطب بالألمانية في محالهم، وزيادة على ذلك فإن هذا الكتيب صار يحذر الأهلين من الانخداع بما تذيعه الدعاية النازية والاستماع لأكاذيب الدكتور جوبلز وأعوانه.
وفي يولية 1942 كان قد بلغ عدد الصحف السرية في فرنسا الثلاثين، هذا عدا المنشورات والكتب الصغيرة وما إليها، فقد أربت على الستين، وفي تلك الآونة كانت جميع الدلائل تدل على أن هذا العدد آخذ في الزيادة المستمرة! ولعل أبرز نتائج هذه الدعاية الخفية زوال الفروق السياسية التي لعبت فيما مضى دورا خطيرا في تفكك فرنسا وانهيارها، فصار الأهلون جميعا يربطهم الآن رباط واحد، هو ضرورة مجابهة الخطر المحدق بهم من جراء وقوع الوطن تحت أقدام النازيين، وواجب التطلع إلى مستقبل جديد يحفظ على فرنسا وحدتها ويعيد إليها إمبراطوريتها ومجدها، ويكتب لها الخلاص والتحرر من ربقة الاستعباد الألماني، لا في هذا الجيل وحده، بل وخلال الأجيال المقبلة كذلك. •••
ولم تكن فرنسا وحدها موطن هذه الصحف السرية؛ فقد كان من نتيجة الاحتلال الألماني وما تبعه من التضييق على حريات الشعوب وخنقها، وإذلال الأهلين وسلب اقتصادهم القومي، ثم تسخيرهم في العمل لدعم أركان النظام النازي الجديد؛ أن صار أهل البلدان المقهورة يجدون في الصحف السرية وسيلة من الوسائل التي تمكنهم من الإفصاح عن شعورهم وإحياء الآمال في صدور مواطينهم، وجمع الرأي والكلمة على ضرورة مقاومة الطغيان النازي. وكان البلجيكيون من بين هذه الشعوب المغلوبة على أمرها والتي ظلت متشبثة بحقها في حياة حرة طليقة.
وتبدأ قصة الصحف السرية في بلجيكا بحادث جدد في أذهان البلجيكيين ذكريات الصراع الدامي القديم عندما وطئ الغزاة الألمان أرض الوطن بأقدامهم في عهد الاحتلال الأول في أثناء الحرب العالمية الأولى بين عامي 1915 و1918. هذا الحادث هو مفاجأة أهل بروكسل. في يوم 15 أغسطس 1940 بظهور أول أعداد صحيفة «بلجيكا الحرة
La Libre Belgique »، ولم يكن هذا العنوان جديدا؛ لأنه في عام 1940 كان لا يزال كثيرون من البلجيكيين يذكرون أنه في يوم أول فبراير 1915 طلعت إلى عالم الوجود، وتحت أنوف رجال الاحتلال القيصري السابق، جريدة المقاومة وقتذاك «بلجيكا الحرة»!
وكان ظهور هذه الصحيفة السرية في عام 1940، نتيجة لأمر أصدره الألمان في مايو من العام نفسه، منعت بمقتضاه أية صحيفة بلجيكية من الظهور قبل أن ينال أصحابها تصريحا بذلك من سلطات الاحتلال الألماني العسكرية، وكذلك منع أي طابع من استخدام مطبعته في أي غرض من الأغراض قبل أن ينال تصريحا بذلك من هذه السلطات ذاتها. وقد تبع هذا الأمر، استقالة كثيرين من أصحاب الصحف ومحرريها ومراسليها، ولكن النازيين ما لبثوا أن تولوا بأنفسهم جلب المحررين والطابعين لإصدار الصحف اليومية الكبيرة وغيرها كعادتها، وكأن شيئا لم يحدث بل إن السلطات الألمانية لم تتورع عن صب جام غضبها على أصحاب الصحف الذين رفضوا بأي حال من الأحوال، أن يكونوا ضالعين معهم فيما أرادوه. مثال ذلك ما حدث لصاحب جريدة أنتورب المشهورة
Gazat von Antwerp ، يدعى «دي هاسك
De Hasque »؛ إذ ألقى النازيون القبض عليه وأودعوه إحدى معسكرات الاعتقال، حيث توفي بعد زمن قصير. ومثال آخر، ما حدث لمدير وكالة بلجا
Belga Agancy
المعروفة ويدعى «بطرس
Beetres ». وفي عام 1943 كان كثيرون من أصحاب الصحف البلجيكية ومحرريها ما يزالون في غياهب السجون، منهم «ديمارتو
Demarteau » رئيس اتحاد الصحافة البلجيكية و«أوش
Ochs » صاحب الرسوم الهزلية المشهورة في جريدة «بوركواباه
»، وغيرها، وهذا عدا مئات الصحفيين الذين آثروا العيش في فرنسا غير المحتلة في تلك السنوات الأولى، ثم في غيرها من البلدان الحرة.
بيد أنه كان من الطبيعي - وقد تخلى هؤلاء الصحفيون عن أعمالهم - أن يتولى جماعة من الوطنيين الشجعان هذه المهمة، مما أدى إلى ظهور صحيفة : «بلجيكا الحرة» التي أعلنت أن عنوانها التلغرافي هو «الحاكم الألماني العام في بروكسل»، وأن ناشرها هو «بيتربان
» - وهو تمثال أقيم في ميدان بروكسل بعد الحرب العالمية الأولى - وأنه لما كانت جميع الأعمال معطلة من جراء الاحتلال الألماني، فإنه لا مسوغ بتاتا لنشر أية إعلانات في هذه الجريدة! وفي يولية 1942 كان قد بلغ عدد ما يوزع منها أربعين ألفا، وفشلت جميع جهود الجستابو في العثور على أصحابها ومحرريها.
وإلى جانب «بلجيكا الحرة» ظهرت ثلاثون صحيفة سرية أخرى توزع في أرجاء بلجيكا، منها «الراية الحمراء
De Roode Vaaen »، و«القناص
De vrije Schuitter »، «ووطننا
Dus Vederland »، وكلها صحف فلمنكية، هذا عن الصحف الوالوانية «الفرنسية» مثل: «تحت الحذاء
Sous la Botte »، «البربنسون
Barbançonne »، «النيران
Feux de Barrage »، وغيرها، ثم الصحف الاشتراكية: «الأمل
L’Eespoir »، «العصر الحديث
Le Nouveau Temps » و«الراية البيضاء
Le Drapeau Rouge »، «الوضوح
Clarté »، «الشباب الجديد
Le Jeunesse Nouvelle ». وكذلك صار للنساء صحيفة سرية هي، «صوت المرأة
La Voix des Femmes » هذا عن صحف أخرى مثل: «الفرقة السوداء
La Legion Noire »، والصحف الهزلية مثل:
Le Coup de queue du Doudon Montois.
وتدل المقالات التي كانت تنشرها هذه الصحف السرية على أن محرريها، من نخبة القوم المثقفين وأفاضلهم، وأن الغرض الذي كانت تتوخاه هذه الصحف هو كشف القناع عن أعمال السلب والنهب التي يرتكبها السادة الألمان تحت ستار دعم أركان النظام الجديد في أوروبا، كما كانت ترمي إلى دحض مفتريات الدعاية النازية، ثم تعزيز روح المقاومة وحض الأهلين على مناصبة النازيين العداء بكل ما يملكون من قوة، وإظهار شخصيات الخونة والضالعين مع العدو والمتعاونين معه، هذا إلى الإفاضة في الثناء على رجال سلاح الطيران البريطاني، ثم نقل الأخبار المذاعة من محطة لندن المعروفة، وعلى وجه الخصوص أنباء العمليات العسكرية وأخبار القوات البلجيكية الحرة المحاربة إلى جانب البريطانيين وحلفائهم في ميادين القتال. ومما يجدر ذكره أن جميع هذه الصحف كانت تؤيد تأييدا كاملا موقف الملك ليوبولد البلجيكي الذي كان يعتبر نفسه سجينا في أيدي السلطات العسكرية الألمانية ويرفض الإذعان للنازيين، أو أن تكون له صلة مباشرة بهم. وزيادة على ذلك برعت هذه الصحف البلجيكية السرية في أسلوب التهكم اللاذع للنيل من هيبة الجندي الألماني، وهذا بفضل ما كانت تذيعه من أقاصيص ونوادر للسخر بهم. وإلى هذه الصحف يرجع الفضل أيضا في تدبير حركات المقاومة لتعطيل أداة الحرب الألمانية، من ذلك أن الألمان الذين كان يزعجهم نقص كميات الورق الموجودة أرادوا أن يمتنع البلجيكيون عن إتلاف الورق القديم المهمل، بدعوى أن صناعة الورق الجديد من هذه الكمية المهملة من شأنها أن تفضي إلى استخدام حوالي 62 ألف بلجيكي، فانبرت الصحف السرية عقب ذلك تطلب إلى الأهلين إتلاف الورق المهمل القديم؛ لأن الألمان، كما قالت الصحف: «إنما يحتاجون إلى هذا الورق لخدمة أغراض سيئة ليست في مصلحة الوطنيين في شيء». ثم حدث مثل هذا عندما شرع النازيون يجمعون النيكل، فنصحت الصحف السرية الأهلين «أن يخفوا قطع النقد المصنوعة من النيكل لديهم؛ لأنها سوف تنفعهم - ولا شك - في يوم عصيب!» فكانت النتيجة أن النازيين لم يستطيعوا سوى جمع ما يقرب من 6٪ فقط من النيكل الموجود بالبلاد، وكانت تقدر قيمته بنحو مليونين من الفرنكات. أضف إلى ذلك اتساع أعمال التخريب والتدمير في بلجيكا بفضل تشجيع الصحف السرية، مثل إشعال الحرائق في المصانع وانتزاع قضبان السكك الحديدية وتعطيل محطات الإنارة وتوليد الكهرباء، وانفجار القذائف دائما بين الألمان.
ولذا أوقع النازيون عقوبات قاسية على كل من يضبط متلبسا بجريمة قراءة الصحف السرية أو توزيعها أو يشترك في تحريرها أو إدارة أعمالها. وكانت هذه العقوبات تتراوح بين السجن بضعة شهور، والسجن المؤبد، والحبس الانفرادي، والإعدام. مثال ذلك ما حدث في «لييج
Liège »؛ إذ أصدرت المحكمة العسكرية الألمانية في شهر يولية 1941 أحكاما صارمة على عدد من الناس اتهموا بالاشتراك في إدارة وتحرير وتوزيع صحف غير مصرح بصدورها، أو ما حدث في فلندرا الشرقية إذ حكم على اثنين بالإعدام؛ لأنهما كانا يوزعان بعض هذه الصحف وبعض النشرات التي تضمنت أنباء مذاعة من لندن، كما سجن كثيرات من الفتيات المتهمات بجريمة توزيع صحف غير قانونية! ومع هذا فإن الصحف السرية كانت منتشرة في بلجيكا. وكان يصدر من «بلجيكا الحرة
La Libre Belgique » وحدها ثلاث طبعات: إحداها في بروكسل، والثانية في لييج، والثالثة في أنتورب. •••
وفي هولندة ظهرت الصحف السرية عقب الاحتلال الألماني مباشرة. بيد أن الحظ لم يكن من نصيب الهولنديين من أنصار الدعاوة المضادة؛ إذ استطاع النازيون في مبدأ الأمر أن يقفوا على حقيقة أمر الكثيرين ممن اشتركوا في تحرير هذه الصحف أو توزيعها؛ فألقوا القبض على عدد كبير من الرجال والنساء، كان نصيب كثيرين منهم الإعدام أو الحياة البائسة في معسكرات الاعتقال، ومع ذلك فقد عجز الألمان عن إخماد هذه الدعاية الخفية. وفي طليعة الصحف السرية في هولندة جريدة «القول الحق
Het Parool »، وبلغ مقدار ما يوزع منها حوالي العشرين ألف نسخة يقرؤها ما يقرب من المائة ألف قارئ، وكان شعار هذه الجريدة قول النشيد الوطني الهولندي: «سوف أبقى أمينا لوطني حتى أموت!» وكانت هذه الجريدة تقاوم النظام الجديد، فتبين للأهلين ما ينطوي عليه تطبيق هذا النظام من أعمال السلب والنهب الاقتصادي، وتقف بالمرصاد لكل فرد من أعوان «مسيرت
Mussert » كويسلنج هولندة المعروف؛ تكشف عن أعمالهم، وتحذر الأهلين من تصديق ادعاءاتهم، وتزيح الستار عن كل خيانة جديدة يرتكبونها. وكان موزعو هذه الجريدة يتفننون في ابتكار الطرق التي تضمن لجريدتهم الوصول إلى أيدي الأهلين في كل مكان تقريبا، كما كان أصحابها ينتهزون الفرص دائما لزيادة ما يوزع منها. وعند الاحتفال بعيد ميلاد الملكة ولهلمينا في 31 أغسطس سنة 1942 طبع أصحابها رسائل صغيرة ذات لون برتقالي، ووزعوا منها آلاف النسخ في أمستردام وحدها، وكانت تحمل عبارة: «أورنج - وهو اسم البيت المالك الهولندي - سوف ينتصر!»
وهناك غير هذه الجريدة عدة صحف سرية أخرى، منها: «الأرض النرلندية الحرة
Vrij Nederland »، و«شحاذ والبحر!
De Geuzen » و«من الصحراء
Uit de Woestijn » و«شعبنا
Ons Volk » وغير ذلك. والسبب في تعدد هذه الصحف السرية وتنوعها، أن كل جماعة من الأهلين، كالكاثوليك، والعمال، وهلم جرا كانت تمتلك صحيفتها الخاصة بها. •••
ومع أن لكسمبورج تبدو صغيرة في مساحتها بالقياس إلى مجموعة الدول المحيطة بها والتي استولى النازيون عليها في حربهم الخاطفة، إلا أن أهلها لم يكونوا أقل حماسة في مقاومة الاحتلال الألماني من غيرهم من الشعوب المقهورة. وكانت تعترض النازيين في هذا الإقليم الصغير صعوبات كبيرة جعلت من المتعذر عليهم أن يخمدوا صحافتها السرية. فقد استطاعت المقاومة الخفية في هذه الدويلة الصغيرة إنشاء «اتحاد وطني» غرضه الأول جمع كلمة الوطنيين ضد الاحتلال الألماني، وكان ينضم إلى هذا الاتحاد حوالي 98٪ من أهل لكسمبورج. ثم ساعد صغر مساحة الإقليم على إحكام الصلة بين أعضاء «الاتحاد»، وتنظيم جهود أعضائه على نحو جعل منه في نطاق الدولة القديمة دولة أخرى لها قوانينها وصحفها السرية الخاصة بها.
وكان عدد الصحف السرية التي يملكها هذا الاتحاد ثلاثة، وأهمها: صحيفة
De Freie letzeburger
جريدة المعارضة الوطنية، وكانت تعلن عن أخبارها أنها مستقاة من لندن وموسكو ونيويورك، التي تتصل بها جميعا عن طريق الراديو. وقد حاول الألمان منع وصول الأخبار إليها بقطع التيار الكهربائي في أوقات الإذاعة البريطانية من لندن، ولكن هذه المحاولة أخفقت؛ لأن الجريدة سرعان ما أحضرت أجهزة للراديو من ذوات البطاريات، كما أنه كان من الميسور على محرريها الانتقال إلى الأرض الفرنسية المجاورة والاستماع منها إلى الإذاعة الأجنبية. أما أقطاب هذا «الاتحاد الوطني» فقد مات ثلاثة منهم، أعدم الجستابو اثنين وانتحر الثالث بعد أن قتل برصاص مسدسه ثلاثة من الجستابو الذين هاجموه للقبض عليه، ثم استطاع رابع هو «جون فرسل
John Vercel » الفرار من لندن. •••
وفي «تشيكوسلوفاكيا» عرفت الصحف السرية، قبل أن يجتاح الألمان هذه البلاد بشهرين على الأقل، أي منذ أن تلبد الأفق السياسي في أوروبا بالغيوم، وقلق التشيك على مصير وطنهم، فتألفت من بينهم الجمعيات الوطنية التي أزعجها مسلك الدكتاتوريين النازي والفاشي، وصار أعضاؤها يفكرون في طرق الخلاص من الأخطار التي توقعوا إحداقها بهم، ومن هؤلاء أنصار الديمقراطية الذين ظلت ثقتهم كاملة بزعيم هذه الدولة الحديثة، الدكتور بنيش
Benés ، وكان من بين هؤلاء الديمقراطيين رجل قدر له أن يلعب دورا خطيرا في تاريخ الدعاية الخفية في تشيكوسلوفاكيا هو «يوسف سكالدا
Joseph Skalda »، وكان «سكالدا» من الوطنيين المتحمسين الذين جذبوا إليهم القلوب والتف حولهم الأنصار، حر الرأي صادق العزيمة، ظل في أثناء الأزمة التشيكوسلوفاكية المعروفة «سبتمبر 1938-مارس 1939» يتردد على المنتديات والمقاهي وكانت في براج، وفي أكثر بلدان البلقان بمثابة «الصالونات» القديمة التي كان يقصدها أصحاب الفكر والرأي، يتباحثون ويتناقشون في شتى الموضوعات الأدبية والاجتماعية والسياسية.
وحدث ذات مساء أن اجتمع بيوسف سكالدا، في مقهى من هذه المقاهي، رجل من الوطنيين، لم تكن له به أية معرفة سابقة، ودار الحديث بينهما في هذا الاجتماع بشأن إصدار صحيفة سرية، واختار الاثنان لهذه الجريدة الجديدة اسم
V-Boj
ومعناها: «هيا إلى السلاح!» ومنذ وافق «سكالدا» على ذلك، انكب على عمله الجديد بهمة لا تعرف الكلال حتى استطاع أن يخرج العدد الأول من صحيفته السرية قبل نشوب الحرب، واحتلال الألمان البلاد لمدة شهرين، وكان هذا العدد يتألف من عشرين صفحة، نشرت فيها البحوث التي تروج لآراء أصحابها الديمقراطية، أكثر من عنايتها بنشر الأنباء، ثم ذاعت ذيوعا كبيرا حتى صار لها وكلاء يتولون توزيعها في كل مدينة وقرية تقريبا. ومع هذا لم تتعرض الحكومة القائمة الوطنية وقتذاك لهذه الجريدة بشيء، وصار الناس يتداولونها علنا. ولذلك لم يكد الألمان يحتلون تشيكوسلوفاكيا ويضعون بوهيميا ومورافيا تحت حماية الريخ الثالث حتى نقلت
V-Boj
نشاطها من ميدان الحياة العامة إلى ميدان العمل في طي الخفاء، وساعدت دقة تنظيمها السابق على بقائها واستمرار ذيوعها.
وتدل المقالات التي كانت تنشرها هذه ومع أنه كان من المنتظر أن يفضي مجيء الألمان، ورجال الجستابو، إلى مقاومة الصحف السرية والعمل على إخمادها، فإن السادة الجدد لم يعنوا في بادئ الأمر بمكافحة أصحابها، وظل الحال على ذلك مدة سبعة شهور بتمامها بعد الغزو، واستطاع «سكالدا» ورفاقه - وكان عددهم جميعا عشرة - أن يصدروا عدد
V-Boj
الأول في عهد الاحتلال أو الحماية الألمانية. وفي هذه المرة كان عدد صفحات الجريدة أربعة مزدانة برسوم الأسلحة الهوسية القديمة وصورة أسد بوهيميا الأبيض، وقد تضمن هذا العدد الأول مقالا افتتاحيا يحض التشيك على التمسك بأهداب الأمل والرجاء، وعدم اليأس، ورفض السيطرة الألمانية؛ إذ إنه مهما أصدر النازيون من أوامر وتعليمات، فإنهم لن يستطيعوا التحكم في أفكار الناس، هذا إلى أنه كانت توجد قوات نشيطة في البلدان الأخرى - وعلى وجه الخصوص في بريطانيا - من المنتظر أن تمكن هذه الأفكار من الظهور حرة طليقة.
ومع هذا، فإنه لم يلبث أن حدث في الشهر الحادي عشر، ما دل على أن السلطات الألمانية قد أخذت تهتم بأمر هذه الجريدة، وشرع الجستابو يبحث عن أصحابها ومحرريها. وإزاء هذه اليقظة الجديدة اضطر «سكالدا» ورفاقه إلى تغيير مقرهم من وقت لآخر، وتسلح كل فرد منهم للدفاع عن نفسه عند الحاجة. والواقع أن الخطر عليهم كان عظيما في تلك الآونة؛ لأن الجريدة كانت قد نمت نموا كبيرا، وزاد مقدار ما يوزع منها، واشترك كثيرون في توزيعها ومن شأن ذلك كله أن يسهل على الجستابو معرفة مقر الصحيفة أو العثور على أحد هؤلاء الموزعين، ثم إرغامه بعد تعذيبه على إفشاء سر الجماعة. على أنه بالرغم من هذه الأخطار ظلت
V-Boj
تظهر بانتظام في الفترة التالية، ثم صارت تنهال عليها البحوث والمقالات من كل جانب، لا يرسلها محرروها بالبريد، بل يرسلونها بطرق أخرى منوعة زيادة في الحيطة والتكتم. وفي هذه المقالات والبحوث وجد «سكالدا» ومعاونوه مادة طيبة للنشر، ولو أنهم حرصوا على نشر الأنباء المذاعة من محطة الإذاعة البريطانية
B. B. C. . هذا إلى أن الجريدة صارت تنشر بعض الصور الهزلية وعددا من الصور الشمسية، حتى غدت
V-Boj
صحيفة بالمعنى الصحيح، ولو أنها لم تصل إلى درجة الكمال والإتقان السابقة قبل العهد الألماني.
وكان أول ما قامت به هذه الصحيفة من أعمال المقاومة السلبية أن حذرت الوطنيين الذين أرادوا في يوم 28 أكتوبر من عام 1939 الاحتفال بذكرى اليوم الذي ظفرت فيه دولة تشيكوسلوفاكيا الحديثة باستقلالها منذ عشرين عاما من نوايا النازيين الذين قرروا إراقة دماء الوطنيين المحتفلين بهذا العيد، فنصحت الجريدة بدلا من إحياء هذه الذكرى في مواكب ومظاهرات، بأن يلزم التشيك منازلهم حتى يتركوا شوارع براج خالية يتجول فيها السادة الألمان وحدهم، ثم اقترحت إلى جانب هذا أن يحتفل الوطنيون بعيدهم القومي، بحمل شارة صغيرة ذات ثلاثة ألوان - شارة الدولة الحديثة: الأزرق والأبيض والأحمر - ونجحت دعوة
V-Boj
نجاحا عظيما. ولكن لسوء الحظ لم يلبث هذا النجاح أن كلف الوطنيين ثمنا غاليا، فقد حدث عندما بزغت شمس يوم 28 أكتوبر 1939، وظهرت براج يخيم عليها السكون من كل جانب كأنه لم يكن بها قاطن، أن قرر «كارل هرمان فرانك» وزير الحماية الألماني أن يخرج مع أعوانه وفي عدد من قواته النازية ليتجول في أنحاء المدينة؛ عله يعثر ببعض عاثري الحظ الذين اقتضت أعمالهم أن يغادروا منازلهم في هذا اليوم المشئوم، أو عله يستطيع أن يحمل الخراب والدمار إلى بيوت الأهلين المسالمين؛ ولذلك ركب «فرانك» مع جماعته السيارات، وقصدوا جميعا إلى أحد الأحياء الأثرية القديمة في براج «طريق الفلكيين»، فخرج لاستقبالهم يهودي هرم ظن أنهم من السائحين الزائرين الذين يقصدون مشاهدة معالم هذا الحي الأثري، فكان نصيبه الموت. ثم قصد «فرانك» وأعوانه بعد ذلك أحد الميادين الكبيرة في قلب المدينة، وهناك عثروا ببعض المارة فألقوا عليهم القذائف اليدوية، وما أن سمع النازيون صوت هذه المفرقعات حتى تدفقوا من أماكنهم وثكناتهم، وامتلأت بهم الشوارع، واستطاعوا أن يخرجوا اليهود من بيوتهم أو من مخابئهم، وقتلوا منهم سبعة عشر شخصا، ثم قاد الجستابو 36 شخصا آخر أذاقوهم العذاب. وبذلك استطاع النازيون أن يسيلوا الدماء في يوم تشيكوسلوفاكيا الوطني! وكان لهذه المأساة آثار خطيرة؛ إذ إن الأهلين - وقد ذاقوا الأمرين من عنت السلطات الألمانية، وإصرارها على سفك دمائهم - لم يلبثوا أن قرروا بدورهم اتباع أساليب المقاومة الإيجابية المعروفة. ومن ذلك الحين لم تذق «براج» طعم الهدوء يوما واحدا، وقضي من ثم على كل أمل في إمكان التعاون بين التشيك وسلطات الحماية الألمانية.
بيد أن هذا لم يكن كل ما نجم من شرور، فقد أفضى إصرار الأهلين في الأيام التالية على العمل باقتراح
V-Boj
وحمل الشارة التي تقدم ذكرها، إلى إثارة سخط النازيين عليهم، حتى إن هؤلاء كثيرا ما كانوا يوقفون حامليها في الطريق، من أجل أن ينتزعوا هذه الشارة عنوة، ولما أعيتهم الحيل، صاروا ينهالون على أصحابها باللكم والضرب، ثم لجئوا في آخر الأمر إلى إطلاق الرصاص على كل شخص جرؤ على حمل هذه الشارة في عروته!
ولما كانت جريدة
V-Boj
هي المسئولة عن ظهور هذا النوع من المقاومة السلبية، فقد حنق الألمان عليها، ونشط الجستابو نشاطا عظيما للقبض على أصحابها ومحرريها وموزعيها، وعرضت السلطات مكافأة مالية كبيرة لمن يرشد عن أشخاصهم، أو يدل على مكان طبع الصحيفة. وأسفرت جهود الجستابو الجديدة عن معرفة مكان مؤقت كان قد اختاره «سكالدا» ورفاقه لطبع صحيفتهم بعد حوادث 28 أكتوبر المشئومة في أحد فنادق براج الكبيرة، فأحاط الجستابو بهذا المكان، ثم هاجموه، وباغتوا فيه رجلين، استطاع أحدهما أن يشعل النار في عدد الجريدة الذي أعد للظهور، وأطلق الجستابو عليه الرصاص من الخلف، وقفز الثاني من النافذة فدق عنقه عند سقوطه، وكان كل ما ظفر به الجستابو عبارة عن 20 نسخة فحسب من آخر أعداد الجريدة!
ولم يعطل هذا الحادث نشاط «سكالدا»، بل إن الصحيفة لم تلبث أن أخرجت كتيبا جديدا بعد الحوادث الآنفة تخاطفته الأيدي، ولم يفطن الجستابو في بادئ الأمر إلى حقيقة هذا الكتيب؛ لأنه كان يشبه كتيبا من سلسلة معروفة كانت تصدر في تشيكوسلوفاكيا في تلك الآونة، ولا تعالج الموضوعات السياسية، هذا إلى أن الذي يتصفح هذا الكتيب ما كان يجد سوى أحاديث عن الأدب، حتى إذا بلغ الصفحة الرابعة، عثر على أقوال معادية للسلطات الألمانية وصور هزلية من النوع الذي تجيده الدعاية الخفية، وإلى جانب ذلك بعض النصائح والإرشادات الضرورية لإحكام أساليب المقاومة السلبية.
وفي «براج»، ظل «سكالدا» يصدر صحيفته السرية
V-Boj
بالرغم من الأخطار التي اكتنفته، معتمدا هو وأعوانه على النساء بصفة خاصة في توزيع الصحيفة، حتى اضطر الجستابو إلى استخدام عدد من الألمانيات لمراقبة المحال العامة التي ترتادها السيدات بنوع خاص، ومع هذا فقد أخفقت محاولات الجستابو. وفي هذه الأثناء كانت
V-Boj
قد صارت صحيفة المقاومة السلبية الأولى، وقد نشرت في أحد أعدادها الأخيرة بعض النصائح لقارئيها، كقولها:
إذا قادك سوء الطالع إلى الوقوع في أيديهم - أي الألمان - فلا تنس دائما هذه العبارة: لا أعرف! لا أذكر! وإذا ضربوك وعذبوك فاطلب من الله أن يمنحك القوة والجلد، ثم تذكر مرة أخرى : لا أعرف! لا أذكر! وإذا جابهوك بأحد رفاقك المتعاونين معك، أو أحد أصدقائك ومعارفك، ممن يقولون أمامهم دون تردد: إنه من العبث نكران أي شيء، ثم يطلب إليك أن تعترف، فتذكر العبارة نفسها: لا أعرف لا أذكر؛ لأن ما تفوه به عدا ما تقدم يحمل بين أطوائه الضرر والسوء. كن شجاعا وفخورا وجلدا صبورا، كن صاحب مكر ودهاء، ثم تعلم كيف تقدر العواقب وتزن الأمور، وفكر طويلا قبل أن تنضم إلى صفوفنا وتعمل معنا، ولا تكن عجولا ...
وزاد غيظ الجستابو وحنقهم، عندما ظهرت صحيفة جديدة في هذه الآونة تسمى التعاون
Collaboration ، وكانت في مظهرها، وما اشتملت عليه من عبارات عند بدء القول في بحث أو موضوع، ثم عند اختتام هذا البحث أو الموضوع، ما يدل على أنها كانت تدعو حقيقة إلى التعون مع الألمان: حتى إذا أنعم القارئ في وسط المقال وفي نهاية الصفحة وجد عبارات من نار تدعو الوطنيين إلى مقاومة الطغيان النازي، وتنشر في الواقع «إنجيل الوطنية» الذي حرصت
V-Boj
نفسها على إذاعته. وكانت هذه الصحيفة تتألف من ثماني صفحات، وتشبه كتب الجيب في حجمها، وبلغ ما صدر منها ثلاثة أعداد فحسب، قبل أن يجد الجستابو وراء أصحابها، وقنع هؤلاء بأن يلزموا السكون مؤقتا حتى تهدأ العاصفة.
بيد أن ذيوع
V-Boj
من جهة، وظهور «التعاون» - وهي الجريدة التي روجت تعاليم ومبادئ الصحيفة الأولى - من جهة أخرى، سرعان ما جعل الجستابو يضاعف جهده حتى يقبض على مصدري
V-Boj
ومحرريها. ثم شاء الحظ أن يخدمهم في هذه المرة، ووقع «يوسف سكالدا» في قبضتهم أخيرا، فألقوا به في غياهب السجون مدة طويلة، وبعد مضي ثمانية عشر شهرا، صدر بيان جاء فيه: «إن محكمة الشعب في برلين قد أصدرت حكمها بإعدام يوسف سكالدا، وهو كاتب تشيكي، ثم حكمت بالسجن مددا طويلة على خمسة عشر تشيكيا آخرين؛ لأنهم ساهموا في إصدار ونشر صحيفتين من الصحف التشيكية الحرة!»
وبهذا أسدل الستار على نشاط «يوسف سكالدا»، ولو أن هذا كان لا يعني أن الجستابو قد قضى على جريدة
V-Boj
نهائيا .
ولا تتم قصة الصحف السرية في تشيكوسلوفاكيا من غير الإشارة إلى كتيب لقي إقبالا عظيما في تلك البلاد ، هو كتاب «الجندي الطيب شفايك في عهد الاحتلال»، وشفايك
Schweik
هذا من الشخصيات المحبوبة في الأدب التشيكوسلوفاكي الحديث، أخرجها إلى عالم الوجود «ياروسلاف هازيك
Jaroslav Hasek » (1884-1933م). وتقع حوادث القصة الأصلية ونوادر «شفايك» في عهد الإمبراطورية النمساوية القديمة وفي أثناء الحرب العالمية الأولى، أما في كتاب الدعاوة المضادة الجديد، فتقع حوادث هذا البطل «شفايك» في عهد الحماية الألمانية في بوهيميا ومورافيا. والكتاب مملوء بالنوادر والقصص التي يقصد بها تشجيع المقاومة ضد الحماية الألمانية.
وكذلك كان من الكتب الصغيرة التي صادفت نجاحا كبيرا، كتيب لا يحمل عنوانا، لم يلبث أن عرفه الوطنيون باسم كتاب «أقاصيص الصيد»، ثم هناك عدة صحف سرية كانت توزع في تشيكوسلوفاكيا المحتلة، منها: «تحرير الوطن
Narodni Osvobozeni » و«الصدق
»، «جمهورية تشيكوسلوفاكيا
Cesko sloveuskia Republike ». •••
وفي بولندة حيث أخفق النازيون تماما في استمالة الأهلين إلى التعاون معهم، وصاروا لذلك لا يتورعون عن ارتكاب أية جريمة من أجل إبادة البولنديين وإفنائهم، كانت تنتشر الصحف السرية انتشارا عظيما، ولم يقل عدد ما ظهر منها منذ بداية الاحتلال الألماني عن 150 صحيفة. وأكثر هذه الصحف كانت تتألف من أربع صفحات مخصصة لإذاعة الأنباء، هذا عدا صحف شهرية كانت تعنى بنشر البحوث العلمية والفنية، وتكتب في شئون الاقتصاد والزراعة والتربية، ولكنها لم تلبث أن تنوعت وتعددت، حتى شملت مقالاتها وبحوثها جميع نواحي الحياة البولندية. وفي سبتمبر 1943 كان عدد الصحف السرية التي تظهر بانتظام لا يقل عن 72 صحيفة، وكثير من هذه الصحف لم ينقطع ظهوره منذ بداية الاحتلال الألماني، فإذا أدركنا مقدار الصعوبة التي كان يصادفها أصحابها ومحرروها في العثور على الورق، كان صدور مثل هذا العدد الكبير من الصحف السرية عملا يدعو إلى الإعجاب.
ومن أشهر هذه الصحف: «صوت بولندة
Glos Ploski »، «الرقيب
Warto »، «الثورة
Insurekja »، «نضال العمال
Robotnik in Walce »، «الشعلة
»، «الشباب
Mlodziez »، «بولندة الحرة
Wolna Polska »، «القضية
Sprawa »، وغيرها. واتخذت أكثرية هذه الصحف شعارا لها بعض العبارات الوطنية، كقولها: «إن النصر هو عدم التسليم بعد الهزيمة!» أو «إن الهزيمة تكون دائما بمثابة الدرس اللازم لإحراز النصر في النهاية!» أو«إن الفرد الذي يرفض التضحية بنفسه من أجل الخلاص، لا يكون أهلا المتمتع بمزايا الحرية!» هذا عدا بعض الإرشادات، كأن يعطي القارئ العدد الذي بيده إلى قارئ بولندي آخر يثق به. ثم كثيرا ما كانت هذه الصحف تنشر قوائم بأسماء المتبرعين الذين يجودون بالمال وغيره حتى يمكنوها من الظهور. ومما يسترعي النظر أن بعض هؤلاء الوطنيين كانوا يتبرعون بالأغذية كالزبد والبيض والسجاير لمحرري الصحف السرية ومصدريها، والسبب في هذا أنه كان من المتعذر على أصحاب هذه الصحف الذين يطاردهم الجستابو ويرغمون على الانتقال كثيرا من مكان إلى آخر، أن يجدوا كفايتهم من الأغذية، لا سيما وأنهم ما كانوا يستطيعون استخدام بطاقات التموين.
ولعل أهم ما كانت تقوم به هذه الصحف، هو حديثها عن الطرق والأساليب التي يتبعها النازيون في تطبيق النظام الجديد في بولندة، ووصف الآثار التي أحدثها هذا النظام الجديد في حياة البلاد كإغلاق المصانع وتعطل ألوف العمال البولنديين، وصعوبات النقل المتزايدة بالسكك الحديدية، وعجز السلطات الألمانية عن تغيير القضبان الحديدية القديمة البالية والفوضى المنتشرة في مصالح النقل عموما، وما يتبع ذلك، كتعذر نقل الحيوانات والمواشي التي ظفر بها الألمان في «الأوكرين»، فقد كانوا يبغون إرسالها إلى ألمانيا أو إلى ميادين القتال لغذاء الجنود. غير أن عددا كبيرا من هذه المواشي كان ينفق في أفنية المحطات وعلى قارعة الطريق. وغني عن البيان أن مرجع هذا الخلل وهذه الفوضى، إقدام البولنديين على أعمال المقاومة الإيجابية العنيفة.
وكذلك كانت الصحف السرية تشجع الوطنيين على إتقان أساليب المقاومة السلبية كالامتناع عن إعطاء «الفرو» الذي طلبه الألمان حتى يتدثر به جنودهم في الميادين الروسية، أو تسليم أحذية الانزلاق على الجليد التي طلبوها أيضا لاستخدامها في الروسيا وفي النرويج، أضف إلى ذلك أن الصحف السرية صارت تعنى بنشر الموضوعات التي تبحث في آمال البلاد وأمانيها والأغراض التي تعتزم تحقيقها في المستقبل! من ذلك ما نشرته جريدة «بولندة الحرة» في عدد 28 يناير 1942 حيث قالت: «إننا نناضل من أجل دولة بولندية يكون هدفها الأعلى خدمة جميع مواطنيها على السواء، وهذه الدولة سوف يجري تنظيمها وفق إرادة العدد الأكبر من أهلها، ولفائدة كل فرد من أفرادها؛ ولذلك ينبغي أن تزول جميع الفروق الاجتماعية غير العادلة.» والحقيقة أنه على الرغم من وجود عدة أحزاب سياسية فقد اتفقت كلمتها جميعا على ضرورة توزيع الثروة على أثر انتهاء الحرب توزيعا عادلا، والعمل على تحقيق مبدأ تكافئ الفرص لأبناء الدولة الجديدة.
أما السادة الألمان فقد كافحوا هذه الصحف السرية بكل قسوة وبطش، وليس أدل على ذلك مما حدث في وارسو في أغسطس 1940 عندما قبض الجستابو على فتاتين تبلغان من العمر 14-16 سنة، وعثر معهما على عدد من الصحف السرية، فأعدم الألمان الفتاتين ثم سلموا الجثتين لأسرتيهما حتى لا يتحمل الألمان نفقات الدفن! أو ما حدث في 4 يولية 1941 عندما فاجأ الجستابو منزلا صغيرا في «تزرنيا كوف
Czerniakov »، كان يقيم به جماعة من المسئولين عن إصدار جريدة «صوت بولندة
Glos Polski »، فلم يكتف الجستابو بإطلاق المدافع السريعة على تعساء الحظ في هذا المنزل، بل قبضوا على الأهلين في المنازل المجاورة، وأعدموا الجميع بالرصاص، وبلغ عدد ضحايا هذه المجزرة 83 قتيلا من الإناث والذكران، واشتدت حملة الجستابو على محرري وموزعي الصحف السرية في عام 1941 حتى بلغ متوسط الذين أعدموا «بالجيلوتين» في مدينة «بونزان
» 25 شخصا في الأسبوع الواحد. وفي الواقع نصب النازيون «الجيلوتين» في كل مدينة وكل قرية تقريبا. وفي «سيليزيا» صاروا يرغمون أطفال المدارس على حضور عمليات الإعدام في كل مرة. وفي 8 يونية 1942 شنق الألمان علنا في المدينة نفسها خمسة عشر شخصا اتهموهم بتوزيع الصحف السرية، وظلت جثث المتوفين معلقة مدة ثمان وأربعين ساعة، وكان من بين هؤلاء ثلاث عشرة امرأة، هذا عدا عقوبات الإعدام والسجن لمدد طويلة، كان يوقعها النازيون على كل متهم بالاستماع إلى محطة الإذاعة البريطانية
B. B. C.
أو ترويج الأنباء المذاعة من لندن. •••
وفي يوغوسلافيا انبرت صحيفتها السرية المشهورة «الحرية أو الموت!
Svoboda Ali Smart » تنشر قصة معركة يوغوسلافيا الثانية، هذا بعد أن أعلن الألمان أن البلاد قد دانت بأسرها، وأن الحرب قد وضعت أوزارها في يوغوسلافيا فوقع على عاتق هذه الصحيفة السرية إذن - وكانت تصدر في «لوبليانا
Llubljana » - أن تفضح كذب ادعاءات الألمان وتعلن إلى الملأ تأليف جيش يوغوسلافيا الوطني الذي ظل يرفع راية الجهاد تحت قيادة الجنرال ميخائيلوفتش. فقد استطاع السربيون والكرواتيون والسلوفينيون أن يدفنوا خلافاتهم القديمة؛ حتى يؤلفوا من بينهم جيشا كبيرا يتولى الدفاع عن أرض الوطن، ووقع اختيارهم على الجنرال ميخائيلوفتش للقيادة العامة؛ لأنه كان يتمتع بتاريخ حافل؛ إذ اشترك قبل ذلك في الحرب ضد الأتراك في عام 1912، وضد البلغار في عام 1913، وضد الألمان والنمساويين في عام 1914، ثم كان في استطاعته عندما اجتاح الألمان بلاده في الحرب الماضية أن يفر بسلام إلى القطر المصري على متن إحدى الطائرات، ولكنه رفض وآثر المكث بين مواطنيه، واتخذ مقره في الجبال الوعرة، وهناك انضم إليه ألوف الرجال والنساء لإعداد جيش يوغوسلافيا الوطني. ولعل أهم مميزات ميخائيلوفتش أنه كان أعظم الرجال خبرة بحرب العصابات في القارة بأسرها، وقد استطاع بعد صعوبات جمة أن يجمع جيشا بلغ عدده في يونية 1941 مائة ألف جندي.
وفي ذات يوم من أيام هذا الشهر نفسه، فوجئ الجند الألمان وكذلك الكروات الذين عملوا معهم، بهجوم ميخائيلوفتش ورجاله عليهم، وكان هجوما عنيفا، اكتسح أمامه كل شيء، فاحتل رجاله مدينة بعد أخرى، وقرية بعد قرية، وكان «التشتنيك» عصب هذا الجيش الجديد. ولقي المحاربون في كل مكان حلوا فيه ترحيبا عظيما، وهكذا استطاع ميخائيلوفتش بعد وقت قصير أن يسيطر على مساحة بلغت عشرين ألف ميل مربع «حوالي خمسي يوغوسلافيا»، طهرت جميعها من الإيطاليين والألمان. ثم أنشأ هذا القائد حكومة جديدة هي حكومة «سربيا غير المحتلة»، وانكب بعد ذلك على إصدار الصحف، ومنها صحيفة «الحرية أو الموت»، وبلغ عدد صفحاتها أربعا، ثم صار لا يقتصر توزيعها على الأرض التي دخلت في حوزة «التشتنيك» بل انتشرت في الأراضي التي احتلها الألمان والإيطاليون أنفسهم.
بيد أن جريدة «الحرية أو الموت» لم تكن وحدها الصحيفة التي صارت توزع في الأراضي المحتلة، فقد نجم عن عمل الألمان على إخماد جميع الصحف اليوغوسلافية اليومية العادية، أن ظهر عدد من الصحف السرية المنوعة. فأصدر السربيون والكرواتيون والسلوفينيون جرائدهم الخاصة بهم، وكان للأخيرين على وجه الخصوص عدة صحف، منها: عدا «الحرية أو الموت»، «سلوفينيا الحرة
Svobodna Slovenijia »، «سلوفينيا وأوروبا
Slovenijia in Europa »، «فجر الحرية
Zarja Svobode »، «الرابطة السلوفينية
Slovenska Zarvey »، وغيرها. وكان للشيوعيين «البارتيزان» بعض الصحف، كما كانت هناك صحيفة هزلية تسمى «طابور خامس
Teti Kolunnista ».
وقد تحدثت صحيفة «الرابطة السلوفينية» عن الأهداف التي كان يعمل السلوفينيون الوطنيون على تحقيقها، فقالت: إنه من الضروري أن يطرد جميع الجنود الأجانب الذين يحتلون البلاد، وأن تنشأ دولة سلوفينية موحدة في نطاق دولة يوغوسلافية متحدة كبيرة، على أن تجمع بين الاتحاد اليوغوسلافي المنتظر والبلدان الديموقراطية في العالم أواصر المحالفة المتينة.
أما جميع هذه الصحف السرية، فقد عنيت بنشر أخبار الانتصارات التي أحرزها جيش الجنرال «ميخائيلوفتش»، كما صارت تتحدث عن ضرورة تنظيم أعمال المقاومة الإيجابية في نطاق واسع، وتنشر أخبار النسف والتدمير التي كان يقوم بها الوطنيون من حين إلى آخر، مثل تدمير الجسور، وانتزاع قضبان السكك الحديدية، وقطع أسلاك التليفون، وتعطيل الطرق وهكذا، حتى حلت الفوضى من كل مكان، وتعطل نقل المسافرين والبضائع، وأهم من هذا كله عتاد الحرب الألماني، وجيش العدو. فقد نشرت جريدة «سلوفينيا الحرة» بعض تفصيلات التخريب الذي لحق بالسكك الحديدية في يناير 1942: من ذلك أنه لما كان الألمان يسيطرون على وادي «مورافا
Morava » الذي تجري به سكة حديد «نيش
Nish » التي يستخدمونها في نقل الإمدادات الكبيرة، فقد خرب «التشتنيك» هذه السكة، ثم استطاعوا بعد ذلك أن ينشروا الفوضى في نظام النقل بين «نيش» و«أوريسا» عن طريق «صوفيا»، وكان من أخطر ما فعلوه نسف ثلاثة جسور كبيرة بين «زايتشار
Zajetchar » و«نيش»، وانتقم الألمان بأن أخذوا ثلاثين ألفا من الأهلين كرهائن! ولم تلبث السلطات الألمانية ذاتها أن اعترفت بخطر هذا التدمير عندما نشرت إحدى صحفهم في هذه البلاد
Donau Zeitung
تحذيرا للأهلين جاء فيه ما معناه: «لقد وقعت حوادث تخريب واغتيال، كما أشعلت عمدا حرائق كبيرة، ولكنه إذا ظلت الحرائق تشتعل في حقول القمح، فإن السربيين وحدهم هم الذين سوف يحرمون الخبز. وإذا خربت الطرق والمواصلات والتليفونات، وسائر وسائل الخدمة العامة، فإن الضرر البليغ سوف يلحق بالاقتصاد السربي وحده!»
وزيادة على ذلك استطاع جيش «ميخائيلوفتش» أن يحكم الصلة بينه وبين الحكومة اليوغوسلافية الملكية في لندن، فذكرت جريدة «سلوفينيا وأوروبا»، أن ميخائيلوفتش تمكن من إرسال الدكتور «سكوليتش
Sekulitch » إلى لندن حتى يشرح ما كان يفعله الجيش الوطني في يوغوسلافيا، ويبين مبلغ ما يحتاجه هذا الجيش من السلاح والذخيرة والعتاد الحربي عموما. ثم لم يلبث المحاربون الوطنيون أن أوجدوا نظاما للمخابرات المستمرة مع الحكومة اليوغوسلافية في لندن. ثم ظهرت آثار هذا التدبير المحكم عندما نشرت جريدة «سلوفينيا الحرة» مقالا جاء فيه: «لقد كشف الألمان في الأسبوع الماضي - ويالهول ما كشفوا! - أن ميخائيلوفتش يملك دبابات بين عتاده الحربي، كما يملك أيضا مدافع مضادة للدبابات وعددا عظيما من المدفعية ... وعندما هاجمنا الألمان في أول الأمر كانت هناك عدة مطارات سرية ما تزال في دور التكوين والنمو، أما الآن فإن الجنرال ميخائيلوفتش يستخدم بعض هذه المطارات، هذا إلى جانب ما يوجد لديه من غواصات تجد في العمل، كما يعرف الإيطاليون ذلك حق المعرفة بسبب ما يعانونه منها!» والحقيقة أن الألمان سرعان ما وجدوا أنفسهم مرغمين على خوض غمار حروب شديدة، استخدموا في معاركها الطائرات المنقضة والدبابات والمدفعية الثقيلة، كما صاروا يحشدون القوات الكبيرة، ومن بينها رجال المظلات الهابطة، وذلك كله حتى يستعيدوا بلادا أعلنت القيادة العليا الألمانية منذ مدة أنها قد دخلت في حوزة الغزاة الفاتحين نهائيا.
ومن بين هذه المعارك الدموية الكبيرة، كانت معركة «شاباتز
Chabatz » وهو اسم المدينة التي حاصرها التشتينك من كل جانب بعد أن أبادوا حاميتها الألمانية. وكان من آثار هذه المعركة اشتداد حركة المقاومة الإيجابية ضد الألمان والطليان في كل مكان تقريبا، حتى صار هؤلاء لا يشعرون بأمن ولا طمأنينة في «بلغراد» ذاتها. وحدث في «بلغراد» ما كان يسوغ عدم الاطمئنان قط، فقد دمرت بها محطة توليد الكهرباء ذات مساء، كما مات الجنرال «شرودر
Schroeder » فجأة وفي ظروف مريبة ، ولحق به كثيرون أيضا من الحراس الألمان بالمدينة، ولم يكن من المتوقع أن تخف وطأة هذه المقاومة الشديدة ما دامت الصحف السرية تنشر أخبارها وتشجع أبطالها على المضي في مكافحة الغزاة الفاتحين بجد وهمة.
وسرعان ما جاء دليل حاسم على فشل الألمان في قمع الوطنيين من جهة، وعلى انتصار جيش يوغوسلافيا الوطني من جهة خرى عندما نشرت جريدة «الحرية أو الموت» ذات يوم خبرا مفاده: إن الألمان يريدون المفاوضة مع الجنرال ميخائيلوفتش والاتفاق معه على الشروط التي يرتضيها، وبالفعل حدث في الأيام التالية أن توسط في هذه المفاوضة «كويسلنج» سربيا الجنرال «نيدتش
Neditch »، وعقد الفريقان هدنة وقتية، لم يطرأ في خلالها أي تحسن في حالة بلغراد المحاصرة. ثم لم تلبث أن أخفقت مفاوضات الصلح، وعرض الألمان عقب ذلك مكافأة 200000 دينار ثمنا لرأس الجنرال «ميخائيلوفتش».
وفي عام 1943، كانت صحف يوغوسلافيا السرية في نمو مطر، حتى بلغ عدد قراء الصحف السرية وحدها حوالي المائة ألف، وهذا بينما كانت الصحف الكرواتية السرية تقوم بنشر الدعاية الخفية أو الدعاوة المضادة ضد دولتي المحور. •••
وفي «النرويج» التي أخضعها النازيون لسلطانهم «أبريل-يونية 1940»، كان سواد النرويجيين - على الرغم من انتصارات الألمان الخاطفة، وظهور «كويسلنج» وأنصاره ممن قبلوا التعاون مع الغزاة الفاتحين - لا يزالون كبيري الثقة بانتصار بريطانيا وهزيمة ألمانيا في النهاية؛ ولذلك فإن الصحف النرويجية التي رفضت الانحياز إلى الكويسلنجيين، سرعان ما صارت تحاول مراوغة «الرقيب» الألماني، وتتحين الفرص حتى تنشر على جمهور قرائها التعليمات السرية التي أصدرها الألمان حتى يمنعوا هذه الصحف من إظهار أي عطف نحو قضية إنجلترا أو قضية الديمقراطية عموما، ومن تقديم النقد اللاذع إلى حكومة «كويسلنج» وأعوانه، ومن الإشادة بذكر «هاكون» ملك البلاد، ومن إذاعة القصص أو النوادر التي تقلل من هيبة السادة النازيين وتجعلهم موضع زراية أهل النرويج وسخريتهم. وكانت الرقابة التي فرضها النازيون على الصحف شديدة في العاصمة «أوسلو» على وجه الخصوص، وكذلك في «برجن»، وانتشر الجستابو في كل مكان لمراقبة أصحاب الصحف ومحرريها. أما في سائر المدن الداخلية فقد تعذر على الألمان أن يوجدوا رقابة صارمة، وكان من أعمال هذه الرقابة اختيار الأنباء التي أجازت سلطات الاحتلال الألمانية إذاعتها، وكذلك بعض المقالات الافتتاحية التي أرغمت الصحف إرغاما على نشرها، وكانت تتضمن تعليقات تنطوي على المبالغة في جسامة الأضرار الناجمة عن إغارات الطائرات البريطانية على الموانئ والمدن النرويجية الساحلية، ثم محاولة إقناع الشعب النرويجي بأنه ما كان ينبغي أن تحل به هذه الكوارث، لو أن الملك «هاكون» قبل البقاء في مملكته ولم يتخذ مقر حكومته في لندن، ويتحالف مع البريطانيين الذين يغيرون على بلاده بطائراتهم وتفتك قذائفهم بأبناء وطنه.
ولما كان سواد الشعب في شهور الاحتلال الأولى يجهل أن أصحاب الصحف الوطنية «النرويجية» ومحرريها إنما يرغمون على كتابة هذه المقالات، ومسدسات الجستابو مسلطة على رءوسهم، كما كانوا يجهلون المحاولات التي تبذلها الصحف حتى تتخلص من «الرقابة» الصارمة، فقد ظن هؤلاء أن هذه الصحف إنما تنشر الدعاوة للنازيين، وتكيل السباب للبيت المالك مختارة؛ ولذلك تدفقت رسائل القراء من كل جانب، يلغي أصحابها اشتراكاتهم، ويقطعون صلتهم بالصحف التي اعتادوا أن يقرءوها منذ مدة طويلة.
وفي يونية 1940 أصدر النازيون عدة تعليمات حتموا على الصحف اتباعها، فيما ينبغي نشره، من ذلك أن البلاغات الحربية الصادرة من البلدان المحاربة ضد ألمانيا لا يجوز نشرها إلا إذا أجازت ذلك وكالة الأنباء النرويجية، الخاضعة لرقابة النازيين، ولا ينبغي أن تنشر الصحف أية أنباء مذاعة بالراديو من البلدان التي في حالة حرب مع ألمانيا، وكذلك لا يجوز أن تنشر الصحف شيئا من الخطابات التي يلقيها أعضاء البيت المالك، أو الحكومة أو القيادة العامة، كما لا ينبغي نشر صور أحد من جميع هؤلاء، وعند الحديث في شئون السياسة الخارجية، ينبغي دائما أن تحترم الصحف وجهة النظر الألمانية، ولا ينبغي مهاجمة دولة من الدول التي عقدت اتفاقات أو معاهدات مع الريخ الثالث، وكذلك فإنه عند الكلام عن الحالة المالية في البلاد، يجب أن تمتنع الصحف عن نشر كل ما قد يؤدي إلى إثارة الخواطر، بل عليها بدلا من ذلك أن تعرض الموضوعات التي من هذا القبيل بشكل يضمن إدخال الطمأنينة إلى نفوس القارئين، وزيادة على ذلك، فإن من واجب الصحف أن تمتنع امتناعا تاما عن الخوض في كل ما قد يغير النفوس بين النرويجين والألمان، أما إذا رفض محررو الصحف اتباع هذه التعليمات، فإنهم يصبحون معرضين لتوقيع العقوبات الشديدة عليهم عدا غلق صحفهم.
ولم يكن من المنتظر أن تذعن الصحف النرويجية لهذه الأوامر والتعليمات، بل حاول المحررون على الرغم من صرامة الرقابة النازية، أن يتحينوا الفرص حتى يتحرروا من أغلال هذه القيود الشديدة، ونجحت في أحايين كثيرة هذه المحاولات، وساعد على ذلك أن الرقباء الألمان كانوا قليلي الدراية بأساليب الكتابة النرويجية وبحقيقة الأدب النرويجي، ولكن الكويسلنجيين سرعان ما صاروا يوضحون لسادتهم النازيين ما استغلق عليهم فهمه؛ فأغلقت صحف كثيرة، وقبض النازيون على عدد كبير من المحررين، وفي بعض الحالات استبدل النازيون «بقلم التحرير» جماعة من الموالين لهم الذين وثقوا بهم، كما فعلوا في صحيفة «أوسلو» الراديكالية المعروفة «داجبلادت
Dagbladet » وفي غيرها.
بيد أنه كان من نتائج هذه الرقابة الصارمة، ظهور الصحف السرية في بلاد النرويج. وفي خلال شهور الاحتلال التسعة الأولى اعتمد الأهلون في معرفة أنباء العالم الصحيحة على الإذاعات الخارجية، ولم تفد مصادرة الألمان لأجهزة الراديو شيئا في منع الأهلين من الاستماع إلى إذاعة المحطة البريطانية
B. B. C. . إذ سرعان ما استخدم النرويجيون أجهزة جديدة. وفي أول الأمر تناقل الأهلون أخبار هذه الإذاعات شفاها، واستمر الحال على ذلك حتى قرر أحد الوطنيين ويدعى «أولاف
Olav » إنشاء صحيفة سرية، سماها: «نريد وطننا!
Vi Vil Oss et land » ثم استطاع «أولاف» أن يجد من بين الصحافيين الوطنيين خمسة قبلوا العمل معه، وانطلقوا جميعا يعدون العدة لإصدار جريدتهم الجديدة.
غير أنه كانت هناك صعوبات عدة في بادئ الأمر كادت تقضي على هذا المشروع بالفشل أهمها: صعوبة الحصول على الورق، وحروف الطباعة والمطبعة؛ فبذل الرفاق كل جهد حتى استطاعوا الحصول على كميات مناسبة من الورق وعلى الآلات اللازمة، ثم على مكان يطبعون فيه جريدتهم، وانضم إليهم رجلان آخران فصاروا سبعة، وتمكنوا من إصدار صحيفتهم، وأحدث ظهور عددها الأول أثرا عميقا في النرويج، كما أزعج الألمانيين إزعاجا شديدا؛ لأن هؤلاء كانوا قد ظنوا النرويجيين بعد مضي هذه الفترة الطويلة عقب الاحتلال، قد بدءوا يقنعون بالعيش في ظل النظام الجديد، وتوقع النازيون لذلك أن يكثر مؤيدو هذا النظام يوما بعد يوم. وعلى هذا، كان صدور «نريد وطننا!» قاضيا على أحلامهم وأمانيهم، فجرد الألمان قوة الجستابو الخطيرة لمعرفة محرريها والقبض عليهم، ولكن هذه المحاولات الأولى باءت بالفشل، وعظم حنق الألمان، كما زادت حيرتهم.
ومما أوقد حفيظة الألمان، أن هذه الجريدة السرية، أخذت على عاتقها بيان أضاليل السادة النازيين وفضح أكاذيبهم، وأكاذيب الدعاية النازية، وزيادة على ذلك أتقنت الجريدة أساليب السخر بمروجي الدعاوة من أجل جذب القلوب نحو السادة الألمان، وحث الأهلين على التعاون معهم، كما أنها صارت تحذر النرويجيين من الانخداع بطرائق النازيين الذين حرصوا في هذه الآونة على استمالة أهل البلاد وكسب صداقتهم، أضف إلى هذا أنها أخذت تكشف عن حقيقة الاتفاقات التي عقدها الكويسلنجيون مع الضباط الألمان من أجل ترويج الثقافة الألمانية في البلاد في نظير الحصول على أجر مالي كبير، أو الاستفادة من هذا التعاون مع الغزاة الفاتحين في نواح أخرى، ثم لم تقتصر الجريدة على توجيه النقد اللاذع لسلطات الاحتلال عموما، بل صار «أولاف» على وجه الخصوص ينشر الدعوة في صحيفته السرية إلى مستقبل زاهر عند هزيمة الألمان المحتومة، على أساس إرجاع الملك هاكون إلى عرش بلاده، ثم تأليف كتلة اتحادية كبيرة تضم النرويج إلى مجموعة الدول الديموقراطية في العالم، على أن تتخلى كل دولة من أعضاء هذا الاتحاد عن بعض حقوق السيادة، بحيث لا يترتب على ذلك أن يفقد عضو الاتحاد المزمع تأليفه ذلك الطابع الشخصي الذي يحفظ للدولة كيانها القومي في النهاية.
ولكن الدعوة إلى إنشاء مجموعة اتحادية من الدول، كانت رأيا جريئا. ومنذ نشر «أولاف» هذا الرأي، قرر الألمان أنه قد بات من الضروري القضاء على هذه الجريدة، والقبض على «أولاف» وإسكات صوته. فجدد من ثم النازيون محاولتهم ، وشمر الجستابو عن ساعد الجد. ولما كان توزيع الجريدة قد زاد زيادة عظيمة، فقد أصبح من الميسور نوعا ما على الجستابو أن يقفوا على هوية الأشخاص المشتركين في تحرير الجريدة وطبعها وتوزيعها. وذات يوم هاجم الجستابو المكان الخفي الذي اتخذه «أولاف» وجماعته مقرا لجريدتهم، ولكن هؤلاء كانوا قد عرفوا نية الجستابو فاستطاعوا الفرار قبل الهجوم بيومين اثنين! وفي الأيام التالية ازداد الخطر على «أولاف» حتى اضطر إلى ترك عمله وتدبير الهرب من النرويج، وبعد محاولات متعددة والتعرض لمخاطر كثيرة، استطاع الفرار إلى إنجلترا.
ومع هذا فإن جريدة «نريد وطننا!» لم تكن الجريدة السرية الوحيدة في النرويج، بل سرعان ما ظهرت صحف أخرى، على غرار صحيفة «أولاف»، فكانت هناك صحيفة
Eidsvold ، وهذه زينت صفحتها الأولى برسم المكان الذي صدر فيه دستور النرويج القديم في عام 1814، ثم كانت هناك صحيفة «البريد الملكي
KongsPosten »، «علامة الزمان
Tideus Tegn »، «حركة اتحاد العمال الحر
Fri Fagbevegelae »، وأخيرا صحيفة «الراديو
Radioavisin »، وهذه كانت مخصصة لنشر أنباء الإذاعات البريطانية والأجنبية. •••
هذه قصة الصحف السرية في أوروبا المحتلة، التي كانت من أكبر دعامات الدعاية الخفية في القلعة الهتلرية، وهي إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن الأهلين في البلدان المقهورة، وقد تذوقوا طعم الأساليب النازية عند تطبيق النظام الجديد، وشهدوا عن كثب ضخامة الأكاذيب التي روجتها الدعاية النازية، وهالهم إذلال أوطانهم تحت نعال الفاتحين الطغاة، صار لا يهدأ لهم بال حتى يروا أوطانهم محررة من نير النازيين وسلطانهم. وقد يظن إنسان أن الشعوب المحتلة وحدها هي التي كانت تئن من حكم هتلر وطغمته، وأنها وحدها هي التي لجأت إلى أساليب المقاومة لمحاربة الطغيان النازي، وأن النظام الجديد قد أخفق في أوروبا المحتلة فحسب، وأن ألمانيا قلعة هتلر كانت موطدة الدعائم متينة الأساس، ولكن الواقع كان على خلاف ذلك، وكما فشل هتلر ونظامه الجديد في أوروبا المحتلة، فقد فشل كذلك في داخل ألمانيا ذاتها، ولم يكن ثمة مناص من أن تتصدع أركان القلعة الهتلرية المتداعية قصر الزمن أو طال.
الفصل السادس
حكومة هتلر
تقدم القول عند بحث رغبة النازيين في بسط سيطرتهم العالمية، بأنه كان من الضروري لتحقيق هذه السيطرة العالمية، أن يجعلوا من ألمانيا ذاتها كتلة متماسكة، يستحيل أن يتطرق الضعف إليها؛ حتى يتخذها النازيون مركزا «للدوائر» التي يطمعون في «جرمنتها» في القارة الأوروبية. ومعنى هذا أن يجمع الحزب النازي في داخل ألمانيا كل أسباب السلطة، ويتغلغل أعضاء الحزب في نواحي الحياة الألمانية جميعها، حتى يتمكنوا من إرغام الدولة على الاندماج في الحزب في النهاية، فيصبح الحزب هو الدولة. ولم يكن غريبا أن يطمع النازيون في ذلك؛ لأنه من عادة الدول التي يقبض على زمام الأمور فيها حزب واحد - وهي الدول التي تسيطر عليها الدكتاتورية سيطرة تامة - أن يجد هذا الحزب في القضاء على جميع التقاليد والنظم القديمة ويعمل في الوقت ذاته على إنشاء أنظمة جديدة، قد يحدث إنشاؤها عقب ثورة جامحة تكتسح معالم الحياة القديمة اكتساحا، على غرار ما حدث في الروسيا، أو تظهر إلى عالم الوجود شيئا فشيئا دون التجاء إلى الثورة كما فعل النازيون في ألمانيا، فإن هؤلاء - وهم الذين اشتدت حملتهم على الشيوعيين منذ قيام حركتهم - ما كانوا يريدون أن يعرف عنهم سواد الشعب أنهم من أنصار الانقلاب والثورة؛ ولذلك اتبعوا في مبدأ الأمر أساليب مغايرة لأساليب جيرانهم الشرقيين، وبدءوا يقوضون أركان المقاومة في داخل الريخ بالتغلب على الأحزاب المنافسة لهم.
وكان من عوامل نجاح النازيين أنهم استغلوا الفوضى التي تغلغلت في جميع نواحي الحياة الألمانية عقب هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، وتذمر طبقات الشعب المختلفة من هذه الفوضى، فطفقوا يبذلون كل جهد حتى يستميلوا إليهم هؤلاء المتذمرين الراغبين في إزالة الآثار التي اعتقدوا أنها من نتائج هزيمة الدولة القيصرية. ولذلك كان أول ما عنى به «حزب العمال الألمان الوطني الاشتراكي»، وضع برنامج شامل صدر في ميونخ في 24 فبراير 1920، وكان يتألف من خمس وعشرين مادة، وأهم ما يلاحظ عليه أنه كان - كما جاء في مقدمته - برنامجا أملته ظروف الحال
Zeitprogramm ، وقد يعني هذا الوصف أنه كان برنامجا مؤقتا، أو نهائيا، والغرض من اختيار هذا الوصف بالذات عدم التقيد في الحقيقة بمحتويات البرنامج تقيدا حرفيا إذا أثبتت الظروف في المستقبل أن من المصلحة عدم التمسك بحرفيته. ومع أن النازيين في الاجتماع الكبير الذي عقده أعضاء الحزب في 22 مايو 1926، اتخذوا بعد بحث وتمحيص، قرارا بأن هذا البرنامج لا يمكن تغييره بأي حال من الأحوال. فقد درجوا على تفسير مواده وفق رغباتهم، ثم سلكوا في تطبيق هذه المواد من الوجهة العملية، المسلك الذي أملته عليهم مصالحهم، أي ما يمكنهم من القبض على أزمة السلطة في ألمانيا بأسرها، وإزالة جميع العناصر المعارضة لهم، وزيادة على هذا، تضمن البرنامج مجموعة من الآراء والمبادئ المتضاربة، التي نجمت في الواقع عن السخط المنتشر بين جميع الطبقات المختلفة من جراء ما خلفته الحرب العالمية الأولى من آثار سيئة، وبسبب ما حدث من مشكلات اقتصادية واجتماعية خطيرة، في الفترة التي تلت انتهاء الحرب مباشرة. أضف إلى ذلك أن البرنامج كان يتضمن مبادئ اقتصادية حرص النازيون عند إثباتها على أن تكون من النوع الذي يقتضي تحقيقه كفايات غير تلك التي يتمتع بها أعضاء الحزب - من زعماء وموظفين - ممن يشرفون على تطبيق هذه المبادئ من أجل تحويل ألمانيا إلى دولة وطنية اشتراكية خالصة.
ثم عمل النازيون على أن يشتمل برنامجهم على مطالب اقتصادية تجلب رضاء أصحاب رءوس الأموال، مثل كبار الصناع والمنتجين وكبار الزراع ومن إليهم كما تجلب رضاء الطبقة العمالية. وقد ترتب على المحاولة التي قام بها النازيون للتوفيق بين هذه المصالح المتعارضة، وخصوصا عندما هيمنوا على شئون الدولة وطفقوا ينفذون برنامجهم الاقتصادي، أن صار يختلف الناس في تفسير الوطنية الاشتراكية. فهناك من وصفها بأنها من ضروب الاحتيال المالي لمساعدة الزعماء النازيين على جمع الثروة الطائلة. وهناك من وصفها بأنها بلشفية صحيحة وإن اتخذت لها لونا مغايرا للون البلشفية الأحمر، أو أنها من النظم التي وضعت خصيصا لحماية الرأسمالية، وهكذا. ولو أن التفسير الحقيقي للوطنية الاشتراكية، على ضوء ما أسفر عنه تطبيق مبادئها في السنوات التي سبقت نشوب الحرب العالمية الثانية وفي السنوات القليلة التالية، هو أنها الخطة والنظام الذي يؤدي إلى تحقيق أطماع جماعة من الناس يسيطرون فعلا على مصير ألمانيا. أما هذه الأطماع ذاتها فإنها تلخص في رغبة النازيين في الاستئثار بكل سيطرة سياسية مطلقة فحسب.
على أن برنامج النازيين «في عام 1920» كان يتضمن فكرة إفناء الفرد في الدولة، على غرار ما يحدث في كل نظام اشتراكي؛ ولذلك فإنه لما كانت الدولة ذات شخصية يجب أن تتلاشى بسببها ومن أجل دعم كيانها حرية الفرد وجميع حقوقه، فقد أصبح من حق الدولة وحدها الهيمنة على حياة الفرد وتدبير شئونه على النحو الذي تراه مؤيدا لمصلحتها العليا وحدها، وترتب على إفناء الفرد في الدولة أن صارت هذه تجمع في خصائصها ومميزاتها السيطرة على شئون التربية والتعليم والصحة العامة والجيش والصحافة، وتقرير مصير مواطنيها، وهكذا. ولذلك فإنه لم يغب عن النازيين النص على هذه الحقوق جميعها في برنامج حزبهم. وكان من المنتظر - بوصف أنهم الأداة التي تتولى عن الدولة إدارة هذه الشئون عند استلام أزمة الحكم في ألمانيا - أن يجمع النازيون في أيديهم السلطة المطلقة. ثم كان من المنتظر أيضا - بفضل ما نص عليه برنامج حزبهم من أن من شروط المواطن أن يكون آريا، وأن يكون جرمانيا ينحدر من سلالة عاشت في ألمانيا أو في البلدان الجرمانية الصحيحة منذ أمد طويل - أن تتعقب دولة الريخ الثالث غير الآريين كاليهود وغيرهم من اللاجئين من البلدان المجاورة، والذين دخلوا ألمانيا ابتداء من 2 أغسطس 1914، بالتشريد والإفناء في غير رحمة أو شفقة.
ولما كان الحزب الوطني الاشتراكي في بدء تكوينه يريد كعادته جمع أصحاب المذاهب والمشارب المنوعة حوله، فقد ذكر في المادة الرابعة والعشرين من برنامجه، أن الدولة مكلفة بالدفاع عن «المسيحية الواقعية»؛ ولإدخالها الطمأنينة على النفوس، جاء في هذه المادة نفسها ما معناه أن الحزب يطلب التسامح مع الآراء الحديثة المختلفة في الدولة، ما دامت لا تعرض كيان الدولة للخطر، وما دامت لا تتنافى مع عادات الجنس الجرماني وتقاليده، وقد استثنيت اليهودية من هذا التسامح . ومع هذا فإن النص على ضرورة قيام الدولة بمهمة الدفاع عن «المسيحية الواقعية» كان معناه - كما شهد الكاثوليك والبروتستنت على السواء بعد ذلك - أن النازيين عند وصولهم إلى الحكم سوف يتدخلون في شئون العبادة، من أجل إخضاع الكنيسة لسيطرتهم، وأن المسيحية الواقعية سوف تتخذ لذلك معنى غير المعنى الذي عرفه بها سواد الشعب فيما مضى. فقد ظن الأهلون أن انحياز الوطنيين الاشتراكيين إلى معاضدة المسيحية الواقعية، يعني أن الريخ الثالث سوف يضمن للدين المسيحي الحرية الكاملة وزيادة الانتشار، هذا إلى جانب السهر على صيانتها والذود عنها. ولم يشأ النازيون أن يزعزعوا هذا الاعتقاد في بادئ الأمر، ولكنهم عندما ثبتت أقدامهم في الريخ الجديد طفقوا يفسرون «المسيحية الواقعية» بما يتفق مع أهوائهم ويتمشى مع مصلحتهم. ويلخص هذا التفسير في أن المسيحية الواقعية تعني مجرد «الفعال الإنسانية». •••
وإنه لمن الحقائق المعروفة أن النازيين ما استطاعوا الوصول إلى الحكم إلا بفضل الانقسامات الكثيرة في الطبقات الرأسمالية والعمالية. فقد وجد من بين الرأسماليين عدد من زعماء الصناعة المحافظين الذين كانت بغيتهم حل المشكلة الاقتصادية في ألمانيا دون الالتجاء إلى مغامرات أجنبية. وكان هناك فريق آخر من زعماء الصناعة الذين يئسوا من إمكان اجتياز أزمة الاقتصاد الألماني بالطرق والأساليب العادية، فصاروا يدعون إلى الحرب كعلاج حاسم لهذه الأزمة المستحكمة. ومما يذكر أن الفريقين سرعان ما صارا يجدان في دعاوى الوطنيين الاشتراكيين ووعود زعمائهم، وعلى الخصوص الهر هتلر نفسه، ما حملهما على تأييد النازية وهي ما تزال في دور النشوء، ومدها بالأموال اللازمة لتنظيم الحزب، وخوض غمار الانتخابات. وكذلك وجد من بين كبار أصحاب الأرض والملاك، فريق اعتقد أن الوطنية الاشتراكية عنوان الفوضى الاقتصادية، ومن المنتظر أن يؤدي انتصارها إلى الخراب والدمار. وفريق آخر يخشى البلشفية شأنه في ذلك شأن الطبقات الرأسمالية الأخرى، والطبقات المتوسطة «أو البرجوازي»، وقد أقبل هذا الفريق على الهر هتلر يؤازره على أمل أن يصون نجاحه مصالح كبار الزراع وأصحاب الأراضي؛ لأن النازيين كانوا في نظرهم من لا يجسرون على القيام بتجارب جريئة، بل يتصفون قبل كل شيء بالولاء الكامل للطبقة التي ينتمون إليها، وهي الطبقة المتوسطة التي تستمد قوتها من الأرض، وتدين لها بوجودها. وقد اقتضى هذا التفكير أن يطمئن كبار الرأسماليين المحافظين من جهة، ثم أصحاب الأراضي الواسعة من جهة أخرى، إلى أن مصلحة النازيين ألا يدفعوا بالأمة الألمانية إلى حروب جديدة. ومع هذا، فإن هذه الطبقة المتوسطة نفسها، وهي الطبقة التي يستمد منها النازيون أنصارهم ومؤيديهم، كانت أيضا الطبقة التي ينتمي إليها المحاربون القدماء في ألمانيا، وأصحاب الخوذ الفولاذية برئاسة «سلدت
Seldte » وهم من العسكريين الرجعيين، وكانوا تحت زعامة «ألفرد هوجنبرج
Hugenberg »، وكان من كبار أصحاب رءوس الأموال، ويملك نحو الأربعين صحيفة وعددا من الشركات، منها شركة «أوفا
UFA » السنيمائية ذات الشهرة الذائعة. وهؤلاء جميعا كانوا يريدون الحرب حتى يثأروا لألمانيا وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى.
أما الطبقة العمالية، فكانت لا تقل في انقسامها عن الرأسمالية، فهناك أحزاب الشيوعيين والاشتراكيين الديموقراطيين، والأحرار. ومن الغريب أن بعض أحزاب اليسار - كالاشتراكيين الديموقراطيين - ظلوا فترة يعتقدون أن ظفر الحزب النازي لا يكون إلا على حساب العناصر الرجعية، الرأسمالية، وأن هذا الظفر غالي الثمن لا بد أن يفضي إلى تفكك طبقة الناخبين وضعفها، أي الطبقة المتوسطة وجماعة الرأسماليين، وأن العماليين هم الذين يفيدون من انحلال هذه الجماعة في النهاية؛ ولذلك لم يحجموا عن مؤازرة النازيين، وكانوا بموقفهم هذا من العوامل التي يسرت على هؤلاء الظفر بالسلطة المطلقة في ألمانيا.
وفضلا عن ذلك فإن الشيوعيين في ألمانيا، كبقية زملائهم في أرجاء العالم في ذلك الحين، كانوا يتلقون أوامرهم من مركز الشيوعية الدولية في موسكو؛ ولذلك ظلوا «مستقلين» في نشاطهم عن سائر أحزاب اليسار. وكان الشيوعيون والاشتراكيون الديموقراطيون يجمعون حولهم وفيما بينهم اثني عشر مليونا من الأصوات، للشيوعيين وحدهم منها خمسة ملايين. وفي عهد جمهورية «ويمار» كان زعيم الاشتراكيين الديموقراطيين رجلا من العمال، هو «إرنست ثلمان
Thälmann » صار فيما بعد من مؤسسي الحزب الاشتراكي المستقل، ثم اشترك بعد هذا في تأسيس الحزب الشيوعي، ومنذ عام 1924 ظل يمثل الشيوعيين في الريخستاج حتى مجيء هتلر. وفي عام 1932 رشح «ثلمان» نفسه في انتخابات رئاسة الجمهورية فنال من الأصوات خمسة ملايين، ومع هذا فإنه لم يكن متمتعا بالصفات التي تيسر له جمع كلمة الاشتراكيين الصميمين، فكانت النتيجة أن صار الشيوعيون أنفسهم يعتبرون وجود الاشتراكية الديموقراطية من الموانع التي تحول دون انتشار الروح الاشتراكية الخالصة بين الطبقات العمالية؛ ولذلك أصبحوا يخشون من الاشتراكيين الديموقراطيين، أكثر مما يخافون النازية. •••
وإلى جانب هذا الانقسام الواضح في الطبقات الرأسمالية والعمالية على حد سواء، ساعد سوء الحالة الاقتصادية في ألمانيا، على وصول النازيين إلى الحكم. فمن الظواهر التي لا يمكن نكرانها أن إخفاق الوطنية الاشتراكية أو نجاحها بعد الحرب العالمية الأولى كان يرتبط ارتباطا وثيقا بالحالة الاقتصادية في ألمانيا في عهد جمهورية «ويمار» التي أنشئت على أنقاض القيصرية. فإنه حتى آخر عام 1924 كان «حزب العمال الألمان الوطني الاشتراكي» محروما من الاجتماع أو النشاط قانونا، ولو أن هذا لم يكن معناه أن الحزب قد اختفى من الوجود؛ لأن «لودندورف» لم يلبث أن بسط عليه جناحه، فصار يعرف باسم «حزب الحرية الشعبي» واستطاع أن ينال في انتخابات مايو 1924 - أي في وقت الفوضى الاقتصادية - حوالي 1920000 صوت، وأرسل إلى الريخستاج اثنين وثلاثين نائبا. ومع هذا فإنه عقب البدء في تنفيذ «مشروع داوز
Dawes » لتنظيم مسألة دفع التعويضات الألمانية، وانتعاش حال ألمانيا المعنوية والاقتصادية نوعا ما، فقدت جماعة هتلر حوالي عشرين مقعدا. ثم حدث عند وفاة «فردريك إيبرت
Ebert » رئيس جمهورية ويمار الأول 1925 وإجراء انتخابات الرياسة، أن انهزم «لودندورف» مرشح الوطنيين الاشتركيين أو الهتلريين، فلم ينل سوى 210968 صوتا. ولما لم تكن هذه الانتخابات حاسمة، أعيد الانتخاب مرة ثانية، ولكن هتلر في هذه المرة فضل إعطاء أصوات حزبه إلى الماريشال الكهل «فون هندنبرج»، ففاز بمنصب رياسة الجمهورية. أما الحزب النازي فقد تدهور شأنه كثيرا عقب ذلك.
وفي مايو 1928 أسفرت الانتخابات العامة لمجلس الريخستاج عن إرسال اثني عشر نائبا نازيا ليس غير. وقد أدرك أدولف هتلر خطر الأزمة التي هددت باجتياح حزبه؛ ولذلك طفق يستميل إليه الوطنيين والرأسماليين وكبار زعماء الصناعة، ومن إليهم. وكان التناقض البين في برنامج الحزب - على نحو ما تقدم ذكره - من أقوى العوامل التي ساعدت الزعيم النازي على استمالتهم. ومع هذا فإن السنوات المنقضية بين عامي 1925 و1929 - وهي الفترة التي استطاعت ألمانيا في أثنائها أن تفيد من التسويات التي وضعت لمسألة التعويضات، ومنها مشروع «يونج
Young » الذي وضع في عام 1929 وقبلته ألمانيا في العام التالي - كانت فترة التنظيم الاقتصادي الذي أوجد حالة من الرخاء، ولو أنه كان رخاء زائفا، فقلت البطالة، ونقص عدد المتعطلين حتى صار لا يزيد على المليونين إلا قليلا، وشرع الريخ يشيد المصانع ويستقدم إليها الآلات والأدوات الجديدة، ويبني الكتدرائيات الفخمة، والمباني الصحية لسكنى العمال، والمتنزهات، ودور السينما والمسارح وهكذا. ووسط هذا الانتعاش، كان من المتعذر على الهر هتلر وحزبه النازي إدراك أي نجاح، على الرغم من الأموال التي أخذت تتدفق على حزبه من أصحاب رءوس الأموال وزعماء الصناعة أمثال «فريتز ثيسن
Fritz Thyssen » وغيره.
بيد أن النجاح كان من نصيب النازيين في النهاية لعدة أسباب، منها عدا ما تقدم: أن الأزمة الاقتصادية الكبرى كانت على وشك اجتياح العالم، ويحدد عام 1929 بداية هذه الأزمة الدولية، وكان من أخطر أسبابها: التوسع في الإنتاج الصناعي. وفي ألمانيا ذاتها حدث هذا التوسع بسرعة عظيمة، وبدرجة تكفي لسد مطالب جزء كبير من أسواق العالم قاطبة، ولكنه كما قال أحد زعماء الصناعة الألمان «كروب فون بوهلن
Krupp von Bohlen »: «إن الصناعة شيء، والقدرة على بيع المصنوعات شيء آخر!» ولم تستطع السوق الألمانية الداخلية بطبيعة الحال استهلاك كل هذه المنتجات، وكان من الضروري إيجاد أسواق خارجية ولكنه، كما قال «كروب» أيضا: «كانت أسواق العالم مغلقة دوننا مع حاجتنا إلى هذه الأسواق؛ فقد أقامت بريطانيا العظمى حواجز جمركية، كما كانت تعترض التجارة الألمانية في فرنسا وإيطاليا والسويد والبلقان، وفي كل مكان عراقيل من المنتظر أن يصبح التغلب عليها متعذرا من جراء ازدياد هذه العراقيل زيادة مطردة»؛ ولذلك فلم يكد يحل عام 1930، حتى كان العمال الألمان يواجهون أزمة شديدة، فقد تعطل منهم في الأسبوعين الأولين من شهر يناير حوالي الأربعمائة ألف عامل، وهذا بينما زاد عدد المتعطلين في منتصف العام نفسه من حوالي المليونين إلى ستة ملايين. أما الصادرات الألمانية التي بلغت في عام 1929 حوالي الثلاثة عشر ألف مليون ريشمارك، فقد نقصت في عام 1933 إلى خمسة آلاف مليون ريشمارك فحسب. وإلى جانب هذا الجيش الجرار من المتعطلين، وجد عدد عظيم من الرجال والنساء الذين نقصت أوقات عملهم في اليوم إلى ساعات محدودة، وبالتالي نقصت قيمة الأجور التي يقبضونها، ويعيشون عليها. وهكذا أضحت ألمانيا في عام 1930 «بلد الشحاذين!» أي إنها رجعت إلى الحال التي كانت عليها في سنوات التضخم النقدي عقب الهدنة التي عقدت في نهاية الحرب العالمية الأولى. فإذا قدرنا أن كل رجل متعطل يعول في المتوسط أسرة مؤلفة من شخصين اثنين فحسب على أقل تقدير، لوجدنا أن عدد من صاروا يعيشون في بؤس وتعاسة ويعتمدون في قوتهم اليومي على إعانات الدولة وحسنات المتصدقين قد بلغ ثمانية عشر مليونا، هذا عدا حوالي عشرين مليونا آخرين يعيشون على أجورهم المخفضة.
وكان من نتائج سوء الحالة الاقتصادية، أن طرد الاشتراكيون الديموقراطيون من الحكم، وألف الوزارة رجال «الوسط» وعلى رأسهم «هنريك بروننج
Brüning »، وأما النتيجة الهامة فكانت القضاء على أي أمل في بعث الطبقة المتوسطة الألمانية من جديد، وهي دائما عماد الجمهورية الديموقراطية أو الملكية البرلمانية. فقد قضى التضخم النقدي على هذه الطبقة، ثم لم يمكن إحياؤها في فترة الرخاء الصناعي المفتعل بين عامي 1925-1929، وكان الاشتراكيون الديموقراطيون وحدهم الذين أفادوا من هذا الرخاء، وعندما وقعت الأزمة كان «هرمان مولر
Müller » الوزير الاشتراكي على رأس الحكومة «منذ يولية 1928»، فلم تلبث أن سقطت حكومته بسبب الأزمة في مارس 1930، وبسقوط هذه الحكومة اختفى كل أمل في إمكان إحياء الجمهورية الألمانية.
وأعطى هذا الاضطراب الاقتصادي والسياسي الفرص للوطنيين الاشتراكيين، حتى يعودوا إلى مسرح السياسة بعد أن ظلوا محتجين طوال السنوات الأربع الماضية، وهكذا فاز النازيون في انتخابات 14 سبتمبر 1930 بعدد من المقاعد في مجلس الريخستاج بلغ 107 (بعد أن كان لهم 12 مقعدا ليس غير). وكان لهذا الانتصار مغزى كبير، فإن النازيين عندما بلغ عدد المتعطلين حوالي المليون، كان كل ما أحرزوه من أصوات يقل عن المليون، حتى إذا ارتفع عدد المتعطلين إلى ستة ملايين، ظفروا بستة ملايين صوت، ثم استغل النازيون هذا الانتصار إلى درجة بعيدة، فنشطت دعاوتهم تستميل إليهم الأنصار والمؤيدين، وتخفف الأسى عن المتعطلين المنكوبين، ذلك بأنها صارت تلصق مسئولية النكبات الاقتصادية التي حلت بالشعب الألماني، بالساسة الذين وضعوا شروط الصلح في فرساي، وفرضوا على ألمانيا التعويضات، وهذا كله - كما ادعوا - بتحريض من فرنسا عدو الألمان التاريخي. وهكذا ظفر النازيون بأصوات الناخبين الذين انصرفوا أيضا عن تأييد الشيوعيين؛ لخوفهم من أن يدفع هؤلاء بالأمة إلى خوض غمار حرب جديدة، فلم ينل الشيوعيون في هذه الانتخابات سوى 77 مقعدا. وفي الريخستاج، منذ أن خرج الاشتراكيون الديموقراطيون وأنصارهم، أصبح الحكم البرلماني مستحيلا بسبب العداء المستحكم بين الوطنيين الاشتراكيين، وبين الشيوعيين الذين سيطروا فيما بينهم على الحياة السياسية. وكان هذا النضال مؤذنا بنهاية جمهورية ويمار، وممهدا في الحقيقة لاستئثار النازيين بالسلطان الكامل في الدولة.
وفي الشهور التالية ازدادت الأحوال الاقتصادية سوءا، وأفاد النازيون من ذلك كل فائدة؛ لأن الأهلين الذين تذوقوا طعم الفاقة، وأحسوا بالضنك ومرارة العيش، سرعان ما صاروا يتوقون إلى حدوث تغيير أو تبديل جوهري من شأنه إفساح المجال لجماعة جدد من السياسيين الذين قد يستطيعون انتشالهم من وهدة البؤس والعوز. ولما كانوا قليلي الثقة بالشيوعيين، فقد عقدوا آمالهم على الوطنيين الاشتراكيين، واستطاع الهر هتلر بفضل مؤازرتهم أن ينال في الانتخابات التي أجريت لرياسة الجمهورية في التصويت الأول «في مارس 1932» 11344119 صوتا أو أما يزيد على 30٪، ونال في التصويت الثاني «في 10 أبريل 1932» 13417460 صوتا أو حوالي 37٪، بينما فاز «هندنبرج» بنحو سبعة عشر مليونا ونصف من الأصوات، وفي الانتخابات التالية لمجلس الريخستاج في «31 يولية 1932» أحرز النازيون 13733000 صوت أو ما يزيد على حوالي 37٪ وظفروا بمائتين وثلاثين مقعدا. •••
ومع هذا، فإنه من الحقائق المعروفة أن الهر هتلر ما كان يستطيع الوصول إلى منصب المستشارية، أي رئاسة الحكومة في الريخ الألماني ، لو أن «البطانة» المقربة من رئيس الجمهورية «هندنبرج» ظلت متحدة، ولم يعمد بعض أعضائها إلى المناورات السياسية للتخلص من منافسيهم ، والاستئثار بالسيطرة على رجل تقدمت به السن كثيرا، حتى يخلص لهم الحكم في ألمانيا. فمن الثابت أن هندنبرج عقب انتخابات 31 يولية 1932 رفض أن يولي الهر هتلر منصب المستشارية عندما زين فرانز فون بابن
Franz Von Papen
أحد أفراد البطانة لهتلر، أن يطلب إلى الماريشال الكهل إعطاءه مركزا مشابها للمركز الذي ظفر به موسوليني عقب زحفه المشهور على رومة، فغضب هندنبرج وقال كلمته المأثورة: «أيتوقع مثل هذا الرجل أن يصبح مستشارا لدولة الريخ! إن كل ما يستطيع أن يظفر به هو منصب ساعي بريد!» ومن الثابت كذلك أن النازيين في انتخابات 6 نوفمبر 1932، لم يلبثوا أن فقدوا عددا كبيرا من الأصوات، فلم يزد ما أحرزوه على 11700000 صوت تقريبا، ولكن المناورات السياسية وحدها هي التي مهدت الطريق لوصول الهر هتلر إلى منصب المستشارية في النهاية.
فقد التفت حول الماريشال الكهل - كان يناهز الخامسة والثمانين - بطانة، كان من أهم أعضائها ابنه «أوسكار
Oskar »، وهو ضابط عامل في الجيش، و«أوتو ميسنر
Otto Messiner » مستشار الرئيس وأحد وزراء الحكومة، وفرانز فون بابن، أحد مستشاري الريخ في هذا العهد، والجنرال «كيرت فون شليخر
Kurt von Schleicher » من وزراء الحربية ومن زملاء هندنبرج القدماء، وصاحب أكبر نفوذ في ألمانيا الجمهورية، وغير هؤلاء. وكان غرض هذه البطانة الأساسي بعد أن تبينوا خطر المركز الذي صار يتمتع به النازيون - وعلى رأسهم الهر هتلر - أن ينفض ملايين الناخبين الذين أعطوا أصواتهم للنازيين من حول الهر هتلر، وأن ينصرف اهتمامهم إلى تحقيق أغراض أخرى، كما أنهم صاروا يعنون بضرورة تأييد الرأسماليين وتعزيز مراكزهم حيال أية محاولة اشتراكية ضدهم في المستقبل، كما أرادوا أن يعيدوا تشييد صرح الدولة الألمانية على أساس المسيحية القديم، وهو الأساس الذي كان قد أخذ يتداعى منذ مدة طويلة حتى أشرف على الانهيار، وكانوا يرغبون كذلك في إعادة البحث في الدستور الألماني، وتنظيم كيان الدولة على نحو يضمن استمرار الحكم في أيدي أحزاب «الوطنيين» من أصحاب الإرادة القوية والفكر الناضج، وكانوا يعنون أنفسهم بهذا الوصف؛ لأنهم اعتقدوا أن خلاص ألمانيا - كما أرادوها - لا يمكن أن يحدث إلا إذا حرم الأهلون كافة الحقوق عدا حق واحد يخول لهم انتخاب دكتاتور يهيمن على شئون البلاد، وهو حق لا يستطيع الناخبون ممارسته إلا في فترات متقطعة.
وكان موقف هذه «البطانة» من الوطنية الاشتراكية موقفا غريبا حقا؛ فلم يكن يضيرهم وجود النازيين؛ لأنهم كانوا يدخلون الرعب إلى قلوب الاشتراكيين، ولكنهم كانوا بوصفهم من قواد الجيش يكرهون الفوضى والأحزاب السياسية قاطبة، وبوصفهم من أصحاب الأراضي الزراعية الواسعة يسوءهم رؤية ضياعهم العظيمة، «المفلسة» غنيمة يقتسمها الفلاحون فيما بينهم، كما أنهم كانوا لا يرضون - كرجال أعمال - عن «الأوتاركية» أو «الاكتفاء الذاتي»، وما كانوا يوافقون قط على أن تمتد يد الاشتراكية إلى ممتلكاتهم وثرواتهم، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يكرهون الهر هتلر على اعتبار أنه من قادة الجماهير، وقد ظل مغمورا حتى أتاحت له الظروف الطارئة أن يظهر على مسرح السياسة؛ ولذلك وجدوا أن خير وسيلة لتحقيق أغراضهم أن يحصروا حركة الطبقة المتوسطة التي يتزعمها هتلر - وهي حركة ثورية - وأن يحدوا من انتشارها، حتى يستطيع الرأسماليون استئناف أعمالهم.
وغني عن البيان أن «بطانة» بلغت آراء أعضائها إزاء الوطنية الاشتراكية من التضارب هذا المبلغ، واعتمدت في وجودها على صداقة رئيس الجمهورية لها وعطفه عليها، ما كان في استطاعتها أن تحقق أغراضها إلا بالالتجاء إلى المناورات السياسية واستصدار المراسيم والقرارات الحكومية، وتعطيل مواد الدستور، حتى يتسنى لها الفوز بالحكم دون إشراك مجلس الريخستاج، «أو الأمة» وبخاصة عندما ظفر الوطنيون الاشتراكيون «النازيون» بمقاعد كثيرة في هذا المجلس، وهذا ما حدث فعلا. فقد ظل مستشار الريخ في تلك الآونة الدكتور بروننج يحكم بمقتضى قرارات استثنائية، وحاول كبح جماح هتلر وأنصاره بتنفيذ مطالب حزبهم المعتدلة. ولكنه ما كاد يشرع في تجزئة «الجفالك» الواسعة في بروسيا الشرقية إلى ملكيات صغيرة حتى ثار عليه أصحاب هذه الأراضي المعروفون باسم «يونكر
Junkers »، واتخذ منافسوه من بين رجال «البطانة» من هذه المحاولة ذريعة لإيغار صدر الماريشال هندنبرج عليه، فطرد «بروننج» من المستشارية في مايو 1932. أما هؤلاء المنافسون فكانوا «هوجنبرج»، زعيم الوطنيين وأصحاب الخوذ الفولاذية، وفون بابن، والدكتور شاخت
Schacht (وكان محافظا لبنك الريخ بين عامي 1923-1929، ثم غادر صفوف الديموقراطيين وانحاز إلى اليمين، ثم اتصل بالنازيين منذ عام 1931)، كما انضم إلى هؤلاء المتآمرين في بطانة الرئيس، الوطنيون الاشتراكيون، وكانوا جميعا قد استطاعوا منذ مدة أن يؤلفوا من بينهم جبهة قوية عرفت باسم «محالفة هارتزبرج»، وكان من أول أعمال هذا التحالف تأييد ترشيح أدولف هتلر لرياسة الجمهورية ضد الماريشال هندنبرج نفسه في انتخابات 10 أبريل 1932. ولم يكفل النجاح للماريشال وقتذاك سوى انحياز الاشتراكيين الديموقراطيين إلى جانبه.
أما هندنبرج، فإنه لم يلبث أن عهد بالمستشارية بعد طرد «بروننج» إلى «فون بابن» على الرغم من أن بابن ما كان يستطيع الحصول على عدد من الأصوات في داخل مجلس الريخستاج يزيد على أصوات حزب «هوجنبرج»؛ ولذلك صار يعتمد الاعتماد كله على صداقة رئيس الجمهورية فحسب. ولما كان غرض «فون بابن» إقصاء الاشتراكيين الديموقراطيين عن حكومة بروسيا إقصاء تاما، فقد قرر الاستناد إلى تأييد الجيش الألماني النظامي الذي تألف بعد الحرب العالمية الأولى وهو «الريشفهر
Reichswehr » وعلى ذلك عين رئيس هذا الجيش الجنرال «كيرت فون شليخر» وزيرا للحربية، واستطاع فون بابن تنفيذ مآربه.
ومنذ أنشئت جمهورية ويمار الاتحادية، واتسعت اختصاصات حكومة بروسيا حتى شملت ما تزيد مساحته على ثلاثة أرباع دولة الريخ، كان الاشتراكيون الديموقراطيون والكاثوليك والديموقراطيون هم الذين يؤلفون الأكثرية المطلقة في المجلس البروسياني «لاندتاج
Landtag » كما كانت الحكومة البروسيانية للسبب نفسه تتألف من ممثلي هذه الأحزاب الثلاثة، وكان يرأسها رجل من الحزب الاشتراكي الديموقراطي هو «أوتو برون
Otto Braun »، وقد ازدادت صعوبات «أوتو برون» عندما أسفرت انتخابات هذا الدياط البروسياني في 24 أبريل 1932 عن عدم فوز حزب من هذه الأحزاب الثلاثة فوزا يمكن أحدها من تأليف الوزارة أو يجعل من الميسور إنشاء حكومة ائتلافية قوية، فظل «أوتو برون» والاشتراكيون في الحكم «مؤقتا»، ونجم عن ذلك تعذر التعاون بين هذه الحكومة البروسيانية التي تغلب عليها الصبغة «الماركسية » أو الاشتراكية وحكومة الريخ المركزية التي يرأسها «فون بابن»، والتي أطلق عليها اسم «حكومة البارونات»، فأصدر «بابن» - بموافقة هندبرج - مرسوما في 20 يولية 1932 يقضي بتعيينه - أي «فون بابن» - قوميسيرا للريخ في بروسيا، وعين نائب له. وكان هذا المرسوم يقضي إلى جانب هذا، بمنع حكومة بروسيا من مباشرة أعمالها. وبهذا حقق «فون بابن» غرضه الأول، وكان هذا العمل تحديا للاشتراكية التي اعتبرت بروسيا حصنها المنيع منذ مدة طويلة، وكاد طرد الاشتراكيين يفضي إلى ملاحم عنيفة، ولكن «شليخر» أسرع في إظهار استعداده الكامل لمؤازرة «فون بابن»، بينما تفرقت كلمة الاشتراكيين الديموقراطيين والشيوعيين، مما أدى إلى تضعضع الطبقة العمالية؛ لذلك لم يلبث سواد الشعب في الانتخابات التالية لمجلس الريخستاج «31 يولية 1932» أن أظهر سخطه على هذا الانقسام، فكان النصر في تلك الانتخابات حليف النازيين والشيوعيين، ففاز النازيون بما يزيد على 37٪ من عدد الأصوات، وظفروا بمائتين وثلاثين مقعدا، بينما نال الشيوعيون 89 مقعدا، واختفت أحزاب الطبقة المتوسطة تماما، ورجع الاشتراكيون الديموقراطيون إلى حالهم السابقة القديمة في عام 1924.
وثمل جنود الهجوم النازي بخمر الظفر، فاجتاحت الريخ موجة من الإرهاب النازي عنيفة، وطفق النازيون من ذلك الحين ينتقمون من معارضيهم وأعدائهم السياسيين انتقاما بلغ الغاية في قسوته ووحشيته، حتى اضطر «فون بابن» إلى إعلان الأحكام العرفية، كما هدد «شليخر» باستخدام الجيش النظامي ضد «جنود الهجوم» النازيين، وأصدر «فون بابن» تصريحا أنحى فيه باللائمة على هتلر، وأعلن استعداده لتأييد حكم القانون والقضاء على الفوضى التي أثارها النازيون بمسلكهم. وإزاء هذا التهديد لجأ هتلر إلى المفاوضة، مهددا تارة ومسترضيا تارة أخرى، فجمع جند الهجوم بالقرب من برلين، ووعد بتأييد وزارة فون بابن إذا وافقت أخيرا على إطلاق يد هؤلاء مدة ثلاثة أيام فحسب، ولكن بابن رفض هذا العرض بطبيعة الحال، وزاد حنق هندنبرج عندما طلب هتلر منصب المستشارية لنفسه، فأبقى الرئيس فون بابن في الحكم، وانقلب هتلر وأعوانه منذ ذلك الحين يدبرون المكايد ضد هندنبرج ووزيره، وعمت الفوضى من جراء ذلك كله مجلس الريخستاج حتى اضطر «فون بابن» إلى حله. ثم أجريت انتخابات جديدة في 6 نوفمبر 1932، نال فيها هتلر 11705625 صوتا، هذا بينما زاد عدد أنصار الشيوعيين وأنصار «هوجنبرج». وكان من الواضح أن الشيوعيين هم الذين أفادوا من هذه المناورات السياسية.
ولما كان الخوف من نجاح الشيوعيين ما يزال من العوامل الحاسمة في جمع أحزاب اليمين عامة، فقد أدى هذا الخوف إلى عودة الائتلاف بين أنصار «بابن» و«هوجنبرج» و«شاخت» و«الهر هتلر»، فتعززت من ثم جبهة هارتزبرج السابقة. وفي 2 ديسمبر من العام نفسه أخرج «فون بابن» من مستشارية الريخ، وعهد هندنبرج بهذا المنصب إلى رئيس «الريشفهر» الجنرال «فون شليخر»، وكان من الواضح أن سبب سقوط «بابن» هو أنه صار من المتعذر عليه أن يظل في الحكم بعد أن أثار الأمة بأجمعها ضده، وأقنعت «البطانة» القديمة الماريشال هندنبرج بضرورة إعطاء منصب المستشارية إلى رجل قوي. ولما كان «شليخر» في هذه الآونة زعيم الجيش، فقد اعتبر أقوى رجل في ألمانيا، وساعده على تحقيق مطامعه أنه كان من أصدقاء «أوسكار فون هندنبرج» والمقربين إليه، كما أنه كان صديقا لأفراد «البطانة» التي كانت تتمتع بنفوذ كبير لدى الماريشال.
ومنذ أن وصل «شليخر» إلى الحكم طفق يعمل للقضاء على هتلر وجماعته، ولما كان يعد برنامجا شاملا للإصلاح، وكان يميل في إصلاحه الاجتماعي إلى إدخال تغييرات جريئة من أجل «خلاص ألمانيا» على حد قوله؛ فقد أصبح من السهل عليه لتنفيذ هذه الإصلاحات من جهة، ولإضعاف هتلر من جهة أخرى، أن يوطد الصلة بينه وبين جناح اليسار من حزب هتلر نفسه، وهو الجناح الذي كان يتزعمه «جريجور ستراسر
Strasser »، فعرض عليه منصب نائب المستشارية، كما أنه دعا زعيم «اتحادات التجارة الحرة» ويدعى «ثيودور ليبارت
Leipart » للاشتراك معه في تأليف الحكومة التي أراد أن تقوم على أساس اشتراكي واسع، ولكن هذه الميول الاشتراكية لم تلبث أن أثارت عليه حفيظة أصحاب الأراضي الواسعة
Junkers ، كما أغضبت رجال البطانة وشرعوا يدبرون المكائد لإسقاطه، واستطاع «فون بابن» في هذه الظروف أن يجذب الهر هتلر إلى معاونتهم عندما وعد بأن يسدد ديون الحزب النازي التي بلغت في هذه الآونة 12000000 ريشمارك تقريبا. وحدث في بداية شهر يناير من العام التالي 1933 أن عقد اجتماع في «كولون» في بيت «شرودر
Schroeder » أحد رجال المال المعروفين، وفي هذا الاجتماع تقابل هتلر مع فون بابن ومع «شرودر» بفضل وساطة أحد الوكلاء التجاريين وهو «فون ريبنتروب
Ribbentrop » وسويت مالية الحزب النازي، وأسفرت هذه التسوية عن اتفاق كل من هتلر، وشاخب وبابن، وهوجنبرج ورجال بطانة الرئيس هندبرج على ضرورة عزل «شليخر» من منصب المستشارية، ولما عجز «شليخر» عن المقاومة، فكر جديا في تأليف حكومة تستند إلى مؤازرة «الاتحادات
Unions »، وفاوض بالفعل في ذلك كلا من «جزيجور ستراسر» و«تيودور ليبارت»، ثم فاوض زعيم الاشتراكيين الديموقراطيين في الريخستاج فيما إذا كان رجال حزبه على استعداد لتأييده، ولكنه أخفق في محاولته، وازداد موقفه حرجا عندما اقترب موعد افتتاح الريخستاج في 31 يناير 1933، وكان من رأيه حل هذا المجلس قبل اجتماعه، ولكن كان لا بد من حصوله على موافقة هندنبرج ولكنه لم يوفق واستأنف شليخر المفاوضة من جديد. وعلى غير طائل ومن جانب آخر دخل الزعماء المعارضون في مفاوضات مع هتلر، ولكن هتلر أصر على أن تكون المستشارية في هذه المرة من نصيبه، وظل الحال على كذلك، حتى استطاع «فون باين» في إحدى مناوراته السياسية البارعة، أن يجمع كلمة المعارضين على ضرورة إعطاء منصب المستشارية للهر هتلر.
وكان مما اعتمد عليه «بابن» في حبك خيوط المؤامرة، الإشاعات التي انطلقت في ذلك الحين تروج خبرا مفاده: أن شليخر صار يعد العدة لإحداث «انقلاب» بمؤازرة «الريشفهر»، وبفضل هذا الخوف المصطنع أمكن التأثير في هندنبرج حتى قبل أخيرا أن يعهد بمنصب المستشارية إلى الهر هتلر، فأصبح هتلر مستشار الريخ الجديد. وفي مساء 30 يناير 1933 دبر الهتلريون مظاهرة عظيمة اشترك فيها خمسة عشر ألفا من النازيين حملوا المشاعل في حضرة أدولف هتلر، وكان إلى جانبه الماريشال هندنبرج، فقضت المظاهرة على «آمال» المعارضة، حتى إنها لم تجد مناصا عقب ذلك، من التسليم بدون إبداء أية مقاومة، وعلى إثر تعيين أدولف هتلر مستشارا للريخ الألماني، طفق يتخذ التدابير لمنع «بطانة» الرئيس من تمثيل الدور الذي أفضى إلى إقصاء كل من بروننج، وبابن، وشليخر من الحكم، فعين «هرمان جورنج» وزيرا للريخ، وقوميسيرا للطيران، ووزيرا للداخلية في حكومة بروسيا، وقد خطب «جورنج» رجال الشرطة، فقال: «إن الشرطة لم توجد من أجل العناية بأمر ثمانين أو مائة ألف مجرم في السجون، فجدير بنا أن نضع حدا لهذه الإنسانية المزيفة؛ لأن من واجب الشرطة أن تقوم بأعمال قد تبدو قاسية للغاية، ولكنها في الواقع ضرورية ولا غنى عنها البتة.» وأما هذه الأعمال التي يشير إليها فهي القضاء على أعداء النازيين ومعارضيهم. ولما كان رجال الشرطة النظاميون مائة ألف - وهو عدد لا يكفي لتحقيق هذه الأغراض - فقد شكل «جورنج» قوة إضافية من النازيين تبلغ ثمانين ألفا، وبذلك بدأ عهد الإرهاب النازي في ألمانيا، وسرعان ما تبين لمدبري المكائد السابقين من «بطانة» الرئيس أن هتلر والنازيين إنما يريدون أن يقبضوا على أزمة الحكم بيد من حديد، وأن من العبث أن يتوقعوا الاستمتاع بالمزايا التي ألفوها في العهود الماضية. ثم عظمت مخاوفهم عندما وجدوا المستشار النازي مصمما على إجراء انتخابات جديدة حتى يفوز بأغلبية مطلقة تمكنه من إنشاء حكومة مؤيدة له، واستطاع بالفعل أن ينال من هندنبرج أمرا بحل الريخستاج وإجراء هذه الانتخابات الجديدة في يوم 5 مارس 1933.
على أن موقف النازيين في أول الأمر لم يزعج كلا من بابن وهوجنبرج وأوسكار فون هندنبرج إلى حد كبير، ولم يقض مضاجعهم تهديد هتلر وأنصاره بأنهم مصممون على البقاء في الحكم مهما كانت نتيجة الانتخابات المقبلة؛ ذلك بأن النازيين كانوا قد اتفقوا معهم وقت المفاوضات التي سبقت تعيين هتلر في منصب المستشارية، على أن يظل الائتلاف قائما لمدة أربعة أعوام على الأقل، ولو اقتضى الأمر مخالفة رغبات الأمة، ولكنهم أدركوا في النهاية أن النازيين سوف يتحينون الفرص لطردهم من الحكومة، وانعدمت من ثم ثقتهم في الهر هتلر، وطفقوا يدبرون المكائد ضده، وانضم إليهم «شليخر» في ذلك. بيد أن هذه المكائد لم تكن خافية على الهر هتلر . والواقع أن الهتلريين أنفسهم لم يكونوا يتوقعون إحراز نصر حاسم في الانتخابات المقبلة؛ ولذلك شرعوا من جانبهم يدبرون «انقلابا سياسيا » يضمن لهم الغلبة والفوز في يوم 5 مارس. ومن هذه الجهود الخفية جميعها، نشأت جميع الحوادث التي كفلت الفوز للنازيين في النهاية. •••
فقد حدث في الأسبوع الثاني من شهر فبراير عام 1933، أن راجت إشاعة فحواها: أن النازيين يريدون إخراج أعضاء «الائتلاف» المتعاونين معهم من الحكومة يوم الانتخابات نفسه، ويطلبون إجراء «استفتاء عام» من أجل انتخاب الهر هتلر لمنصب رئاسة الدولة. ووجد «بابن» في هذه الإشاعة مسوغا لحبك خيوط مؤامراته من أجل الخلاص من هتلر، وقابل في ذلك «هوجنبرج» وحضر المقابلة أيضا زعماء «أصحاب الخوذات الفولاذية»، ثم تباحث «بابن» مع الجنرال «شليخر» ومع الرئيس هندنبرج ومع ابنه «أوسكار»، وأسفرت هذه المؤامرة عن وضع خطة نالت موافقة الجميع، وترمي هذه الخطة إلى حشد جند «الخوذات الفولاذية» في برلين في يوم الانتخابات نفسه، على أن يحتلوا قلب المدينة ويسهروا على حراسة «الولهلمستراس»، بينما تحتشد عدة فرق من الجيش النظامي «الريشفهر» في «دوبربتز
Döberitz » التي تبعد نحو العشرين ميلا عن برلين، على أن يغادر هندنبرج العاصمة في هذا اليوم إلى «دوبريتز» بحجة الإشراف على استعراض يقوم به جيش «الريشفهر» هناك، حتى إذا وقعت في يوم 5 مارس أية محاولة من جانب الهتلريين لإحداث «انقلاب سياسي» استطاع عشرة آلاف جندي من أصحاب الخوذات الفولاذية مقاومة جنود الهجوم النازيين
S. A.
والدفاع عن قلب المدينة حتى تأتي إليهم نجدة «الريشفهر» من «دوبريتز».
بيد أن هتلر لم يلبث أن عرف أمر هذا التدبير، فأرسل بدوره «هرمان جورنج» يحمل تهديدا إلى «سلدت
Seldte » زعيم جند أصحاب الخوذات الفولاذية، بأنه إذا أبدى هؤلاء أي حراك، فإن هتلر لن يرى مندوحة عن تعبئة قوات جند الهجوم النازيين تعبئة كاملة. وقد أحدث هذا التهديد أثره في نفوس المتآمرين الذين أزعجهم انكشاف أمرهم، وصاروا يخشون عواقب حدوث الاصطدام بين قوات الحكومة، فنكصوا على أعقابهم، وفشلت مؤامرتهم، واستطاع النازيون أن يتفرغوا لمكافحة أعدائهم الآخرين، وهم الجمهوريون والشيوعيون، فأشرف «هرمان جورنج» نفسه على تعقبهم، وفي إحدى الهجمات الفجائية التي قام بها الشرطة على مراكزهم الرئيسية، استطاع جورنج أن يعثر في مقر الحزب الشيوعي «بيت كارل ليبكنخت
Lïebknecht » على خطط مفصلة، قال جورنج إن الشيوعيين وضعوها لتنظيم إشعال الثورة في ألمانيا وأخفوها في أقبية سرية عتيقة. وكان هذا الكشف انتصارا عظيما للنازيين الذين صمموا على استغلال هذا الحادث بشكل يقضي على أعدائهم الشيوعيين قضاء مبرما في الانتخابات المقبلة، ويدخل الذعر والرعب في نفوس الأهلين. وكان أخشى ما يخشاه سواد الشعب في تلك الآونة أن يشعل المتطرفون من أحزاب اليسار نار الثورة في ألمانيا، هذا إلى أنه يقضي على كل أمل لدى «بطانة» الرئيس في إمكان الفوز على الهر هتلر وأعوانه بتدبير أية مؤامرة جديدة.
وعقب ذلك حدث في مساء 27 فبراير 1933 في الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة والأربعين أن شهد أهل برلين فجأة ألسنة النيران تصل إلى عنان السماء، واللهب يضيء المدينة، ثم تطاير الخبر بسرعة البرق، بأن الريخستاج يحترق! وكان حريق الريخستاج من العوامل الحاسمة التي ساعدت النازيين على أن يقبضوا بأيد من حديد على أزمة الحكم في ألمانيا، ويفرضوا على دولة الريخ تلك السيطرة التامة التي طمعوا فيها منذ مدة طويلة، حتى يبسطوا سيطرتهم على القارة الأوروبية، ثم على العالم أجمع في النهاية.
والواقع أن الزعماء النازيين كانوا في تلك الليلة أول من خف إلى مكان الحريق، ونقل الناس عن الهر هتلر قوله في وصف هذا الحادث: «إنه نعمة من السماء
Ein Zeichen-vom Himm el »، وأعلنت الحكومة في التو والساعة أن الحريق من صنع الشيوعيين وحدهم. وفي الليلة نفسها صادر النازيون الصحف الشيوعية وجميع منشورات الشيوعيين وإعلاناتهم الانتخابية، ومنعوا الاجتماعات السياسية، سواء أكانت في الهواء الطلق أم في منازل أفراد الحزب. وفي اليوم التالي وقع هندنبرج قرارا ألغى الدستور بمقتضاه. وفي أول مارس صدر قرار آخر يفرض «الرقابة» على البريد والتليفون والبرق في أنحاء الريخ، فتحقق بكل هذا ظفر النازيين واطمأنوا إلى الدخول في المعركة الانتخابية من غير منافس! والحقيقة أن هذه التدابير الصارمة لم تقض على الشيوعيين وحدهم، بل إنها أوجدت الارتباك والفوضى في صفوف الأحزاب الأخرى، ثم رفعت في ساعات معدودة مستشار الريخ إلى مركز الديكتاتور المطلق. ولم تكن التدابير التي اتخذها النازيون من أجل محاربة أعدائهم ومنافسيهم بنت ساعتها، بل دل صدورها وتنفيذها بالسرعة المتقدمة على أنها كانت معدة منذ مدة سابقة، وما زال التاريخ يلصق تهمة إشعال النار في مبنى الريخستاج بالنازيين وحدهم؛ إذ إنه حتى الآن ما يزال من المستحيل على أي إنسان أن يقف على كنه العلاقة التي ربطت بين النازيين وفان دير لوب هذا الشخص الأبله الذي ثبتت إدانته وحده ثم أعدم. ومن المحتمل أن تظل حقيقة هذه العلاقة مجهولة إلى الأبد.
والمعروف أن «مارينوس فان ديرلوب
Marinus Van Der Lubbe » وهو من الرعايا الهولنديين، لم يكن في يوم من الأيام منتميا إلى الحزب الشيوعي، بل كان هذا الرجل متعطلا، لا مأوى له ومن المخبولين المنغمسين في حمأة الرذيلة ومن ذوي الشذوذ الجنسي. وقد قبض عليه رجال الشرطة في ليل الحادث عند أحد أبواب الريخستاج، وليس عليه من الملابس غير سراويله؛ لأنه كما يظهر كان قد استخدم قميصه وبقية ملابسه المهلهلة في إشعال الحريق، ومع أن «جورنج» ادعى في ذلك الحين أن «لوب» كان يحمل بطاقة الحزب الشيوعي هذا إلى جانب بضعة أوراق أخرى تلصق التهمة بالشيوعيين والاشتراكيين الديموقراطيين، فإن هذا الادعاء كان كاذبا، كما أن «فان دير لوب» من ناحية أخرى لم يكن من الوكلاء النازيين أصلا.
على أنه مما تجدر ملاحظته أن «فان دير لوب» ما كان يستطيع وحده وبمفرده إشعال الحريق الذي التهم جزءا كبيرا من مبنى الريخستاج في تلك الليلة، فقد أثبت البحث أن مقدارا كبيرا من المواد القابلة للاشتعال، ومنها البترول، قد استخدم فعلا في الحرائق التي نشبت في عدة أماكن مختلفة من هذا المبنى وفي وقت واحد، ولم يكن لدى «لوب» من الملابس ما يكفي لإشعال حريق عظيم يلتهم بهو الريخستاج الكبير بأجمعه قبل وصول رجال المطافئ، وزيادة على ذلك فقد أثبت التحقيق أن وسط هذا المبنى كان شعلة من النيران عقب دخول «فان ديرلوب» إليه بدقيقتين وخمس ثوان فحسب؛ ولذلك فلابد من أن يكون هناك غيره اشتركوا معه، وعلى غير علم منه على ما يبدو في إشعال هذا الحريق الكبير. ولكن أحدا لم يقف على أثر لهؤلاء المساهمين؛ إذ استطاعوا الخروج من المبنى دون أن يراهم أحد. ولما كان هناك قبو سفلي يوضع به جهاز التدفئة، ويمتد منه ممر يربط بين أقبية الريخستاج، والمبنى الذي يقيم به رئيسه، فإن القرائن تدل على أن محدثي الحريق استخدموا هذا الممر الخفي أولا في نقل المواد الملتهبة والبترول إلى الريخستاج، ثم استخدموه في الفرار والنجاة بأنفسهم بعد إشعال الحريق، وكان رئيس الريخستاج الهر هرمان جورنح!
ومع هذا فقد اعتقل النازيون ثلاثة من زعماء الشيوعيين - البلغاريين كانوا يعيشون في برلين في تلك الآونة، وهم «ديمتروف
Dimitroff » و«تانيف
Taneff » و«بوبوف
» بتهمة إشعال الحريق، كما ألقوا القبض على الغائب الشيوعي الألماني «تورجلر
Torgler »، ثم قدموا الجميع إلى المحاكمة أمام المحكمة العليا الألمانية في ليبزج. وفي هذه المحاكمة اعترف «فان ديرلوب» بجرمه ثم أعدم، وأما «ديمتروف» فقد دافع دفاعا مجيدا وحمل حملة شعواء على الهر جورنج نفسه وعلى النظام النازي بأجمعه، وانتهى الأمر بالحكم ببراءته وبراءة زملائه الآخرين. وقد سافر «ديمتروف» إلى موسكو، أما «تورجلر» الألماني فقد أرسل إلى أحد معسكرات الاعتقال النازية.
ولكن تبرئة الشيوعيين جاءت متأخرة؛ إذ إن النازيين كانوا قد حققوا أغراضهم، فنشروا الإرهاب والرعب في أنحاء البلاد وقام الشرطة بتلك الأعمال التي قال عنها جورنج: «إنها قد تبدو قاسية للغاية ولكنها في الواقع ضرورية ولا غنى عنها البتة.» وعبثا حاول أعضاء الحكومة - من «بطانة» الرئيس هندنبرج - الاحتجاج على هذه الحملة الإرهابية، فقد أجاب جورنج على ذلك بقوله: «إنه يشعر بقوة مركزه إلى حد يسوغ له الاضطلاع بكل مسئولية!» وعمل النازيون على قمع كل معارضة، دون أن يترددوا في ارتكاب أية جريمة حتى صار الأهلون يعثرون في القنوات ومجاري المياه على جثث أفراد عديدين من «العمال» الذين عرفوا بقوة المراس والشكيمة وشدة معارضتهم للحزب النازي. وفي يوم الانتخاب قام بالمحافظة على النظام ثمانون ألفا من أصحاب القمصان السمر النازيين!
ولكن على الرغم من هذا الإرهاب العظيم، لم يظفر النازيون في يوم 5 مارس 1933 بالأغلبية المطلقة؛ فحصلوا على 43,9٪ من الأصوات فحسب، فإذا كانت هذه هي النتيجة التي بلغها النازيون وهم في أوج سطوتهم، ولا أثر للمعارضة أو المنافسة يعكر عليهم صفوهم، فماذا كان يحدث لو أن الريخستاج لم يحرق؟ ولو أن الأحزاب الشيوعية والاشتراكية الديموقراطية على وجه الخصوص ظلت حرة طليقة، تمارس حقوقها الانتخابية في أمان إلى جانب النازيين والضالعين معهم من أحزاب الوطنيين؟ لا شك في أن انتخابات 5 مارس 1933 كانت هزيمة للنازيين لا تقل عن هزيمتهم القديمة في انتخابات 6 نوفمبر من العام السابق.
ومع هذا، فقد جد النازيون حتى يوطدوا أقدامهم بكل وسيلة، فأعلن أدولف هتلر في خطاب ألقاه في مبنى «تمبلهوف» في أول أبريل أن الثورة الوطنية قد بدأت، وفي اليوم نفسه نظمت مقاطعة اليهود، وفي 2 مايو وبناء على أوامر الحكومة، صادر جنود هتلر جميع ممتلكات الأحزاب والمؤسسات العمالية في أنحاء الريخ، ولم يقاومهم أحد، وقبض النازيون على زعماء الاتحادات التجارية الحرة أمثال «ليبارت
Leipart » و«جراسمان
Grassman » وغيرهما من صغار الزعماء وألقوا بهم في غياهب السجون. وفي 18 مايو صادر الهتلريون جميع مباني وأملاك الجمعيات التعاونية - فخر الاشتراكية الألمانية - كما صادروا جميع مباني الاشتراكيين الديموقراطيين وممتلكاتهم وأموالهم ومطابعهم. وهكذا قضى الهر هتلر على كل منافسيه وأعدائه وهم: «الشيوعيون، النقابات العمالية، الاشتراكيون الديموقراطيون»، وبلغ الإرهاب النازي ذروته؛ إذ كان عدد الذين أرسلوا إلى السجون أو معسكرات الاعتقال نحو 2000000 ألماني، وانفسح المجال أمام «جند الهجوم» الهتلري، ووقع تحت رحمتهم اليهود والاشتراكيون الديموقراطيون والأحرار، ولم ينج من أيديهم الشيخ الكبير أو الصبي الصغير في غير تمييز بين الذكر والأنثى.
ولم يكد ينتهي أمر أحزاب اليسار حتى وجه الهر هتلر عنايته للقضاء على أحزاب اليمين، وكان من السهل عليه بلوغ مقاصده؛ لأن طرد النواب الشيوعيين من الريخستاج أكسب الوطنية الاشتراكية - أو النازية - والبرلمان قوة كبيرة، وبفضل هذه القوة الجديدة، استطاع الهر هتلر أن يقنع حزب الوسط الكاثوليكي في الريخستاج بأن من مصلحة هذا الحزب ومن مصلحة الكنيسة أيضا أن يظفر الهتلريون بالأغلبية المطلقة في الريخستاج، وأن حزب الوسط الكاثوليكي والكنيسة سوف يكون من نصيبهما حتما الانتعاش والنجاح في دولة الريخ الثالث، فقبل الحزب الانحياز إلى النازيين عند التصويت من أجل الموافقة على القانون الذي أعطى الهر هتلر سلطات واسعة استثنائية تمكنه من إصلاح «الدستور» ومن التشريع عن طريق إصدار المراسيم في مدة الأعوام الأربعة التالية، وعندئذ لم يتردد الهر هتلر لحظة واحدة في تطهير الحكومة من «بطانة» الرئيس هندنبرج، والذين تألفت من بينهم وبفضل مساعيهم «جبهة هارنزبرج» القديمة، فطرد في 27 يونية 1933 ألفريد هوجنبرج من الحكومة، وولى مكانه رجلا من جماعة الرأسماليين والصناعيين الذين كانوا يريدون الحرب ويجدون فيها علاجا حاسما لأزمة البلاد الاقتصادية المستحكمة وهو «الدكتور شميدت
Schmidt ». ثم عظم تهديد الهتلريين لأحزاب المحافظين من الكاثوليك والألمان الوطنيين، وحل الاضطهاد بزعمائهم، وقادتهم، كما لو كانوا من الاشتراكيين الديموقراطيين سواء بسواء. وفي آخر الأمر اضطر المحافظون إلى «تصفية» أحزابهم وجماعاتهم. وفي 14 يولية 1933 أعلن الهر هتلر أن الوطنية الاشتراكية هي الحزب القانوني الوحيد في ألمانيا بأسرها. وبهذا تكون قد بدأت حياة الريخ الثالث الجديدة ... ويكون قد تمهد الطريق لخوض غمار الحرب العالمية الثانية! •••
تلك كانت الظروف التي لابست وصول الهتلريين إلى الحكم في ألمانيا، وجمعت أسباب السلطة المطلقة في أيديهم، ومع هذا فإنه ما كان من المستطاع أن يصل النازيون إلى ما وصلوا إليه، وأن يتمكنوا من بسط سلطانهم بشكل يقضي على كل معارضة، لو أنهم لم يعنوا من بادئ الأمر بتنظيم حزبهم وتنسيق جهودهم في نظام من شأنه أن ينشر خلايا الحزب ومؤسساته وهيئاته في كل ركن من أركان الدولة، ويفرض الطاعة العمياء على كل عضو من أعضاء الحزب لزعيمه «الفوهرر» أدولف هتلر. ولذلك فإن تنظيم الحزب النازي نفسه كان من أهم العوامل التي كفلت للهتلريين الفوز، ووضعت مصير البلاد في أيديهم.
فقد جعلت دقة تنظيم الحزب الوطني الاشتراكي من الممكن أن تتغلغل أنظمة الوطنية الاشتراكية في كيان ألمانيا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، حتى هيمن النازيون في النهاية على حياة الأهلين هيمنة تامة تحت ستار إنشاء «الدولة الجديدة ذات الخدمة الموحدة»، ومعنى هذا أن ينظم نشاط أفراد الدولة في فروع المصالح - أو الخدمات - المختلفة في نطاق واحد تحت إشراف الدولة وبتوجيه منها، ولحمة هذا النظام وسداه الطاعة العمياء لزعيم الدولة. ويشبه الحزب الوطني الاشتراكي في نظامه «نظام المجموعة الشمسية»، بمعنى أن الفوهرر أو الزعيم، وهو أدولف هتلر، يتوسط مجموعة الزعماء الآخرين الذين يشرفون على كل فرع من فروع الحزب وهي كثيرة. ولما كان غرض النازيين إحراز السيطرة السياسية وإحكام الرقابة الدقيقة على حياة الأفراد الذين تتألف منهم دولة الريخ، نظمت إدارة الحزب على نحو يضمن هذه السيطرة وتلك الرقابة. ولذلك صارت هناك تنظيمات إقليمية ووظائفية واستشارية، استطاع النازيون بفضلها جميعا منذ عام 1932 أن يتوغلوا في كل ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ويتدخلوا في معيشة كل فرد من أفراد المجتمع الألماني.
وينقسم تنظيم الحزب الوطني الاشتراكي قسمين رئيسيين: يعرف أولهما باسم «هيئات الخدمة
Dienstordnungen »، ومن هذه الهيئات نظام الشبيبة الهتلرية، وخدمة العمل والخدمة العسكرية، والخدمة المدنية، والمهن الحرة، أو وظائف الأعمال الكبرى. وبفضل الالتحاق بإحدى هذه الهيئات يتسنى إعداد الفرد وتهيئته لأن يشغل إحدى الوظائف أو يمارس عملا من الأعمال من أجل خدمة الدولة، على شريطة أن يحدث هذا الإعداد تحت إشراف النازيين ووفق أساليبهم، حتى إذا كملت «تربيته» صار انتخابه كمواطن صالح لخدمة الريخ من بين أعضاء هذه الهيئات المختلفة التي يتكون من مجموعها في الحقيقة هيكل الدولة الاقتصادي والاجتماعي في ألمانيا النازية.
أما القسم الثاني: فيتألف من اندماج هذه الهيئات نظريا وعمليا فيما يعرف باسم المصالح أو الدوائر
Staende ، ومن مجموعها يتألف ما يعرف عادة بالنظام الوطني الاقتصادي، ومن هذه المصالح أو الدوائر مصلحة أو دائرة الزراعة، ودائرة الصناعة والتجارة، ودائرة الحرف «والمهن اليدوية»، وجبهة العمل، ودائرة الثقافة، وهذه الدائرة الأخيرة تخرج في الحقيقة عن محيط الحياة الاقتصادية. وقد أنشئت جميع هذه الدوائر بمقتضى قرارات ومراسيم صدرت في عامي 1933-1934، ثم أتيحت لها الفرصة حتى تثبت أركانها في خلال الأعوام السابقة على إعلان الحرب العالمية الثانية. وهكذا عندما نشبت الحرب ورغب النازيون في تعبئة مرافق الدولة في خدمة الحرب، أصبح من السهل عليهم أن يدمجوا هذه الدوائر جميعها في «المجلس العام لاقتصاد الحرب» الذي أنشئوه في يناير 1940، ووضعوه تحت رئاسة «جورنج».
ولهذا القسم الثاني في التنظيم النازي أهمية كبيرة؛ لأن «الدوائر
Staende » كما أعلن النازيون أنفسهم إنما تمثل الكيفية التي تجري بها إدارة المصالح المختلفة في الاقتصاد القومي على أساس المبادئ والتعاليم النازية الرئيسية الصحيحة. ومن المعروف أن الوطنية الاشتراكية تعتبر أن «المجتمع الإنتاجي» إنما يقوم على دعامات ثلاث، أولاها: «العمل»، وللعمل قيمة اجتماعية عظمى في هذا النظام الوطني الاشتراكي، وتهيمن «جبهة العمل» على كل ما يتصل به من شئون، وثانيتها: «الأرض» أو التربة التي ينشأ عليها الزراع، وترتبط بها حياتهم ومصالحهم، وتشرف «دائرة الزراعة» على هذا كله، وثالثتها: «الإنتاج»؛ أي إنتاج السلع التي لا بد من استخدام رءوس الأموال في صنعها، وتشرف عليه «دائرة الصناعة والتجارة». والواقع أن الروابط التي تربط بين هذه الدعامات الثلاث، وما ينجم عن تأثير كل منها في الأخرى، تحت إشراف الدولة، هو ما يطلق عليه النازيون اسم «الاشتراكية الوطنية»، على شريطة أن يتحرر «رأس المال» من خاصية العمل دائما على الزيادة والنمو بطريق الربح والامتلاك والاستئثار.
وقد أفاد النازيون من هذا التنظيم الحزبي الدقيق؛ إذ إنه جعل في مقدورهم، بعد أن دانت لهم السلطة، أن ينظموا الاقتصاد القومي في ألمانيا على نحو حقق مآربهم من السيطرة التي ظفروا بها، فاجتاز الاقتصاد النازي في نموه ثلاث مراحل: الأولى مرحلة الكفاح ضد التعطل من العمل، وقد عرف الهر هتلر نفسه هذه المرحلة؛ إذ قال في 3 فبراير 1933 ما معناه: «سوف تقوم الحكومة الوطنية بوضع حل المشكلة الكبرى؛ مشكلة إعادة تنظيم الاقتصاد الشعبي وفق برنامجين يستغرق العمل بكل منهما أربعة أعوام، هما: تحرير الفلاح الألماني حتى يتمكن من الاحتفاظ بالأسس التي تكفل إمدادنا بمورد لا ينقطع من الطعام والأغذية، تلك الأسس التي تستند إليها حياتنا، وتحرير العامل الألماني بإعداد هجوم عظيم واسع النطاق على مسألة التعطل من العمل؛ ولذلك فإنه في خلال الأعوام الأربعة المقبلة ينبغي أن يتحقق انتزاع الفلاح الألماني من حيرته وكربه، كما ينبغي في بحر هذه المدة نفسها أن يتم القضاء على التعطل عن العمل قضاء مبرما.»
أما المرحلة الثانية فقد خصصت للعودة إلى التسلح من جديد، وتحقيق مبدأ «الاكتفاء الذاتي» في الريخ الألماني. وقد أعلن الهر هتلر أيضا عن بدء هذه المرحلة حين قال في 9 سبتمبر 1936 ما معناه: «واليوم أعلن البرنامج الجديد للسنوات الأربع، وهو على الوجه التالي: ينبغي في خلال أربعة أعوام من تاريخ هذا اليوم أن تصبح ألمانيا مستقلة عن الأجانب في كل ما يلزمها من مواد لا بد أن تمد بها العبقرية الجرمانية صناعتنا الكيمائية والصناعة المخصصة لإنتاج الآلات وكذلك صناعة التعدين؛ وسوف يكون من شأن إقامة هذه الصناعات الجرمانية العظيمة، استخدام سواد الشعب بعد أن يتم تسليحه من جديد، بطرائق تكفل خدمة الاقتصاد القومي على خير وجه.»
أما آخر المراحل فكانت تعبئة الاقتصاد القومي من أجل المضي في الحرب وكسبها. وقد بدأ تحول الاقتصاد النازي إلى اقتصاد حربي قبل نشوب الحرب بمدة، عندما قسم النازيون البلاد إلى ثماني عشرة منطقة دفاعية
Wehr kreise
بدعوى ضرورة الإشراف على جميع الشئون الاقتصادية، والتأكد من أن القرارات التي تتخذ في هذه الشئون موحدة لا تضارب بينها. وقد تبع هذا التقسيم تعطيل أداة الحكم الذاتي في جميع هذه المناطق. ومن الممكن القول بأن «الاقتصاد الحربي» ظهر إلى الوجود في شكله النهائي في يناير 1940 عندما أنشئ «المجلس العام لاقتصاد الحرب» الذي مر ذكره. •••
ومما يدل على دقة التنظيم الحزبي، تلك الشدة التي اصطنعها الهتلريون في القضاء على العناصر التي بدأت تظهر شيئا من المخالفة أو المعارضة في داخل الصفوف النازية ذاتها؛ إذ كان ظهور الاختلاف في الرأي والانقسام بين النازيين عقب استتباب الأمر لهم في الحكومة، أمرا لا مندوحة عنه، لا سيما وأن أدولف هتلر الذي دعا إلى الثورة وبذل الوعود السخية من أجل إرضاء الشعب الألماني، لم ينفذ شيئا مما دعا إليه ووعد به خلال الشهور التي تلت بلوغه منصب المستشارية، الأمر الذي أثار التذمر ضده وضد حكومته في طول البلاد وعرضها. فالطبقة العمالية كانت ما تزال ترزح تحت ضغط شديد، ثم صارت في العهد الجديد في حال أشبه بحال الرقيق، يعيش أفرادها في ظل إرهاب دائم ولا يستطيعون التفكير في أية مقاومة. ومثل الطبقة العمالية في ذلك سواد الشعب الألماني. ولكن عنصرا له خطره كان يهدد بإضعاف الحركة النازية لو ترك وشأنه وسمح له بالنمو حتى يستفحل أمره، هذا العنصر هو جماعة الراديكاليين النازيين الذين لم يستطيعوا الموافقة على سياسة الهر هتلر الرجعية، وكانوا يعدون الزعيم بمثابة الأداة التي يحركها «كروب» وأمثاله من كبار رجال الصناعة وأصحاب رءوس الأموال المؤيدين للنازية، كما يحركها الجيش النظامي «الريشفهر»، وكانوا يعتقدون أن من حقهم أن يستمع الزعيم لآرائهم لا لآراء القواد الرجعيين. كما ركز في أذهانهم، بعد التمعن في معنى المبادئ التي تضمنها البرنامج النازي القديم 1920 أن شيئا من هذه المبادئ لم يتحقق، وأن الوطنية الاشتراكية لم يكن نصيبها سوى الغدر والخيانة! وكان من بين الوطنيين الاشتراكيين الذين اتجهوا صوب الاشتراكية الصحيحة، محبذين التعاون مع الاشتراكيين الخلص رجال مثل «ليبارت» وصحبه، كما كان من بينهم «جريجور ستراسر
Gregor Strasser »، وكان هذا الكيمائي البافاري ممن قام على أكتافهم جمع شتات الحزب النازي وتنظيمه عقب حركة الانقلاب المشهورة التي فشلت، والتي حوكم بسببها الهر هتلر وأودع في قلعة «لندسبرج»، أي في الفترة الواقعة بين عام 1923-1926. وقد طلب إليه الراديكاليون النازيون أن يتزعم حركتهم، وكان الزعماء النازيون أنفسهم في تلك الآونة في نضال مستمر فيما بينهم من أجل الحصول على السلطة في داخل الحزب والدولة؛ «فجورنج» ينازع «هيملر» السيطرة على قوة الجستابو و«جوبلز» يخشى «جورنج»، و«هيملر» لا يثق بالكابتن «روم» صاحب السمعة السيئة، و«روم» نفسه يساوره الشك من ناحية «جورنج»، و«جورنج » يحتقر «جوبلز» وهكذا. ولعل أخطر مشاكل تلك الآونة أن الجيش النظامي «الريشفهر» كان لا يرضى عن وجود «جند الهجوم النازيين
Sturm Abteilung (S. A.) »، وقد اتخذت تشكيلاتهم صبغة رسمية منذ أصبح الفوهرر مستشار الريخ الألماني، هذا بينما كان جنود الهجوم أنفسهم لا يثقون «بجند الحرس
Schutz Stafiel (S. S.) » الذين اختارهم الهر هتلر خصيصا من طبقات أرقى؛ حتى يكونوا حرسا له «منذ 1928».
أما أدولف هتلر، فقد أزعجته هذه الفوضى المنتشرة في صفوف حزبه ومؤيديه، وزادت حيرته عندما تدفقت عليه الآراء والنصائح من كل جانب فيما ينبغي عليه فعله حتى يقضي على الانقسام الداخلي، وكان «الريشفهر» في مقدمة المطالبين بضرورة القضاء على هذه الفوضى. وفي 17 يونية 1934 خطب «فون بابن» في «ماربورج» متحدثا باسم كبار الصناع والرأسماليين وأصحاب الأراضي الواسعة «اليونكر»، فحمل بشدة على أولئك النظريين المتعصبين الذين أحدثوا الفوضى وأرادوا أن تبقى ألمانيا متردية في أحضان الاضطراب والثورة. وحدث قبل ذلك بيومين، في 14-15 يونية أن نصح السنيور موسوليني الهر هتلر عند اجتماعهما في البندقية، بأن يقبض على أزمة الأمور بيد من حديد، ويسلك في سياسته الداخلية والحزبية طريقا لا يعرف الهوادة أو الشفقة؛ لذلك لم يأت يوم 20 يونية سنة 1934 حتى كان اليونكر، وكبار الصناع والممولين، والريشفهر، والنازيون الرجعيون قد انتهوا فيما بينهم من تأليف جبهة متحدة على استعداد تام ومهاجمة العناصر المعارضة في داخل الحزب النازي نفسه، وما هي إلا عشرة أيام حتى قامت حركة التطهير الأولى بين النازيين في حادث «حمام الدم» المشهور في 30 يونية 1934. •••
ذلك بأن النازيين كانوا معتمدين في دعم سلطانهم في العام الأول من حكمهم على جند الهجوم
S. A.
أصحاب الأردية السمراء، وكان عددهم يبلغ المليونين أو الثلاثة ملايين. وقد قام جنود الهجوم بما كلفوا به على خير وجه حتى غصت السجون ومعسكرات الاعتقال بأعداء النازيين والمشتبه في ولائهم ومن إليهم، واستمر هذا الإرهاب عاما كاملا، ولكن سرعان ما تبين بعد هذا النجاح أنه لم يصبح لدى جنود الهجوم واجبات معينة يكلفون بأدائها، هذا إلى أن الهر هتلر كان يجد قوة كبيرة أخرى يستند إليها في جماعة جند الحرس
S. S.
وفي قوة الجستابو ذات الخطر، كما أصبح في استطاعة «الفوهرر» أن يعتمد الاعتماد كله على تأييد «الريشفهر » بنوع خاص؛ لأن وزير الحربية الجنرال فون بلومبرج
Blomberg
كان من كبار المعجبين به، فانتفى لذلك كل سبب يدعو إلى بقاء جنود الهجوم، وأصبح من الضروري تسريح هذه القوة. ولكن هذا لم يرق في عين رئيس جنود الهجوم، الكابتن «إرنست روم
Roehm »؛ لذلك تقدم إلى مجلس الوزراء باقتراح يقضي بإدماج جنود الهجوم في الجيش النظامي «الريشفهر» لتأليف جيش وطني ألماني كبير برئاسته، فعارض هذا الرأي كل من «فون بلومبرج» وزير الحربية و«فون فريتش
Fritsch » القائد العام، بدعوى أن هذا الإدماج من شأنه القضاء قضاء مبرما على الجيش النظامي، فاتخذ «روم» من هذه الدعوى وسيلة لمهاجمة القواد الذين أيدهم جميع الوزراء الرجعيين أمثال جورنج وهيملر «رئيس جند الحرس
S. S. »، وكبار الصناع والممولين واليونكر، ثم طلب هؤلاء جميعا إلى هتلر أن يسرح جند الهجوم.
ولما كان النظام النازي بعد أن مضى عليه عام بطوله لم يفلح في تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية، بل كان من نتائج السياسة التي انتهجها الريخ في هذا العهد إقامة الحواجز الجمركية والتقليل من استيراد المواد الغذائية بكل وسيلة؛ حتى يتسنى للدولة جلب المواد الضرورية لصنع الأسلحة وما إليها، فقد ساء عيش الشعب الألماني، كما حدث لأول مرة منذ سنوات عدة عجز في ميزان ألمانيا التجاري، وتوترت من جراء ذلك كله الأعصاب، وكثر التذمر والاحتجاج في كل مناسبة ومن كل جانب. وساء هتلر أن يشهد في الوقت نفسه انقساما في صفوف حزبه، وكانت ريح هذا الانقسام تهب من ناحيتين: ناحية «روم» وأنصاره من جند الهجوم وكانوا في الحقيقة شراذم مجندة من عامة الشعب والسوقة، وعنصر اضطراب وفوضى، لا يعرفون قانونا، ولا يردعهم رداع، وناحية الراديكاليين من أنصار «جريجور ستراسر» وقد سبق الحديث عنهم. إزاء ذلك قرر «الفوهرر» أن يطهر الحزب من كل هؤلاء بضربة قاصمة مروعة تنشر الذعر والهلع في قلوب النازيين جميعا، وتجعلهم يتذوقون طعم الإرهاب الذي طالما أذاقوه غيرهم.
لذلك أجاب هتلر طلب «الريشفهر»، ووقع اختياره على اليوم الأول من شهر يولية تاريخا للبدء في فض تشكيلات جند الهجوم - في مدى شهرين فحسب! - على ألا يصرح لهؤلاء الجند في أثناء هذه المدة بارتداء قمصانهم السمراء، وقد أثار هذا القرار موجة من الاستياء عظيمة في صفوف هذه القوة التي كانت تعتبر «الفوهرر» مدينا لها بكل نجاح أحرزه منذ بدئ في تكوين الحزب. ومع هذا فلم يكن هناك ما يدل على أن «روم» نفسه أو غيره من قواد الهجوم الآخرين يعتزمون معارضة هذا القرار أو مقاومة الهر هتلر، ولكن موجة التذمر كانت من الشدة بحيث أقضت مضاجع زعماء «الريشفهر»؛ فشرع الجيش النظامي يستعد لمواجهة نضال مرير توقع حدوثه قريبا مع جنود الهجوم، ويبدو أنه كان لا بد من حدوث انقسام داخلي كبير أو حرب أهلية مروعة تفضي إلى تدهور الحزب النازي وفنائه في النهاية إذا ترك «جنود الهجوم» وشأنهم. لذلك رأى هتلر أن الساعة قد أزفت للقيام بعمل حاسم.
عندئذ أصدر الفوهرر أوامره المشددة إلى كل من جورنج وهيملر، بشأن ما يجب عليهما القيام به في برلين. وفي مساء 29 يونية استقل طيارة مع «جوبلز» إلى ألمانيا الجنوبية، فبلغ ميونخ في الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي «30 يونية»، وكان هتلر في المساء السابق قد طلب إلى «واجنر
Wagner » حاكم ميونخ تليفونيا أن تتخذ التدابير الكفيلة بالقضاء على زعماء جند الهجوم، وصدع الحاكم بأمره، ولقي كثيرون من هؤلاء حتفهم، واستطاع هتلر عقب وصوله إلى ميونخ أن يقف من «واجنر» على نتيجة هذا التطهير الأول، ثم استقل سيارة مع فريق من حرسه الخاص إلى ضاحية «فايسي
Weissee » على مسافة عشرين ميلا من ميونخ، حيث كان يقيم «إرنست روم» وغيره من زعماء «الهجوم» يقضون عطلتهم ويستعدون في الوقت ذاته لحضور اجتماع كان من المزمع عقده في اليوم التالي بحضور «الفوهرر» نفسه. وفي الساعة السادسة صباحا بلغ هتلر وجماعته المكان الذي كان فيه «روم»، فأيقظوه من نومه وقبضوا عليه بحضور هتلر، ثم اقتحموا في جناح آخر غرفة أخرى كان يقيم بها «أدموند هاينس
Heines » مع رفيق له، هو سائق سيارته، وقد وجدا معا في فراش واحد، فأطلق المقتحمون عليهما الرصاص . وفي ميونخ نفسها استولى «ردولف هيس
Hess » على «البيت الأسمر» مقر النازيين في هذه المدينة، ووضع به حراسا من جند الحرس
S. S. ، كما ألقي القبض في ذلك اليوم على عدد آخر من زعماء جند الهجوم في ميونخ وفي «فايسي»، أما «روم» فقد ألقي في السجن وأعطي مسدسا ينتحر به، ولكنه رفض مصمما على أن يكون موته على يد هتلر نفسه، وعندئذ أطلق عليه جند الحرس الرصاص وقتلوه في عصر اليوم التالي «أول يولية 1934».
وأما بقية فصول هذه المأساة؛ فقد تولى كل من جورنج وهيملر تمثيلها في برلين العاصمة؛ إذ انتهز الرجلان هذه الفرصة لاغتيال أعدائهما القدماء وكل من رغبا في التخلص منه لسبب شخصي. وعلى هذا قتل جند الحرس عددا كبيرا من زعماء الكاثوليك والقواد والوزراء السابقين ورجال الأكليروس وغيرهم، كما قبض الجستابو في يوم 30 يونية على «كارل إرنست» من زعماء جند الهجوم ومن أقرب المقربين إلى «روم»، وكان «كارل إرنست» في بريمن في طريقه إلى الآزورا لتمضية شهر العسل مع عروسه، فحملوه بالطائرة إلى برلين وأعدموه رميا بالرصاص. ومما هو جدير بالذكر أن هؤلاء جميعا لقوا حتفهم وهم ينادون: «يحيا هتلر!» مما يدل على أنهم ما كانوا قط يتوقعون الغدر من جانبه، ومما يدحض مفتريات الفوهرر حين ادعى فيما بعد أن جميع هؤلاء كانوا يدبرون ثورة داخلية حددوا لإشعالها اليوم نفسه الذي أوقع فيه الفوهرر هذه المجزرة الدموية بهم. وكان من بين ضحايا هذا التطهير الدموي، رئيس حكومة بفاريا القديم «جوستاف فون كار
Kahr » الذي كان من بين المتسببين في إخفاق «حركة الانقلاب» التي قام بها الهتلريون في ميونخ في 9 نوفمبر 1923، فرغم سنه المتقدمة «63 عاما» أرسله النازيون إلى معسكر الاعتقال في «داشو
Dachau » حيث لقي حتفه بعد تعذيب أليم، وكذلك لقي «جريجور ستراسر» مصرعه في منزله، كما قتل الأب ستامبفل
Stampfle ، وهو القسيس الذي ساعد الهر هتلر في تدوين كتابه «كفاحي»، والجنرال فون شليخر ، قتله الجستابو الذين هاجموه في منزله كما قتلوا زوجه التي أرادت حمايته. وكان عدد الذين أعدموا في «حمام الدم» المشئوم يزيد على الألف، وهكذا قضى الهر هتلر على جنود الهجوم وحل تنظيماتهم. •••
وكان من عوامل نجاح الهر هتلر في التغلب على جنود الهجوم ونشر الرعب والإرهاب في ألمانيا - وبخاصة في أثناء أزمة حمام الدم السابقة - أنه استطاع منذ وصوله إلى منصب المستشارية إعداد بوليس الدولة السري الألماني المعروف باسم الجستابو
Gestapo -مختصر
Geheime Staatspolizei - على أن تكون مهمته القضاء على جميع المعارضين لشخص الفوهرر ولنظام الديكتاتورية النازية.
وكان تأسيس الجستابو على يد هرمان جورنج في أبريل 1933، على أن يكون نشاط رجاله مقصورا على بروسيا وحدها، وكان جورنج في ذلك الحين يتولى رئاسة الوزارة بها إلى جانب وظائفه الأخرى المنوعة، هذا بينما كلفت قوات البوليس السياسي في «ولايات» الاتحاد الألماني الأخرى بتأدية أعمال وواجبات البوليس الوطني الاشتراكي السري. بيد أن المدة التي ظل الجستابو في أثنائها مخصصا للعمل في بروسيا كانت قصيرة. وقد أصدر النازيون عدة قوانين لتنظيم شئون التوظف في الاتحاد الألماني أقصي بمقتضاها غير الآريين والمعروفون بعدائهم أو معارضتهم للنازية وجميع المشتبه في أمرهم من الوظائف التي يشغلونها، كما أوجدت هذه القوانين نوعا من التنسيق الدقيق بين المؤسسات العامة والخاصة مطابقا لما تدعو إليه تعاليم الوطنية الاشتراكية والفلسفة النازية، ثم عين بمقتضى أحد هذه القوانين ويسمى قانون الوصاية
Statthaltergesetz
حكام أو «أوصياء
Reichsstatt halter » يتراوح عددهم بين اثني عشر وأربعة عشر حاكما مسئولين أمام الزعيم أدولف هتلر نفسه. وقد ضمن وجودهم في الحكومات الإقليمية - أي حكومات ولايات الاتحاد - استخدام الشرطة لمصلحة النازيين. ومما ينبغي ذكره أن هؤلاء الحكام، أو الأوصياء، كانوا غير القادة أو الزعماء الذين كان الحزب النازي نفسه يختارهم للإشراف على نشاط الحزب وإدارته في «المناطق الحزبية» التي أوجدها الهتلريون في ألمانيا، ويسمى هؤلاء «بزعماء الأقاليم
Gauleiter ».
ومع وجود هذه التنظيمات أدرك النازيون أهمية تعزيز السلطة المركزية الداخلية، فانتهزوا فرصة مرور عام على وصول أدولف هتلر إلى منصب المستشارية وأنشئوا نظاما جديدا في 30 يناير سنة 1934، وضع «البوليس» بمقتضاه تحت إشراف الريخ، وجعل الإشراف على إدارته من نصيب ولايات الاتحاد الألماني، وهي التي أصبحت منذ صدور «قانون الوصاية» السابق عبارة عن مقاطعات إدارية ليس غير. ثم ظل «بوليس» الريخ الألماني الجديد مفتقرا إلى زعيم يستقل بالهيمنة على شئونه، غير وزير الريخ للشئون الداخلية الذي يعد بحكم منصبه مسئولا عن هذه القوة، حتى عين «هنريك هيملر» في أبريل 1934 رئيسا لأهم فروع هذا «البوليس» وهو الجستابو، وكان هيملر ممن اشتركوا في تنظيم «جنود الحرس
S. S. »، ثم عين زعيما لهم في عام 1929، كما أنه كان من كبار النازيين الذين قاموا بتنظيم المخابرات السرية في داخل ألمانيا وفي البلدان الأجنبية، ثم لم يلبث أن عهد إليه بسبب هذه الخبرة الواسعة برئاسة البوليس السياسي في نوفمبر 1933 أولا في همبرج ثم في مكلنبرج ولوبك، وثورينجيا، وهيس، وبادن، وسكسونيا، ثم عينه «جورنج» رئيسا للبوليس السري في حكومة بروسيا. وهكذا بعد مضي أقل من ثلاثة شهور على وضع «البوليس» تحت إشراف الريخ، عين هنريك هيملر رئيسا «للبوليس السري» في دولة الريخ قاطبة. وفي أثناء حوادث «حمام الدم» المعروفة، كان هيملر رئيس قوة الجستابو الرهيبة.
وظل الجستابو يعمل دون أن يحدد القانون وظائف رجاله؛ بل كان كل ما حدث في هذه الناحية، أن صدرت قرارات أو مراسيم بالموافقة على إجراءات ما يعرف باسم «الحبس الوقائي» في 28 فبراير 1933 و8 مارس 1934، كما قررت محكمة الإدارة البروسيانية في 2 مايو 1935 أن «البوليس السري» لا يخضع للرقابة القضائية، ثم لم يلبث أن تأيد هذا الحكم بصدور قانون بروسياني جديد في 10 فبراير 1936، جاء فيه:
أن أوامر وأعمال البوليس السري لا تدخل تحت إشراف المحاكم الإدارية، أو في دائرة بحثها.
هكذا ظلت جميع الشئون المتعلقة بنشاط الجستابو لا يوضح معالمها أو يبين حدودها قانون في دولة الريخ الثالث، بل إن كل ما صدر في هذا الموضوع كان لا يخرج عن تحديد مركز هيملر إزاء وزير داخلية الريخ من حيث مسئولية رئيس الجستابو أمامه، وتعيينه نائبا له في حالة غياب الوزير، وزيادة على ذلك، أعطى هيملر مقعدا في مجلس الوزارة كلما اجتمع الوزراء لبحث المسائل المتعلقة بأعمال «البوليس».
ولعل أهم ما يلاحظ في ذلك كله، أن الجستابو كان مستقلا كل الاستقلال عن الرقابة القضائية. وقد تقدم كيف قضت المحكمة الإدارية البروسيانية في 2 مايو 1935 بعدم خضوع البوليس السري لهذه الرقابة، وجاء في هذا الحكم أيضا أن أي أمر يصدره الجستابو بسجن الأفراد في «الحبس الوقائي» لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون موضع معارضة في المحاكم القانونية، ثم تأيد هذا الحكم في الفترة التالية، عندما صدرت أحكام أخرى بهذا المعنى أيضا في عام 1936، وفي نفس العام صدر قانون مشهور وضح أعمال الجستابو ومدى نشاطه، فجاء في هذا القانون ما معناه: «أن من واجب بوليس الدولة السري أن يكشف أمر جميع القوى المتضامنة التي يعتبر وجودها خطرا على الدولة وأن يقاومها، ومن واجبه كذلك أن يجمع ويقدر النتائج التي يسفر عنها هذا البحث، على أن يخبر الحكومة بهذه النتائج، وأن يضع تحت تصرفها كل ما يجمعه من أدلة وبراهين، ثم يفصل رئيس بوليس الدولة السري بالاتفاق مع وزير الداخلية في المسائل التي ينبغي أن تكون العناية بها من نصيب بوليس الدولة السري، وعلى أن يجري الفصل في كل مسألة على حدة.»
ووسائل الجستابو في أعماله ثلاث: الإنذار أو التحذير، والحبس الوقائي، والإرسال إلى معسكرات الاعتقال. وقد جرت العادة عند الرغبة في التحذير، أن يستدعى الشخص المراد إنذاره إلى أقرب مركز للبوليس السري، ويتلو الجستابو عليه بعض الحقائق المتعلقة بحياته الخاصة، وما يكون قد تفوه به من أقوال لا يرضى الجستابو عنها، ثم يحذره من العودة إلى ذلك وإلا أرسل إلى معسكر للاعتقال، أما مسألة «الحبس الوقائي» - فهي بحاجة إلى شيء من البيان والتفسير. والأصل في الحبس الوقائي أنه كان مخصصا لوقاية الأفراد الذين لم يرتكبوا جرما معينا، وإنما توصلوا بسبب مسلكهم إلى إثارة كراهية الجماهير ضدهم إلى حد يخشى معه أن يلحق بهم مكروه على أيدي الجماهير لو أنهم تركوا وشأنهم، فلا تجد الشرطة مناصا في هذه الحالة من حجزهم في مركز «البوليس» لوقايتهم من سخط الجماهير عليهم. غير أنه عندما وصل الوطنيون الاشتراكيون إلى الحكم قبض رجال الشرطة على عدد عظيم من الأفراد وأودعوهم الحبس الوقائي من غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ومن غير أن تتحقق الشروط المتقدمة في أحوال المقبوض عليهم. وعلى هذا خرج الحبس الوقائي عن كونه إجراء تقتضيه حماية الأفراد من بطش الجماهير، إلى إجراء صار الغرض منه مجرد «حماية» الدولة من نشاط أفراد اعتبرهم النازيون أعداء لهم. أما معسكرات الاعتقال فكانت أشد الوسائل خطرا، وكثيرا ما لجأ إليها الجستابو للقضاء على أعداء النظام النازي في ألمانيا، ومع أنه كان من المتعذر وقتئذ معرفة عدد هذه المعسكرات بالدقة، فقد اكتسبت بعضها شهرة سيئة كبيرة حتى أصبحت أماكنها معروفة، ومن بينها معسكر الاعتقال في «أرانينبرج
Oranienburg » ثم في «بوشنفلد
Buchenweld » و«داشو
Dachau » و«ساشسنهاوسن
Sachsenhausen » وغيرها. وكان من بين هذه المعسكرات ما هو مخصص لاعتقال النساء.
ومع أن نظام الجستابو كان من الأسرار التي حرص النازيون على عدم إفشائها بحيث لم يكن يعرف دخائله سوى عدد قليل من كبار الزعماء النازيين أنفسهم، فقد استطاع أنصار المقاومة الخفية في أوروبا النازية الوقوف على حقيقة هذا النظام الذي كان من نتائجه انتشار وكلاء الجستابو للتجسس على حياة الأفراد الخاصة والعامة في كل ركن وزاوية.
وكانت قوة الجستابو موزعة على دوائر
Kreise
ثلاث: الدائرة الأولى
Kreis I : كان مقرها شارع البرنس ألبرت في برلين، وكانت فروعها منتشرة في أرجاء ألمانيا، وهي الهيئة التنفيذية لقوة البوليس السري المخصصة للتجسس على الشئون الداخلية، وكان رجالها ينبثون في كل قرية، ويشرفون على أعمال البوليس العادي - أي رجال الأمن المحلي - كما كان من اختصاص هذه الدائرة الهيمنة على معسكرات الاعتقال.
أما الدائرة الثانية
Kreis II : فكان مقرها في ميدان إسكندر، وكانت تختص بالإشراف على أعمال ونشاط الدائرة الأولى، وتتولى «مراقبة» البريد والتليفون والبرق، وينتشر رجالها على حدود الريخ، وفي مكاتب السياحة والسفر، وفي المطارات المدنية، والفنادق الكبيرة. وزيادة على ذلك كانت هذه الدائرة تتولى الإشراف على جميع الوكلاء وأعضاء الهيئات النازية في الخارج، كما تقوم بتوجيه نشاطهم، فكان يذهب في كل ثلاثة شهور مفتشون يمثلون هذه الدائرة لزيارة المراكز الفرعية الموزعة في أنحاء العالم، وكان «الجستابو الأجنبي» منفصلا كل الانفصال عن البعوث والهيئات الدبلوماسية العادية، ولو أن كل سفارة أو مفوضية أو قنصلية في البلدان الأجنبية لم تكن تخلو من وجود رجل من الجستابو يعمل ضمن موظفيها.
وفي الدائرة الثالثة
Kreis III : كانت تتركز سلطة الإشراف التام على نشاط الجستابو في الدائرتين السابقتين، وكانت هذه السلطة في أيدي جماعة من ذوي الشخصيات المجهولة، ومن المعتقد أنهم كانوا يتلقون تعليماتهم من مكتب هنريك هيملر نفسه، وهو مقر جنود الحرس
S. S.
المخصصين لحراسة مستشار الريخ - ورئيس الدولة - بعد أن توفي هندنبرج في 2 أغسطس 1934. وكانت مهمة أعضاء الدائرة الثالثة إلى جانب الإشراف على أعمال الدائرتين الأولى والثانية ملاحظة سلوك موظفي الحكومة قاطبة، بما في ذلك المبعوثون السياسيون والعسكريون في الخارج، ومراقبة نشاط الهيئات الدبلوماسية والقنصلية في البلدان الأجنبية.
وإلى جانب هذه الدوائر، كانت هناك دائرة رابعة
Kreis IV : تعمل على توجيه نشاط وكلاء الطابور الخامس في أنحاء العالم، على أن تتعاون في ذلك مع قسم الجاسوسية العسكرية برآسة الكولونيل نيكولاي
Nicolai
وكان من ذوي السمعة السيئة.
الفصل السابع
ألمانيا النازية
سيطر النازيون بفضل تنظيماتهم الحزبية على الحياة الألمانية سيطرة كاملة، وكان غرضهم من هذه السيطرة أن يؤلفوا من الريخ تلك الكتلة الصلدة المتماسكة التي اعتبروا وجودها ضروريا من أجل إحراز السيطرة على القارة الأوروبية، ثم على بقية العالم في النهاية. ولا ريب في أن النازيين نجحوا في فرض سلطانهم على ألمانيا، ولو أنه من المشكوك فيه أنهم نجحوا في تأليف تلك الكتلة الصلدة المتماسكة التي كانوا يحلمون بها. وقد أفضى العمل على فرض سلطانهم على الريخ إلى التدخل في حياة الأفراد، رجاء أن يتمكنوا من توجيه الحياة العامة في ألمانيا حتى تسير في طريق واحد وعلى أسلوب واحد، ثم يقضون في أثناء ذلك على كل معارضة أو تذمر ويسعون لخلق الفرد الألماني الذي يبغون خلقه من جديد وفق الطراز النازي الصميم، أي الفرد الذي لا يستطيع أن يتذوق طعم السعادة الحقيقية الخالصة إلا بالاندماج أو الفناء في شخص الدولة التي يهيمن الزعيم على شئونها ومصيرها.
ولما كان إحكام هذه السيطرة الداخلية من أول الأسس التي أراد النازيون أن يشيدوا عليها صرح السلطة في داخل ألمانيا وخارجها، فقد وضعوا نصب أعينهم منذ أن خلص الحكم لهم التدخل في حياة الفرد والأسرة. ومر هذا التدخل في مراحل معينة، فنشط النازيون في أول الأمر يبغون فرض رقابتهم الدقيقة على حياة أعضاء الحزب النازي الخاصة؛ حتى ينشئوا أعضاء الحزب تنشئة نازية خالصة صحيحة، ويقصوا من صفوف الحزب كل المشتبه في ولائهم لتعاليم النازية ولشخص الزعيم؛ لذلك لم يكد النازيون يطمئنون إلى خلوص الحزب من كل شائبة، حتى طفقوا يتدخلون في حياة بقية المواطنين. ومنذ بداية شهر مايو عام 1936 اتسعت سلطة الزعماء السياسيين حتى شملت كل مواطني دولة الريخ، وكانت فترة هذه المرحلة طويلة - وهي مرحلة بدأت في الحقيقة منذ وصول النازيين إلى الحكم في عام 1933، وامتدت إلى وقت نشوب الحرب العالمية الثانية في عام 1939، وفي أثنائها بذل النازيون كل جهودهم حتى يعمموا المبادئ والتعاليم النازية ويطبقونها في مناحي الحياة جميعها من خاصة وعامة، ثم صاروا يعملون على تنظيم المجتمع الألماني وفق «توجيه موحد» كاف، الغرض المقصود منه أن يصبح الريخ الثالث مستعدا لخوض غمار الحرب في النهاية من أجل بسط السيطرة الجرمانية على أوروبا ثم على العالم أجمع.
بيد أن اشتعال الحرب لم يلبث أن أفضى إلى زيادة توغل النازيين وتدخلهم في حياة الأفراد الخاصة، حتى يشتد إحكام «التوجيه الموحد» ويقوى الإنتاج الحربي إلى الدرجة المطلوبة من جهة، وحتى يمتنع على الأهلين أي سبيل للتذمر أو المعارضة الداخلية من جهة أخرى. ولذلك فقد ساءت حياة الفرد العادي في أثناء هذه المرحلة إلى حد كبير، وسرعان ما اشتد طغيان النازيين، وبخاصة منذ بدأت حربهم مع الروسيا «في يونية 1941»، حتى تحطمت حياة الفرد الخاصة تحطيما، وعبأت الدولة الكهول والنساء في خدمة الحرب. وتذوق الألمان طعم الهزيمة في الميادين الروسية، ثم أصابهم الدمار في بلادهم عندما أخذت أسراب الطائرات البريطانية والأمريكية تلقي على مدنهم الصناعية الكبيرة أطنان القذائف المحرقة والمدمرة دون رفق أو شفقة، وفي هذا الدور الأخير كان قد بلغ السيل الزبى، وعجز الأفراد عن أن يحتملوا أكثر مما أرغموا على تحمله من تضحية بالغة طوال السنين الماضية، واضطر النازيون اضطرارا إزاء ذلك كله إلى الاعتراف بوجود ما أطلقوا عليه هم أنفسهم اسم «الجبهة الداخلية» أي الجبهة التي كان عمادها سواد الشعب الألماني المتذمر من ثقل التضحيات التي تحملها على غير طائل.
ومنشأ سيطرة النازيين على حياة الأفراد الخاصة والعامة في ألمانيا أن زعماءهم وقادتهم كانوا يعتبرون أن من واجبهم الإشراف على نشاط الأفراد وتوجيه هذا النشاط الوجهة التي يريدونها؛ لأن الأفراد إذا تركوا وشأنهم كانوا في نظرهم كالأطفال الذين لا يعرفون غير اللهو والعبث، ولا يمكن أن يقدروا ما فيه مصلحتهم أو يصرفوا نشاطهم في وجوه غير التي تطلبها أو ترتضيها الدولة، هذا بينما كان إفناء الفرد في الدولة من المبادئ الأساسية في نظام الوطنية الاشتراكية، وقد قال الدكتور «لي
Ley » زعيم جبهة العمل، ما معناه: «إن الأفراد الذين يتألف منهم كل شعب أطفال؛ ولذلك ينبغي أن يعاملوا كما يعامل الأطفال سواء بسواء.» إلى أن قال: «وعلى السياسي أن يشرف بنفسه على كل شيء.» وقد استطاع النازيون أن يستأثروا بهذا الإشراف والتوجيه كل الاستئثار، فاعترف الدكتور «لي»: «بأنهم - أي أتباع هتلر - قد أوجدوا زعامة تعهدوها حتى أضحى من الممكن أن تقوم هذه الزعامة بفحص حالة كل مواطن مهما صغر شأنه، وإرشاده إلى الطريق الذي ينبغي عليه أن يسلكه في حياته وفق أسباب معقولة.» ولم يكن «لي» مغاليا فيما ذهب إليه أو اعترف به؛ لأن هذا الفحص وذلك الإرشاد، أو بالأحرى إرغام المواطن على أن يسلك مسلكا معينا في حياته الخاصة والعامة، هو ما كان يقوم به النازيون بالفعل في دولتهم الوطنية الاشتراكية، ويسوغ «لي» نفسه هذه السيطرة المرهقة بقوله، واصفا الثورة النازية بأنها: «ثورة شاملة وينبغي أن تكون شاملة، ولا يمكن أن تجيز استثناء، ولو رغب أصحابها ومنشئوها في ذلك.» ولذلك لم يكن هناك مكان لما يصح أن يوصف بالفرد العادي في ألمانيا الوطنية الاشتراكية، بل إن الفرد في دولة أدولف هتلر ما كان في وسعه أن يستمتع بحياته الخاصة إلا وقت النوم فحسب؛ إذ «مضى العهد الذي يمكن أن يقال فيه: إن هناك شئونا خاصة في ألمانيا.»
وهذه المبادئ هي التي طبقها النازيون في دولتهم بكل دقة، ولم يلجأ النازيون إلى المواربة لإخفاء ما كانوا يريدون؛ بل أعلن الدكتور «لي» تأييدا لإشراف الدولة - أي الحزب النازي نفسه - على حياة الأفراد: «إن من الواجب على كل فرد أن ينضم إلى صفوفنا ويسير معنا، ومن واجبه أن يقبل العمل بالروح المتغلبة علينا ويرضى به، وإلا تعذر عليه تماما أن يجد هواء يستنشقه؛ لأننا سوف نحرمه أية فرصة تمكنه من كسب عيشه، بل ندعه يموت ويفنى، وإذا قال قائل إنه يريد أن يترك وشأنه ليعيش في سلام أجبناه بالنفي دائما، وقلنا له: كلا يا صديقي، فإني لن أفكر في فعل شيء من هذا مطلقا.» والواقع أن الدكتور «لي» كان يعني ما يقول؛ إذ من المعروف أنه كان لديه حوالي المليون من الرجال المنتشرين في كل نواحي البلاد مهمتهم الأولى الحرص على تطبيق ما قاله زعيم جبهة العمل في الريخ الثالث.
ولما كانت هذه مبادئ النازية وتعاليمها، ولم يكن مسموحا للأفراد أن يتخلفوا في الطريق حتى يحيوا الحياة التي يريدونها، عني النازيون من مبدأ الأمر بضرورة القضاء على كل معارضة من شأنها عرقلة سير هذا النظام الوطني الاشتراكي، وضربوا بيد من حديد على كل مخالفة داخلية منذ خلص لهم الحكم في ألمانيا، فقد تساءل وزير دعاوتهم المعروف الهر جوبلز في خطاب ألقاه في نوفمبر 1934: «عن أولئك الذين ينقضون النظام القائم»، فقال: «هل هم من أعضاء الحزب النازي؟ كلا! هل هم إذن بقية الشعب الألماني؟ إذا كان الأمر كذلك فخليق بهم أن يعدوا أنفسهم سعداء ؛ لأنهم لا يزالون على قيد الحياة! الواقع أنه من المتعذر كل التعذر أن يطمع إنسان يعيش بفضل ما نظهره من رحمة عليه، في أن نسمح له بتوجيه النقد إلينا.» ورغبة في أن يقضي النازيون على كل أثر للمعارضة أو التذمر اعتبرت «محكمة الريخ العليا» أي نقد يوجه للنظام القائم من الأمور التي تدخل تحت طائلة القانون، وتقتضي عند الإدانة توقيع العقوبة الصارمة، سواء أكان هذا النقد أو التجريح أو التعريض في دائرة الأسرة وبين جدران البيت، بين الزوج وزوجه أو الوالد وولده، أم كان علانية في محل عام، بل إن هذه المحكمة العليا لم تلبث أن ذهبت في سبتمبر 1937 إلى أنه من واجب الأفراد أن يتحللوا من أية يمين أقسموها على كتمان حديث دار سرا وتناول المتحدث في أثنائه النظام القائم أو نشاط المهيمنين على شئون الشعب بالنقد أو التجريح، كما ذهبت إلى أنه من حقها توقيع العقوبة في الحالات التي يثبت فيها أن المتحدث لم يكن يريد التشهير بالنظام القائم أو بأشخاص المسئولين عن هذا النظام أو بأعمالهم ونشاطهم. ومن الطريف أن المحكمة العليا قضت بعدم إنزال العقوبة بالأشخاص الذين يثبت أنهم كانوا يتحدثون إلى أنفسهم ولا يقصدون إذاعة شيء مما يقولون، ولا يرومون أن يسمع أحد ما يتحدثون به إلى أنفسهم، وكذلك أولئك الذين يدونون انتقاداتهم في مذكرات أو يوميات خاصة، ولا يحتفظون بها من أجل نشرها، ثم وقعت هذه المذكرات أو اليوميات بطريق المصادفة أو الإهمال في أيدي غيرهم. ومع هذا كان «الجستابو» يأخذ برأي مخالف لما ذهبت إليه المحاكم في هذه الشئون وما يماثلها. وقد تقدم كيف سيطر الجستابو سيطرة تامة على الحياة في ألمانيا حتى صار لا يمكن أن يفلت من قبضته إنسان.
وكان من أثر ذلك أنه لم يعد في ألمانيا وجود لحياة خاصة، في البيت أو الأسرة، كما انعدمت الحياة الحرة الطليقة التي تكفل حرية الرأي والفكر والعمل. ومن أقوال بعض الذين درسوا هذا الموضوع في ألمانيا النازية قبل الحرب: «إن تدخل النازيين في حياة الفرد إنما يبدأ في الحقيقة قبل أن يولد ويخرج إلى عالم الوجود، ثم يظل هذا التدخل باقيا حتى بعد وفاة الفرد وانتقاله إلى العالم الآخر؛ لأن النازيين هم الذين يقررون هل ينبغي لك أن تولد أو لا تولد، فهم الذين يقررون أي الأشخاص يصح له أن يتزوج أو لا يتزوج، وهم الذين يشترطون على من يرغب في الزواج، ويصرح له بذلك، أن يختار الزوج التي يرون أنها تصلح له، وهم الذين يقررون إذا كان ينبغي للمتزوج أن يكون له نسل أو لا يكون، كما أنهم يقررون مصير من يرونهم غير صالحين للزواج، فيقتلونهم أو يخصونهم أو يعقمونهم.» وليس أدل على مبلغ صحة هذا القول من النظر في حياة أسرة عادية في ألمانيا النازية. •••
وفي التنظيم النازي تحتل الأسرة مكانا ممتازا، لا لأن النازيين يعنون بدعم أركانها على اعتبار أنها الأساس الذي يقوم عليه بنيان المجتمع، وإنما يعنى النازيون بأمر الأسرة من وجهة نظر محدودة؛ إذ يعتبرونها مجرد «أداة» تمكنهم إذا أحكموا الإشراف عليها، وسيطروا على حياة أعضائها، من بنيان النظام الوطني الاشتراكي الذي ينشدونه، وهو نظام كما تقدم القول، يرمي إلى إفناء الأسرة في شخص الدولة، وإفناء الفرد في شخص الزعيم تحقيقا في نهاية الأمر لمبدأ الزعامة المسئولة. ومن هذه الناحية وحدها نشأ اهتمام النازيين بأمر الأسرة، فإذا عرف أن من برنامج النازيين لتحقيق سيطرتهم الأوروبية والعالمية، أنه ينبغي من مبدأ الأمر تأليف كتلة صلبة متماسكة في قلب الريخ الألماني، أصبح من الميسور إدراك ما للأسرة من أهمية في نظامهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ إذ كيف يتسنى لهم إنشاء ذلك المجتمع النازي المتماسك في قلب ألمانيا إذا ظل أعضاء كل أسرة أحرارا طليقين، يعيشون ويفكرون، ويعملون كما يشاءون؟ لذلك لم يكد يتسلم النازيون أزمة الحكم في ألمانيا حتى شرعوا ينظمون حياة الأسرة تنظيما دقيقا، ارتبط منذ البداية بالخطط والقواعد التي وضعوها لدعم النظام الجديد، الذي أكثروا من الدعاوة له عندما أحرزوا انتصاراتهم الخاطفة في القارة الأوروبية، بينما لم يكن هذا النظام جديدا في الحقيقة، بل عرفه الأهلون أنفسهم وتذوقوا طعمه في ألمانيا ذاتها، قبل أن يطبقه النازيون في بقية أرجاء أوروبا المفتوحة بزمن طويل.
وكان معنى الإشراف على تنظيم حياة الأسرة، تدخل الدولة - أو بالأحرى الحزب النازي نفسه - في شئون الزواج، وتربية الأطفال والناشئة، والصحة العامة، كما اقتضى هذا التدخل بحث مركز المرأة، وتحديد العلاقة بين المرأة والرجل، وتنظيم حياة الأسرة من الناحية الاقتصادية أيضا لتعيين مقدار حاجاتها من مأكل وملبس ومأوى وما إلى ذلك من مطالب.
على أن هذا التنظيم لم يكن سهلا هينا؛ لأنه كان يرتبط في الحقيقة بجميع المسائل والمعضلات الاجتماعية الاقتصادية التي واجهت النازيين من أول الأمر، وأهمها: مسائل الآرية واليهودية، وتحديد النسل أو الإكثار منه، واحتقار المرأة أو الإعلاء من شأنها، وإجازة العلاقات الجنسية الشاذة أو تشجيع الزواج، إلى غير ذلك.
ولعل أدق المشكلات التي كانت تواجه الفرد الألماني العادي في دولة النازيين، هي مشكلة زواجه، ولما كان من المتعذر الإفاضة في بحث فكرة الزواج ومنشئها البيولوجي أو الاجتماعي، وتطورها في مختلف العصور، فقد يكفي أن يذكر القارئ أن الزواج في المجتمع الألماني، قبل وصول النازيين إلى الحكم، كان يتم بناء على الرغبة المتبادلة بين الرجل والمرأة على أساس اتفاق الميول أو العاطفة أو المصلحة. ولكنه لما كان الزواج هو الأساس الذي يمهد لقيام الأسرة والرباط الوثيق الذي يحفظها، لم يرض النازيون بأن يظل الزواج من المسائل الشخصية المتروكة لتدبير الراغبين فيه؛ بل جعلوا للزواج مقاييس جديدة: جنسية، واجتماعية، وعقلية، وجثمانية، وخلقية، بدعوى أن ملاحظة هذه المقاييس من الأمور التي تعني الدولة ذاتها قبل أن تعني الأفراد؛ لأن مهمة الدولة في النظام النازي الجديد، إنما هي السهر على إعداد مجتمع وطني اشتراكي صميم، وينبغي لذلك أن تتوافر في الأفراد الذين يتألف منهم هذا المجتمع صفات جثمانية وجنسية وعقلية وخلقية خاصة؛ لذلك سرعان ما أصدر النازيون في هذا الشأن قانونا أسموه: «قانون المحافظة على صحة الشعب الألماني الوراثية»، واشتهر هذا القانون باسم: «قانون الصحة والزواج ».
وبمقتضى هذا القانون أنشئت رقابة صارمة على الزواج، فمنع من الاستمتاع به كل مصاب بعاهة جثمانية أو عقلية أو انحلال خلقي ، ثم تحتم في الوقت نفسه على كل راغب في الزواج أن يحصل مقدما على «شهادة صلاحية للزواج»، وهذه الشهادات كانت تصدرها السلطات المسئولة عن الصحة العامة - أو مكاتب الصحة العمومية - ولم تكن تعطى لمن يطلبها إلا إذا فحص فحصا دقيقا وأجاب على عدة أسئلة تتعلق بحالته الشخصية، وبحال أسرته. ومن المسائل التي كان يفحصها «الممتحنون» وينبغي تدوينها في «شهادة صلاحية الزواج»، أو رخصة الزواج: مقدار نمو الشخص الجثماني، وتوزيع الدهن في جسمه، ونمو عضلاته، ثم حياته الجنسية وحال أعضائه التناسلية، وعدد مرات إخفاقه في أثناء دراسته ونواحي نموه العقلي وسن الطفولة التي أمكنه فيها أن يتكلم وأن يمشي وكذلك أمراض الطفولة، ومقدار انكبابه على الكحول والتدخين ومدى قدرته على الإنسال، إلى غير ذلك من الأمور، وكانت جميع هذه التفاصيل تدون على أحد وجهي الرخصة المعطاة، بينما يلصق على الوجه الآخر صورة شمسية نصفية لصاحب الرخصة.
أما الأشخاص الذين كانوا يحرمون بتاتا من الزواج - رجالا كانوا أم نساء - فهم الذين كانوا يدخلون بمقتضى قانون الصحة والزواج، في زمرة جماعة من الجماعات الأربع الآتية؛ أولا: الأشخاص المصابون بأمراض معدية، ويخشى أن يفضي زواجهم إلى نقل هذه الأمراض إلى زوجاتهم - أو أزواجهم - أو إلى أطفالهم. ثانيا: كل الموضوعين تحت الوصاية أو ما يماثلها. ثالثا: الأشخاص الذين - على الرغم من عدم وجودهم تحت نوع من أنواع الوصاية - يثبت أنهم مصابون باختلال أو ارتباك عقلي، ويبدو من وجهة نظر المجتمع عموما في هذه الحالة أنه من غير المرغوب فيه زواجهم. رابعا: الأشخاص المصابون بأمراض وراثية. وزيادة على ذلك فإن المحاكم النازية عند تفسير هذا القانون ما لبثت أن أضافت جماعة خامسة حرم عليها الزواج، ووصف أفرادها بأنهم من الذين يعتبر زواجهم مخالفا لروح القانون وأهدافه، مثال ذلك: الرجل الذي صار عقيما، فإنه لا يبغي له أن يتزوج من امرأة متمتعة بصحة طيبة وبقدرة كاملة على الإنسال؛ لأن الزواج في هذه الحالة لا يؤدي الغرض منه، وهو إنتاج الأطفال الذين تحتاجهم الدولة.
وأما الأمراض المعدية فهي الزهري والحمى الصفراء والدفتريا والتيفوس، والبرص والجدري، والطاعون، والسل. وأما الموضوعون تحت الوصاية فهم أولئك الذين تقرر المحاكم عدم قدرتهم على إدارة شئونهم لإصابتهم بالخبل أو إمعانهم في السكر، أو إسرافهم في الاقتراض والاستدانة. وأما أفراد الجماعة الثالثة فهم المتهمون باللواط، والاختلاط الجنسي الشاذ مع النساء، وهؤلاء يجب عليهم أن ينتظروا حتى يكتب لهم الشفاء التام من هذه الأدواء وكذلك الميالون إلى الإجرام أو الذين صدرت ضدهم أحكام بسبب القتل أو السرقة أو خطف الأطفال والأفراد.
ولعل أقسى ما في هذا القانون حرمان الطائفة الثانية من الزواج؛ إذ كيف يتسنى تحديد مدى الاختلال أو الارتباك العقلي الذي يمنع صاحبه من الزواج إطلاقا، أضف إلى هذا أنه حتى في الحالات الأخرى، ما تزال مسألة انتقال الأمراض أو العاهات بالوراثة من المعضلات التي يعالجها العلم ولم يصل فيها إلى رأي حاسم، كما أنه لم يقم دليل قاطع على أن جميع الموضوعين تحت الوصاية أو ما يماثلها لا يصلحون للزواج، ومع هذا فقد تشدد النازيون في تنفيذ هذا القانون إلى حد أنهم صاروا يعتبرون كل زواج وقع مخالفا لمقتضيات «قانون الصحة والزواج» كأنه لم يكن، وكل شخص يقدم على مخالفة هذا القانون يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ثلاثة شهور.
ولم يقنع الزعماء النازيون بإصدار هذا القانون، كما أنهم لم يشاءوا أن يتركوا المحاكم تجري تطبيقه حسبما يبدو لها، فطفقوا من ناحية أخرى يقسمون النساء الألمانيات الصالحات للزواج مجموعات حسب صلاحيتهن البيولوجية، فقال «ولثر داريه
Walther Darré » وزير للزراعة في دولة الريخ، وزعيم المزارعين أو الفلاحين، ما معناه: «إن الألمانيات ينقسمن من هذه الناحية أربعة أقسام: فهناك نساء الدرجة الأولى؛ ويسمح لهن بالزواج من الأشخاص الذين وصفهم «داريه» بأنهم يؤلفون طبقة الأشراف «النازية» الجديدة. وأما نساء الدرجة الثانية؛ فهن اللواتي يسمح لهن بالزواج من هؤلاء الأشراف أو النبلاء، إذا نجحن في خدمة المجتمع في فترة يوضعن في أثنائها تحت الاختبار - ولو أنه لم يبين نوع هذه الخدمة. وأما نساء الدرجة الثالثة؛ فهن اللواتي يستطعن الزواج من رجال الفئة السفلى، على أن تقوم الدولة في هذه الحالة بعقم هؤلاء الرجال حتى لا ينسلوا أطفالا مشابهين لهم من الفئة السفلى. وأما نساء الدرجة الرابعة؛ فهن اللواتي لا يسمح لهن بالزواج أو الإنسال إطلاقا».
وكأن جميع هذه القيود والاشتراطات لم تكن كافية، فتحدثت إحدى المجلات النازية عن مقياس جديد للزواج، هو مقدار ميل الفرد لغشيان المسارح والاهتمام أو الشغف بالألعاب الرياضية، هذا إلى جانب مقدار خلوص جنسه من الشوائب، فقالت: «من الواجب على كل رجل آري أن يتزوج من امرأة آرية شقراء، ذات عينين واسعتين زرقاوين ووجه طويل بيضي الشكل، جلدها أبيض مشرب بالحمرة، لها أنف دقيق، وفم صغير. كما يجب أن تكون هذه المرأة عذراء مهما كانت الظروف؛ أي إن الرجل الأشقر صاحب العينين الزرقاوين لا ينبغي أن يتزوج من امرأة سمراء أو من امرأة من نوع نساء البحر الأبيض ذات سيقان قصيرة وشعر أسود وأنف معوج وشفاه غليظة وفم واسع، تميل إلى البدانة. وكذلك فإن البطل الآري الأشقر من واجبه ألا يتزوج من امرأة شبه زنجية ذات الرأس المعروف والجسم النحيف الهزيل.» وزيادة على هذا، «فإن البطل الآري من واجبه أن يتزوج من امرأة آرية مساوية له، على أن تكون هذه المرأة من غير المشغوفات بالذهاب إلى المسارح أو الحفلات أو المولعات بالألعاب الرياضية، أو من اللواتي يملن إلى تمضية الوقت خارج بيوتهن.»
وظاهر من جميع ما تقدم أن الغرض من هذه القيود الثقيلة هو أن يظل الجنس الألماني خالصا من كل شائبة، فلا يتزوج الآري إلا من آرية وبالعكس، ثم إنشاء مجتمع نازي سليم العقل والجسم معا. ولتحقيق هذا الغرض قسم النازيون أفراد المجتمع الألماني طبقات ثلاث؛ أولاها: طبقة النبلاء الجدد النازيين، وهم أعضاء الحزب، أو الأفراد الذين ينبغي أن يقوم على أكتافهم تشييد الدولة الوطنية الاشتراكية الجديدة، مثل جنود الحرس
S. S. ، وهؤلاء كانوا - كما سنرى - مقيدين إلى جانب ما تقدم في اختيار زوجاتهم بقيود صارمة. أما الثانية: فطبقة العامة من الآريين، بقية أفراد الدولة الذين يجب أن يخضعوا لمقتضيات قانون الصحة والزواج وما يتصل به من تفسيرات قاسية. أما الثالثة: فطبقة الآريين التي لا يصلح أفرادها أصلا للزواج، أو التي ينبغي أن يمنع أعضاؤها من أن ينسلوا إطلاقا إذا أبيح لهم أن يتزوجوا، وهم يؤلفون الطبقة السفلى. ومما ينبغي ذكره أن النظام النازي الجديد لا يشرع لغير الآريين كالزنوج أو اليهود على وجه الخصوص في داخل ألمانيا ذاتها؛ لأنه لا يعترف بأنهم بشر لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات التي لبقية أفراد المجتمع الألماني؛ ولذلك عني النازيون منذ البداية بمسائل ثلاث؛ هي مسألة نقاء الجنس من الشوائب، ويتصل بذلك اضطهاد اليهود والعمل على إبادتهم بشتى الوسائل. ومسألة الصلاحية الجثمانية والعقلية، ويؤدي بحثها إلى ذكر الوسائل التي كان يتبعها النازيون من أجل إقصاء غير الصالحين من أعضاء المجتمع الألماني. وأخيرا مسألة دعم طبقة النبلاء النازيين الجديدة.
ولما كان الغرض الذي كان يرمي النازيون إلى تحقيقه من هذا كله، إيجاد الكتلة الصلدة المتماسكة في داخل الريخ، تلك الكتلة التي لم يكن عن وجودها غنى في نظرهم لبسط سيطرتهم العالمية في النهاية، فقد تفرغ عن هذه المسائل الثلاث، واتصل بها في الوقت نفسه اتصالا وثيقا، مسألتان أخريان: هما ضرورة تحديد مركز المرأة في المجتمع النازي، وضرورة الإكثار في النسل بشتى الوسائل؛ حتى تجد الدولة الوطنية الاشتراكية «قوة بشرية» تستطيع بعد تنشئتها التنشئة النازية الصحيحة، أن تستخدمها كأداة فعالة في بسط سلطانها على القارة الأوروبية وعلى بقية العالم في النهاية. •••
وكان من رأي مفكري النازيين «أن نوع الجنس الذي ينتمي إليه الإنسان يؤثر في أعمق نزواته النفسية مهما كانت هذه النزوات لا شعورية، كما أن من شأن هذا الأثر أن يتغلغل إلى أدق أجزاء المخ. وعلى ذلك يطبع الجنس خصائص الإنسان النفسية أو الروحية بطابع معين لا يمحى أثره، كما يترك طابعه أيضا على مظهر الإنسان الخارجي. فالجنس هو الذي يعين نوع الأفكار والإدراكات العقلية التي تكون من نصيب الإنسان، وهو أيضا يعين مدى قوته ومدى غرائزه وميوله، ويقرر نوع خلقه وطبيعة نفسه».
وعلى هذه النظرية بنى النازيون أكثر ما في برنامجهم من قواعد ومطالب، وعلى ضوئها ساروا في تطبيق مبدأ اختيار الصالحين للزواج وللإنسال في دولة الريخ الثالث، وقد قال فيلسوفهم «ألفرد روزنبرج» إنه شديد الاعتقاد بأن الأجناس المختلفة شديدة التباين من حيث أثرها في تكوين الخلق، ورسم السلوك، كما أن هذا الأثر لا مندوحة عن ظهوره في نوع الموسيقى والرقص؛ إذ إن من المسلم به أن نوعا معينا من الموسيقى أو الرقص لا يمكن نقله من شعب اختص به إلى شعب من جنس آخر، وكذلك الحال في أمر اللغة ... وقد اقتفى أثر «روزنبرج» في هذا أيضا عالم آخر، هو الدكتور «جرد شهاك
Gerd Cehak »، فأعلن أن لكل جنس طريقته الخاصة في الكلام من حيث الإسراع أو الإبطاء في إخراج اللفظ، ثم في السير وفي الحركة، ومن رأيه أن الجنس النوردي هو أبطأ الأجناس قاطبة في ذلك، وقد ترتب على الأخذ بنظرية التأثير الجنسي هذه القول بأن كل جنس من الأجناس المعروفة يميل إلى تفضيل ألوان معينة، أي إن لكل جنس مزاجه اللوني الخاص، فيميل النورديون كما يؤكد «الدكتور هانس جونثر
Hans F.R Guenther » إلى اللونين الأزرق والأخضر الخفيف أو الباهت، بينما يفضل الجنس المعروف باسم
Westic
اللونين الأحمر والأصفر، والجنس الديناري الأخضر الغامق والأرجواني والأوستيكي
Ostic
البني والبنفسجي. وكذلك تختلف مقاييس الجمال باختلاف الأجناس، فيذكر «روزنبرج» أن النورديين يميلون إلى طويل القامة النحيف ذي العينين الزرقاوين، ومن رأيه أن الشعوب التي يفضل رجالها السمراوات، قد بدأ ينتشر بينها اختلاط الأجناس، كما أنها في الحقيقة قد شرعت تسير بخطى حثيثة نحو الانحلال والفناء؛ لأن السمراوات لا يمكن أن يكن نورديات بل هن سلالة جنس آخر. وهكذا حتى بلغ «الهذيان الجنسي» درجة بعيدة، فاستطاع «جونثر» وأمثاله أن يميزوا بين المرأة النوردية وغيرها - على حد قولهم - من جلستها؛ فإذا ضمت السيدة ساقيها وقت جلوسها كانت نوردية ، أما إذا فعلت عكس ذلك كانت «أوستيكية»، ومن رأيهم أن الرجل الذي يفضل إرخاء لحيته كثيفة تملأ وجهه فهو نوردي، ويمتاز الآري على غيره بفتوته الجثمانية، وتفوقه على غيره بسبب ذلك في ميادين الرياضة. وقد عظم اعتقاد النازيين بهذا النوع من التفوق إلى حد أن الهر هتلر رفض مصافحة الأبطال الرياضيين من غير الآريين، الذين تفوقوا في الألعاب الأولمبية التي جرت في ألمانيا في عام 1936. وكذلك فإن الإقبال على النظافة من أهم صفات الآريين؛ ولذلك يؤكد الدكتور «جونثر» أن الصابون وفرشاة الشعر اختراعان نورديان.
ولكن متى وأين نشأ هذا الجنس الآري المبجل المفضل؟
يقول العلماء النازيون إن الجنس الآري أو النوردي وجد منذ أقدم الأزمنة في إقليم يبدأ من «لوبك» ويمتد صوب الشمال إلى «استكهولم» ثم صوب الجنوب إلى «برنزويك»، ويتألف هذا الجنس من رجال أفذاذ أصحاب قامات فرعاء، وسيقان طويلة، نحاف الأجسام، عريضي الكتفين، ضيقي الحوضين، شعرهم أشقر، ولون بشرتهم أبيض، وعيونهم زرقاء أو زرقاء رمادية في العادة، وهو أفضل الأجناس قاطبة، وحامل لواء المدنية والحضارة في العالم، ولهذا السبب نفسه ينبغي أن يبذل النازيون كل جهد من أجل أن يظل مخلدا باقيا. وفي كتاب «كفاحي» شهد الهر هتلر بفضل الآري على العالم، فكتب ما معناه: «إن ما نراه حولنا اليوم من ثقافة إنسانية وبروز في الفن والعلم والصناعة، يكاد يكون برمته من نتاج الآري وحده، وإن هذه الحقيقة ذاتها هي التي تفسر قولنا بأن الآري وحده، كان على وجه التأكيد موجد الحياة الإنسانية العليا؛ ولذلك فإن ما نسميه الإنسان - أو المخلوق البشري - إنما هو في الحقيقة هذا الآري ليس غير. وعلى هذا فإذا قدر للآري الزوال من الوجود، فإن الظلام الحالك سرعان ما يطبق على الأرض، ومن المحتمل لذلك أن تختفي الحضارة الإنسانية في غضون ألوف قليلة من السنوات، ويعود العالم إلى حالته الصحراوية السابقة.» ثم لم يشأ الهر هتلر أن يقصر مسئولية الآريين على نشر الحضارة في أوروبا وأمريكا، بل شاء خياله أن يجعل من الآريين والأوروبيين والأمريكيين رسل الحضارة والمدنية في القارة الآسيوية أيضا، ذلك بأنه عزا إليهم الفضل في إدخال المدنية إلى اليابان، وكان من رأيه أن الآريين هم الذين أوجدوا الثقافة اليابانية، وأنه إذا قدر للآريين الانسحاب من اليابان ثم قطع صلتهم بها، فإن اليابان لا تلبث أن تغط في نومها القديم الذي أيقظها الآريون منه.
وأمام هذا التمجيد العظيم للآرية وللآريين، يحق للقارئ أن يتساءل، وماذا يا ترى تكون نسبة الآريين الخلص في المجتمع الألماني؟
لقد أجاب على هذا السؤال الدكتور «جونثر» فقال: «إن نسبتهم تتراوح بين 6٪ و8٪ من مجموع الشعب الجرماني، وأنه من المحتمل أن تكون هذه في الواقع أعلى نسبة موجودة بين أي شعب على ظهر الأرض. أضف إلى ذلك أن هذه النسبة تشمل جميع النورديين الموجودين في العالم، وظاهر أنها نسبة ضئيلة؛ ولذلك فقد أصبح من واجب النازيين أن يفكروا في أنجع الوسائل التي تحفظ هذا الجنس الرفيع الشأن من الانقراض، لا سيما وقد اعتقد النازيون أنفسهم أن عدة مصائب قد نزلت بهذا الجنس النوردي منذ أزمنة قديمة لدرجة تهدد بحدوث أسوأ النتائج للشعب الجرماني، بل وللحضارة قاطبة إذا ظل الأمر غير متدارك بصورة فعالة.» وكان النازيون يعزون أسباب هذه الشرور التي أفنت هذا المقدار العظيم من الجنس النوردي إلى الحروب التي خاض غمارها النورديون الشجعان على مر العصور، فأفنت الأعداد العظيمة منهم، هذا إلى أن الريخ الألماني كثيرا ما كان يخسر أبناءه النورديين الذين آثروا لظروف منوعة الخروج من أرض الوطن والهجرة إلى جهات أخرى، كما أن النورديين الذين ظلوا في الريخ كانوا معرضين للوفاة في سن باكرة بنسبة تفوق كثيرا نسبة الوفيات التي تحدث في هذه السن بين بقية الأهلين من الأجناس الأخرى، على أن النورديين كانوا دائما أقل قدرة على التناسل من غيرهم. بيد أن أشد الأخطار التي يتعرض لها الآريون، منشؤها في زعم النازيين، ما يحدث من اختلاط النورديين بغيرهم من الأجناس الوضيعة.
ولذلك فإنه بينما ينحدر حوالي 6٪ أو8٪ من الجرمانيين من الجنس الآري أو النوردي الصميم، فإن نصف الشعب الجرماني بأجمعه ما يزال يجري في عروقه الدم النوردي ممزوجا بدم الأجناس الأخرى. ولما كان من فضائل المرأة النوردية الاحتشام الشديد، وكان اكتمال الأنوثة أو الرجولة بين أفراد الشعب النوردي يتأخر وكان الرجل النوردي لا يتزوج من المرأة النوردية إلا في سن متقدمة نسبيا، ولا ينسل المتزوجون سوى القليل من الأطفال، فقد خشي علماء النازيين أمثال الدكتور «جونثر» من احتمال اختفاء الجنس النوردي الخالص في نهاية الأمر، أضف إلى هذا خطر زواج النورديين من النساء السمراوات المتمتعات بالصفات الجنسية المغرية الشائعة بين نساء الأجناس الأخرى غير النوردية، وكذلك فإن من العوامل المساعدة على اختفاء الجنس النوردي ما هو مشاهد في أفراد هذا الجنس من الميل إلى الانتحار.
وفي كتاب «كفاحي» لخص الهر هتلر النتائج التي تحدث من اختلاط الأجناس المختلفة في قوله: إن ذلك يؤدي أولا: إلى هبوط مستوى الجنس الأعلى مكانة. وثانيا: إلى انحطاط جثماني وروحي يفضي - ولا شك - إلى انتشار الضعف والمرض، ولو أن هذا يحدث بطيئا في بداية الأمر. ولذلك رأى الهر هتلر من الضروري أن يسود قانون أعلى ومقدس ينبغي بمقتضاه أن يحرص كل إنسان على أن يظل «الدم» نقيا خالصا. ويسوغ الهر هتلر وجود هذا القانون وواجب العمل به بزعمه أن امتزاج «الدم» وهبوط المستوى الجنسي تبعا لذلك قد أفضيا وحدهما إلى فناء الثقافات القديمة، كما حدث للثقافة الآرية على وجه الخصوص. فقد ظل الفاتحون سادة القوم، وخالقي أو مبتكري ألوان الثقافات المنوعة ما داموا متمسكين بمراكزهم كحكام، وما داموا محتفظين بنقاوة الدم الذي يجري في عروقهم. غير أنه في كل مرة امتزج دم الآري بغيره من دم الأجناس الوضيعة، أظهر التاريخ أن النتيجة الحتمية لهذا الامتزاج كانت اختفاء حامل لواء الحضارة، أي الرجل الآري وحده.
وأما الذين أفادوا من هذا الامتزاج فكانوا دائما شعوب الأجناس الوضيعة؛ لأن الدم الآري من شأنه أن يحفظ لهم بقاءهم؛ إذ بغيره يسيرون إلى الفناء بخطوات سريعة، والشر في ذلك كله أن هذه الشعوب الوضيعة إنما تستمد القوة والحيوية من طريق تدنيس الآريين وإحالتهم إلى شعب «لقيط»، أي إلى شعب غير نقي الدم.
ثم يمضي الهر هتلر فيقول : إن هذا الفساد كان قد بدأ يحطم ميزات الجنس النوردي في ألمانيا قبل وصول النازيين إلى الحكم إلى حد هدد بجعل القاطنين بالمدن الألمانية الكبيرة خصوصا يشبهون من حيث مستواهم الجنسي الشعوب القاطنة بأرض إيطاليا الجنوبية، ومع هذا فإن خطر انحطاط الجنس النوردي لم يكن في رأيه مقصورا على الجرمانيين وحدهم، بل إنه كان يهدد العالم أجمع بعواقب وخيمة؛ لأن إهمال الألمان في صون نقاء الدم الذي يجري في عروقهم جعلهم يخفقون في إحراز السيطرة العالمية؛ إذ «إن السموم التي أثرت في شعبنا (من جراء امتزاج الدم الآري بدم شعوب الأجناس الأخرى) وخصوصا من أيام حرب الثلاثين سنة المعروفة، لم تسبب انحلال دمائنا فحسب، بل وأرواحنا أيضا، حتى نجم عن ذلك أن أصيب الشعب الجرماني بالانحلال في كل ظرف عصيب قابله؛ إذ ينقص الشعب الألماني وجود غريزة الجماعة القوية التي أساسها وحدة الدم وتجانسه، والتي من شأنها على وجه الخصوص في اللحظات التي يجيء فيها الخطر مهددا أن تصون الأمة وتحفظها من الدمار ... فلو أن الشعب الألماني كان يتمتع بهذه الوحدة المستمدة من وجود غريزة الجماعة القوية في أثناء نموه التاريخي - وهي الوحدة التي انتفعت بها شعوب أخرى - لأصبح الريخ الألماني سيد الكرة الأرضية بأجمعها ...» •••
وقد زعم الهتلريون أن أفضل الطرق الحاسمة لضمان نقاء الدم الآري، في دولة الريخ الثالث، فناء اليهود أو طردهم من ألمانيا؛ ولذلك ارتبطت «هيستريا الدم» عند النازيين «بهيستريا» أخرى كانت وما تزال في الحقيقة أشد خطرا على البشرية من دعاوى الجنس الخالص، والدم النقي، هي «هيستريا اليهودية». وكما أن «هيستريا الدم» لا تستند إلى أي أساس علمي صحيح كما أثبت علماء الأجناس، فإن «هيستريا اليهودية» في ألمانيا تستند إلى طائفة من المعلومات المشوهة والحقائق المزيفة التي حرص النازيون منذ طمعوا في فرض سلطانهم على ألمانيا، على أن يغذوا بها الجماهير المتقلبة في أحضان الفوضى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أعقبت انهيار دولة الريخ القيصرية بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى.
فقد قدر النازيون أنفسهم، قبل اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية بعام واحد، أن عدد سكان ألمانيا - عدا النمسا - الذين يجري في عروقهم دم يهودي بنسبة 25٪ أو أكثر يتراوح بين 800000، ومليون، من بينهم 500000 إلى 625000 يهودي و200000 إلى 250000 أنصاف يهود، و100 إلى 125000 أرباع يهود. وعلى هذا اعترف النازيون أنفسهم بأن اليهود الخلص كانوا لا يجاوزون 7 / 10 أو 9 / 10 من 1٪ من عدد سكان ألمانيا، بينما يبلغ أنصاف اليهود 2 / 10 أو 3 / 10 من 1٪، أما أرباع اليهود فيؤلفون جزءا صغيرا يزيد قليلا على 0 / 10 من 1٪ وزيادة على هذا فمن الثابت أن عدد اليهود في ألمانيا كان آخذا في النقصان بدرجة ملموسة قبل حدوث الثورة النازية ذاتها؛ فقد دلت الإحصائيات على أن نسبة المواليد - بما في ذلك اليهود - في عام 1880 بلغت 41,05 في الألف، من ذلك 32,26 في الألف بين اليهود الألمان. ولكن هذه النسبة انخفضت في عام 1910 إلى 33,05 في الألف، من ذلك 16,55 في الألف بين اليهود. وفي الفترة بين عامي 1911-1925 بلغت زيادة الوفيات على المواليد بين اليهود البروسيانيين 37,093، ومن المحتمل أن هذه النسبة كانت محفوظة أيضا في بقية أنحاء الريخ. وعلى هذا فإنه استنادا إلى ما كان يذيعه النازيون أنفسهم، يتضح أن عدد اليهود في ألمانيا كان قليلا جدا، بل وآخذا في النقصان المستمر حتى قبل أن يصل النازيون إلى الحكم.
ومع ذلك، زعم النازيون أن اليهود هم أخطر أعداء ألمانيا، ومن حق القارئ أن يسأل كيف تصبح أقلية تافهة لا تزيد على 1٪ أو 1,4٪ مصدر الخطر الكبير على أغلبية عظيمة تبلغ 98٪، ولكن من العبث أن ينتظر إنسان جوابا من النازيين على هذا السؤال، فإذا فعلوا كانت إجابتهم تشتمل على الدعاوى الآتية؛ أولا: أن اليهود إذا لم يكبح جماحهم ظلوا مستأثرين بالمراكز الهامة في البلاد وصار لهم نفوذ كبير لا يتناسب قط مع عددهم الضئيل. ثانيا: أن اليهود جنس جم النشاط يتمتع بحيوية عظيمة حتى إن الفرد الواحد منهم لترجح كفته 99 ألمانيا من غير اليهود. ثالثا: مما يزيد هذا الأمر خطرا أن الضرر الذي يهدد الريخ ليس مصدره اليهود في داخل ألمانيا نفسها، بل مصدره الحقيقي كل أولئك اليهود المتشردين في أرجاء العالم والذين يتآمرون ضد دولة الريخ الثالث.
ولذلك بدأ اضطهاد اليهود في ألمانيا منذ بدأت الحركة الوطنية الاشتراكية في عام 1920. ومن المعروف أن الوطنية الاشتراكية عند نشأتها كانت تتألف من الزراعيين برئاسة الكونت إرنست تزو ريفنتلو
Ernst zu Reventlow ، ومن الحزب الألماني الاشتراكي برئاسة كونز
Kunze ، ثم من الشراذم التي التفت حول لودندورف وهتلر وحاولت الثورة في عام 1923، وقد جعل كل هؤلاء اضطهاد اليهود وإقصاءهم عن ألمانيا أو إفناءهم من الأهداف التي تمسكوا بضرورة تحقيقها واشتملت عليها برامجهم. وإلى لودندورف يرجع الفضل في كشف تلك المحالفة ذات الخطر التي ادعى أن اليهود قد أوثقوا عراها مع جماعة الجزويت الدوليين والبنائين الأحرار، من أجل القضاء على الدولة الوطنية وتقويض أركانها. وكان مما ساعد «لودندورف» على الوصول إلى هذا الكشف تلك الأقصوصة الزائفة التي روجها أعداء اليهودية في العالم عندما نشروا في ألمانيا عام 1919 وثيقة عرفت باسم: «بروتوكولات عقلاء أو حكماء صهيون
The Protocols of the Elders of Zion »، قالوا عنها: إنها عبارة عن صورة طبق الأصل من تفاصيل ما جاء في المؤتمر الصهيوني المنعقد في مدينة «بال» من أعمال سويسرة في عام 1897. وتتحدث هذه الوثيقة عن مؤامرة يهودية واسعة النظاق الغرض منها فرض سيطرة اليهود على العالم أجمع. بيد أن كبار المسئولين من اليهود سرعان ما أجمعوا على إنكار هذه الوثيقة وأعلنوا زيفها، ثم استطاعت جريدة «التيمس» في عام 1921 بعد بحث مستقل وفحص دقيق إثبات تزويرها؛ فقد أظهرت هذه الجريدة أن أحد أفراد البوليس السري القيصري الروسي القديم - أو الأوخرانا
Okhrana
كما كانت تدعي هذه القوة - هو الذي وضع هذه البروتوكولات، حتى يوجد مسوغا للحكومة القيصرية يمكنها من المضي في اضطهاد اليهود في الروسيا، وزيادة على ذلك فإن هذا الموظف الروسي لم يبتكر هذه «البروتوكولات» ابتكارا بل كان كل ما فعله أنه استمد وصف الاجتماع الموهوم وما حدث فيه من رسالة صغيرة وضعها أحد المتهكمين الفرنسيين الديموقراطيين في عام 1865 في عهد الامبراطور نابليون الثالث، يصف فيها اجتماعا عقد في «جهنم» كان الغرض منه - على نحو ما تخيله هذا الفرنسي - التفكير في الوسائل التي تمكن الإمبراطور نابليون الثالث من توسيع فتوحه حتى تشمل العالم أجمع. وأما مقال «التيمس» فقد نشرته الصحف في البلدان الأخرى، ومنها ألمانيا.
ومع هذا، وعلى الرغم من ظهور زيف هذه البروتوكولات، وإقامة البرهان على أنها كانت مزورة، فقد ظل النازيون يمعنون في ادعاءاتهم واستطاع الهر هتلر أن يذكر في كتابه «كفاحي»: «ومع أن «جريدة فرنكفورت
Frankfurter Zeitung » تعلن إلى العالم بذلة وخضوع أن بروتوكولات حكماء أو عقلاء صهيون زائفة مزورة، فإن هذا الإنكار في حد ذاته ما هو في الحقيقة إلا برهان ساطع على أن هذه البرتوكولات حقيقية وغير مزورة.» وقد استطاع الهر هتلر أن يصل إلى نتائج لها خطرها في هذا الموضوع، منها: أن اليهودية الدولية تبغي الاستئثار بالشئون المالية في العالم والسيطرة عليها، وتريد أن تتخذ من الروسيا قاعدة تعمل منها لأجل تقويض أركان الدول الوطنية، ثم تسعى لجعل فلسطين مقرا لجميع المؤامرات التي تحاك خيوطها لتحريك الشعوب للثورة ضد الحكومات الوطنية في العالم. على أنه لما كان اليهودي - كما يقول الهر هتلر - عاجزا عن ممارسة شئون الحكم وإخضاع الجنس الأبيض لسلطانه المباشر، ولما كان يعترف في قرارة نفسه بهذا العجز، فقد أخذ يعمل على تلويث الجنس الأبيض حتى يسهل عليه إخضاع هذه الشعوب؛ ولذلك «فإن الشاب اليهودي ذا الشعر الأسود يكمن ساعات طويلة يشع في وجهه حبور شيطاني، مترقبا الفرصة التي تمكنه من السطو على عرض فتاة غريرة تعوذها الخبرة وتنقصها القدرة على المقاومة ودفع الإغراء، بل إن هذه الرغبة في تلويث البيض هي التي جعلت اليهود يحضرون الجنود السود إلى إقليم الراين بموافقة فرنسا التي تعتبر بلا جدال أكبر أعدائنا، والتي يؤدي ذلك الاختلاط المتزايد بين شعبها وبين الزنوج إلى خطر يهدد في المستقبل الجنس الأبيض في أوروبا.» وقد خلص الهر هتلر من ذلك كله إلى نتيجة واحدة، هي ضرورة القضاء على اليهود قضاء مبرما، وفي ذلك يقول: «وأعتقد أني إنما أعمل اليوم بما يتفق تمام الاتفاق مع أغراض الخالق العظيم؛ فإني عند مهاجمتي اليهود إنما أخوض في الحقيقة نضالا من أجل إتمام عمل الإله نفسه.»
وإذا كان هذا رأي الزعامة المسئولة، فإن من السهل إدراك مدى تلك الدعاوة التي روج لها النازيون في داخل ألمانيا وخارجها من أجل اضطهاد اليهود وإفنائهم؛ فقد نسج صغار الزعماء والكتاب النازيين على منوال زعيمهم الكبير؛ إذ جاء في نداء وطني اشتراكي أعيد طبعه وتوزيعه مرارا، ما معناه «أن اليهودي هو السبب في أننا نرسف في أغلال الرق والعبودية وهو الذي أفاد من ذلك كل الفائدة»؛ فقد حطم جنسنا ولوث أخلاقنا، وتسبب في نضوب معين حياتنا، وهدم قوتنا، وقال «ريفنتلو
Reventlow »: «إن اليهودي هو الدود الذي ينخر في هيكل الإنسان فعلينا أن نهلكه!» وقال غير هؤلاء إن من مقتضيات طقوس اليهود الدينية قتل المسيحيين واستباحة دمائهم، كما أنهم يأخذون الربا الفاحش لأسباب دينية، ويزيلون بكارة الشابات المسيحيات عامدين، ويعملون على إفساد السلطات الألمانية بما يقدمون من رشوة وغير ذلك، ويشربون دماء سواهم من الأجناس.
وإلى جانب هذه الدعاية، أصدرت دولة الريخ الثالث طائفة من القوانين الصارمة لإقصاء اليهود عن الوظائف الحكومية والخدمة العامة، ولم يكن إصدار هذه القوانين أمرا غريبا أو غير متوقع الحدوث، فإن إقصاء اليهود عن الوظائف وإخراجهم من ألمانيا كان في الحقيقة من أهم الوعود التي تضمنها البرنامج الذي أذاعه النازيون على الأهلين، ولم يعارضه هؤلاء؛ فقد وعد «جريجور ستراسر
Gregor Strasser » في آخر أكتوبر 1931 - أي قبل انفصاله عن النازيين وخروجه عليهم - بأن يقضي النازيون على اليهودية في ألمانيا قضاء مبرما، كما وعد أحد النواب النازيين «في مجلس الديات البروسي» في 2 يونية 1932 «بأنه عقب أن يفرغ النازيون من تنظيف البيت - أي ترتيب شئونهم الداخلية - تصبح مسألة طرد اليهود في ألمانيا في بساطتها وسهولتها كلعبة الأطفال!» وفي هذا الوقت أيضا، أفضى «هرمان جورنج» بحديث إلى جريدة إيطالية جاء فيه:
بينما ينال اليهود الذين ألحقوا الأذى بألمانيا جزاءهم العادل على ما فعلوا، فإن جميع اليهود الذين دخلوا ألمانيا بعد شهر أغسطس من أيام 1914 سوف يطردون من البلاد، وسوف يطرد كذلك بقية اليهود دون نظر إلى منشئهم، من جميع الوظائف المسئولة في الصحافة والمسرح والسينما والمدارس والجامعات، وعلى الجملة من كل عمل أو وظيفة قد يستطيع شاغلها استخدام نفوذه لإضعاف الأمة وإفسادها ومكافحة الروح الوطنية والقومية ونشر الميول والآراء الدولية، في غير مصلحة الشعب الألماني.
والواقع أنه بعد أن آلت السلطة في ألمانيا للنازيين شرعوا ينفذون وعودهم السابقة دون إبطاء. ففي أول أبريل 1933، أي بعد أقل من شهر واحد من وصول الهر هتلر إلى منصب المستشارية، وفي اليوم نفسه الذي أعلن فيه «الفوهرر» بداية الثورة الوطنية الاشتراكية في الخطاب الذي ألقاه في مبنى «تمبلهوف»؛ حدث أن نظمت مقاطعة اليهود، وبدأ اضطهادهم حتى أصبح يوما تاريخيا لا يمكن أن ينساه اليهود قاطبة. وفي 7 أبريل 1933 صدر قانون يقضي بطرد غير الآريين من الخدمة العامة، أو إقالتهم من وظائفهم إذا استحقوا معاشا، وجاء في تفسير «غير الآريين» أن المقصودين بذلك هم جميع الأفراد الذين يثبت أن أحد آبائهم أو جدودهم من اليهود أو سبق لهم اعتناق اليهودية، على أن يستثنى من ذلك جميع الذين شغلوا وظائف حكومية مدنية قبل أول أغسطس 1914، ومن قاتلوا في الحرب العظمى الماضية دفاعا عن ألمانيا أو في جانب إحدى حليفاتها، وكذلك الذين فقدوا آباءهم أو أبناءهم في أثناء الحرب. وأما الخدمة العامة التي ذكرها هذا القانون فتشمل جميع وظائف الحكومة الفدرالية، أو المحلية، والنقابات، والشركات، والهيئات المختلفة عدا الدينية منها، والقضاء، والمحاماة، والتعليم في الجامعات وغيرها، عدا المدارس اليهودية التي يدرس بها يهود فقط، وجنود الخدمة الوطنية «أو الميلشيا» عدا الضباط والجنود العاملين، ثم أصحاب الوظائف الشرفية، وقد صدر قانون في 18 مايو 1933 يمنع غير الآريين من شغل الوظائف «الشرفية»، وخصوصا ما كان متعلقا منها بوظائف التأمين الاجتماعي وإسداء المعونة والنجدة لضحايا الحرب. وفي 7 أبريل 1933 صدر قانون خول السلطات القضائية طرد غير الآريين من مهنة المحاماة. وفي 25 أبريل 1933 صدر قانون «لمنع ازدحام المدارس الثانوية والعليا» من شأنه منع غير الآريين بطريق غير مباشرة، من الالتحاق في المستقبل بعمل من الأعمال التي تقتضي مزاولتها ثقافة عالية. وفي 30 يونية 1933 صدر قانون آخر يمنع غير الآريين من شغل الوظائف المدنية، ويقضي بطرد أي موظف متزوج بامرأة غير آرية أو يتزوج في المستقبل بغير آرية. وفي 13 يولية 1933 تقرر إخراج جميع مديري السينما والمخرجين والمؤلفين ومهندسي التصوير ومن إليهم من الخدمة إذا تعذر عليهم إثبات آريتهم.
وفي عام 1935 صدر «قانون وقرار الجنسية وتعيين صفة المواطن»، وقد جاء في هذا القانون ما معناه «أن المواطن في دولة الريخ هو الذي يجري في عروقه الدم الجرماني أو الدم القريب منه، والذي يبين بفضل مسلكه أنه يرغب في خدمة الشعب الألماني ودولة الريخ بأمانة، ويكون صالحا لهذه الخدمة. ولما كان الريخستاج يعتقد تمام الاعتقاد بأن نقاء الجنس الجرماني ضرورة لا غنى عنها لبقاء الأمة الألمانية، ولما كان يحدوه العزم الذي لا يمكن أن يتزعزع للمحافظة على كيانها للأبد؛ لذلك قرر الريخستاج بالإجماع قبول «قانون نورمبرج لصون الجنس والشرف الجرماني» الصادر في سبتمبر 1935. وعلى ذلك يمتنع الزواج بين اليهود والرعايا الذين هم من دم جرماني أو من الدم القريب منه، وكل زواج يعقد بالرغم من وجود هذا القانون يكون لاغيا حتى لو كان هذا الزواج معقودا في الخارج كمحاولة لتجنب آثار هذا القانون ... ولا ينبغي أن يستخدم اليهود في بيوتهم رعايا الريخ الذين هم من دم جرماني أو من دم قريب منه والذين تقل أعمارهم عن خمسة وأربعين عاما، ويمنع اليهود من أن ينشروا علم الريخ أو العلم الوطني أو يظهروا الأعلام القومية. والذين لهم حق التصويت في المسائل السياسية، وشغل الوظائف العامة هم مواطنو الريخ المتمتعون بكامل حقوقهم السياسية ... ولا يمكن أن يكون اليهودي مواطنا في دولة الريخ، وليس له حق التصويت ولا الحق في أن يشغل إحدى الوظائف العامة ...»
وقد أطلق على جميع القوانين والقرارات والأوامر التي أصدرتها السلطات النازية ضد اليهود اسم «قوانين نورمبرج». وفي الفترة التالية، وعلى الخصوص عند اشتداد الحملة الإرهابية على اليهود، أعادت الصحف نشر بعض هذه القوانين، كما نشرت ملخصا كاملا لأهم محتوياتها، ومن ذلك يتبين أن «قوانين نورمبرج» كانت تقضي أولا: بطرد جميع الموظفين غير الآريين من الخدمة العامة، ويدخل في ذلك الموظفون العاديون وإخوانهم من المستخدمين في البلديات، والمدرسون، وأساتذة الجامعات، والقضاة، والمدعون العموميون. وكذلك صدر قانون يمنع المحامين غير الآريين من مزاولة مهنتهم. وكانت تقضي ثانيا: بحرمان الأطباء غير الآريين ثم أطباء الأسنان والجراحين من مزاولة عملهم. وفي قانون جديد حرم غير الآريين من التوظف في المستقبل، كما أن «جبهة العمل» - وهي التي حلت محل النقابات العمالية واتحادات أصحاب العمل - طبقت هي الأخرى هذه القوانين. كما كانت تقضي ثالثا: بحرمان اليهود من التعليم في المدارس والجامعات. ورابعا: بحرمان غير الآريين - اليهود - من العمل في صناعة الأفلام. وخامسا: بعدم السماح لليهود بالانضمام إلى جامعات الوقاية ضد الغارات الجوية. وسادسا: يمنع أي شخص لا يستطيع إثبات انحداره أو انحدار زوجه من أصل آري منذ عام 1800 ميلادية، من وراثة الأرض التي يزرعها. وسابعا: بتحريم العمل في الصحافة على غير الآريين، إلا إذا كانت الصحف التي يعملون بها يهودية صميمة. وثامنا: بمنع جميع أعضاء الحزب النازي من الاختلاط أو الاتصال باليهود، وهذا بناء على قرار أصدره «ردولف هس» نائب هتلر في ذلك الحين. وتاسعا: بقيام وزارة المعارف النازية بنشر قائمة من الكتب التي فرضت استخدامها في المدارس؛ وذلك حتى تعرف الناشئة المسألة اليهودية على حقيقتها، ومن هذه الكتب «بروتوكولات حكماء صهيون» المزورة. وعاشرا: بإصدار قرار من وزير الداخلية يسمح للآريين فقط بدخول امتحانات كلية الطب، كما أصدر الوزير قرارا ثابتا بعدم إعطاء الصيادلة غير الآريين الترخيص اللازم لمزاولة أعمالهم. وأحد عشر: بإصدار قرار يمنع كل من لا يستطيع إثبات انحداره وانحدار زوجه من أصل آري منذ عام 1800 ميلادية من الاشتغال في أعمال الطبع والنشر.
هذه خلاصة «قوانين نورمبرج»، وقد تطرف النازيون في تطبيق تلك القوانين؛ فأصدر الحكام ورؤساء البلديات في المدن المختلفة طائفة من القرارات والأوامر والتعليمات ضد اليهود، وكل ما هو يهودي لدرجة كانت تدعو إلى السخرية في بعض الأحايين، من ذلك: الأمر الذي أصدره رئيس بلدة «كوينجسدورف
Koeingsdorf » في بافاريا في أول أكتوبر 1935، خاصا بالأبقار والماشية المشتراة بطريق مباشر أو غير مباشر من اليهود، فنص هذا الأمر على ضرورة عزل هذه الأبقار والماشية حتى لا تعيش في صعيد واحد مع الثيران التي يملكها غير اليهود. وزيادة على ذلك نص الأمر على أن الأبقار والماشية التي ثبت أنها كانت تعيش في مكان واحد مع أبقار وماشية يملكها يهودي؛ ينبغي وضعها تحت المراقبة لمدة عام بأكمله، وفي أثناء هذه المدة يتحتم عزلها أيضا عن الثيران التي يملكها آريون. •••
وفي مثل هذه الظروف، كان من الطبيعي أن تنتشر في ألمانيا موجة من الاضطهاد العنيف ضد اليهود، واتخذ هذا الاضطهاد أشكالا منوعة على أيدي المتعصبين، وزعانف القوم وأراذلهم، فأخذوا يدنسون مقابر اليهود ومعابدهم، حتى بلغ عدد الحوادث التي من هذا القبيل إلى صيف عام 1932 مائة وتسعة «109»، وأعلن المتعصبون ومن إليهم عزمهم على إحراق معابد اليهود وبيعهم في القريب العاجل. هذا، إلى الضرر الجسيم الذي ألحق بحوانيت اليهود ومخازنهم التجارية. ومن الحوادث المشهورة ما فعله متطرفو النازيين في عيد فصح اليهود عام 1932؛ فقد هاجموا في هذا اليوم في «كورفر تندام» أحد شوارع برلين كل شخص اشتبهوا في أنه ينحدر من جنس سامي. وكان المغيرون - وهم حوالي العشرين - من الشبان صغار السن الذين لا خبرة لهم في مسائل الجنس. واستطاعت هيئة يهودية بعد ذلك أن تنشر قائمة طويلة بحوادث الاعتداء المتكرر على أشخاص اليهود المنفردين. وزيادة على ذلك فقد وجد الصبيان والفتيات الصغيرات تسلية كبيرة في تلطيخ بيوت اليهود وحوانيتهم بالأقذار ورسم الصليب المعقوف - رمز النازية - في كل مكان. ولم يقتصر الأمر على إهانة كبار السن وإيذائهم، بل إن الأطفال اليهود في المدارس لم يسلموا من الاعتداء عليهم، ومن أن يؤذيهم زملاؤهم المسيحيون. وفي كثير من المدن الصغيرة أرغم التجار اليهود إرغاما على ترك متاجرهم ومحالهم ومغادرة القرية أو المدينة التي عاش فيها أجدادهم منذ أجيال طويلة؛ وذلك لشدة الاضطهاد وإحكام المقاطعة. وفي جامعة برلين قرر الطلبة النازيون طرد جميع اليهود. ومع أنه كان من المنتظر أن يجد اليهودي في المحاكم والقضاء وسيلة للوقاية أو الحماية من اعتداء المعتدين، فإن هذه المحاكم لم تجد سببا يسوغ توقيعها العقوبة على ملحقي الأذى؛ لأنها - كما قررت - كانت لا ترى أن استخدام كلمة يهودي في معرض التحقير من شأنه إثارة غضب أحد، وكذلك فإن هذه المحاكم لم تجد مسوغا لتوقيع عقوبة قاسية على كثيرين ممن اشتركوا في حوادث تدنيس مقابر اليهود وبيعهم. وإذاء هذا كله لم يجد عدد من اليهود في صيف 1932 مناصا من الكتابة إلى مستشار دولة الريخ، يسألونه عما إذا كانت الحكومة لا تجد ضرورة لإعطاء المواطنين اليهود الحماية التي من حقهم كمواطنين أن ينتظروها من حكومتهم.
بيد أنه كان في الحقيقة من المتعذر إعطاء اليهود أي ضمان أو وعد بالحماية ضد الاعتداءات المتكررة عليهم؛ إذ كان زعماء الدولة النازية أنفسهم في طليعة منظمي حركة المقاطعة والاضطهاد، وكانوا لا ينفكون يثيرون الخواطر ضد اليهود في كل آن ولحظة منذ ظهرت الوطنية الاشتراكية بشكلها المتطرف الرهيب إلى عالم الوجود؛ فهناك كتاب «كفاحي» مشحون بالمفتريات الكثيرة على اليهود، ولا يقل عنه في ذلك كتاب «ألفرد روزنبرج» عن «أسطورة القرن العشرين». ومن المعروف أن هذين الكتابين من الكتب التي فرض النازيون قراءتها على الشبيبة الجديدة. وهناك خطابات الهر هتلر نفسه، وهو الذي قال منذ عام 1922: «إن اليهود قد أظهروا نبوغا حقيقيا في معرفة كيف يفيدون من ظروف السياسة المتقلبة، حتى صار لهم أنصار ضمن أحزاب اليمين وأحزاب اليسار يعملون جميعا من أجل نشر الفساد في الدولة بشتى الطرق المرذولة.» وهناك كتابات كبار النازيين الآخرين أمثال الأستاذ «هرمان جوش
Hermann Gauch »، والدكتور «كريك
Krieck »، و«والتر داريه
Walther Darré »، و«والتر شارر
Walter Scharrer » وغيرهم، وكلها ملأى بالمطاعن على اليهودية واليهود.
ولما كان من المتعذر سرد جميع حوادث اضطهاد اليهود في ألمانيا منذ برز الحزب النازي إلى عالم الوجود ووصل رئيسه إلى مستشارية الريخ، إلى وقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، فإنه يكفي أن نسجل الآن حوادث موجات الاضطهاد التي اجتاحت اليهود في كل من ألمانيا والنمسا في شهري أكتوبر ونوفمبر من عام 1938، لا لتبيان ما وصل إليه الطغيان النازي من شدة مريرة فحسب، بل ولأن هذه الاضطهادات المروعة سرعان ما أوجدت مشكلة اللاجئين، تلك المشكلة التي ذهب عدد غفير من اليهود ضحية لها من أوروبا عموما وفي أوروبا الوسطى على وجه الخصوص.
فبعد أن سقطت النمسا في قبضة ألمانيا في مارس 1938 أعلن «هرمان جورنج» في فينا الحرب على اليهود بقوله: «إننا لا نحب اليهود، وهم لا يحبوننا؛ ولذلك فسوف ندخل عليهم السرور بإرغامهم على مغادرة البلاد!» وكان هذا الإعلان بمثابة إنذار لبدء موجة الاضطهاد العظيمة التي سرعان ما أثارت الرعب والفزع في فينا في أبريل من العام نفسه؛ إذ سلط النازيون سيف الإرهاب على أعناق اليهود في هذه المدينة التاريخية القديمة، وكان عدد اليهود بها لا يزيد على 170000، وضاقت السبل في وجه الكثيرين منهم حتى بلغ متوسط من فضلوا الانتحار منهم في كل يوم من أيام هذا الشهر مائة وثلاثين، وظلت موجة الانتحار على شدتها بين اليهود في الشهور التالية، حتى بلغ عدد المنتحرين في يوم من أيام شهر يولية عام 1938 ثمانمائة «800»؛ بل لقد قدر عدد المنتحرين عموما في خلال الشهور الأربعة الأولى من الاحتلال الألماني بنحو سبعة آلاف يهودي. أما الذين لم يلجئوا إلى الانتحار كوسيلة مواتية تخلصهم مما هم فيه من كرب وبلاء، فقد استطاع النازيون أن يبتكروا طرقا منوعة لإفنائهم وإبادتهم، من ذلك تلك الحادثة المشهورة التي رواها «لويس جولدنج
Louis Golding » في كتابه عن «المشكلة اليهودية» في عام 1938، وقد رواها غيره كذلك، وهي تلخص في أن واحدا وخمسين شخصا وضعوا على ظهر سفينة في نهر الدانوب بالقرب من الحدود التشيكوسلوفاكية دون أن يقدم إليهم طعام أو نقود ... وقد استطاع التشيك أن ينقذوهم، وهيئوا لهم مأوى مؤقتا وأمدوهم بالطعام، ولكنهم ما كانوا يجرءون على الترحيب بهم واستضافتهم مدة طويلة أو على الدوام؛ ولذلك عملوا على ترحيلهم إلى هنغاريا، فأعادتهم إلى النمسا، «ليلاقوا العذاب ثانية!» وقد حدث مثل ذلك أيضا لجماعة أخرى، أخرجتهم النمسا من ديارهم ووضعتهم على ظهر سفينة ظلت تسير بهم في نهر الدانوب عدة أسابيع على غير هدى حتى وقفت خارج إحدى الموانئ النهرية الهنغارية! ... وانتهى الأمر بالسماح لهؤلاء المنكوبين بالدخول إلى فلسطين، وكان هؤلاء القلائل - ولا شك - من المحظوظين؛ لأن ألوفا من إخوانهم لم يظفروا بهذه النعمة العظيمة.
أما في ألمانيا؛ فقد بدأت موجة الاضطهاد الكبرى في شهري أكتوبر ونوفمبر من عام 1938 أيضا، وذلك عندما قرر النازيون طرد اليهود نهائيا خارج حدود دولتهم؛ فكان مما حدث نتيجة لهذا القرار أن شرع النازيون يقبضون على اليهود المنحدرين من أصل بولندي المنتشرين في أنحاء الريخ الثالث، وكان أكثرهم لا يزال بملابس النوم الخفيفة عند القبض عليهم وأرغموهم على عبور الحدود البولندية الألمانية سيرا على الأقدام، ومن ورائهم الجنود النازيون بمدافعهم الرشاشة، وقد بلغ عدد هؤلاء المنكوبين 15000 من بينهم ألفان من الأطفال. وفي يوم 29 أكتوبر 1938 كان عدد الذين تركوا وشأنهم من غير مأوى أو ملبس أو مأكل، يضربون في الأرض الفضاء الواقعة بين حدود ألمانيا وبولندة عند بلدة زبونستزين
Zbonszyn
نحو سبعة آلاف نسمة.
وقد نشرت جريدة «نيوز كرونيكل» الإنجليزية في عددها الصادر في 14 نوفمبر 1938 قصة هؤلاء التعساء كما رواها واحد منهم، فقالت:
في الساعة الخامسة من صبيحة يوم الجمعة 28 أكتوبر 1938، أوقظنا من نومنا وألقي القبض علينا ... ولما كانت السجون تعج بمن فيها من اليهود البولنديين؛ فقد أرغمنا مع مئات غيرنا على الوقوف والانتظار في ساحة السجن ينهمر علينا المطر مدرارا، وفي هذا المكان خاطبنا أحد زعماء جنود الحرس
S. S.
وأخبرنا بأنه قد تقرر طردنا وإخراجنا من البلاد، وبأنه سوف يجري ترحيلنا من ألمانيا في الساعة السابعة مساء، ولم يسمح لنا بالعودة إلى بيوتنا. وعلى هذا أرغمنا على مغادرة ألمانيا بما كان على أجسامنا من ملابس ليس غير، أما بقية ملابسنا وكذلك أثاث بيوتنا، وأموالنا، فقد اضطررنا إلى تركها جميعا في ألمانيا، وصادرها رجال الجستابو. ثم نقلنا بعد ذلك إلى عربات السكة الحديدية المخصصة لنقل البهائم، وتذوقنا في هذه الرحلة صنوفا من العذاب وتحملنا آلام الوقوف والجوع والبرد. ثم قطعنا المسافة بين الحدود الألمانية عند «نيو بوشن
Neu Beuchen » والحدود البولندية سيرا على الأقدام، وهي مسافة تبلغ عشرة كيلو مترات، وكان الجنود النازيون عندما غادرنا القطار قبل هذا السير المضني، يدفعوننا ويسوقوننا أمامهم كالأنعام، وينهالون علينا بالضرب المبرح، ويحيطون بنا من اليمين واليسار حاملين بنادقهم ذات الحراب، وفي الخلف، مصوبين مدافعهم الرشاشة نحونا. وفي نهاية الأمر وصلنا إلى الحدود البولندية ونحن في حالة إعياء شديد، حتى سقط على الأرض الشيوخ من الرجال، والعجائز من النساء، وغيرهن من برح بهن التعب وكذلك الأطفال.
وكان جميع هؤلاء يتركون من غير إسعاف أو مساعدة، ولكن الحراس البولنديين لم يسمحوا لنا بالمضي في سبيلنا واجتياز حدود بلادهم وأرغم هذا الحشد - وكنا ثمانية آلاف، من همبورج وبرلين وكولون وإيسن - على المكث في غابة هناك. وفي أثناء ذلك كله ما كان يعنى بأمرنا إنسان، فأخذ منا الجوع كل مأخذ، وعضنا البرد القارس بأنيابه، وسقط منا كثيرون ضحية للجوع والبرد. وظللنا على هذه الحال حتى استطعنا أن نجد مكانا في قرية على الحدود مكثنا بها ثمانية أيام يحرسنا الجنود البولنديون ... وكانت إقامتنا خلال هذه المدة في حظائر الخيول، وفي اثنتين من هذه الحظائر التي ما كانت إحداهما تتسع لأكثر من مائة حصان، اضطر حوالي الثمانية آلاف شخص إلى الإقامة، ينامون على القش ويهلكهم البرد. وأخيرا شكلت لجنة لمساعدتنا وتزويدنا بالطعام؛ فكنا نتناول وجبتين: إحداهما في الصباح والأخرى في المساء، ولم يكن ما نأكله في كل وجبة يزيد على كسرة صغيرة من الخبز وقليل من الحساء، وهي كمية لم تكن تسد الرمق مما أدى إلى انتشار المرض. وكان المرضى يعزلون في خيام وينامون على القش. وكان عدد هذه الخيام سبعا، ويجري العمل لبناء عشر غيرها بسبب ازدحامها، وليس هناك أي مستشفى، ويزداد عدد المرضى الذين يشكون من الآم المعدة بسبب رداءة الطعام وقلة التغذية. أما الذين أصيبوا بحمى التيفود فقد بلغوا المائة. والماء الموجود في معسكرنا لا يصلح للشرب؛ لأنه ملوث، ومع هذا يدفع اليأس الجميع إلى الشرب منه؛ إذ لا يوجد سواه!
هذه القصة كتبت بعد مضي أسبوع واحد على وجود هؤلاء المنكوبين في المنطقة الحرام الواقعة بين الحدود البولندية والألمانية، وقد اضطر حوالي خمسة آلاف من هؤلاء التعساء إلى البقاء في «زبونستزين
Zbonszyn » أكثر من شهرين، يتلقون مساعدة الهيئات اليهودية البولندية التي جمعت التبرعات لإعانتهم ونجدتهم في جميع أنحاء العالم. •••
أما السبب الذي دعا إلى بقاء هؤلاء المنكوبين وأمثالهم من غير مأوى أو ملبس أو مأكل في المناطق الحرام الواقعة بين حدود دولة الريخ وحدود الدول المجاورة، فهو أن هؤلاء «اللاجئين» اليهود كانوا في الحقيقة لا يحملون «جوازات» أو أية أوراق رسمية من حكومة الريخ الثالث تدل على جنسياتهم؛ ذلك بأن النازيين رفضوا بتاتا إعطاء هؤلاء اليهود المطرودين المنبوذين أية جوازات أو أوراق رسمية، كما فعلوا مع خصومهم السياسيين الآخرين الذين اضطروا إلى الفرار من الطغيان النازي، أو أرغمهم النازيون أنفسهم على مغادرة البلاد، الأمر الذي أوجد ما صار يعرف باسم «مشكلة اللاجئين».
وذلك أنه كان من المتعذر على الحكومات، تبعا لأحكام القانون، أن تقبل في بلادها الأشخاص الذين ليس لديهم جوازات تثبت جنسياتهم، «فعرفوا لذلك باسم الأشخاص الذين لا دولة أو لا وطن لهم»، وكذلك الأشخاص الذين ليس لديهم تأشيرات من قنصليات الدول التي يبغون اجتياز حدودها أو الإقامة بأرضها.
وقد أوضح أحد الثقاة طرفا من أسباب مشكلة «اللاجئين» هذه، بقوله: «إن لعب كرة التنس الذي يتقاذف أفرادا من البشر قد أصبح أمرا مألوفا معروفا في أوروبا الوسطى منذ وضعت الحرب العظمى الماضية أوزارها، بيد أن عدد ضحايا هذه اللعبة في الماضي كان قليلا، كما أن هؤلاء الضحايا كانوا في الحقيقة من الأفراد الذين أمسوا لا دولة لهم؛ إذ فقدوا جنسياتهم من جراء التغيير الذي طرأ على الخريطة السياسية بعد انحلال امبراطورية الهابسبرج القديمة. أما الآن فقد صار تقاذف أفراد البشر من المسليات الجديدة التي أوجدها إمعان ألمانيا في طرد اليهود وغير الآريين والخصوم السياسيين دون رحمة أو شفقة، وصار حراس الحدود في كل دولة إذا ما أرخى الليل سدوله يتنافسون في الخلاص من أكبر عدد ممكن من هؤلاء «اللاجئين» الموجودين في المناطق الحرام المتاخمة لحدود بلادهم، وذلك بإرغامهم على اجتياز الحدود والدخول إلى أرض الدول المجاورة بطريقة لا يقرها عرف أو قانون، وبذلك يساعد رجال الشرطة في كل دولة مثل هؤلاء الرجال والنساء والأطفال على خرق قوانين الدولة الأخرى، بل إنهم ليدفعونهم إلى ذلك دفعا؛ فكان جند الحرس
S. S.
ورجال الجستابو ينقلون كل مساء حوالي الأربعين لاجئا من النمسا الألمانية إلى القرى الواقعة على حدود مورافيا، ثم يأمرونهم بعد إعطائهم بعض نقود تشيكية بالعدو السريع عبر الحدود، فيتلقاهم من الجانب الآخر الحراس التشيك، ويرغمونهم على عبور الحدود مرة ثانية إلى بلادهم والعودة من حيث أتوا، أما الذين يستطيعون الإفلات من قبضة هؤلاء الحراس، فكانوا يعيشون عيش المجرمين في المدن التي يلجئون إليها؛ لأنهم ما كانوا يجرءون على قيد أسمائهم في سجلات «البوليس» أو كسب قوتهم، بل كانوا في خوف دائم من أن يكشف أمرهم ويرغموا في النهاية على الخضوع لهذه التجربة القاسية مرة أخرى. وكان من أثر هذا الرعب الذي فيه يصبحون وفيه يمسون أن صاروا فريسة سهلة في أيدي أصحاب المحال التي ينزلون بها أو أصحاب الأعمال الذين يستخدمونهم؛ فيظل هؤلاء يهددونهم بفضح أمرهم «للبوليس» حتى يسخروهم في أعمالهم بأجور زهيدة لا يجد اللاجئون مناصا من قبولها؛ خشية أن يؤدي إفشاء سرهم إلى أن تطبق عليهم القوانين التي وضعتها حكومات هذه البلاد ضد الأجانب.» «وقد حدث مثل ذلك أيضا عند الحدود السويسرية، بل إن حوادث اللاجئين عند هذه الحدود ما لبثت أن زادت زيادة كبيرة؛ إذ إن سويسرة أجازت مؤقتا دخول اللاجئين إلى بلادها، بيد أن السلطات الحكومية في «برن» ما لبثت هي الأخرى أن غيرت من موقفها إزاءهم، فصارت ترفض كما فعلت حكومة «براج» - التشيكوسلوفاكية - قبول اللاجئين إليها، وهكذا أخذ جنودها ورجال الشرطة فيها ومن إليهم يبدون نشاطا عظيما في حراسة معابر الجبال وشواطئ بحيرة «كونستانس» حتى أوصد هذا الباب في وجوه اللاجئين وزادت تبعا لذلك شقاوتهم وتعاستهم.»
تلك كانت «هيستريا اليهودية» في ألمانيا النازية، وظاهر أن هذه الهيستريا بلغت ذروتها في كل من ألمانيا وكذلك النمسا «بعد احتلالها» في شهري أكتوبر ونوفمبر من عام 1938. وفي الواقع إن هذه الموجة القاسية كانت تقترن بحملة واسعة ضد اليهود في ألمانيا، فطفقت الصحف النازية تذكر الأهلين من جديد بقوانين نورمبرج. ونشرت
Schwarze Korps
في عددها الصادر في 23 نوفمبر 1938 - وهي صحيفة الجستابو والحرس الهتلري المختار -
S. S. ، طائفة من القوانين والقرارات التي يقصد بها حرمان اليهود من كسب العيش في ألمانيا، ثم قالت:
سوف يستنفد اليهود ما لديهم من رءوس أموال، ويغدون في عداد المجرمين، وعند بلوغ هذه المرحلة، فسوف نواجه ضرورة ملحة شديدة، هي ضرورة إبادة عالم اليهود الإجرامي بالوسائل نفسها التي نتبعها مع المجرمين، أي بالسيف والنار. وأما النتيجة المنتظرة فهي نهاية اليهودية وتحطيمها تحطيما لا قيامة لها من بعده.
ولما كانت «هستريا اليهودية» جزءا متمما «لهستريا الجنس» ولا يمكن أن تنفصل عنها، فقد صار من الضروري إظهار مدى ما بلغته هذه الهيستريا الأخيرة في مسألة صون الجنس الآري وتهيئته للسيطرة العالمية المنتظرة لا من جهة ضمان نقاء الدم الآري وعدم تلوثه بدم الأجناس الأخرى غير الآرية مثل اليهود، وإنما من جهة لا تقل في نظر النازيين خطرا عن سابقتها وهي ضرورة تأسيس المجتمع النازي من أفراد أشداء صحيحي الأجسام، سليمي العقول، يصلحون بفضل نقاء دمهم، وصحة أبدانهم وسلامة عقولهم «؟» للاستئثار بالحكم والسلطان، لا في ألمانيا وحدها بل وفي العالم أجمع. •••
لم يتورع النازيون عن ارتكاب أشنع الجرائم للتخلص من جميع الأفراد الذين قضوا بعدم صلاحيتهم، لأن يكونوا أعضاء في المجتمع النازي الذي ينبغي أن يتألف في نظرهم من الأفذاذ والأسياد فحسب، ولجئوا في تحقيق أغراضهم إلى وسائل ثلاث: هي القتل، والخصي والتعقيم؛ إذ إنه لم يكن هناك مناص من اختيار الصالحين بدنيا وعقليا وخلقيا حتى ينسلوا أطفالا صالحين من تلك النواحي، يقوم على أكتافهم عندما يشبون عن الطوق صرح الدولة الوطنية الاشتراكية الصميمة.
وقد دلت الإحصائيات على أن عدد المصابين بعلل جثمانية وعقلية وبأمراض تمنعهم من النضال في الحياة من أجل كسب العيش يبلغ المليونين. من هذا العدد الضخم، كان دافعو الضرائب في دولة الريخ يعولون 1151000، وقدر ما كانوا يتكلفونه بمبلغ 1151000000 ريخمارك سنويا. وقدر عدد المصابين منهم بأمراض عقلية بنحو 880000 أي 76٪ من مجموعهم. ويبلغ ما كان ينفقه عليهم دافعو الضرائب سنويا 631000000 ريخمارك أو 54٪ من العبء المالي كله. وقد استدل النازيون من ذلك على أن بقاء هذه الحال على ما هي عليه لا بد مفض إلى تدهور المجتمع في النهاية؛ ولذلك استقر رأيهم على أن من واجب الدولة العمل على التخلص من هؤلاء المرضى غير الصالحين دون إبطاء.
ومع أن النازيين لم يعترفوا صراحة بأنهم يلجئون إلى القتل حتى يتخلصوا ممن يرون أنهم غير صالحين للعيش في المجتمع الألماني، فقد أضحى هذا الأمر من الحقائق المعروفة، ودل البحث على أن عدد القتلى من هؤلاء المنكوبين بلغ في عامي 1939، 1940 مائة ألف شخص اختارهم الزعماء والأخصائيون النازيون، وتولى رجال الجستابو عملية الإجهاز عليهم من غير استشارة أسراتهم في ذلك، فلم يعرف أهلوهم من أمرهم شيئا، بل كان يصلهم نبأ وفاة مرضاهم فجأة على غير انتظار، وقد تقدم كيف أن «جرافينيك»، «هارثيم» و«بيرنا» كانت مراكز هذه المجازر البشرية.
وفي أول يناير 1934 صدر قانون يقضي بأن يخصى غير الصالحين، ثم نفذ «مكتب سياسة الجنس أو العنصرية» هذا القانون، فبلغ عدد من تم خصيهم في عامي 1934، 1935: 996 شخصا، وقدر المكتب المذكور عدد الذين أخصوا عموما منذ صدور هذا القانون إلى قيام الحرب في سبتمبر 1939 بين 1500-2000 أي بما يزيد على 300 شخص في كل سنة.
وبعد خمسة شهور من وصول الهر هتلر إلى الحكم، صدر قانون استطاع النازيون بفضله أن يعقموا «375000» شخصا تقريبا في ست سنوات، أي إلى عام 1939، وأما هذا القانون ويطلق عليه اسم «قانون منع المصابين بالأمراض الوراثية من التناسل» فقد نص على ضرورة إجراء جراحة لكل فرد مصاب بمرض وراثي؛ حتى يصبح عاجزا عن أن يكون له أطفال، على شريطة أن يثبت بطريق الخبرة والتجارب العلمية الطبية أنه من المحتمل جدا أن يرث الأطفال الذين يولدون لهذا الشخص قدرا كبيرا من النقص الجثماني والعقلي، وبلغت هذه الأمراض الوراثية تسعة، منها ضعف العقل، والصرع، والصمم والعمى الوراثيان، والعاهات الجثمانية والجنون والإدمان على المسكرات وغيرها. وكان هذا القانون يطبق على الألمان وعلى الأجانب سواء بسواء، فلم يستطع الأخيرون الإفلات من جراحة العقم إلا إذا غادروا الريخ. وأما الألمانيون المصابون بأحد هذه الأمراض، وكانت سنهم تزيد على عشر سنوات، فكانت تجرى لهم هذه الجراحة، ولم يستثن من ذلك سوى الأشخاص الذين لم تكن لديهم قدرة على التناسل بسبب شيخوختهم أو لأسباب أخرى، وكذلك الأشخاص الذين كان يخشى على حياتهم من إجراء هذه الجراحة لهم، هذا فضلا عن الأشخاص الموضوعين تحت الرقابة التامة في إحدى المؤسسات أو المصحات التي توافق عليها الدولة، أو الذين كانوا يفضلون بمحض اختيارهم دخول إحدى هذه المؤسسات حتى لا تعقمهم الدولة.
وقد أجاز النازيون التعقيم بصفة اختيارية ما دامت الجراحة لا تعرض حياة الراغبين في إجرائها للخطر، وفي غير الظروف التي يثبت فيها أن الأفراد الذين يرغبون فيها، غير مصابين بعاهات أو أمراض يخشى انتقالها بالوراثة إلى ذراريهم، والسبب في هذا القيد أن القانون النازي كان يعتبر الإكثار من النسل واجبا تفرضه الدولة على المواطنين الأصحاء، أصحاب العقول والأجسام السليمة، كما كان يعتبر منع المرضى والمصابين بالعلل الوراثية من أن يتناسلوا من أهم وأقدس واجبات الدولة.
ولا شك في أن «قانون منع المصابين بالأمراض الوراثية من التناسل» كان من أخطر القوانين التي سنها النازيون وأقساها، فمن الناحية العلمية، لم يقطع علماء البيولوجيا برأي في أنواع الأمراض التي يمكن انتقالها بالوراثة، كما أنه من المتعذر تقدير مدى ضعف التفكير وإعمال الروية لدى أي إنسان، أو إقامة الدليل على أن رجلا من الرجال ضعيف العقل قاصر الذهن، قليل الإدراك، وكل هذه من الحالات التي كان النازيون يطلبون أن يعقم من أجلها أصحابها ولم يجد واضعو هذا القانون وسيلة للتمييز بين ذوي العقول السليمة وذوي العقول المضطربة سوى الالتجاء إلى ما يسمونه «اختبارات الذكاء»، وهي عبارة عن مجموعة من الأسئلة كانت تضعها الحكومة النازية وتطلب إلى الأفراد الذين تريد فحصهم الإجابة عليها، فإذا استطاعوا ذلك كانوا من أصحاب العقول الراجحة السليمة، أما إذا عجزوا كان التعقيم الإجباري من نصيبهم. غير أنه كان يحدث في حالات عدة أن «المرضى» كانوا يستطيعون الحصول على الإجابات المطلوبة في نظير رشوة يدفعونها عن طيب خاطر في سبيل التحرر من قسوة هذا القانون، ولما وجد النازيون أن كثيرين من خصومهم الذين أرادوا حرمانهم القدرة على التناسل نكاية بهم قد استطاعوا الإفلات من «اختبارات الذكاء»، ابتكروا مقاييس أخرى تمكنهم من تنفيذ مآربهم، فقال الهر هتلر: «إنه يكفي لإثبات حالات ضعف العقل، وقصور الذهن أن يوسم الفرد بالتفكير السطحي أو بعدم القدرة على تقليب وجوه الرأي في أمر من الأمور، أو بالانحلال الخلقي.» وهكذا عقم النازيون أكثر من 200000 شخص بسبب «ضعف عقولهم»، كما ادعوا. كما سيطروا بفضل هذا القانون وبفضل التفسيرات والاختبارات التي أعدوها على حياة ثمانين مليونا من الأنفس في دولة الريخ الثالث.
ولم يقنع النازيون بإجراء عمليات التعقيم والخصي للأشخاص الذين ينطبق عليهم القانون، بل اتخذوا من وجود هذا القانون ذريعة لإلقاء الرعب والفزع في قلوب أولئك المواطنين الذين اعتبرهم السادة النازيون أعداء للنظام القائم، فكان التعقيم والخصي إلى جانب القتل والعزل في مصحات الاعتقال من وسائل بسط نفوذهم وسلطانهم على ألمانيا.
ومع هذا كان النازيون يبررون ما يفعلون بأنهم إنما يريدون أن ينشئوا مجتمعا من السادة الصالحين لممارسة شئون الحكم في العالم، فهم من أجل إنشاء هذه الطبقة «النبيلة» لا يترددون في اتباع كل ما يرونه ضروريا للمحافظة على نقاء الدم وخلوص الجنس الآري من الشوائب. وللتأكد من أن الصالحين جثمانيا وعقليا وخلقيا هم وحدهم أصحاب الحق في أن يتناسلوا، وكان ذلك أهم ما دعا النازيين إلى إصدار ما سبق الحديث عنه من القوانين المتعلقة بالزواج.
ومما يدل على أن النازيين كانوا يريدون من سن هذه القوانين الصارمة أن يوجدوا مجتمعا من الرجال الأفذاذ المتعصبين للمبادئ النازية ولتعاليم الزعيم، والذين لا يعرفون غير الدولة الوطنية الاشتراكية الصميمة وطنا لا يحجمون عن أن يفتدوه بالمهج والأرواح، أن الزعماء النازيين حرصوا دائما على أن يختاروا جماعة الحرس المختارة
S. S.
الذين اصطفاهم الهر هتلر وانتقى منهم حراسه الخصوصيين الذين يسهرون على حياته من بين الذين نشئوا نشأة نازية صحيحة، وثبت نقاء جنسهم الآري وصلاحيتهم العقلية والخلقية حسب مقاييس الحزب. ولزيادة التأكد من أن طبقة النبلاء الجديدة من جنود الحرس، سوف تظل دائما بمنأى عن أن يلوثها بطريق المصادفة أو الخطأ امتزاج دم الأجناس الأخرى بدم أعضائها الآري النقي، أو انتقال أحد الأمراض المعدية إلى أفرادها وذرياتهم، لم يقنع النازيون بالقوانين القائمة المعمول بها في هذا الشأن، بل أصدروا أوامر وتعليمات خاصة طلبوا إلى جنود الحرس
S. S.
الخضوع لها والعمل بها. فأصدر «هنريك هيملر» في آخر ديسمبر 1931 أمرا جاء فيه: أولا: رجل الحرس
S. S.
يجري اختياره بدقة من بين الألمان الذين ينحدرون من أصل آري صحيح. ثانيا: وعملا بما تتطلبه أغراض الوطنية الاشتراكية، وبناء على ما هو معروف من أن مستقبل الشعب الألماني «الجرماني» يتوقف على بقاء الدم الذي يجري في عروق هذا الشعب نقيا، تقرر أن نعد تصريحات خاصة لزواج جند الحرس ابتداء من أول يناير 1933. ثالثا: الغرض من هذا إنشاء أسرات جرمانية محترمة من الجنس الآري، وبقاء هذه الأسرات. رابعا: تعطى أو تمنع تصريحات الزواج هذه بناء على اعتبارات متعلقة بنقاء الجنس وسلامة الصحة الموروثة فحسب. خامسا: كل فرد من أفراد الحرس
S. S.
يريد الزواج عليه أن يحصل على ترخيص من زعيم هذه الجماعة هنريك هيملر. سادسا: جميع من يتزوجون على الرغم من رفض الترخيص لهم بذلك يطردون من جنود الحرس. وفي المواد «السابعة والثامنة والتاسعة» طلب هيملر من الراغبين في الزواج أن يقدموا جميع الوثائق التي تثبت خلوص آريتهم وآرية الزوجات اللواتي يقع عليهن اختيارهم؛ حتى تستطيع الهيئة المكلفة بفحص هذه المسألة أن تهيئ «شجرة الأسرة» كاملة لفرق الحرس، وأن تحتفظ بها ضمن أوراقها ووثائقها. وفي المادة العاشرة والأخيرة، اختتم هيملر هذا الأمر بقوله: «إن جنود الحرس
S. S.
يعرفون دون ريب أننا خطونا بفضل صدور هذا الأمر خطوة لها أهميتها. وكل سخرية أو تحقير أو سوء فهم لا يؤثر فينا، فإنما المستقبل لنا وحدنا!»
ولما كان جنود الحرس من الذين سبق لهم اجتياز اختبارات الحزب النازي المنوعة قبل انضمامهم إلى هذه الجماعة المصطفاة، فإن جميع المتاعب الناشئة عن تطبيق هذا الأمر كانت في الحقيقة من نصيب المرأة التي تحدثها النفس بالزواج من أحد هؤلاء النبلاء الجدد، فكان عليها قبل كل شيء أن تكتب إلى عدد من الأبروشيات حتى تستخرج من سجلاتها شهادات الميلاد ووثائق الزواج الخاصة بأجدادها إلى الجد الثالث على الأقل، ولم يكن استخراج هذه الشهادات والوثائق من الأمور السهلة الهينة، بل كان يتطلب جهدا عظيما من السيدة؛ إذ كثيرا ما كانت تضطر إلى السفر والانتقال من مكان إلى آخر باحثة منقبة، تقابل طائفة من الموظفين وتتحدث إلى رجال الدين المكلفين بحفظ هذه «السجلات» «الثمينة» في الأبروشيات المختلفة، ومن يدري لعلها لا تظفر بعد هذا الجهد المضني بطائل، لضياع هذه الشهادات والوثائق القديمة نتيجة إهمال المكلفين بحفظها في بعض الأحيان. وبعد وصول النازيين إلى الحكم وصدور قوانين الزواج الصارمة، تعددت حوادث السطو على الأبروشيات لسرقة سجلات المواليد والوفيات وعقود الزواج، رغبة في تزوير شهادات ووثائق يمكن بيعها في «السوق السوداء» التي أوجدتها قوانين الزواج النازية لمن يبغون إثبات أن الدم الآري النقي يجري في عروقهم وعروق أجدادهم من أزمنة قديمة؛ حتى تتاح لهم فرصة الزواج أو الالتحاق بإحدى الوظائف الحكومية الهامة أو الانخراط في سلك الحزب النازي العتيد، أو الانضمام إلى طوائف الحرس الأسود
S. S.
والتمتع بالمزايا التي أضحت من نصيب هؤلاء «النبلاء» الجدد في ألمانيا النازية.
فإذا استطاعت السيدة بعد هذه المتاعب الأولى الحصول على الشهادات والوثائق التي تريدها من الأبروشيات المختلفة، وقبلت السلطات النازية هذه الأوراق وقطعت بأنها صحيحة، وجب عليها بعد ذلك أن تعرض نفسها لفحص طبي دقيق تقوم به وزارة الصحة حتى تحصل على «شهادة الصحة» التي لا غنى عنها بتاتا من أجل إجازة الزواج والموافقة عليه. وقد يظن القارئ أن هذا الفحص طبي بالمعنى المعروف، ولكن الذي يحدث خلاف ذلك؛ إذ يكفي أن تقتنع السلطات النازية بأن السيدة من مؤيدات «الزعيم» والنظام القائم، فتعطيها الشهادة الطبية المطلوبة ما دامت ذات شعر أشقر، وجمجمة طويلة وعينين زرقاوين، ولها غير ذلك من الخصائص الجثمانية التي تميز - في نظر النازيين - الجنس الآري من الأجناس الأخرى. ومما ينبغي ذكره أن هذا الفحص الطبي قد أغفل إغفالا تاما في أثناء الحرب، فصار طالبو الزواج يحصلون على الشهادات الصحية بعد فحص سجلات الصحة العمومية، بينما يعفى الجنود وغيرهم ممن يؤدون خدمات وطنية مماثلة لما يؤديه الجنود من الفحص الطبي إعفاء تاما.
فإذا استطاعت السيدة إرضاء السلطات النازية والحصول على «شجرة الأسرة» المطلوبة أو «جواز الآرية»، ثم على الشهادة الصحية؛ أمكنها أن تقدم طلبا للدولة حتى تحصل على «قرض الزواج» ذلك بأن الدولة النازية أخذت على عاتقها منذ دانت السلطة للهتلريين في دولة الريخ الثالث، إعطاء الزوجين معا قرضا يصل أحيانا إلى الألف من الريخماركات أو الخمسين جنيها إنجليزيا. وعند بدء العمل بهذا النظام منذ أول يونية 1923 كثر الإقبال على الزواج حتى اعتبر النازيون هذا التنظيم نجاحا عظيما لهم. وعلى هذا لم يكن الغرض الأول من «قروض الزواج» سوى معالجة أزمة البطالة المنتشرة في تلك الأونة بطريق غير مباشر؛ إذ كان من شروط الحصول على «قروض الزواج» أن تكف السيدة المزمعة على الزواج عن مزاولة عمل من أعمال كسب العيش في الدولة، فتفسح بخروجها من ميدان العمل مكانا لأحد الرجال العاطلين. أما ما أحدثه هذا التنظيم من آثار فيحسن إرجاء الكلام فيه حتى يبحث مركز المرأة في ألمانيا في ظل النظام النازي الجديد.
فإذا استطاعت السيدة التسلح «بجواز الآرية »، و«الشهادة الصحية»، و«وثيقة قروض الزواج»، فإن عليها إذا أصرت بعد ذلك كله على الزواج من خطيبها جندي الحرس الأسود
S. S.
أن تلتحق بمدرسة أعدت خصيصا «للعرائس
Bräuteschule »، وهي مدارس انتشرت في ألمانيا وأرغم النازيون «العرائس» على الالتحاق بها؛ حتى يتلقين التعليم الذي كان يعده النازيون ضروريا لكل امرأة تريد الزواج من أحد جنود الحرس، والانضمام بفضل هذا الزواج إلى زمرة «النبلاء» الذين تتألف منهم أرقي الطبقات وأعلاها في المجتمع النازي. •••
ولكن لماذا كان على المرأة وحدها أن تتحمل كل هذه المتاعب؟ بعض السبب في هذا أن جنود الحرس الأسود
S. S.
رجال سبق اختيارهم واطمأن الزعماء إلى أنهم يتمتعون بجميع ميزات «البطل الآري». ولكن السبب الأكبر هو طبيعة المركز الذي كانت تحتله المرأة في المجتمع النازي الجديد. ويوضح نظرة النازيين إلى المرأة ومقدار ما يحملونه لها من احترام أو تحقير، أقوال زعمائهم وكتابهم، وكذلك تصرفاتهم وتشريعاتهم منذ وصولهم إلى الحكم. فقد حرص النازيون من مبدأ الأمر على إبراز حقيقة لها أهميتها: هي أن الدولة التي يعتزمون إنشاءها «دولة رجال» لا يمكن أن تجد المرأة في وظائفها المدنية والسياسية مكانا تستطيع أن تعمل فيه إلى جانب الرجل، أو أن تنافسه في كسب العيش، كما أنها محرومة الحرمان كله في «دولة الرجل» هذه من أية حقوق سياسية، وبخاصة حق التصويت في الانتخابات.
لذلك كتب أحد النازيين عقب وصول حزبه إلى الحكم يقول:
سوف تعيش المرأة الألمانية منذ الآن في دولة يشيدها ويقودها الرجل، أي في دولة غير برلمانية، دولة محافظة لن يكون للمرأة فيها خلال المدة الطويلة التالية أي نفوذ مباشر، كما كان الحال فيما مضى.
وفي كتاب «أسطورة القرن العشرين»، كتب فيلسوف النازية «ألفرد روزنبرج»:
لقد كان دائما من رأي أصحاب التفكير العميق أن الرجل متفوق على المرأة في ميادين البحث العلمي والاختراع والكشف، وفي جميع الأعمال التي تدعو إلى الابتكار. أما المرأة فوظيفتها مقصورة على صون الدم وتخليد الجنس (أي التناسل).
إلى أن قال:
وفي أوقات المحن العصيبة، يظهر إلى عالم الوجود كل من الرجل المخنث والمرأة «المحررة» وكلاهما دليل الانحلال السياسي والثقافي. وعلى الرغم من جميع الحريات الممنوحة للمرأة، فإن قول الفيلسوف اليوناني أرسطو لا يزال صحيحا وهو: إن عجز المرأة هو الذي يجعل منها المرأة التي نعرفها!
وعلى ذلك، كان منح المرأة نفوذا دائما في أعمال الدولة من علامات انحلال العصر التي لا يمكن أن يخطئها أحد، وآية ذلك - في نظر روزنبرج - «هذا الهبوط الشنيع الذي نلحظه في مستوى الثقافة الأمريكية نتيجة لتمتع المرأة بمركز له خطره في المجتمع الأمريكي»، بل إن «روزنبرج» لا يتردد في الاعتقاد بأنه لو كان أمر الدفاع وتصريف شئون السياسة متروكا بأيدي النساء، لكان مصير أمريكا الضياع والفناء منذ مدة طويلة. وفي عام 1934 تحدث الهر هتلر إلى «مؤتمر النساء» عند انعقاد الحزب النازي فقال:
لقد حرصنا - نحن الوطنيين الاشتراكيين - منذ عهد طويل على أن نمنع النساء من التدخل في شئون الحياة السياسية التي لا تعنيهن؛ إذ إن هذا التدخل عار وأي عار.
ومع هذا، فقد حرص النازيون على ألا يظهروا بمظهر المحقرين لشأن المرأة. ومن الحقائق المعروفة أن النساء في ألمانيا كن من أكبر المشجعين للحزب الوطني الاشتراكي عند نشأته، ومن أكبر المؤيدين للزعيم هتلر وأنصاره في جميع الانتخابات التي أوصلته في النهاية إلى منصب المستشارية، اعترف الهر هتلر نفسه بهذه الحقيقة، فقال إنه لا يسعه سوى الاعتراف بما كان لجلد النساء وشدة احتمالهن للمصاعب، وإخلاصهن للحركة النازية من أثر كبير في نجاحها، فلولا هذا الجلد وذياك الإخلاص من جانب المرأة الألمانية لما استطاع أن يقود الحزب إلى النصر في النهاية؛ ولذلك لم يشأ الزعماء النازيون في البداية إغضاب المرأة، فشرع «الهر جوبلز» وزير دعاوتهم يفسر أقوال «روزنبرج» وغيره، بقوله: «إن إخراج المرأة من الحياة العامة ليس المقصود منه التخلص منها أو الاستغناء عن خدماتها، وإنما إرجاعها إلى الحياة الأصيلة الشريفة حياة الأسرة والمنزل.»
غير أن أقوال «جوبلز» وأمثاله ما كانت لتغير شيئا من نصيب المرأة التي انحط مركزها في المجتمع الهتلري حتى صارت هدفا لكل الإهانات التي شاء متطرفو النازيين أن يوجهوها إليها. وكانت السيدات «الآريات»، التي نشأ بينهن وبين اليهود غير الآريين مودة وصداقة، أكثر عرضة للتحقير والإهانة من غيرهن، وتحملن عذابا أليما على أيدي الشبان الهتلريين في كل ظرف ومناسبة. من ذلك ما حدث في «نورمبرج» في يوم من أيام شهر أغسطس عام 1933 عندما قبض شاب من جند الهجوم
S. A.
على فتاة آرية تبلغ التاسع عشر ربيعا كانت تسير في صحبة شاب يهودي، فانتزعها قسرا إلى مكان قريب حيث قص شعرها وحلق رأسها وعلق حول عنقها إعلانا كتب عليه: «لقد أسلمت نفسي إلى رجل يهودي!» ولم يكن هذا كل ما حدث للبائسة؛ إذ اجتمع من حولها زعانف النازيين وأرغموها على السير في الشوارع والتنقل من مقهى إلى آخر، وفي كل من هذه المقاهي أرغموها على أن تقف فوق منصة عالية وانهالوا عليها بأفحش ألفاظ الشتم والسباب. أما الفتاة المسكينة فسرعان ما فقدت عقلها عقب هذا الحادث المؤلم، وأودعت مستشفى للأمراض العقلية، ولا يدري أحد ما حدث لها بعد ذلك. وإذا كان هذا نصيب المرأة الآرية، فإن نصيب المرأة اليهودية على أيدي الهتلريين كان أشد وأنكى، فاليهوديات كن «المنبوذات» في المجتمع النازي الجديد. ومن المعروف أن النازيين بعد سقوط النمسا أرغموا السيدات اليهوديات في مدينة فينا على تنظيف «مراحيض» الرجال ونقل القاذورات بأيديهن!
وكذلك يتبين مبلغ امتهان المرأة من الأساليب التي كان يتبعها الهتلريون في معاملة النساء عامة في المجتمع الألماني. فبينا كانوا يطلبون إلى زوجاتهم البقاء في بيوتهن لإدارة شئون الأسرة ويحضونهن على عدم التزين واستخدام المساحيق وما إليها بحجة أن المرأة النوردية ليست في حاجة إلى مثل هذه الوسائل المنافية للحشمة والتي تلجأ إليها غير الآريات والزنجيات ومن في عدادهن لاصطياد الرجال وإغرائهم، كانوا من ناحية أخرى - باعتبارهم أصحاب السيادة والنفوذ في دولة الرجل الجديدة - يسيرون مع غير زوجاتهم سيرة معوجة، فيقبلون على معاشرة الشقراوات الجميلات خارج نطاق الزوجية، ويطلبون إلى خليلاتهم الاهتمام بكل ما يزيدهن جمالا ويكثرون من إهدائهن الورود والزهور ، ويقرعون معهن كئوس الشراب مترعة، حتى قال أحد النقاد الاجتماعيين ما معناه: «إن كل شيء في ألمانيا لا يمكن الحصول عليه بدون بطاقة التموين، عدا الشقراوات، والزهور والرياحين، والشمبانيا، ومعاطف الفرو الثمين والجنبري!»
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد ظهرت عوامل أخرى نشأ بعضها - ولا شك - من امتهان المرأة وتحقيرها، وتحريم الزينة عليها وإرغامها على الترهل والبدانة - لأن البدانة كما كان يزعم النازيون من أنجع الوسائل لسرعة الحمل وولادة الأطفال الأصحاء - ونشأ بعضها الآخر من طبيعة تنظيم الحزب النازي نفسه، وكذلك تنظيم الدولة التي شاء الزعماء أن تكون دولة من الرجال، وللرجال وحدهم. وقد نجم عن تضافر هذه العوامل انتشار مرض الاختلاط الجنسي الشاذ بين هؤلاء الرجال أنفسهم.
وهذا المرض الاجتماعي الوبيل، يرجع في الحقيقة إلى أصول تاريخية وثقافية قديمة، يمكن إدراكها إذا عرف شيء عن تاريخ الأمة الألمانية خلال حرب التحرير من السيطرة النابليونية، وكذلك عندما ظهرت رغبتها في التحرر من سلطان الإمبراطورية النمساوية القديمة في القرن التاسع عشر؛ فقد لجأت في سبيل تحقيق أغراضها ومآربها إلى تأليف الجمعيات السياسية من أبناء الجامعات الألمانية وغيرها أمثال: «البورشنشافت
Burschenschaft » وجماعات الطلبة «ستودنتنشافت
Studentenschaft »، وكذلك جماعات «شباب ألمانيا الحرة»: «فرايدوتش يوجند
Ereideutsche Jugend » التي تألفت في عام 1913 من الشبان الذين أرادوا الاحتفال بذكرى مرور مائة عام على معركة «ليبزج»، حيث انهزم نابليون بونابرت في أكتوبر 1813. وكانت كل من هذه الجماعات تقوم على أساس إفناء الفرد في شخص الحزب أو الجمعية، وإفناء الحزب أو الجمعية في شخص الزعيم، وكان يربط بين الأعضاء من ناحية وبينهم وبين الزعيم من ناحية أخرى رباط الدم على غرار ما كان يحدث بين القبائل والعشائر الجرمانية القديمة. كما أن مؤسسي هذه الجماعات اعتقدوا بضرورة عزل أعضائها الشبان، ومنعهم من مخالطة النساء؛ بدعوى أن هذه المخالطة تصرف الأعضاء عن تكريس أنفسهم لخدمة القضية التي نصبوا أنفسهم لخدمتها؛ ولذلك أنشئوا لأعضاء هذه الجمعيات منتديات خاصة، ورسموا لهم نوع الحياة التي يجب أن يعيشوها في معسكراتهم. وكان من السهل أن ينشأ مرض الاختلاط الجنسي الشاذ بين هذه الجماعات البعيدة عن النساء، شأن كل جماعة تعيش في عزلة جنسية.
وقد تقدم الكلام عن تأسيس الحزب النازي وشرح نظرية «الزعامة » المسئولة وبيان ما كانت تتطلبه تلك الزعامة من ضرورة إفناء الفرد في شخص الزعيم، كما تقدم الكلام عن رغبة الزعماء النازيين في أن يؤلفوا من شبان حزبهم طبقة جديدة من النبلاء في ألمانيا، فعزلوهم عن غيرهم، كما قيدوا زواج أعضاء الحزب وجماعة الحرس الأسود على وجه الخصوص بتلك القيود الصارمة التي سبق ذكرها. ويتضح من هذا كله أن النازيين أنشئوا حزبهم على القواعد والمبادئ ذاتها التي عملت بها الأحزاب والجماعات القديمة، مثل «البورشنشافت» وغيرها. وقد انتشرت العلاقات الجنسية الشاذة بين أعضاء الحزب النازي انتشارا مريعا من مبدأ الأمر حتى صار زعماء الحزب لا يجدون غضاضة في أن يعرف الناس عنهم هذه الصفات المرذولة، بل إنهم كانوا يفخرون بها. وما يزال حادث «إرنست روم» وإخوانه من ضحايا «حمام الدم» المشهور في ميونخ في يونية 1934 ماثلا للأذهان.
وزيادة على ذلك فإن هذه الرذيلة الجنسية الشاذة لم يكن لها سند تاريخي فحسب، بل كانت ترجع كذلك إلى أصل ثقافي. فقد استطاع أحد كبار الكتاب والمؤرخين «أوتوزاريك
Oto Zarek » أن ينشر في عام 1934 بحثا قيما عن تاريخ الثقافة الجرمانية من أدب وشعر وموسيقى وتصوير وفلسفة واجتماع، وكان من النتائج التي انتهى إليها من جميع هذه البحوث، أن «الروح» الجرمانية روح مزدوجة تحلق بالألمان في سماء الإنسانية والمجد من ناحية، وتهبط بهم إلى حضيض الحيوانية واستمراء البطش والقسوة من ناحية أخرى في الوقت نفسه. وكان من بين ما تناوله هذا الكاتب المؤرخ مسألة وجود هذا المرض الجنسي الشاذ وانتشاره بين الجماعات والأحزاب الألمانية السياسية وغيرها من القديم، وبين الحزب النازي نفسه، وقد أسفرت بحوثه في هذا الموضوع عن نشر حقيقة ظلت الدعاية الألمانية على أيدي الهر جوبلز وأمثاله تحاول أن تطمس معالمها، وهي أن الهر هتلر نفسه زعيم الحزب النازي، وزعيم دولة الريخ الثالث، كان من أشد الناس انغماسا في هذه الرذيلة ؛ فقد ذكر «زاريك» في كتابه «الثقافة الجرمانية
German Kultur » صفحة 184 ما ترجمته:
كان «روم» الرجل الذي نجح نجاحا عظيما في تنظيم خلايا الحزب النازي الجديد، فجمع أعضاء الحزب من بين أفراد «حركة الشباب الألماني» الذين كانوا أكثر قبولا من غيرهم للانضمام إلى حزبه، وقد تبين أن ما قاله «بلوهر
Blüher »، قول صادق؛ وهو أن الحركة النازية ما كان يمكن أن تنجح لو أن هتلر لم يضع نفسه على رأسها، «فإن كل شيء يتوقف على الشخصية»، وهذا أمر مسلم به، ولكن شخصية هتلر لم تكن تتلاءم تماما مع ما كان يطلبه «بلوهر»؛ ففيما بين عامي 1920، 1922 قبل حركة الانقلاب والثورة الفاشلة
، كان نشاط هتلر الجنسي الشاذ معروفا في ميونخ، ثم سعى هتلر حتى يخفي أمر انغماسه في هذه الرذيلة، ويحيط هذا النشاط بسياج من الكتمان عندما أدرك أنه سوف يحتل مكانا ملحوظا في أعين الجماهير، بل إن يقظته سرعان ما جعلته يحمل على هذه الرذيلة الشاذة في خطبه العامة، ولو أنه كان يعرف حق المعرفة أن أخص أتباعه المقربين إليه كانوا من المنغمسين في حمأة هذه الرذيلة.
وهتلر نفسه هو الذي جعل من «إرنست» صاحب الشهرة السيئة من هذه الناحية في مجتمعات برلين، رئيسا لجند الحرس الأسود
S. S.
في سيلزيا، وقد ظل «إرنست» يحتل هذا المكان الرفيع حتى قضي عليه فيمن قتلوا من زملاء «روم» في حادث ميونخ. وهتلر نفسه هو الذي اختار «بالدور فون شيراش
Baldur von Schirach » لزعامة شباب الريخ
Reisch Jugend führer ، فلم تنقض فترة قصيرة حتى أطلق عليه أحد المتندرين في برلين اسم «مفسد شباب الريخ
Reisch Jugen verführer » - ومعنى
Verführer
بالعربية: المضلل، أو الرجل الذي يحمل سواه على سلوك سبيل الغواية - وهتلر نفسه هو الذي نصب «الدكتور فونك
Dr. Funk » وزيرا لمالية الريخ، والدكتور فونك من الذين كانوا يترددون كل مساء على مواخير الاختلاط الجنسي الشاذ، وهتلر نفسه هو الذي منح مركزا عاليا في وزارة المالية لصديقه «أرنست والتر
Walter » من محترفي الملاكمة ومدربه القديم في السباحة.
ولكن أهم من ذلك تلك القصة التي يرويها ويؤكد صدقها أحد أقرباء وزير نازي مشهور، وهي تلقي ضوءا على حياة هتلر الشاذة؛ فقد اعترف هذا الشاهد بأن «بالدور فون شيراش» كان الشخص المكلف باختيار ضحايا الزعيم، أما هؤلاء الضحايا فكانوا بعد افتراس الزعيم العظيم لهم وقسوته الشاذة معهم، يقتلون في التو والساعة تخلصا منهم حتى لا يذيع شيء من أمر هذه المآسي، وعندئذ يرسل زعيم شباب الريخ خطاب تعزية لوالدي الضحية البائس يخبرهما فيه بأن فتاهما أصيب بحادث أودى بحياته في أثناء خروجه في رحلة للسير على الأقدام مع زملائه.
ويختتم «أوتو زاريك» هذا الحديث بقوله: «وإن هذه القصة لتتفق الاتفاق كله مع نظام التربية الألماني، وطقوس رباط الدم الأخوي الخفية، وهي في الحقيقة النتيجة المنطقية لعملية بدأت في الواقع قبل تأسيس دولة الريخ الثالث على أيدي هتلر بحوالي المائة عام!» ولعل أكبر دليل على انتشار هذه الرذيلة ما أذاعته جريدة الحرس الأسود
S. S.
والبوليس الرسمية - المسماة
Das Schwarzekorps - في مارس 1937 من أن عدد المصابين بهذا الداء الوبيل والملتحقين بمخلتف الأندية المخصصة لإتيان هذه الفاحشة في أنحاء الريخ، بلغوا المليونين عند وصول النازيين إلى الحكم. وهذا بطبيعة الحال عدا أولئك الذين كانوا لا ينتمون إلى هيئة من الهيئات التي أحصيت.
وفي استطاعة القارئ أن يتصور ما تكون عليه حال المرأة في مجتمع تنتشر بين شبابه ورجاله وزعمائه رذيلة الاختلاط الجنسي الشاذ هذا الانتشار المروع!
على أن المصائب التي نزلت بالمرأة الألمانية لم يكن مصدرها جميعا انتشار هذا المرض، فهناك ناحية إيجابية أيضا في التنظيم والتشريع النازي سبب للمرأة الألمانية آلاما لا تحصى، وألحقت بها المذلة والمهانة. مثال ذلك ما فعله النازيون؛ إذ حرموا النساء في دولة الريخ الثالث مباشرة حقوقهن السياسية.
فمن الحقائق المعروفة أن عدد النائبات في مجلس الريخستاج المنحل في 31 يولية عام 1932 كان يبلغ الثمانية والثلاثين امرأة، نقص إلى خمسة وثلاثين في نوفمبر ثم إلى ثلاثين في انتخابات مارس 1933، ثم اختفى النساء من الريخستاج نهائيا منذ استأثر النازيون بالسلطان المطلق في الدولة. وزيادة على ذلك فقد أصدرت الحكومة البروسيانية في 27 أبريل 1934 أمرا يقضي بطرد جميع المتزوجات اللواتي تستطيع أسراتهن إعالتهن من الوظائف، وظلت الحكومة النازية تتذرع بشتى الوسائل لإنقاص عدد الموظفات إلى أقل عدد ممكن. وطرد النازيون فيمن طردوا عددا كبيرا من المعلمات بمدارس البنات واستبدلوا بهن الرجال، وبذلك نقص عدد المدرسات بمدارس البنات العالية في عام 1935 إلى «9941» بعد أن كان قبل استلام النازيين لأزمة الحكم «11370». وفي السنة الدراسية 1935-1936 بلغ عدد من يقومون بالتدريس في المعاهد العالية «5888»، كان عدد النساء بينهم 46، لم يعطين إلى جانب ذلك مناصب ثابتة أو مراكز مستقرة. ومع أن عدد المشتغلات بالأعمال الاجتماعية الصرفة، ظل على ما هو عليه تقريبا مع ازدياد عدد الطبيبات؛ فقد استأثر الرجال بالمراكز المسئولة، وقد هدد الدكتور «جيرهارد واجنر
Gerhard Wagner » وهو رئيس الأطباء النازيين في ذلك الحين، في اجتماع عقد في برلين في ديسمبر 1934: «بأنهم - أي النازيين - سوف يقضون على كل تربية عالية للنساء!» إذ قيد النازيون تعليم المرأة العالي بقيود صارمة، فأصدروا في 23 أبريل 1933 قانونا قضى بإنقاص عدد الطلبة في الجامعات الألمانية إلى 120000 طالب، على أن تبلغ نسبة عدد الطالبات 10٪ من هذا المجموع، أي 12000 طالبة، فإذا عرف أن عدد الطالبات في الجامعات الألمانية في آخر سنة مدرسية سبقت وصول النازيين إلى الحكم بلغ «21829» أي 19,2٪ من مجموع الملتحقين بالجامعات؛ لتبين أن عدد الطالبات اللواتي أراد النازيون إخراجهن من الجامعات وحرمانهن الدراسة العالية لم يكن يقل عن «10000» فتاة. ومع أن السلطات النازية لم تلبث أن ألغت هذا القانون في 9 فبراير 1935، فإن الفتاة الألمانية الراغبة في إتمام دراستها العالية كانت تجد مشقة عظيمة في تحقيق هذه الرغبة.
ولكن إذا حرمت المرأة التعليم العالي، والفرصة التي تمكنها من مزاولة المهنة التي يقع عليها اختيارها كالطب أو التدريس أو الخدمة الاجتماعية، فماذا يا ترى كان يريد النازيون أن يكون عملها؟ لم يستطع النازيون الإدلاء برأي صريح حاسم في هذه المسألة، ولو أنهم قالوا إن الخدمة المنزلية، هي ميدان المرأة الطبيعي الذي يتلاءم مع أنوثتها؛ إذ في وسعها أن تعمل كممرضة أو كمربية للأطفال أو مديرة منزل أو خادمة. وكان من رأيهم قبل اشتداد أزمة الأيدي العاملة خلال سنوات الحرب أن العمل في المصانع أو المكاتب لا يتلاءم مع أنوثة المرأة، بل ينبغي أن يكون من نصيب الرجل وحده. والظاهر أنهم كانوا يريدون تفريج أزمة البطالة التي واجهت النازيين في بداية عهدهم. لذلك بذل النازيون جهودا عظيمة لإخراج النساء من ميدان العمل، ولكنها كانت جهودا فاشلة. إذ دلت الإحصائيات الحكومية على أن عدد النساء العاملات قد ارتفع من 4272487 في يناير 1933 إلى 5337573 في عام 1936 أي بزيادة «1065086» امرأة. وسر هذا الفشل أن الرجل المتزوج ظل تحت الحكم النازي عاجزا عن زيادة كسبه بدرجة تمكنه من الإنفاق على أسرته، أضف إلى هذا أن النازيين لم يستطيعوا تحقيق الوعود التي أسرفوا في بذلها للنساء الألمانيات عند بداية حكمهم، ومنها: إعداد «البيوت» ذات الطراز الحديث التي ينبغي أن تكون من نصيب كل أسرة ألمانية في دولة الريخ الجديدة. فقد وجد النازيون أن تشييد هذه البيوت وتهيئتها للسكنى من الأمور المستعصية في وقت كان الزعماء يوجهون فيه نشاط الأمة الألمانية نحو الاستعداد للحرب المنتظرة، بل لقد كان هذا الاستعداد نفسه من الأسباب التي أدت إلى فشل النازيين في إخراج المرأة من ميادين العمل المختلفة. فإن الحكومة النازية سرعان ما جعلت نشاطها مقصورا على إنتاج عتاد الحرب، حتى ظهرت الحاجة الملحة إلى الأيدي العاملة وإلى استخدام النساء في نواحي الاقتصاد الأهلي المتعددة. بل إن النازيين سرعان ما عمدوا إلى إرغام عدد من النساء على ترك العمل في الحوانيت والمكاتب وهو ما يلائم أنوثتهن للعمل في المصنع والحقل، وقد حدث هذا حتى قبل نشوب الحرب بمدة طويلة، ثم لم تلبث أن عظمت الحاجة إلى خدمات النساء في مختلف الأعمال الإنتاجية بعد قيام الحرب وإخفاق النازيين في جعلها حربا خاطفة، تكفل لهم النصر السريع.
ذلك بأن الحرب أوجدت النازيين أمام مشاكل كثيرة، كان بعضها متعلقا بضرورة استخدام جميع الوسائل التي من شأنها زيادة الإنتاج الحربي، ومن أهم هذه الوسائل: الأيدي العاملة. وكان البعض الآخر متعلقا بضرورة الإكثار من عدد المقاتلين الذين يرسلون تباعا إلى ميادين القتال من جهة، وإلى البلدان التي غزاها الألمان وخضعت لحكمهم من جهة أخرى. وقد أحدث وجود هذه المشكلات تغييرا ملحوظا في مركز المرأة وفي الحياة بصفة عامة في داخل ألمانيا.
فأما عن الأثر الأول:
فقد مر بنا كيف كان عدد النساء العاملات آخذا في الزيادة بدرجة كبيرة، مما يدل على أن النازيين قد أرغموا إرغاما بسبب ظروف الحرب والحاجة إلى الأيدي العاملة على تغيير نظرهم إلى المرأة، حتى صاروا يعترفون لها بالذكاء والقدرة على التفكير، وإمكان الاعتماد عليها كأداة نافعة من أدوات الإنتاج الهامة، فأجازوا لامرأة المزارع الذي أرسل إلى ميدان القتال، أن تدبر شئون المزرعة، ولزوجة صاحب الحانوت الذي سقط في ساحة الوغى أن تدير عمله، وهذا بطبيعة الحال إلى جانب عملها (الطبيعي) الذي يتلاءم مع أنوثتها في البيت والمطبخ. كما أجاز النازيون استخدام الفتيات ضمن القوات المحاربة كعاملات للتليفون والتلغراف، وفي المصانع كذلك. بل إن «الدولة» في هذه الظروف الجديدة، صارت تحتم على النساء المتزوجات - مهما بلغ عدد أطفالهن - أن يكرسن ساعات معينة من كل يوم، بطريق «التطوع»، للخدمة العامة كبائعات أو مشتغلات في عمل من الأعمال التي كانت تشرف عليها مكاتب العمل الرسمية، وهذا من غير نظر إلى ملاءمة هذه الأعمال أو عدم ملاءمتها لهن (كما جاء في إحدى صحف برلين الصادرة في 18 أبريل 1942
Berliner Borsenzeitung ). وقد نشرت جريدة فرنكفورت
Fransk further Zeitung
في عدد 29 مارس 1942، أنه ينبغي على النساء أن يزاولن بعض المهن التي يقوم بها الإسكافيون أو الكهربائيون ومن إليهم، إلى جانب اشتغالهن بتمريض جرحى الحرب. إذ كان النازيون يطلبون إلى جميع النساء بين سن السادسة عشرة والستين التطوع في خدمة الصليب الأحمر. ويتبين معنى «التطوع» في هذه الخدمة «الإنسانية» مما نشرته جريدة «فولكشير بيوبختر
volkischer Beobachter » في عدد 29 مارس 1942 تحت عنوان: «قلوب النساء في الميدان»؛ إذ قالت ما معناه أن حماسة النساء المتطوعات للتمريض من شأنها أن تقلل من الخطأ الذي يرتكبه غيرهن من النساء اللواتي يصلحن لهذا العمل، ولكنهن يمتنعن عن التضحية بأوقات فراغهن في هذه الخدمة! غير أنه من المنتظر أن يدرك أمثال هؤلاء أهمية هذا العمل الآن!
أما عن الأثر الثاني:
فقد بذل النازيون كل جهد حتى يقنعوا النساء بضرورة الإكثار من ولادة الأطفال بكل وسيلة؛ إذ نظموا حملة واسعة لهذا الغرض، وأطلقت الدعاية النازية العنان لنشاطها في سبيل «معركة الأطفال» التي أرادوا إقناع الشعب الألماني بأن كسبها لا يقل أهمية في الحقيقة عن كسب معارك الحرب الحامية ضد أعداء دولة الريخ الكثيرين الذين يريدون القضاء على ألمانيا الكبرى، وكانت تشرف على هذه الحملة «زعيمة النساء» في الريخ، السيدة «شولتزكلينك
Frau Scholtz-klinck » ومن عباراتها المأثورة: «أعطونا أطفالا ومدافع!» وقد أدرك الزعماء النازيون أنه لا مفر لهم عن تغيير نظرتهم السابقة نحو المرأة حتى يتسنى نجاح هذه المعركة؛ لذلك شرعوا يحثون المرأة النوردية على ضرورة العناية بمظهرها، وانتقاء الأثواب الجميلة التي تناسبها، واستخدام المساحيق التي تلائم بشرتها، كما صاروا يطلبون من الرجال الابتعاد عن الخشونة و«السلوك» العسكري الجاف في مجالس السيدات، حتى إن زعيم الشباب «بلدور فون شيراش» - وسمعته السيئة أشهر من أن يشار إليها - لم يلبث أن أعلن في يناير سنة 1938 عن إعداد برنامج شامل الغرض منه تجميل الفتيات الألمانيات «سواء أرغبن في ذلك أم رغبن عنه!» - على حد قوله. ثم أنشأ «فون شيراش» جمعية للفتيات الألمانيات بين الثامنة عشرة والحادية والعشرين أطلق عليها اسم جماعة «العمل والجمال والإيمان»، وجعل التحاق الفتيات بها إجباريا. ولم يعطل حملة «التجميل» الجديدة سوى نشوب الحرب.
ومع هذا فقد ظل النازيون يطلبون إلى الألمانيات أن يحرصن على جمال أجسامهن وأناقة مظهرهن على الرغم من الصعوبات التي أوجدتها ظروف الحرب.
على أن «معركة الأطفال» هذه كان نجاحها يتطلب زيادة في إقبال الشعب الألماني المطردة على الزواج، ومن مبدأ الأمر عني النازيون بمسألة الزواج لأهمية هذه المسألة من ناحية نقاء الجنس والدم، وما يترتب على ذلك من تنظيمات اجتماعية وسياسية واقتصادية سبق الحديث عن طرف منها وعن قروض الزواج، كوسيلة من وسائل التشجيع على الخروج من نطاق العزوبة رغبة في الإكثار من النسل. وقد نفذ قانون قرض الزواج هذا ابتداء من أول أغسطس 1933، وأفاد منه كثيرون، حتى بلغ عدد القروض التي أعطتها الدولة «للمتزوجين» من بدء العمل به إلى أول مايو 1939 «1200000» قرضا، كلفت الخزانة حوالي «75000000» ريخمارك. هذا عدا جملة قروض أخرى أعطيت للغرض نفسه بمعدل 25 ألفا في الشهر الواحد. وتدل الإحصائيات الرسمية على أن نسبة الزواج ارتفعت بالفعل من 7,9 في الألف في عام 1932 إلى 9,4 في الألف في عام 1938، كما ارتفعت نسبة المواليد من 15,1 في الألف في عام 1932 إلى 19,7 في الألف في عام 1938. وبلغ عدد المواليد حتى أول مايو 1939 حوالي المليون طفل ولدوا لآباء استطاعوا الزواج بفضل القروض التي حصلوا عليها من الدولة.
وكذلك كان من وسائل تشجيع الإكثار من النسل أن الدولة أخذت على عاتقها إمداد أصحاب الأسرات الكبيرة بالإعانات حتى إن الرجل والد الأطفال الكثيرين صار يحصل على إعانات تزيد قيمتها على ما يمكن أن يحصل عليه بكسبه من عمله العادي. ولم تشترط الدولة لمنح هذه الإعانات أن يكون الأطفال من أسرة واحدة، بل إن الأسرة التي تتبنى طفلا أو أكثر أو يكون أحد أطفالها من أب آخر وأم أخرى تستطيع أن تحصل كذلك على إعانة الدولة السخية مثلها في ذلك مثل الأسرة العادية المؤلفة من أب وأم وأولادهما. وقد بدأ النازيون يدفعون هذه الإعانات في أكتوبر 1935، فبلغ ما دفعوه حتى أول مايو 1939 حوالي «255000000» ريخمارك لأطفال بلغ عددهم حوالي «3750000» أي بمعدل 68 ريخمارك لكل طفل. ولم يلبث أن زاد سخاء النازيين فعدلوا في شروط منح هذه الإعانات، وخففوا من قيودها إلى حد كبير في أكتوبر 1937، ثم في أبريل 1938 حتى بلغ ما صاروا يدفعونه في كل شهر «كما ذكر النازيون أنفسهم في صيف 1939» حوالي 30800000 ريخمارك لعدد من الأطفال يبلغ «2500000».
هذا إلى أن النازيين صاروا يصرفون أجورا عالية لأصحاب الأسر الكبيرة، وذلك عدا تكريمهم للأمهات اللواتي يلدن أطفالا كثيرين، حتى أعد الهر هتلر أوسمة خاصة تعطى للأمهات حسبما يكون لهن من أطفال، فتنال ذات الأربعة أو الخمسة أطفال وساما حديديا، وذات الستة أو السبعة وساما فضيا ، وذات الثمانية أو التسعة وساما ذهبيا. وعينت الدولة يوما مشهودا، هو يوم مولد الهر هتلر نفسه «12 أغسطس» من كل عام لتوزيع هذه الوسامات في احتفال رسمي كبير، وسمته، يوم الشرف لجميع الأمهات. وفضلا عن ذلك ضمنت الدولة راحة الحوامل فعملت على تخفيف أعباء العمل، وإزالة المضني منه عن كواهلهن. كما أصدرت قوانين معينة لمعاقبة كل من تحدثه نفسه بإهانة الأمهات أو الحوامل. كما أن الدولة لم تلبث أن اتخذت إجراءات صارمة لمنع الإجهاض، وحرمت ذيوع الموضوعات التي تبحث في وسائل منع الحمل، كما منعت بيع الأدوية أو الأجهزة الخاصة بذلك.
ومع هذا لم يقنع النازيون في معركة الأطفال بما أدركوه من نجاح كان في نظرهم ما يزال محدودا؛ فطفقوا يبحثون عن وسائل جديدة وبخاصة عندما حمي وطيس القتال في ميادين الحرب المختلفة وعظم عدد قتلاهم. فهداهم التفكير السقيم إلى ابتكار أسلوب جديد للإكثار من النسل، كان وما يزال منذ بدء الخليقة من الأمور التي حرمتها جميع الشرائع والأديان، وأنكرتها المقاييس الخلقية إنكارا شديدا، هذا الأسلوب هو تشجيع التناسل خارج نطاق الزوجية الشرعية.
وقد برر النازيون تشجيعهم هذا العمل المنكر بضرورة توفر الكثرة العددية لديهم حتى يستطيعوا فرض سلطانهم على أوروبا ثم على العالم في النهاية. وقد افتتح الهر هتلر نفسه هذه الحملة الجديدة في سبيل الإكثار من الأطفال عن أي طريق، فقال يتألف برنامج حركة النساء الوطنيات الاشتراكيات من مادة واحدة فحسب هي الطفل! ثم لم يأنف الهر هتلر من استخدام «الطرق» التي توقع فائدتها في إغراء النساء على إتيان هذا المنكر، من ذلك أنه كان ينتهز فرصة انعقاد مؤتمر الحزب السنوي في نورمبرج، فيختار نخبة من الشبان الأشداء أصحاب الأجسام المتسقة ذات العضل المفتول، ويجعلهم يسيرون في عرض بديع أمام الجماهير، وبينهم النساء - طبعا - على ألا يرتدي هؤلاء الشبان سوى سراويل قصيرة وأحذية. وحدث في عام 1935 بعد عرض مثل هذا أن وقف «الفوهرر» يخطب الفتيات والسيدات الحاضرات، فقال:
وعندما يرى النساء هؤلاء الشبان (من جماعة العمل) يرتدون سراويلهم القصيرة ليس غير ويعرضون صدورهم عارية تماما، فإن النساء - ولا شك - سوف يرددن «ما أجمل هؤلاء الشبان! وما أحلى متعة المرأة بهم!
وليس بعد هذا التحريض الرسمي على إتيان الفاحشة شيء. وقد قال فيلسوف النازية «ألفرد روزنبرج»: «إن الأمة الجرمانية ما كانت تستطيع اجتياز الأزمات العصيبة التي اعترضت نموها في الماضي لو أن رجالها آثروا العيش مع امرأة واحدة فحسب!» وقال أيضا: «سوف ينظر الريخ الألماني في المستقبل إلى المرأة التي لا أولاد لها، سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة «!»، كعضو لا يتمتع بالحقوق الكاملة التي يتمتع بها بقية أعضاء هذا المجتمع، وعند الكلام في هذا الصدد، لا ينبغي أن تكون جميع العلاقات الجنسية التي تسفر عن ولادة أطفال في خارج نطاق الزوجية، موضع مؤاخذة أو عقوبة قانونية!
ومع هذا فقد كان هناك متحمسون لفكرة الإكثار من الأطفال غير الشرعيين بحيث يعتبر قول «روزنبرج» سائغا مقبولا، مثال ذلك: ما جاء في صحيفة من صحف «جبهة العمل» في إحدى المناسبات؛ إذ ذكرت أنه من المحتمل جدا أن يكون هؤلاء الأطفال غير الشرعيين أكثر صلاحية من الناحية العنصرية من الأطفال الشرعيين؛ لأن الأطفال غير الشرعيين لا بد وأن يكونوا بالضرورة ثمار حب أشد وأقوى عنفا. وقال الدكتور «لي
Ley » رئيس جبهة العمل ورئيس تحرير هذه الجريدة: «إننا نقاوم في الحقيقة ميولا ضارة عتيقة بالية؛ لأنه لا ينبغي أن يترك الزواج حتى يصبح عقبة في سبيل القوة الدافعة الطبيعية!» أي الشهوة البهيمية بمعنى آخر.
وقد كان لهذه الأقوال وأمثالها آثار بعيدة في المجتمع الألماني؛ فقد نشر مكتب الإحصاء الفدرائي بسويسرة في جريدة فرنكفورت اليومية
Frankfurter Zeitung
بتاريخ 21 أغسطس 1936 إحصاء عن عدد الأولاد البكر الذين ولدوا قبل مضي تسعة أشهر على زواج والديهم، فقال: إنهم يبلغون في كل مائة: 17 في فرنسا، و27 في إيطاليا، و29 في سويسرة، و37 في أستراليا ونيوزيلندة، و51 في سكسونيا الألمانية، ومنذ نشوب الحرب العالمية الثانية شجع الزعماء النازيون الإكثار من هؤلاء الأطفال غير الشرعيين بكل الطرق، وأيد كل من «هس
Hess » و«هيملر
Himmler » المبدأ الذي أذاعه الدكتور «لي
Ley » عن عدم استمرار الزواج الشرعي عقبة تحول دون إطلاق العنان للغريزة الجنسية، فقال «ردولف هس»:
إن كل مولود جديد له أهمية خاصة وقت الحرب؛ لأن الحرب تكلف الأمة حياة كثيرين من خيرة رجالها؛ ولذلك فإنه عندما يذهب الشبان الذين ثبت نقاؤهم من الناحية العنصرية إلى الحرب بعد أن يتركوا وراءهم أطفالا لا تجري في عروقهم دماء آبائهم النقية، وفي وسعهم نقل هذه الدماء إلى الأجيال المستقبلة، بينما تجري في عروقهم كذلك دماء أمهات من الشابات سليمات البنية من الناحية الوراثية، ولكن كان من المتعذر لسبب ما زواجهن من آباء هؤلاء الأطفال، عندئذ سوف يبذل كل جهد حتى لا تترك هذه الكنوز القومية دون أن تلقى ما تستحقه من العناية.
قال «هنريك هيملر»:
إن الواجب يقضي على السيدات والفتيات الألمانيات اللواتي يجري في عروقهن الدم الآري النقي أن يصبحن أمهات لأطفال يلدنهم من آباء يذهبون إلى جبهات القتال المختلفة، ولو اقتضى الأمر أن يولد هؤلاء الأطفال خارج نطاق الزوجية الشرعية
وقد جاء هذا القول في أمر أصدره «هيملر» في 28 أكتوبر 1942 بوصفه رئيسا لقوة البوليس الألماني ووزيرا للداخلية، إلى جميع جند الحرس الأسود
S. S.
ورجال البوليس، يدعو فيه إلى الإكثار من «إنتاج» الأطفال سواء أكانوا شرعيين أم غير شرعيين، ويطمئن الأمهات اللواتي يترملن من جراء وفاة آباء أطفالهن في ساحات القتال سواء أكان هؤلاء الآباء أزواجا شرعيين أم غير شرعيين على مصير أطفالهن، فيعدهن بأن الدولة ذاتها سوف تقوم بالإنفاق عليهن والعناية بتربية أولادهن، ما دامت هذه الحرب قائمة، وبعد انقضاء الحرب أيضا؛ لأن واجب جند الحرس المختارين
S. S. ، وواجب الشابات السليمات ممن يجري في عروقهن الدم الآري النقي، أن يحرصوا جميعا على أن يكون لدى دولة الريخ العدد العظيم من الآريين والآريات لضمان نقاء العنصر الجرماني الخالص وخلوده.
وقد عزز الأساتذة الألمان هذا الرأي الأخير؛ فذكر الأستاذ «إرنست بيرجمان
Ernst Bergmann » ما معناه: «لا مناص من أن تنظر الدولة التي تقوم على أساس معقول إلى المرأة التي لا ولد لها كامرأة محتقرة لا شرف لها، فهناك الآن عدد كبير من الشبان الراغبين في إنشاء الصلات الوثيقة بينهم وبين كثير من السيدات والشابات، وأنه لمن حسن الحظ أن يستطيع الشاب المنحدر من جنس طيب - أي الآري - سد الرغبة الجنسية لدى عشرين شابة بل وإشباعها، ولا شك في أن الفتيات من جانبهن يقبلن بسرور على تلبية الدعوة إلى الإكثار من الأطفال، دون تردد لو اختفت من الوجود نهائيا فكرة الزواج الخاطئة التي تدعو إليها الحضارة الزائفة، زاعمة أن من الضروري أن يتزوج الشاب زوجة واحدة، وأن يكون للمرأة بعل واحد؛ إذ إنها تتعارض كل المعارضة مع جميع حقائق الطبيعة وسننها المعروفة!»
وإذا كانت هذه نصيحة الرجال المسئولين في دولة الريخ حتى يكسبوا «معركة الأطفال» بأي ثمن، وكانت هذه آراء زعمائهم فيما ينبغي أن يفعله الشبان والشابات في دولتهم من أجل «ملء الأرض» بالأطفال، رجال المستقبل ونسائه في عالم النازية المنتظر، فإنه - ولا شك - من الجهود الضائعة أن يحاول إنسان إقامة البرهان على أن المقاييس الخلقية قد تغيرت تغيرا كبيرا في دولة الريخ الثالث حتى صارت تختلف تماما عما تواضع عليه البشر في تحديد نوع العلاقات الجنسية التي ينبغي أن تسود كل مجتمع منذ نشأة الحضارة الإنسانية حتى الوقت الحاضر، ويكفي للدلالة على مبلغ ما وصلت إليه هذه المعايير الأخلاقية من تدهور، الإشارة إلى طراز جديد من الإعلانات التي كانت تنشرها الصحف الألمانية. من ذلك ما نشرته صحيفة أسبوعية
Süddeutsche Sonntagspost
في سبتمبر 1941، عندما أدرج «جندي في العشرين من عمره له بشرة بيضاء وعينان زرقاوان» إعلانا يطلب فيه - قبل التضحية بنفسه في سبيل الزعيم والوطن - «أن يجتمع بامرأة ألمانية يستطيع أن يضمن لها حملا يؤتي ثماره طفلا كتراث يخلفه لعظمة ألمانيا!» أو ما نشرته هذه الصحيفة نفسها «لفتاة ألمانية ترغب في أن تصبح أما لطفل من والد جندي، يقاتل في سبيل القضية الاشتراكية!» أو ما نشرته صحيفة أخرى في إعلان الوفيات لامرأة أرادت إحياء ذكرى والد طفلها «غير الشرعي» فقالت:
من أجل الزعيم وألمانيا الكبرى، قصف المنون عودك ولما تبلغ الثانية والعشرين يا خطيبي العزيز ووالد طفلي في يوم 16 أغسطس 1941 وأنت تقاتل ضد البلاشفة.
أما عدد الأطفال غير الشرعيين في ألمانيا، فقد بلغ المائة ألف في كل عام، وتذكر الإحصاءات أن هذا العدد مساو لما وصلت إليه نسبة عدد الأطفال غير الشرعيين في عهد جمهورية ويمار، وأنه لمن المتعذر بتاتا فضلا عن ذلك معرفة عدد الأطفال الذين يولدون قبل مضي المدة القانونية للحمل وهي تسعة شهور. •••
وللمرء أن يتساءل: وما مصير هؤلاء الأطفال من شرعيين وغير شرعيين في دولة الريخ الثالث؟ وكيف ينشئون؟
والإجابة على هذا السؤال، تعود بنا مرة أخرى لذكر المتاعب التي كانت تصادفها المرأة في دولة الريخ الثالث، وأولى المشاكل التي كانت تعترضها عقب ولادة الطفل، هي انتقاء اسم المولود الجديد، وذلك أن النازيين وضعوا «لتنظيم» اختيار الأسماء في دولتهم قواعد صارمة تقضي باختيار «اسم» من شأنه أن يظهر بوضوح «شخصية» الفرد العنصرية والقومية والجنسية؛ لذلك كان يتحتم اجتناب الأسماء اليهودية واختيار الأسماء النوردية وحدها، وحتى هذه الأسماء كان ينبغي ألا يسبب النطق بها أي شك في كون صاحبها نورديا خالصا. وكانت تقبل الأسماء التي هي من أصل أجنبي إذا شاع استعمالها من زمن قديم حتى صارت جرمانية مثل هانو، ماريا وأليصابات. وكان من الواجب اختيار الأسماء الملائمة لنوع الطفل ذكرا كان أو أنثى، فلا يسمى الصبي «ماريا» كما درج الكاثوليك على ذلك في بعض جهات ألمانيا، وجعل القانون النازي من الصعوبة بمكان تغيير الأسماء واستبدال غيرها بها، ولو أن السلطات الحكومية النازية أخذت لنفسها الحق بمقتضى هذا القانون نفسه في تغيير أسماء من تريد من الأحياء ومن الأموات أيضا.
وكانت السلطات الحكومية تبرر عملها هذا بقولها إن من واجب وزارة الداخلية في الحقيقة التدخل للفصل فيما إذا كانت الأسرة جرمانية الأصل آرية، أو أجنبية أو من جنس غير آري، كما أن من حقها أيضا أن تتدخل للفصل في صحة انتساب الابن لأبيه أو لوالد آخر على أن يسري قرارها على الأحياء والأموات معا. وقد شرح الدكتور «شميدت كليفنو
Schmidt-Kleveno » أحد موظفي «المكتب الرئيسي للحرس الأسود
S. S.
لشئون الجيش والوطن» مسوغات هذا التدخل في إحدى صحف برلين بتاريخ 17 ديسمبر 1936، فقال: «من المعروف جيدا أن نسبة الأطفال البكر الذين تحمل بهم أمهاتهم قبل الزواج كبيرة؛ ولذلك فإن الحزب النازي والدولة وبقية أعضاء الأسرة ينبغي أن يخولوا جميعا حق مناقشة شرعية الطفل.»
وفي أبريل 1938 صدر قانون يخول الحكومة الحق في اتخاذ الإجراءات اللازمة للتأكد من صحة نسب كل طفل في كل حالة تدعو فيها المصلحة العامة إلى ذلك، سواء أبدى الوالدان أو أحدهما شكا في صحة نسب الابن أو لم يفعلا ذلك، ويدل تدخل الحكومة في أكثر الحالات التي طبق فيها القانون، على أن غرض السلطات النازية الأول من هذا كله إنما هو التأكد من صحة آرية الأشخاص المشكوك في جنسهم، أو الاطمئنان إلى أنهم غير مصابين بعاهات أو أمراض وراثية.
أما المشكلة التالية، فكانت تربية هؤلاء الأطفال، وقد ذكر الهر هتلر ما تفعله الدولة النازية لمعالجة هذه المشكلة، فقال في إحدى خطبه في برلين في يوم أول مايو عام 1937 ما معناه: «لقد بدأنا بالشباب؛ إذ هناك بعض كبار السن السخفاء الذين لا يرجى منهم أي نفع ... بيد أن هذا لا يزعجنا في شيء، فنحن نأخذ منهم أطفالهم، ونعمل على تنشئتهم كي يصبحوا مخلوقات بشرية ألمانية جديدة، ونتعهد تربيتهم بكل دقة. والطفل في سن العاشرة لا يدرك شيئا ولا يشعر بأهمية مولده أو نشأته، ولا اختلاف بين طفل وآخر، وفي هذه السن نأخذهم ونصنع منهم مجتمعا يظلون من أعضائه حتى يبلغوا الثامنة عشرة. ومع هذا فنحن أيضا لا ندعهم وشأنهم بعد هذه المرحلة، بل نلحقهم بالحزب، وبجماعة جند الهجوم
S. A. ، وبالحرس الأسود
S. S. ، وبعد ذلك يلحقون بالجماعات أو التنظيمات الأخرى أو يرسلون مباشرة إلى المصانع أو إلى جبهة العمل وإلى الخدمة العمالية، ويلحقون أيضا بالجيش مدة عامين.»
وهذا ما كان يحدث! فكان الأطفال يعيشون في بيوتهم حيث يتكفل آباؤهم بالإنفاق عليهم حتى يبلغوا العاشرة، وفي أثناء ذلك يقوم النازيون بالإشراف والمراقبة، حتى إذا وجدوا الآباء ينشئون أطفالهم تنشئة لا تتفق مع التعاليم والمبادئ النازية، انتزعوا هؤلاء الأطفال من أحضانهم. وفي فبراير 1937، ثم في نوفمبر من العام نفسه أصدرت المحاكم الألمانية أحكاما تقضي بإعطاء حق تربية الأطفال الذين شكت السلطات الحكومية في عدم أهلية والديهم للقيام بتربيتهم للدولة - أي الحزب النازي نفسه.
وفي سائر مراحل التربية التي أشار إليها الهر هتلر في خطابه، كانت تنحصر مهمة النازيين في قطع الصلة التي تربط بين هؤلاء الشبان والشابات ووالديهم، وذلك بإخماد العواطف البنوية، وتعويد الشابات والشبان الاعتزاز بحياة مستقلة ذات مسئولية كاملة، وتنفيرهم من «التقاليد البالية الضارة» التي حرص المعلمون القدماء على صونها وملاحظتها في أثناء تربية النشء وتعليمه؛ إذ كانت تقوم - في نظر النازيين - على ضرورة كبت الغرائز الطبيعية، ثم تنفيرهم من هؤلاء الأساتذة والمعلمين القدماء أنفسهم وتشجيعهم على الإمعان في احتقارهم وامتهانهم، ثم تلقينهم مبادئ النازية وتعاليمها القائمة على إفناء الفرد في الدولة، والتضحية من أجل الزعيم والإخلاص في خدمة دولة الريخ الجديدة، وما يقتضيه هذا الإخلاص في مذهبهم من ضرورة التجسس على آبائهم وأقاربهم واحتقارهم.
وفي الواقع لم يكن من المتعذر على النازيين بلوغ مآربهم بتاتا بفضل التنظيمات والجماعات العدة التي أوجدوها وأشار إليها الهر هتلر في خطابه، والتي حتموا على الشباب الالتحاق بها في أثناء عملهم وفي أوقات فراغهم، والتي كان الغرض منها تنمية الأجسام القوية قبل أي شيء آخر. وقد شرحت إحدى الكاتبات
E. O. Lorimer
كيف سيطر النازيون على حياة الشباب في دولة الريخ، فقالت: «تستغرق تنظيمات فرق الكشافة النازية التي تأسست في عام 1933 والالتحاق الإجباري بها منذ أول ديسمبر 1936، نشاط الصبيان في كل لحظة من لحظات فراغهم بعد دراستهم وألعابهم الرياضية الإجبارية، فإن الصبي بين العاشرة والثالثة عشرة يلتحق بجماعات الشبان الألمان حديثي السن
Deutsches Jungvolk ، وبين الرابعة عشرة والثامنة عشرة يلتحق بجماعة الشبيبة الهتلرية
Hitler Jugend ، وعند بلوغه التاسعة عشرة يجبر على العمل مدة ستة شهور في (خدمة العمل
Arbeitsdienst )، ثم يقضي بعد ذلك مدة سنتين أخريين في الخدمة العسكرية، وله بعد هذه المرحلة أن يدخل إحدى الجامعات أو يلتحق بعمل من الأعمال، أو يحترف إحدى المهن التي يختارها. وفي جميع هذه الحالات لا يكون الشاب حر التصرف في حياته يوجهها كيفما شاء. والسبب في هذا ما تحتمه الدولة من الانتماء إلى جماعة جنود الهجوم
S. A.
أو الحرس الأسود
S. S. ، أو الانتماء إلى جبهة العمل
Arbietsfront
وهي بمثابة اتحاد وطني عام لجميع المستخدمين والذين يخدمونهم، أو أن ينتمي إلى جماعة «إنتاج الطعام
Reichsnährstand »، أو إلى غير ذلك من التنظيمات الخاضعة لإشراف الدولة. وفي سن الخامسة والثلاثين يدخل في زمرة «القوة الاحتياطية». وفي سن الخامسة والأربعين يعتبر ضمن القوات المستعدة للخدمة العسكرية وقت التجنيد العام
Landsturm ، ويعنينا بعد ذلك معرفة ما إذا كان في استطاعة الفتى بين العاشرة والتاسعة عشرة أن يجد متسعا من الوقت للدرس والتحصيل في أثناء إقامته في المعسكرات و«فنادق الشباب
Youth Hostels »، والقيام برحلات السير على الأقدام، وممارسة الألعاب الرياضية وما إلى ذلك، لا شك في أن المشرفين على هذه الشئون جميعها لا يدعون لحظة تمر من غير أن يزودوا هؤلاء الفتيان بقدر واف من تعاليم ودروس النازية، وكانت جميع هذه الدروس تدور حول تمجيد الحرب والقتال وإحياء روح المغامرة، حتى إن كتب الأغاني التي وضعها النازيون للفتيان الألمان، كانت حافلة بذكر المعارك والحروب، كما أن الكتب المدرسية المعطاة لجماعة «الشبيبة الهتلرية» كانت تحمل الدعوة إلى انتظار المجد والشرف الرفيع بالموت في ساحة القتال.»
ولم يقنع النازيون بالمدارس العادية الموجودة في دولة الريخ، بل أنشئوا أنواعا جديدة من المدارس يتلقى فيها الأحداث والشبان «الدروس» التي يبغون تلقينها إياهم لتخريج الرجال الذين ينتظر إسناد مناصب الزعامة في الحزب النازي إليهم، ومن هذه المدارس «مدارس أدولف هتلر»، و«المدارس الإعدادية
Aufbau Schools »، و«المدارس الوطنية السياسية
Nationalpolitische Austalten » التي كان يتعلم بها الشبان تمهيدا للالتحاق بالمدارس الحربية.
وقد تناول كثير من الكتاب الأخصائيين بالبحث والتمحيص مسائل التربية والتعليم في ألمانيا النازية، فوصلوا في ذلك إلى نتائج هامة خلاصتها أن النازيين - جريا على عادتهم المعروفة في كل شأن من شئون السياسة والاقتصاد والاجتماع في دولتهم - طبقوا في شئون التربية والتعليم نظريتهم الفلسفية في الحياة
Weltanschauug ، واستطاعوا في خلال سبعة أعوام أن يعيدوا تنظيم شئون التربية والتعليم في كل درجاتها حتى يصلوا إلى أغراضهم، وهي أغراض صرح بها وزير معارفهم في حديث له نشرته صحيفة «فولكشير بوباختر» في 13 فبراير 1938، جاء فيه:
تنحصر المهمة التي تضطلع بها التربية عندنا في تخريج الوطنيين الاشتراكيين!
وقبل ذلك بثلاثة أعوام «1935» أعلن «كروجر
W. Kruger » مدير جامعة برلين أن غرض التربية والتعليم في جامعته، إنما هو الدعوة إلى محو البقايا المتخلفة من العصر الحر الماضي، وإنشاء جامعة وطنية اشتراكية في دولة وطنية اشتراكية جديدة. وكذلك وضح «بوملر
A. Boeumler » أحد المشتغلين بالتربية والتعليم في ألمانيا، الغرض من التعليم في بداية مراحله، فقال إن المدارس الأولية ينبغي أن تصبح مدرسة لمثل الشعب العليا وفلسفته في الحياة، تحت حماية الدولة. وأما المدارس الثانوية فقد جاء في أقوال وزارة المعارف الألمانية 1938 ما يبين الغرض منها، وهو العمل على إقصاء «مثل الثقافة الإنسانية
Bildung » وإفساح المكان «لمثل الرجل الجرماني الذي تؤثر فيه الدماء التي تجري في عروقه والمصير التاريخي الذي ينتظره».
وقد جرى النازيون على تطبيق مبدأ «الترابط والتوحيد
Gleichschaltung » في شئون التربية والتعليم، ومعنى ذلك خضوع تلك الشئون لرقابة الدولة وإشرافها السياسي؛ لأنه لما كان الغرض من التربية والتعليم إعداد الشبان النازيين الذين لا يعرفون مؤثرا في حياتهم أو موجها لها سوى «الدم والمصير التاريخي» - أي إعدادهم ليكونوا أدوات صالحة لخوض معارك الحروب المنتظرة لتحقيق السيطرة الجرمانية الصحيحة على أوروبا والعالم - فقد صار من أهم واجبات الدولة الإشراف على تربية النشء وتكوينه. قال هتلر في خطاب ألقاه يوم مايو 1937:
لن يسلم الريخ الحديث شبانه الأحداث إلى يد أي إنسان!
أصبح من المنتظر أن تكون التربية المزمعة «تربية سياسية» نازية قبل أي اعتبار آخر. وابتداء من عام 1937 استطاع النازيون تطبيق مبدأ «الزعامة المسئولة» في الجامعات والمدارس حتى خرج الأمر في الجامعات من أيدي المجالس والكليات والمديرين في جميع مسائل التربية وشئون التنظيم إلى أيدي وزراء معينين خلعت عليها ألقاب الزعامة في الجامعات المختلفة؛ فكان لكل جامعة ثلاثة زعماء: زعيم الجامعة
Führer
يقوم بأعمال المدير، وزعيم يمثل طائفة الأساتذة والمدرسين في التنظيم المحلي للحزب
Dozentenführer ، وزعيم يمثل جماعة الطلاب للغرض نفسه
Studentenfuhrer
ويختار زعيم الجامعة عمداء الكليات وبقية أعضاء مجالس الجامعات. وهذا بينما أضحت مجالس الكليات بمثابة لجان استشارية فقط. وبمقتضى قرار صدر في «3 مارس 1939» أصبح جميع أساتذة الجامعات ومدرسيها في عداد الموظفين المدنيين، فكانوا يعينون في وظائفهم من قبل الوزارة، ولا يستطيعون الانتقال من جامعة إلى أخرى دون موافقتها، ولو أن الوزارة نفسها تمسكت دائما بحق نقل من تشاء منهم سواء أوافقوا على ذلك أم عارضوا فيه، وكذلك سيطرت الحكومة على المدارس سيطرة كاملة وكانت مهمتها في هذا الميدان سهلة؛ لأن المدرسين كانوا في عداد الموظفين المدنيين منذ مدة طويلة، بمقتضى قانون قديم صدر في عام 1872. ومع هذا فقد تعهد وزير المعارف النازي في فبراير 1933 بطرد كل شخص غير جرماني من جميع المدارس الأولية، والقضاء على كل ما هو غير جرماني في هذه المدارس «بعنف وشدة». وفي يولية من العام نفسه، أنذر المدرسون بضرورة قطع صلاتهم بالحزب الاشتراكي الديمقراطي، كما طلب إليهم أن يدرسوا كتاب «كفاحي» لأدولف هتلر دراسة عميقة، ثم أرغم جميع الموظفين بالمدارس الثانوية على كتابة تعهد بأن يطيعوا قوانين الدولة الوطنية الاشتراكية طاعة عمياء.
وقد عمد النازيون إلى القضاء على جميع المراكز الثقافية التي توقعوا معارضتها لنظامهم وتعاليمهم، فطهروا مكتبات المدارس من الكتب التي ألفها اليهود، أو تضمنت أي امتداح لهذا الشعب، أو قصرت في إظهار الاحترام الكامل للشعب الجرماني والرجل الآري، كما حتم النازيون على رجال المكتبات أن يختاروا ما يريدون شراءه من بين الكتب التي اعتبرتها وزارة المعارف ملاءمة.
وعند النظر في برامج الدراسة النازية يبين مدى التغيير الذي أراد الهتلريون أن يدخلوه على التعليم، وأثر هذا التغيير في الناشئة. فقد أصدروا قرارا في 13 سبتمبر 1933 يحتم تدريس مادة «البيولوجيا» في جميع المدارس الثانوية من أدنى الفرق إلى أعلاها، ولو أدى ذلك إلى تضحية الرياضيات واللغة الأجنبية. وفي 15 يناير 1935 صدر قرار آخر يفسر هذه الخطوة جاء فيه أن «الفوهرر» يريد أن يلم كل فتى وفتاة بالمدرسة بمسألة نقاء الجنس وضرورتها؛ ولذلك ينبغي أن يكون الغرض من تدريس البيولوجيا «إظهار أهمية المحافظة على نقاء الجنس وإدراك ما في امتزاج الأجناس من خطر، ومعرفة المسألة اليهودية وقوانين نورمبرج، والوقوف على حقيقة الإصلاح الذي تم من أجل تحسين الجنس نتيجة للفلسفة وللتشريع الوطني الاشتراكي». ومعنى هذا أن الغرض من تدريس البيولوجيا ليس إلا تخريج ناشئة تغلي في صدورها مراجل الحقد على اليهود. وفضلا عن ذلك فإن جميع برامج الدراسة تحتم تلقين التلاميذ دروسا معينة في الاجتماع والعلوم والرياضة والسياسة والاقتصاد والتاريخ، على أن يتم هذا كله في ضوء المبادئ والتعاليم النازية المعروفة. فلا بد للتلميذ أو الطالب من أن يحضر دروسا تتناول القبيلة والجنس، وعصر ما قبل التاريخ، وأصل الإنسان والسلالات البشرية، وتطور الشعب الألماني من الناحية السياسية خلال السنوات المائة الأخيرة على وجه الخصوص. •••
هذه صورة موجزة لما كان يجري في داخل ألمانيا منذ تسلم النازيون أزمة الحكم بها، ولكن قد يتساءل المرء، إذا كان الحزب النازي قد أدخل كل هذه التغييرات في حياة الشعب الألماني، وفرض سيطرته عليه، بالتدخل في شئون أفراده الخاصة، وانتهاك الحرية الشخصية، وامتهان المرأة، والقضاء على مئات الألوف من الألمان، سواء أكان ذلك بقتلهم أو بتعقيمهم أو بخصيهم تحت ستار عدم صلاحيتهم لأن يكونوا أعضاء نافعين في المجتمع النازي، ثم إذا كان الحزب النازي قد ضرب بجميع المثل الأخلاقية والمبادئ الاجتماعية عرض الحائط، وانتزع الأبناء من أحضان آبائهم، ولقنهم احتقار هؤلاء الأمهات والآباء حتى يفصم عرى الأسرة ويقوض أركانها، ثم نشأ هؤلاء الأبناء والفتيات التنشئة التي يريدها استعدادا لخوض غمار الحرب لإحراز السيطرة العالمية، إذا كان الأمر كذلك، فهل رضي الألمان عن هذا كله، وسلموا بتلك التغييرات العنيفة عن طيب خاطر وبغير أية مقاومة؟
لا شك في أن النازيين، مثلهم في ذلك مثل أية جماعة أخرى يعميها التعصب وتصم القسوة آذانها، فتمضي في تنفيذ برامجها لا تلوي على شيء، ولا شك في أنهم استطاعوا الحصول على تأييد شطر من المجتمع الألماني، وهم الذين تمكنوا من البقاء في الحكم سنوات أخمدوا في أثنائها كل مقاومة ، وهيمنوا على تصريف شئون الشعب المادية والروحية، وقد يكون هذا الشطر كبيرا حقا. ولكن سنة العمران وطبيعة التقدم والنمو لا يمكن أن تهيئ الفرصة للطغاة دائما حتى يمضوا في طغيانهم إلى ما لا نهاية له. وقديما في أشد عصور الطغيان والفساد كان تيار المقاومة الخفية يجري محجوبا عن الأنظار، ونشأ أفراد ووجدت جماعات ما كانت ترضى بالعيش في ظلال الجور، حتى إذا تضافرت عوامل الضعف والتفكك التي لا مناص منها في كل مجتمع يقوم على أساس متداع، بدأ تيار المقاومة ظاهرا جليا، ثم اشتد جريانه حتى يجرف كل ما يعترض سبيله. وليست ألمانيا إلا كغيرها من الدول التي حفظ التاريخ قصصها؛ فقد كانت عوامل المقاومة موجودة منذ وصول النازيين إلى الحكم، ثم بقيت على نشاطها رغم ما بذله النازيون من جهد للقضاء عليها. ومنذ بداية الحرب قويت هذه المقاومة، ثم زادت شدة وعنفا منذ تذوق الألمان طعم الهزيمة في الميادين الروسية وقذفتهم طائرات الأمم المتحالفة بقنابلها وحممها، وأقضت مضاجعهم مثابرة الشعوب المقهورة على المقاومة الإيجابية والسلبية في أرجاء أوروبا المحتلة، وظهر كأنما قد تخلت آلهة النصر نهائيا عن الشعب الألماني المختار. وفي الفصل التالي بيان لهذا كله، ودليل على أن الدولة الوطنية الاشتراكية قد أخفقت أيما إخفاق في تأليف تلك الكتلة الصلدة المتماسكة التي عدت تأليفها ووجودها في قلب الريخ الألماني شرطا أساسيا لإحراز السيطرة على أوروبا، ومن ثم على سائر أنحاء العالم.
الفصل الثامن
ألمانيا الأخرى «غير النازية»
كان غرض النازيين من فرض سلطانهم الصارم على الحياة في المجتمع الألماني أن يتمكنوا من تأليف تلك الكتلة الصلدة المتماسكة التي اعتبروا وجودها ضروريا من أجل إحراز السيطرة العالمية في النهاية. وقد سبق كيف أنه حتى يتسنى لهم ذلك طفقوا منذ وصولهم إلى الحكم في عام 1933 ينظمون الحياة الألمانية ويعملون على توجيهها وجهة خاصة قائمة على فلسفة معينة ذات مثل عليا أوحت بها قرائح زعمائهم وفلاسفتهم، وكانت متفقة في جوهرها وتفصيلاتها مع أغراضهم القريبة والبعيدة في ميادين الاجتماع والاقتصاد والسياسة.
وقد بذل النازيون كل جهودهم حتى يدعموا أركان ذلك «التوجيه المنظم» الذي أقرته فلسفتهم الجديدة والذي عرفه النازيون باسم
Weltanschauung ، ومعنى ذلك على حد قول الدكتور «دنكان جونز
Duncan Jones » تلك الفلسفة التي تفرض على صاحبها إدراكا خاصا لمعنى الحياة ووجود العالم على نحو يجعل نظره للحياة والعالم بمثابة العقيدة الدينية لديه، فيستمسك بها بكل ولاء وإخلاص وتشعل في نفسه جذوة التحمس الشديد لإذاعتها في كل مكان دون أن تعتاق نشاطه الحدود السياسية وغيرها من الحواجز التي تفصل بين بلدان العالم، كأنما مهمته في الواقع التبشير بدين جديد. وكان من وسائل دعم ذلك التوجيه المنظم، إرغام الشعب الألماني على قبوله، والقضاء على كل معارضة من جانب أولئك الذين ظلوا متشبثين بمثل الحياة العليا «القديمة»، ورفضوا هذه «البدعة» الجديدة، فألقى النازيون بهؤلاء المعارضين في غياهب السجون وأرسلوهم إلى معسكرات الاعتقال، ثم لجئوا إلى تطبيق قواعد العلوم النفسية لكسب معركة «التوجيه المنظم»؛ لما كانوا يعلمونه من أثر الدعاية المنظمة القوية في نفوس الأفراد وسلوكهم وأعمالهم، فغدت الدعاية النازية المتقنة من وسائل التبشير بهذه الفلسفة الجديدة بين الألمان وبين شعوب الأرض قاطبة، فادعوا أن النازية قد نجحت في مهمتها نجاحا عظيما إلى حد أن الريخ الثالث أصبح نازيا لحما ودما، فاستطاع الزعماء بفضل ذلك أن يوجدوا في قلب دولتهم الجديدة كتلة نازية صلدة متماسكة لا يتطرق الضعف إليها. وكان غرض الهتلريين المباشر من ترويج هذا الادعاء أن يرغموا الشعب الألماني نفسه على تصديق هذه المزاعم حتى إذا ظل هناك جماعة يتوقون إلى العيش الحر الطليق أسقط في أيديهم أمام هذا السيل الجارف من الدعابة، وأنكروا آمالهم وأحلامهم وراضوا أنفسهم على العيش في ظل السيطرة النازية إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وكان ادعاء النازيين أنهم أنشئوا كتلة نازية صلدة متماسكة في قلب الريخ الألماني من أكبر الأكاذيب التاريخية التي كاد ينخدع بها العالم؛ لأن الريخ الثالث لم يكن نازيا لحما ودما؛ ولأنه كانت هناك إلى جانب ألمانيا النازية، ألمانيا «أخرى» تتألف من كل أولئك الذين ظلوا على الرغم من بطش الجستابو بهم ويئسهم من الحياة في معسكرات الاعتقال يحملون في قلوبهم البغض والكراهية للنازيين ويتربصون بهم الدوائر، وينظمون حروبا من المقاومة الإيجابية والسلبية في داخل الريخ نفسه لا تقل في خطرها عن مقاومة الشعوب المقهورة في أوروبا النازية ذاتها.
والأدلة على ذلك كثيرة، فإنه على الرغم من نشاط الدعاية النازية أصر عدد من الألمان في السنوات التي سبقت نشوب الحرب الهتلرية على وضع الكتب وإعداد البحوث والمقالات وإصدار النشرات والإحصائيات التي حرص النازيون من جانبهم على مصادرتها وإتلافها وتوقيع العقوبة على أصحابها - إذا عرف الجستابو أسماء الناشرين والمؤلفين - وكان أصحاب هذه المطبوعات السرية يحاولون تهريبها عبر الحدود الألمانية حتى يقف العالم الخارجي على حقيقة ما كان يحدث في داخل الريخ الثالث. ولذلك شغل الجستابو ورجال الحدود بمهمة مصادرة هذه المطبوعات والمنشورات وإتلافها ثم معاقبة مهربيها.
وقد يخيل إلى المرء أن الانتصارات التي أحرزها النازيون في ميدان السياسة الخارجية خصوصا في عام 1937 كانت كفيلة باستمالة سواد الشعب الألماني إلى تأييد النظام القائم والقضاء على كل معارضة داخلية ضد النازيين. بيد أن الذي حدث كان على العكس من ذلك تماما، فقد ظلت هذه المعارضة «السرية» على شدتها حتى إن النازيين استطاعوا في عام 1937 إحصاء «120287» حالة طبعت فيها كتب ومنشورات سرية وغير ذلك من المطبوعات غير القانونية، حدثت في 426 حالة منها التحامات دموية وتبودل إطلاق الرصاص بين البوليس النازي والألمان الذين اختاروا التضحية بأنفسهم عن طيب خاطر في سبيل تهريب هذه المطبوعات عبر الحدود إلى العالم الخارجي.
وقد أدرك النازيون على الرغم من الدعاية الكاذبة لتضليل أهل البلاد من جهة ولتضليل الرأي العام في أوروبا وبقية أنحاء العالم من جهة أخرى، أنه من المتعذر عليهم التفرغ لشئون الحرب الخارجية، تلك الحرب التي هيأوا لها العدة منذ وصولهم إلى الحكم في ألمانيا إلا إذا شددوا الرقابة على مواطنيهم واتخذوا الأهبة للقضاء دون إبطاء على أية معارضة قد تنذر بتصدع الجبهة الداخلية»، ولما كانت مهمة الجستابو الأساسية إحكام هذه الرقابة، فقد أعد هنريك هيملر
he nrich Himmler
رئيس قوة الجستابو وثيقة هامة عرفت باسم «وثيقة هيملر» وزعها على كبار رؤساء الجيش وضمنها آراءه فيما ينبغي اتخاذه من الوسائل والتنظيمات الكفيلة بضمان النصر عند وقوع الحرب المنتظرة، ووقف العالم على أمر هذه الوثيقة فانكشف سرها في عام 1937، وكانت وثيقة مطولة - تتألف من حوالي 15000 كلمة - تحدث فيها هيملر عن ضرورة تنظيم جماعة الحرس النازي من أصحاب القمصان السوداء
Schutz-Staffel (S. S.)
تحت قيادته، وكانوا في ذلك الحين يبلغون 200000، ثم أوضح بالتفصيل طرق تنظيمهم كما أشار إلى نوع التربية والتعليم الذي يجب اتباعه لإعداد الرجال المختارين، ثم أفرد قسما خاصا من هذا التقرير لوصف نوع المعاملة التي ينبغي أن يعامل بها أصحاب الحظ العاثر الذين يلقون في معسكرات الاعتقال، وانتقل من ذلك إلى وصف أعمال هيئة الجستابو والأسلوب الذي يجري بمقتضاه توزيع هذه الأعمال على أفرادها.
على أن أهم ما يسترعى النظر في هذه الوثيقة هو عناية هيملر الكبيرة بوصف الأخطار التي تنجم عن وجود ما سماه في تقريره بالجبهة الرابعة: أي الميدان الألماني الداخلي، فكان من أقواله عن هذه الجبهة: «لن نكون مشغولين في الحرب المستقلبة بما يحدث فقط في جبهة الجيش المقاتل برا أو في جبهة الأسطول في البحار أو في جبهة سلاح الطيران في الجو، بل سوف يكون لدينا جبهة رابعة لميدان القتال
Kriegaschauplatz
ينبغي علينا مراقبتها والعناية بأمرها، وهذه الجبهة هي ألمانيا الداخلية ... ونحن في حاجة كبيرة إلى عدد أكثر من معسكرات الاعتقال، ولقد أعطاني الزعيم (هتلر) سلطات واسعة تجعل من حقي إلقاء القبض على أي مخلوق اشتبه في أمره ... إذ يصبح ضروريا عند بداية الحرب إلقاء القبض على جماهير غفيرة ... وسوف يتحتم علينا إعدام الجمهرة العظمى من هؤلاء الأسرى السياسيين رميا بالرصاص ... ولذلك فمن الضروري أن يحتل هذه البلاد ما لا يقل عن ثلاثين فرقة من الفرق ذات شارة الجمجمة وعظام الموت
Totenkopf Surmbaenne . لأنه إذا عجزنا عن مراقبة هذه الجبهة الرابعة، جبهة الوطن الداخلية، لتعطيل نشاطها بأية وسيلة، فإن الجبهات الثلاث المقاتلة الأخرى في البر والبحر والجو سوف تصاب من الخلف بطعنة نجلاء ما في ذلك ريب.» ومن الواضح أن هيملر كان يشير في قوله هذا إلى تلك الأقصوصة التي أذاعها القائد الألماني المعروف لودندورف عقب هزيمة الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى؛ إذ ادعى لودندورف أن جماعة الخونة والشيوعيين هم الذين دبروا هزيمة القيصرية بفضل الثورة التي أشعلوا نيرانها في داخل البلاد خلف ظهور المحاربين في ميدان القتال. وهكذا ذكر هيملر في تلخيصه مخاطبا رجال الجيش أن من واجبهم، بل من واجب كل إنسان يشغل مركزا مسئولا، أن يدرك ما لهذا الميدان الداخلي من أهمية كبيرة؛ «إذ في هذا الميدان وحده سوف يتقرر مصيرنا عند نشوب الحرب، وعلى النجاح أو الإخفاق في هذا الميدان وحده يتوقف أمر حياتنا أو موتنا»، ثم قال: «وقد أصدر الزعيم إلي أمره لحل هذه المسألة بطريقة حازمة صارمة، كما أعطاني سلطات لا حد لها لتنفيذ أوامره.»
هذا موجز تقرير هيملر وكان من الطبيعي ألا يضيع رئيس قوة الجستابو وقته سدى في تفسير الموقف الداخلي في ألمانيا، وفي تفصيل الخطط التي يجب اتخاذها لمكافحة ما أسماه «الجبهة الرابعة» الداخلية إذا كان خطر هذه الجبهة ضئيلا، أو أن المعارضة المتوقع ظهورها في حالة نشوب الحرب ضئيلة لا وزن لها، بل إن السلطات الحكومية ما لبثت أن اتخذت بعد نشوب الحرب بعض تدابير يتضح من صرامتها ومعارضتها لمبادئ القانون والعدالة مقدار ما كانت تخشاه هذه السلطات من أخطار المقاومة الخفية. فقد أشارت إلى أحد هذه التدابير جريدة فرنكفورتر زيتونج في عددها الصادر في 21 يونية 1940 فقالت:
تهمل من الآن فصاعدا بمقتضى قرار أصدرته وزارة الدفاع مدة الحبس المنصوص عليها في الأحكام الصادرة بالأشغال الشاقة مدة الحرب، على شرط أن تكون هذه الأحكام قد صدرت في جرائم ارتكبت في أثناء الحرب، ومعنى ذلك من الوجهة العملية أن أحكام الأشغال الشاقة تظل سارية من تلقاء نفسها طوال مدة الحرب الحالية.
أي إنه لا يحدث إفراج عن أحد هؤلاء المحبوسين مهما قصرت مدة الحبس المحكوم بها عليهم ما دامت الحرب قائمة. وغني عن البيان أن الجرائم التي يعنيها هذا الأمر كانت تلك التي اتصلت بأعمال المقاومة من إيجابية وسلبية في داخل الريخ الألماني، وذلك منذ أخذت هذه المقاومة تشتد وتتسع رقعة نشاطها بعد قيام الحرب الهتلرية على وجه الخصوص، وبالرغم من تلك الانتصارات الخاطفة التي أحرزها النازيون في جبهات الحرب المختلفة؛ إذ إنه عقب نشوب الحرب ألقى الجستابو القبض على مئات الأهلين وأعدموا منهم عددا كبيرا، ثم ألقوا بما بقي منهم في غياهب السجون وأرسلوهم إلى معسكرات الاعتقال. وقد أمكن العثور على أسماء أشخاص عديدين من هؤلاء الضحايا أعضاء تلك «الجبهة الرابعة» التي تحدث عنها هيملر في «وثيقة عام 1937» السابقة، وكان ذلك بفضل ما نشرته الصحف النازية نفسها بين وقت وآخر من أنبائهم. فقد درجت هذه الصحف على نشر أسماء الأفراد الذين ثبتت إدانتهم وصدرت أحكام ضدهم، فضلا عن أنها كانت تذكر نوع الجريمة التي ارتكبها هؤلاء واستحقوا من أجلها عقوبة الإعدام أو الحبس، وقد ذكرت كذلك التواريخ التي نفذت فيها هذه العقوبات. ويتضح من القوائم التي نشرتها الصحف النازية وقتذاك أن عدد الأفراد الذين أعدمهم النازيون بين 19 أكتوبر 1939 و15 سبتمبر 1941 بلغ خمسين في داخل الريخ، نشرت الصحف النازية أسماءهم وتواريخ إعدامهم ونوع الجرائم التي ارتكبوها. وكانت هذه الجرائم منوعة، منها جريمة الخيانة العظمى وأعمال التخريب، والاستماع إلى الإذاعات الأجنبية وإيواء الطيارين الأعداء، والاشتراك في أحزاب أو جماعات معارضة للنظام القائم وغير ذلك. أما أولئك الذين قتلهم الجستابو وعرفت أسماؤهم بين 24 أكتوبر 1939 و12 سبتمبر 1941 - أي في الوقت الذي كان النازيون قد بلغوا فيه ذروة قوتهم وبسطوا سلطانهم على رقعة شاسعة من أوروبا - فقد بلغوا 33 شخصا، وفضلا عن ذلك فقد صدرت أحكام بالسجن تتراوح مدتها بين 12-108 أشهر على عدد من الأفراد بلغ 69 بين ديسمبر 1939 ونوفمبر 1941، وذلك بسبب استماعهم للإذاعة البريطانية
B. B. C. ، وأعدم واحد في نورمبرج لهذا السبب نفسه في 20 مايو 1941.
على أنه مما ينبغي ذكره أن الإحصائيات الآنفة - وهي كما هو ظاهر لغاية نهاية عام 1941 - لا تشتمل على جميع ما صدر من أحكام بالحبس أو بالإعدام في ألمانيا خلال هذه المدة؛ فقد غصت السجون بالرجال والنساء بسبب الاستماع إلى الإذاعات الأجنبية عموما أو إظهار الاحتقار عند الحديث عن حكومة الريخ أو السخر بشخص الزعيم هتلر أو ترويج الإشاعات والأخبار الكاذبة أو التي ينجم عن إذاعتها ضرر، أو التسبب في ضياع قطع الآلات من المصانع و«الورش»، أو إبداء العطف على أسرى الحرب بإعطائهم بعض لفافات التبغ أو الأطعمة أو المشروبات، أو معاشرة العمال الأجانب المسخرين في خدمة الريخ معاشرة الصديق والخليل، وقد منع النازيون الشابات الألمانيات على وجه الخصوص من معاشرة البولنديين، كما منعوا الرجال الألمان من مخالطة البولنديات.
وواضح في صرامة هذه الأحكام وكثرتها أن ألمانيا ذاتها كانت تعاني نوعا من المقاومة الإيجابية والسلبية لا يقل في شدته عن مقاومة الشعوب الأوروبية المقهورة وقتذاك. فإذا تذكرنا أن عدد القادرين على المقاومة الإيجابية كان قليلا من جراء تجنيد كل صالح للخدمة العسكرية في ألمانيا وإرساله إلى ميادين القتال أو إلى البلدان المحتلة، وأدركنا أن الإحصائيات التي جمعت والحوادث المتفرقة التي عرفت مما كانت تنشره الصحف النازية لا يمكن بأي حال أن تكون كاملة أو نصف كل ما كان يحدث من وقائع؛ لأن النازيين إنما كانوا يقصدون بما ينشرونه تذكير سواد الشعب بأنه من الخير كل الخير الإقلاع عن المقاومة والرضا بالعيش في ظل النظام القائم، وعرفنا أنه لم يكن من صالح النازيين بتاتا أن ينشروا على الملأ كافة ما كان يحدث من ضروب المقاومة خوفا من تصدع الجبهة الداخلية، إذا تذكرنا ذلك كله أمكننا أن نقف على مدى المقاومة التي كان يصادفها النازيون في داخل الريخ الثالث نفسه.
بيد أن أكثر ما كان يخشاه هؤلاء في الحقيقة إنما هو انتشار «التخريب» في داخل المصانع الألمانية، فقد وقعت حوادث من هذا النوع لا ريب في أنها كانت كثيرة، وقد أمكن الوقوف على شيء منها مما نشرته الصحف النازية وقتذاك. مثال ذلك ما حدث في مصنع «شمنيتز
Chemnitz » للأسلحة حيث وقع ما لا يقل عن 179 حادث إتلاف في خلال شهر واحد (فبراير 1942)، أو ذلك التخريب الذي عطلت بسببه محطة «فورباخ
Forbach » لتوليد الكهرباء. ومما يجدر ذكره أنه قبل حدوث هذا التخريب ببضعة أيام وزعت عدة منشورات ضد النازية بين العمال وفي القرى المجاورة، وألقى الجستابو القبض على كثيرين لهذا السبب. وكان من حوادث التخريب ذات الخطر أيضا تلك الانفجارات التي خربت المصانع في «سبانداو
Spandau » قرب برلين في الوقت نفسه.
وعلى ذلك كان متعذرا على المرء أن ينكر وجود المعارضة الداخلية في ألمانيا ضد السادة النازيين على الرغم مما ابتكره هؤلاء من أساليب الدعاية لإقناع العالم الخارجي في ذلك الحين بأن دولتهم قد أصبحت نازية لحما ودما. وفيما يلي سوف يجد القارئ الدليل تلو الدليل على أن النازيين لم يستطيعوا بتاتا إخماد هذه المعارضة رغم قسوتهم، بل إن هذه المعارضة نبتت منذ وصولهم إلى الحكم وبقيت إلى وقت انهيار دولتهم. وكان من أسباب ازدياد قوتها نشوب الحرب الهتلرية؛ إذ سرعان ما أظهرت الحرب بطلان دعاوى النازيين الذين وعدوا مواطنيهم بأنها سوف تكون حربا خاطفة تنتهي بعد شهور معدودة لا يلبث أبناء الريخ الثالث بعدها حتى يجدوا أنفسهم سادة شعوب العالم قاطبة.
وأسباب وجود هذه المعارضة الداخلية كثيرة ترتبط في جوهرها ارتباطا وثيقا بتلك الخطة التي اتبعها النازيون منذ وصلوا إلى الحكم كي يؤلفوا كتلة صلدة متماسكة في قلب الريخ الألماني، فجروا في سياستهم الداخلية على أسلوب خاص كان الغرض منه أن يصبغوا الحياة العامة والخاصة في الريخ الألماني بصبغة نازية بحتة. وعلى ذلك كان مصدر المعارضة الشديد أن شطرا كبيرا من الشعب الألماني نفسه ما كان يرضى بتاتا أن يرى الزعماء الجدد يضيقون عليه السبل حتى يحرموه حرية اختيار نوع الحياة التي يريد أن يختارها، فضلا عن أنهم كانوا يتدخلون في عقائده الدينية ويعملون لفرض سيطرتهم على الكنائس والمذاهب المختلفة؛ ليرغموها على قبول تلك الفلسفة التي شاءوا أن يبنوا عليها مثلهم العليا في الحياة، وادعوا أنها فلسفة روحية تختلف كل الاختلاف عن الفلسفة القديمة التي قالوا إنها كانت يهودية مادية، زد على ذلك أن أساليب النازيين في شئون التربية والتعليم ما كانت لتجلب رضاء شطر كبير من الأهلين الذين راعهم أن يروا دعائم الأسرة تنهدم، وفلذات أكبادهم يصبحون بانخراطهم في سلك الشباب الهتلري والحزب النازي نفسه، من الغلاة المتطرفين الذين لا يعرفون لأهلهم كرامة ولا يعترفون للوالدين بحق من الحقوق، ثم لا يترددون في أن يبلغوا أمر آبائهم إلى السلطات الحكومية إذا أظهر الآباء تذمرا من الأحوال السائدة أو تبرما بها، فيكون جزاؤهم من جراء «تجسس» أبنائهم عليهم تمضية بقية العمر في غياهب السجون أو معسكرات الاعتقال. ولم يكن من المنتظر أن تخف وطأة المعارضة بعد قيام الحرب العالمية الثانية؛ لأنه سرعان ما نجم عن إخفاق النازيين في إحراز النصر السريع الخاطف عدد من المشكلات لم يكن الزعماء النازيون قد اتخذوا العدة من قبل لمواجهتها، اللهم إلا إذا كنا نعتبر الالتجاء إلى وسائل الحبس والاعتقال والإعدام حلولا مؤاتية لمعالجة المعضلات. وأهم هذه المشكلات نظام التموين وشدته، ذلك بأن الأفراد العاديين ظلوا زمنا طويلا قبل نشوب الحرب الهتلرية محرومين كثيرا من ضروريات الحياة وكانوا يستعيضون عنها بما كان يقدمه لهم «علماء» النازيين وخبراؤهم من صنوف المعوضات
Ersatz
في المأكل والمشرب والملبس، وكان الفرد لا ينال حاجته من هذه المعوضات إلا بقدر معين وبمقتضى بطاقة التموين المعطاة له، وقد أحكم النازيون الرقابة على شئون التموين منذ عام 1936، أي منذ بدءوا ينفذون «برنامج السنوات الأربع» المشهور بإشراف «هرمان جورنج»، وكان الغرض من هذا البرنامج أن تصبح ألمانيا النازية دولة تعتمد على الاكتفاء الذاتي في حياتها الاقتصادية، فتنقص من الواردات ما أمكنها ذلك، وتبذل كل جهد لزيادة الصادرات زيادة عظيمة، حتى يجتمع لديها «فائض» تستخدمه في جلب المواد الخام اللازمة لصناعة الحرب. ومنذ عام 1936 كذلك نظمت الدعاية النازية برنامجا واسعا على أساس «الاستغناء عن الزبدة والإكثار من صنع المدافع!» فكان من الطبيعي أن يشتد حرمان الفرد عند نشوب الحرب، وكان أول من أحس وطأة هذا الحرمان الشديد المرأة الألمانية ربة البيت التي وقع على عاتقها تدبير حاجتها وحاجات زوجها وأولادها. على أنه لما كانت أسباب المعارضة الداخلية الأخرى كثيرة يضيق المقام عن التبسط في ذكرها، فقد يكفي اختيار عدد منها لإقامة الحجة على أن «هنريك هيملر» كان صادقا عندما تحدث في وثيقته عن وجود جبهة رابعة في داخل ألمانيا، وأهم أسباب المعارضة تذمر المرأة الألمانية وغضبها من النازيين واشتداد كراهية الأهلين لرجال الحزب النازي، والخلاف الذي حدث بين مختلف الكنائس والمذاهب في دولة الريخ والسلطات الحكومية، وإقدام النازيين على الحرب مع الروس وتطور الموقف الحربي في غير مصلحة الألمان عقب دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب، وافتضاح أمر هرمان جورنج وظهور كذبه عندما كثرت الإغارات ليلا ونهارا على برلين وعلى مراكز الصناعة والإنتاج الألمانية بعد أن كان يؤكد لمواطنيه استحالة ذلك. •••
وكان تذمر المرأة في ألمانيا النازية راجعا قبل كل شيء إلى صعوبة التموين، فقد أدخل النازيون نظام «الوجبة ذات الصنف الواحد
Eintopfgericht » قبل بدء الحرب العالمية الثانية بخمسة أعوام على الأقل، وطلبوا إلى ربات البيوت التبرع بكل ما يمكن توفيره من نفقات تلزم لطهي أكثر من هذا الصنف الواحد «لصندوق إعانات الشتاء» الذي خصصه النازيون من سنوات مضت للإنفاق منه على العاطلين أو الفقراء. وخلال سنوات السلم عمد النازيون رغبة في أن يتأكدوا من اتباع ربات البيوت لهذا النظام والعمل به إلى إرسال عمالهم من جنود الهجوم
S. A.
أو الحرس الأسود
S. S.
لفحص «مطابخ» البيوت والأطعمة التي بها من وقت لآخر، ثم ما لبثوا حتى زادوا هذا التدخل بدعوى إنشاء «جبهة» جديدة لا غنى عن وجودها لنجاح برنامج السنوات الأربع أسموها «جبهة المطبخ».
وفي عام 1936 كان العثور على البن الجيد والشاي من الأمور المستعصية، ثم اختفت «الزبدة» من عالم الوجود - بدعوى إنفاق المال اللازم لإنتاج أو شراء ذلك الطعام الكمالي في صنع المدافع والأسلحة - ثم اختفى البيض وتبعه الخبز الأبيض واستعيض عنه بخبز مخلوط أدكن اللون تشمئز منه النفوس، وقلت اللحوم وتعذر الحصول على الأطعمة المحفوظة. ومنذ عام 1936 كذلك خرجت «الصحيفة الوطنية الاشتراكية
Korrespondenz Nationals tische » تقول في أحد أعداد نوفمبر إنه يجب أن يكون لدى الشعب الألماني «معدة سياسية»؛ ولذلك نصحت الجريدة بضرورة الإقلال من الدهنيات واللحوم والإكثار بدلا من ذلك من الأسماك والخضراوات، ونصحت بتفضيل الخبز الأسود على الأبيض، كما نصحت بإجادة المضغ للتأكد من استخلاص المواد المغذية في الطعام. وادعى النازيون أن الإكثار من الأكل خيانة للوطن! ولم يكن في استطاعة الفرد إذا أراد أن يسد رمقه أن يجد حاجته في المطاعم العامة؛ لأنها صارت لا تقدم سوى صحاف معدودة، وقد حدث هذا كله قبل نشوب الحرب الهتلرية بمدة طويلة.
ولما كان توزيع الأغذية جميعها قائما على نظام البطاقات، فقد تحتم على المرأة أن تقف في طوابير أمام الحوانيت في أوقات توزيع هذه الأغذية وبيعها، وكثيرا ما كان يحدث أن تعود المرأة إلى بيتها دون قضاء حاجتها بسبب نفاد ما تريده، وأدرك النازيون ما يسببه ذلك من تذمر السيدات وغضبهن فأعدوا طائفة من النساء مهمتهن ملاحظة «المشتريات» والتجسس عليهن؛ حتى لا تتفوه إحداهن بشيء يهين سمعة السلطات الحكومية.
ثم سوغ النازيون هذا النظام بقولهم: «إن كثيرا من ربات البيوت يتسلط عليهن الخوف الشديد إذا توقعن العجز عن شراء حاجاتهن، وهذا الخوف لا سبيل إلى الخلاص منه؛ لأنهن لا يثقن بأن هناك شيئا اسمه الغد يحصلون فيه على ما يردن، بل إنك لتجدهن منتظرات خارج الحوانيت قبل أن تفتح أبوابها، فيسببن بهذا المسلك الشقاء والتعب لا لأشخاصهن فحسب بل وللباعة والتجار كذلك.» على أن تسلح المرأة بالبطاقة التي بيدها كان لا يعني أنها تستطيع دائما الحصول على المقدار المدون بهذه البطاقة، فقد حدث في شتاء 1941-1942 مثلا أن اختفت البطاطس من الأسواق، وبلغ عدد الحوانيت التي أرغمت على إغلاق أبوابها من جراء نقص الأغذية وعدم وجودها حتى 15 مارس 1943 حوالي المائة ألف في مختلف أنحاء الريخ، وسبب ذلك زيادة متاعب المرأة الألمانية واضطرها إلى الشراء من «السوق السوداء»، ثم الالتجاء إلى «المقايضة». ولما كانت السلطات الحكومية لا ترى غضاضة كبيرة في ذيوع هذه الوسائل غير القانونية للبيع والشراء ، فقد زاد عدد الأسواق السوداء زيادة عظيمة، وأقبل الأهلون على نظام المقايضة بشغف كبير.
ولم يكن منشأ صعوبات المرأة في عالم النازية نقص الأغذية وعدم وجودها فحسب، بل إن النازيين كانوا قد بدءوا منذ مدة طويلة حملة واسعة حتى يقتصد الناس في استعمال الصابون، ومع قلة هذا الصنف كان النوع الموجود منه من المعوضات
Ersatz
مصنوعا من المواد الرديئة ويؤدي استعماله إلى بلاء الملابس، مما خلق صعوبات جديدة للمرأة الألمانية؛ لأن الحصول على ملابس جديدة كان قد أصبح من أشق الأمور وأبعدها منالا في دولة الريخ الثالث، وكان للنازيين في هذه المسألة أفكار عجيبة، فإنهم كما كانوا يعتبرون الإكثار من الأكل خيانة للوطن، فقد أعلنوا كذلك أن «ارتداء الملابس الجيدة ذات المنظر الحسن خيانة»، وفضلا عن ذلك فإنه لم يفتهم إصدار القرارات الصارمة لتنظيم استهلاك الملابس أو شراء الجديد منها.
مثال ذلك أنهم كانوا يحددون ما يجب أن يبلغه طول قمصان الرجال وعدد الجيوب في بذلاتهم، وحرموا الأكمام أو الذيول الطويلة إلى غير ذلك. وفي 18 مايو 1937 كتب عمدة بلدة «بيرماسنس
Birmasens »: «من الملاحظ أن الأموات كثيرا ما يهيئون للدفن في أردية ثمينة وزينات عظيمة، ومن واجبي أن أسترعي انتباهكم لأمر من واجب كل مواطن أن يعطيه ما يستحقه من عناية كبيرة، ذلك أنه لا ينبغي دفن الموتى متدثرين بملابس أو أردية ثمينة وغالية!» وفي أول يناير 1943 صدرت بطاقة جديدة للملابس يسري العمل بها مدة ثمانية عشر شهرا أنقصت مقدار المنسوجات المرخص بإعطائها في أثناء هذه المدة، وفضلا عن ذلك فإن أحدا ما كان في وسعه الانتفاع بهذه البطاقة إلا إذا أثبت حاجته الملحة إلى الملابس، وأقام الدليل على أن ما يوجد لديه منها قد بات من المتعذر رتق فتوقها أو حياكة ما بلي من أجزائها، وقد أعطى النازيون عمالهم الحق في فحص خزانات الملابس في البيوت للتأكد من أن المرأة لا تخفي في مكان ما ثيابا أخرى لم يتطرق إليها البلى، وزادت محنة الملابس هذه عند نشوب الحرب مع روسيا، ذلك أن الهتلريين أرغموا ربات البيوت على التبرع بالمعاطف والأردية الثقيلة والأغطية الصوفية «البطاطين» للجند المقاتلين في الجبهة الروسية، وذلك علاوة على ما كانت المرأة ترغم على التبرع به عادة كل شتاء «لصندوق إعانة الشتاء».
وقديما أكثرت الدعاية النازية من بذل الوعود لاستمالة المرأة الألمانية، وكان من أهم هذه الوعود تهيئة البيوت الصحية الحديثة ذات الحدائق الصغيرة، ولكنه لم يمر عام واحد على وصولهم إلى الحكم حتى كان قد أوقف بناء المنازل الجديدة. ومنذ عامي 1935 و1936 قرر النازيون قصر جهودهم على الإنتاج الحربي، فسبب ذلك زوال حلم آخر من الأحلام اللذيذة التي كانت المرأة الألمانية تمني النفس بتحقيقها، وكان من الأسباب القوية التي دفعتها إلى تأييد الحزب النازي في الانتخابات الأولى للريخستاج ثم لرياسة دولة الريخ ذاتها. وزادت محنة المرأة في ألمانيا عندما كثرت الإغارات الليلية والنهارية على المدن وهدمت قذائف الأعداء بيوتا عدة لا سبيل إلى إعادة بنائها، ناهيك عن التفكير في بناء غيرها، فنجم عن ذلك أن ارتفعت الإيجارات ارتفاعا فاحشا حتى إن إيجار الشقة التي كانت مؤلفة من ثلاث غرف بلغ في برلين خمسة عشر جنيها إنجليزيا في الشهر الواحد. على أن مشكلة السكنى هذه كانت مرتبطة بمشكلة أخرى لا تقل عنها خطرا نجمت عن تعذر العثور على الخادمات والمربيات والمرضعات، وكان سبب ذلك «تعبئة» النساء جميعا في خدمة الحرب، ثم صرامة النظام الذي تحتم على ربة البيت أن تتبعه إذا قدر لها العثور على خادمة من بين أولئك البولنديات اللواتي انتزعهن النازيون الفاتحون من أوطانهن وأرسلوهن في عربات البهائم للخدمة في البيوت أو العمل في مواخير الدعارة الرسمية؛ إذ كان يتحتم على ربة البيت الألمانية ألا تسمح لخادمتها البولندية بالراحة من عملها أو تظهر نحوها شيئا من العطف والشفقة، حتى إذا عرف عنها لين الجانب وحسن المعاملة حرمت في التو والساعة من خادمتها.
ولكن ماذا كانت الوسيلة التي استطاعت بها المرأة الألمانية، وهي التي حتم عليها النظام النازي أن تعيش في شبه عزلة، ثم أقصاها عن جميع الوظائف أن تعبر بها عما شعرت به من حزن وألم وبأس، علاوة على عجزها عن إدراك ما كانت تتطلبه الحرب من تضحيات لا غنى عنها في عرف النازيين من أجل إحراز السيطرة العالمية؟ وجدت المرأة الألمانية المتذمرة الحزينة المتألمة اليائسة وسيلة مؤاتية لإظهار ما كانت تكنه من شعور في إصرارها على نعي زوجها أو ولدها أو شقيقها أو أي عزيز لديها عقب ورود الأخبار منبئة بسقوطه في ساحة الوغى بعيدا عن أهله وعشيرته، فقد انقضى الزمن الذي كانت تجد فيه المرأة الألمانية عزاء وسلوى، بل فخرا ومجدا في موت عزيزها من أجل شخص «الفوهرر» العظيم أو قضية الوطنية الاشتراكية المقدسة بعدما امتد أجل الحرب وطالت الحملة الروسية على وجه الخصوص وتحطمت آمالها في النصر السريع الخاطف وزاد عيشها سوءا في داخل الريخ، وعبثا صارت تحاول السلطات الحكومية إرغام الزوجات والأمهات على اتباع صيغة معينة عند النعي تنص على «سقوط المقاتل في الميدان من أجل الفوهرر والوطن»، وكانت الصحف عند بداية الحرب تنشر قوائم النعي على هذه الصورة، ولكنها ما لبثت عند اشتداد سخط الزوجات والأمهات حتى أفسحت أعمدتها لأنباء النعي تصوغها المرأة كما تريد وتشتهي، فتذكر كيف أن عزيزها «قد عاد إلى الميدان بعد فترة وجيزة أمضاها بين أهله وعشيرته، فلم ينقض يومان على عودته حتى قتل في أرض أجنبية في بلاد روسيا النائية الموحشة!» وهكذا تضمنت أنباء النعي إشارة صريحة إلى مقدار ما كانت تعانيه الأمهات والزوجات من آلام مبرحة ويأس عظيم لا يمكن أن يخفف من حدته القول بأن أبناءهن وأزواجهن إنما ضحوا بأنفسهم في سبيل الزعيم العظيم أو قضية الوطنية الاشتراكية المقدسة أو من أجل الوطن العزيز!
وكان مما زاد في حزن المرأة الألمانية التي فقدت ولدها أو زوجها أنها كانت ترى عددا كبيرا من الشبان الأقوياء والرجال الصالحين للخدمة العسكرية ينعمون بالوظائف التي أغدقها عليهم الحزب النازي في داخل البلاد عند انخراطهم في سلك «الشباب الهتلري» أو «جبهة العمل» أو غير ذلك من الهيئات والمنظمات النازية، وذلك عدا العدد العظيم من جنود الهجوم والحرس الأسود ورجال الجستابو الذين انتشروا في أرجاء البلاد بحجة الإشراف على الجبهة الداخلية، واعتمدت الحكومة عليهم في دعم نفوذها والقضاء على أية بادرة من بوادر التمرد والعصيان في الريخ الألماني.
وقصة تلك القوات التي كانت تتألف منها شراذم الهجوم ووحدات الحرس الأسود وهيئة الجستابو عجيبة حقا؛ إذ إن توزيع هذه القوات عند بداية الحرب حدث على نحو يضمن قبل أي شيء آخر تحقيق مآرب الزعماء النازيين، في ضرورة السهر على استتباب الأمر للحكومة ودعم أركان النظام القائم عن طريق مراقبة القوات المحاربة في خطوط القتال الأمامية، فضلا عن مراقبة الأهلين في داخل الريخ نفسه. وبيان ذلك أن الهر هتلر أسرع عقب نشوب الحرب إلى تقسيم الحرس الأسود
S. S.
فريقين: فريق عهد إليه الإشراف والمراقبة على خطوط القتال في وحدات صغيرة تنبث بين الجنود في الجبهات المختلفة في الميدان الروسي خاصة، وفريق استبقي في داخل البلاد نفسها لتأييد سلطان الحزب النازي، وكانت مهمة الفريق الأول مراقبة الجنود المقاتلة ومنع انتشار روح التذمر بينهم والحيلولة دون حدوث أية حركة قد يقوم بها الجيش المحارب من أجل التقهقر أو الانسحاب مهما اشتدت ضربات العدو وعظمت خسائر الجيش، وكان يطلق على هذا الفريق اسم «زملاء المحاربين
Waffen-S. S. » وكان عددهم حوالي 350000، أما الفريق الثاني: فقد بلغ عدد رجاله 250000، وكان هتلر قد سمح لوحدات من الحرس الأسود أن تشترك في القتال في بداية الحرب عندما بدأ النصر يبدو سهلا رخيصا، كما اشترك الحرس الأسود في القتال عندما بدأ الزحف على روسيا، غير أنه بعد أن تبين للزعيم أن الحملة الروسية لن تنقضي قبل الشتاء التالي «1941-1942»، أسرع في استدعاء هذه الوحدات المقاتلة وجعل عملها مقصورا على مناوشة العصابات الروسية في المؤخرة. وبعد ديسمبر 1941 اختص الحرس الأسود بأعمال الإرهاب خلف الخطوط الأمامية ، فأصبحت مهمتهم أن ينقلوا الفلاحين الروس والنساء والأطفال من قرية إلى أخرى ومن مكان إلى آخر، وتسليط سوط العذاب على أبدانهم جميعا.
ومنذ ديسمبر سنة 1941 تألفت كذلك من الحرس الأسود وحدات اتخذت مكانها في مؤخرة الجيش الألماني المحارب، وكانت مهمتها السهر على منع حوادث التمرد والعصيان في صفوف المقاتلين في الخطوط الأمامية، ومنع هؤلاء المقاتلين من التقهقر بشتى الوسائل، وفضلا عن ذلك فقد عهد هتلر بمهمة مراقبة وحدات الجيش في خطوط القتال الأمامية إلى جماعات من شراذم الهجوم
S. A.
ورجال الجستابو.
وبلغ عدد الرجال الذين كانت تتألف منهم شراذم الهجوم حسب إحصاء أدلى به «لوتز
Lutze » رئيس أركان حرب هذه الشراذم إلى جريدة سويدية في مايو 1942 حوالي مليون وأربعمائة ألف جندي، كان عدد الموجود منهم فعلا في خطوط القتال «989000» بينما ظل أكثر من أربعمائة ألف منتشرين في أنحاء الريخ لتوطيد دعائم الحكم النازي ومراقبة الجبهة الداخلية، وكان عدد الجستابو في تلك الآونة حوالي أربعمائة ألف وجد منهم في داخل ألمانيا ذاتها حوالي ربع مليون، بينما انتشر الباقون في أنحاء أوروبا المحتلة.
فإذا أضيف عدد رجال الحرس الأسود
S. S.
إلى عددجنود الهجوم
S. A.
ممن كلفوا مراقبة الجبهة الداخلية، ثم أضيف إلى هذين الفريقين رجال الجستابو المنتشرون في أرجاء الريخ الثالث لبلغ عدد الرجال الأشداء الأصحاء من هذه الفئات الثلاث «900000» رجل أقاموا بداخل البلاد بدلا من الذهاب إلى خطوط القتال الأمامية والدفاع عن الفوهرر ومبادئ الوطنية الاشتراكية المقدسة وأرض الوطن العزيز! وكان هذا الرقم الضخم لا يشمل بطبيعة الحال أعضاء حزب النازي العاملين أو الموظفين في هيئات الحزب ومنظماته المختلفة ذات الخلايا المتعددة الموزعة في كل مدينة وقرية من مدن وقرى الريخ الألماني، وقد بلغ عدد هؤلاء الموظفين والأعضاء بعض مئات الألوف.
ومع أن وجود هذا العدد الضخم من الرجال الصالحين للقتال بعيدين عن ميادين الحرب كان وحده من أكبر العوامل التي سببت كراهية شطر كبير من الأهلين للحزب النازي وزعمائه، فإن هذه الكراهية كانت ترجع أيضا إلى ذلك الفزع العظيم الذي استبد بالأهلين من بطش قوات الحرس الأسود ورجال الجستابو وقسوتهم، وليس أدل على مبلغ هذا الفزع مما روته جريدة سويدية
Svenaka Dagbladet
بعددها الصادر في «مالمو
Malmo » في 15 مايو سنة 1942 من أن ثلاثة من الرجال انتحلوا شخصية أعضاء من الجستابو ودخلوا أحد المساكن في برلين زاعمين أنهم إنما حضروا لإجراء تفتيش دقيق بأمر من السلطات الحكومية، فمكنهم هذا الادعاء من الاستيلاء على جميع قطع الأثاث وغير ذلك من النفائس التي راقت في أعينهم، بينما وقف أهل البيت مكتوفي الأيدي لا يبدون حراكا يعقد الخوف ألسنتهم، ويذهب الرعب برشدهم فبقوا على هذه الحالة مدة حتى إذا هدأ روع أحدهم وجد الشجاعة الكافية الذهاب إلى مركز البوليس يقص ما جرى، ولكن أحدا لم يهتم بالبحث عن هؤلاء اللصوص. وفي الواقع لم يكن هذا الحادث الأول والأخير من نوعه؛ فقد وقعت عدة سرقات مشابهة لهذه منذ وصل النازيون إلى الحكم، وبدأت تنتشر في طول البلاد وعرضها منظمات جنود الهجوم والحرس الأسود والجستابو، حتى إن لفظ الجستابو كان وحده كفيلا بإلقاء الرعب والفزع في نفوس الأهلين، ثم تطايرت الإشاعات عن نشاط هؤلاء الجستابو «المرعبين»، وما كانوا يأتونه من جرائم وفظائع، وسرعان ما بلغت هذه الإشاعات حدا جعل السلطات الحكومية تبادر في مارس 1942 بتكذيبها تكذيبا قاطعا، وتحذر الأهلين من الاستماع إلى أولئك الذين كانوا «يروجون هذه الأباطيل»، على حد قول الصحف النازية.
وكان من أهم أسباب المقاومة الداخلية اضطهاد النازيين للكنيستين الكاثوليكية والبروتستنتية. وقد بدأ عداء النازيين للكنيسة الكاثوليكية قبل وصولهم إلى الحكم بزمن طويل، يدل على ذلك بيان أصدره أساقفة بافاريا في عام 1931 احتجاجا على الحركة النازية بسبب مبادئها المتعلقة بالعنصرية وتفضيل الجنس الآري على ما عداه من الأجناس، وموقف النازيين من الكتاب المقدس وتدخلهم في أعمال القساوسة، ومنع بعضهم من القيام بوظائفهم الدينية. فقد عمد النازيون في أول الأمر إلى استجلاب مودة المعتدلين من رجال الدين الكاثوليك الذين أبدوا استعدادهم لتخفيف معارضتهم ضد النازية على أمل أن يفضي هذا التساهل من جانبهم إلى إزالة شيء من أسباب العداء الذي بدا مستحكما بين النازيين والكنيسة الكاثوليكية. وفي تلك السنوات الأولى التزم هتلر خطة الحيطة والحذر في علاقاته مع الكاثوليك؛ لأن شعور الكاثوليك في ألمانيا ضد الشيوعية كان شعورا قويا، فلم يكن من مصلحة النازية بتاتا إثارة عداء الكاثوليك ضدهم بدرجة ظاهرة، وأحرز هتلر انتصارا كبيرا عندما استطاع أن يعقد مع الفاتيكان معاهدة
Concordat
في يولية 1933؛ لأن إبرام ذلك الاتفاق كفل على - حد قول النازيين أنفسهم - اعتراف الكنيسة الكاثوليكية بالوطنية الاشتراكية اعترافا نهائيا. وكان الكونكردات ينص على أن يقسم كل أسقف عند تعيينه في أسقفيته يمين الولاء للدولة الألمانية، وحرم على القساوسة الانضمام إلى الأحزاب السياسية أو مساعدة هذه الأحزاب مهما كانت أغراضها. أما النازيون فقد تعهدوا في نظير ذلك بأن يعطوا الحرية الكاملة لمدارس الكاثوليك والجماعات الدينية الكاثوليكية ما دامت لا تهدف إلى أغراض سياسية، ثم تعهدوا بعدم تدخل الدولة في عقائد الأفراد وكل ما كان متصلا بشئون حياتهم الدينية، وألا يتعرضوا للأطفال الكاثوليك بشيء.
غير أن النازيين الذين كانوا قد وصلوا إلى الحكم قبل هذا الاتفاق بشهور معدودة، كانوا يبيتون النية على نقض التزاماتهم عند أول بادرة، وفضلا عن ذلك فإن مضيهم في تنفيذ برنامجهم الداخلي لتأليف تلك الكتلة الصلبة المتماسكة التي أرادوا إنشاءها في قلب الريخ الألماني ما لبث حتى أثار ضدهم احتجاج الكنيسة الكاثوليكية، وكان سببا في استحكام العداء بين النازيين والكاثوليك في الريخ الثالث. فقد أصدر النازيون بعد مضي ستة أيام من توقيعهم الكونكردات قانون التعقيم، الذي سبق الحديث عنه، فأثاروا بذلك شعور الكاثوليك؛ لأن التعقيم يتعارض مع عقائدهم الدينية ولا يمكن أن يوافقوا عليه بحال من الأحوال، وعدوا إصدار هذا القانون تحديا صريحا لهم. وتوقع النازيون أن يمتنع الكاثوليك عن تنفيذه وأن ينقد القساوسة هذا القانون نقدا مرا، وتحقق ما توقعوه؛ إذ ألقى الكاردينال «فولهابر
Faulhaber » عظة في آخر عام 1933 يبين فيها موقف الكنيسة الكاثوليكية رسميا من مسألة النسل والتعقيم، وكأنما كان إفصاح الكنيسة الكاثوليكية عن موقفها من هذا القانون كل ما يبتغيه النازيون حتى يعلنوا على الملأ أن رجال الدين الكاثوليك امتهنوا الكونكردات ونقضوا يمين الولاء الذي أقسموه للدولة الألمانية وأنهم مصرون على المضي في عدائهم للوطنية الاشتراكية. وعلى ذلك شرع النازيون يكممون الصحف الكاثوليكية في غير توان. وفي بداية العام التالي «1934» بدأ «ألفريد روزنبرج» يعد حملته لانتزاع الشباب الألماني من أحضان الكنيسة. ولما كان هتلر يأخذ أهبته في تلك الآونة لضمان نجاح الاستفتاء في أقليم السار وانضمامه إلى ألمانيا، وكان النفوذ الكاثوليكي في هذا الإقليم قويا، فقد رأى هتلر عدم الظهور بمظر العداء الصريح للكاثوليكية، ووعد بصون حقوق الكنيسة الكاثوليكية وتنفيذ مواد الكونكردات بكل أمانة، غير أن هذه الوعود لم تكف لإقناع رجال الدين الكاثوليك بأن النازية لا تريد شرا بكنيستهم. فأعد أساقفتهم في اجتماعهم السنوي وقتذاك في بلدة «فولدا» «خطابا رعويا» أظهروا فيه انزعاجهم من سير الأمور وعدم اطمئنانهم إليه، ولكن أحدا من الأفراد لم يقرأ هذا الخطاب؛ لأن الجستابو سرعان ما صادروه وأتلفوا كل أثر له. واشتد عداء النازيين للكاثوليكية، فأعلن زعيم الشباب الهتلري «بلدورفون شيراش» الحرب السافرة ضد المنظمات الكاثوليكية «مارس 1934»، وأسيئت معاملة فتيان الكشافة الكاثوليك في كل ظرف ومناسبة، وانتهز الهتلريون عودة فريق من هؤلاء الفتيان بعد زيارة قاموا بها إلى رومة في غضون عام 1935، ففاجأهم رجال البوليس السري في أثناء عودتهم واغتصبوا منهم آلات التصوير والمسابح والصلبان ومزقوا ملابسهم. وفي العام التالي نشط عداء النازيين للكاثوليكية فأتموا خنق الصحافة الكاثوليكية، وكانوا قد بدءوا يكممون أفواهها منذ وصولهم إلى الحكم رويدا رويدا. وفي عام 1938 كانت قد حلت كل منظمات الشباب الكاثوليكي تقريبا، ولم يبق في الميدان سوى «الشباب الهتلري».
ودأب النازيون على إظهار الكاثوليك بمظهر أولئك الذين يضمرون العداء للدولة دائما ولا يحترمون القوانين ويلطخون سمعة الريخ الألماني، فأصدروا قوانين لمنع تصدير النقد الألماني إلى الخارج، وكان معنى هذا تعذر سداد الديون المتراكمة على كل تلك الهيئات والمؤسسات الدينية التي اضطرت أيام تدهور المارك الألماني في عهد «جمهورية ويمار» إلى استدانتها من الخارج إلا إذا لجأت إلى التهريب؛ لأن هذه الهيئات والمؤسسات الدينية لم تكن بطبيعة الحال تشتغل بالتجارة حتى يمكنها أن تسدد ديونها بفضل ما تصدره من سلع، فلم تكن ثم وسيلة لتسديد الديون غير تهريب النقد ومخالفة أوامر الحكومة. وفضلا عن ذلك فقد بدأ النازيون في أوائل عام 1937 حملة واسعة الغرض منها اتهام القساوسة والرهبان والراهبات بسوء الخلق، ونشرت الصحف النازية بعناوين كبيرة حوادث هذه الاتهامات المخزية، ووعدت بتقديم ما لا يقل عن ألف من هؤلاء القساوسة والراهبات إلى المحاكمة، وشجعت السلطات أفراد الشعب على البحث عن مرتكبي الموبقات من رجال الدين الكاثوليك، ولكن هذه الحملة الواسعة أسفرت عن إدانة خمسة وثمانين قسيسا من بين خمسة وعشرين ألفا في الريخ، ولم يثبت على راهبة ما أية تهمة من تلك التهم الشنعاء. على أن هذا الفشل لم يمنع النازيين من الإمعان في اضطهاد رجال الدين الكاثوليك من أجل سلامة الدولة على حد قولهم، لعدة أسباب من أهمها: أن الكنيسة الكاثوليكية ذات ثقافة أجنبية، فضلا عن أنها لم تكن مؤسسة وطنية؛ لأن اتجاهاتها وميولها مصطبغة بصبغة دولية، ولا يمكن أن يعد أعضاؤها مواطنين بمعنى الكلمة لما كان لهم من علاقات مع سائر الكاثوليك في الخارج. وهكذا استطاع النازيون في غضون ثمانية أعوام من بدء سيطرتهم أن يلقوا في السجون حوالي خمسة آلاف قسيس.
وعظمت محنة الكاثوليكية بعد نشوب الحرب الهتلرية، وكان من وسائل إرهاقها مصادرة أملاك الكنائس والجماعات الدينية، فصادر الجستابو في عام 1941 مراكز «جماعة يسوع» وبيت الراهبات في مونستر بوستفاليا، ومراكز جماعة القديس أوغسطين بالقرب من «بون» في الراين، وبلغ عدد مراكز هذه الجماعة التي صادرها الجستابو حتى أواخر عام 1941 ثلاثة عشر مركزا. وفي مارس 1942 أعلن أسقف برلين أن النازيين صادروا كثيرا من أملاك الكنيسة الكاثوليكية. وفي أبريل من العام نفسه أغلق النازيون أديرة البندكتين في شتى نواحي ألمانيا. ولكن في عام 1942 كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد دخلت الحرب ضد ألمانيا واشتدت غارات قوات الطيران البريطانية على المناطق الغربية، لا سيما وأن الجيش الألماني كان يزحف على روسيا، وأخذت أركان الجبهة الداخلية في التصدع على الرغم من قسوة النازيين وبطش رجال الجستابو، وفي هذه الظروف رفع رجال الكاثوليك أصواتهم فجأة يتحدون فلسفة النظام الهتلري ويهددون بتقويض أركانه، وصحيح أن قادة الكاثوليك قالوا إن الامتثال لأوامر الدولة والخضوع لقوانينها واجب على كل فرد، ولكنهم صاروا يطالبون في الوقت نفسه بتغيير النظم القائمة وإنشاء نظام آخر بدلا من نظام الزعامة المسئولة، فكان معنى ذلك تسديد ضربات المعارضة ضد النظام النازي بأجمعه، وألقى أسقف مونستر الكونت «جالن
Galen » عظاته الثلاث المشهورة في غضون شهري يولية وأغسطس من عام 1941، وحمل على وثنية النازيين حملة شديدة داعيا الآباء إلى إمعان النظر في مستقبل أبنائهم، والمسيحيين إلى اتباع تعاليم الكنيسة الصحيحة؛ فلا يقتلوا النفس التي حرم الله قتلها، ولا يتخذوا من دعوى تخليص المرضى من آلامهم والمجتمع من المعتوهين مسوغا لارتكاب جرائم القتل. وأطال الكونت «جالن» الحديث عن «الوصايا العشر» فوضح لمستمعيه أن مصادرة الأملاك - على غرار ما كان يفعل النازيون - سرقة صريحة، وأن الحب الطليق وإنتاج الأبناء لخدمة الريخ خارج نطاق الزوجية زنا ومعصية، وأن عدم احترام الآباء والأمهات عقوق ونكران، وأن عبادة الطبيعة والدولة والجنس زيغ وكفران. وفي آخر العام نفسه ألقى الكردينال «فولهابر» عظة في كتدرائية ميونخ عدد فيها الاتهامات التي كان يكيلها النازيون للكنيسة الكاثوليكية، ثم أخذ يدحض هذه المفتريات الواحدة بعد الأخرى، وأظهر ما كان يفعله النازيون - على حد قوله - لاقتلاع جذور الكنيسة. وفي مارس 1942 قرئ في الكنائس «خطاب رعوي» وضعه الأساقفة الكاثوليك. وفي العام التالي كان أعداء الكنيسة الكاثوليكية للنازية سافرا، فانفض كثيرون من حول الهتلرية، وزادت مقاومة المتذمرين من نظام النازيين شدة على شدتها.
وكان مما قوى حركة المقاومة «الدينية» موقف النازيين من البروتستنتية في ألمانيا، فقد بدءوا بإحكام رقابة الدولة على الكنيسة البروتستنتية منذ استتب لهم الأمر في الريخ؛ فعينوا «قومسيريين» للإشراف على شئون الكنائس البروتستنتية في بروسيا وسكسونيا وغيرها عام 1933، ومنعوا نشر كل ما كان يتناول المسائل الكنسية 1934، وارتكبوا غير ذلك من الأعمال التي أثارت المقاومة ضدهم، وألقى النازيون القبض على كبار رجال الدين البروتستنت في ورتمبرج وبافاريا 1934، وأرسلوا القساوسة البروتستنت خصوصا في سكسونيا ونساو-هس إلى معسكرات الاعتقال، وقبضوا على سبعمائة منهم في أنحاء بروسيا؛ لأنهم قرءوا من فوق المنابر احتجاجا ضد تلك «الوثنية الجديدة» التي أراد النازيون أن يستعيضوا بها عن الأديان جميعها 1935، ونفوا عددا عظيما من القساوسة البروتستنت في «بروسيا» وغيرها. وعندما ألف المعارضون البروتستنت كنيسة جديدة أسموها الكنيسة الاعترافية، حتى يتحرروا من القيود التي فرضها النازيون على الكنيسة البروتستنتية، عطلت السلطات الحكومية إقامة الشعائر بالكنائس الاعترافية وصادرت أموالها وفرضت رقابة شديدة على مطبوعاتها. غير أن التدابير النازية لم تخضد من شوكة الاعترافيين، وظهر زعماء أمثال مارتن نيمولر وغيره قادوا المعارضة ضد الهتلرية بشجاعة فائقة، وضحى كثيرون بأنفسهم في سبيل تعزيز العقائد المسيحية الصحيحة، فقدم «نيمولر» وإخوانه مذكرة إلى الفوهرر، يتساءلون فيها عن نوايا النازية تجاه الديانة المسيحية 1936. ثم تكررت احتجاجاتهم في العام التالي. وفي يولية ألقى النازيون القبض على نيمولر، وفي فبراير 1938 قدموه للمحاكمة، ثم أرسلوه إلى معسكرات الاعتقال. وعندما بدأ الحرب اشتد الضيق على الكنائس الاعترافية «1939»، فلم يسعها إزاء انتصارات النازيين الباهرة في مراحل الحرب الأولى وانتشار رجال الجستابو في طول البلاد وعرضها سوى أن تطأطئ الرأس انتظارا لساعة الخلاص، وكانت الحرب التي شنها هتلر على روسيا مؤذنة بأن هذه الساعة لا بد آتية. ذلك بأن الحرب الروسية كانت من أهم الأسباب التي أدت إلى ازدياد المقاومة ضد النظام الهتلري وتصدع الجبهة الرابعة نهائيا، فضلا عن أنها كانت بمثابة المعول الذي هدم ذلك البنيان الشامخ: آلة الحرب النازية. فإنه بمجرد أن سرى التذمر في الجيش بين صفوف الجند وضباطهم وكبار قوادهم، بات انهيار ألمانيا أمرا لا مفر من حدوثه.
فقد عرف عن الألمان من قديم الزمن أنهم يعنون بتنظيم الجيش عناية كبيرة، ومع ذلك قد يخفى على الكثيرين أن الجيش الألماني كان يعد أعظم الجيوش الديمقراطية إطلاقا بعد الجيش الأحمر، وسبب ذلك أن الألمان حين خسروا الحرب العالمية الأولى، رغبوا في الانتفاع من دروس الهزيمة القاسية، وقد وجدوا أن النظام القيصري القديم كان من عوامل تلك الهزيمة؛ إذ كان القواد والضباط والجنود يؤلفون طبقات منفصلة جعلت من المتعذر قيام الألفة والتفاهم بين الرتب العسكرية المختلفة؛ ولذلك حرص الألمان منذ أيام جمهورية ويمار، على أن يزيلوا هذه الفوارق على الأقل بين الضباط وضباط الصف وبقية الجند. وعندما وصل النازيون إلى الحكم درجوا على ذلك حتى خرج إلى عالم الوجود في النهاية جيش «ديمقراطي» شديد التماسك دقيق النظام، يشعر أفراده شعورا قويا بأنهم إنما يؤلفون مجموعة واحدة تربط بينهم جميعا أواصر التفاني في خدمة الوطن. وعلى ذلك ظل الجيش الألماني في مراحل الحرب العالمية الثانية قوة متماسكة لا يمكن أن يجد الوهن إليها سبيلا، وكان من أسباب ذلك أن جميع الانتصارات التي أحرزها النازيون حتى منتصف عام 1941، كانت انتصارات سهلة لم تكلفهم جهودا كبيرة بل كانت كل القوة التي اعتمد عليها الألمان في كسب معاركهم لا تزيد على ربع مليون رجل وحوالي اثنتي عشرة فرقة من فرق الهجوم المصفحة، وبضعة آلاف من رجال الطيران والغواصات، أي إن النازيين - بعبارة أخرى - اعتمدوا في إحراز انتصاراتهم على الجيش المحترف، وعماده الجند المدربون الذين خدموا زمنا طويلا وتغلغلت فيهم روح التنظيم العسكري الألماني، وعرفوا تقاليد الجيش الألماني وحرصوا على الذود عنها. ولكن الأحوال لم تلبث أن تغيرت عندما اضطر النازيون منذ أن بدأت الحرب الروسية في يونية 1941 إلى تجنيد كل شاب في سن الخدمة العسكرية صالح لحمل السلاح، فضموا إلى الجيش الألماني فرقا جديدة جمعوا جنودها من بين أعضاء تلك «الجبهة الرابعة» التي كان يخافها «هيملر» كل الخوف منذ عام 1937، ويرى فيها عوامل انحلال عاجل أو آجل إذا تركت وشأنها، ولم يفرض عليها «الجستابو» نطاقا من المراقبة الشديدة، ولم يكن «هيملر» في مخاوفه هذه مخطئا أو مغاليا.
فإن هذه «الجبهة الرابعة» التي قام أعضاؤها - من الصناع والعمال والزراع والموظفين المدنيين - بجميع أنواع المقاومة الإيجابية والسلبية في داخل الريخ الألماني، على النحو الذي تقدم ذكره لم يلبث أن ظهر نشاطها في ميادين القتال أيضا، وبخاصة في الميدان الروسي الكبير الذي كان يتطلب من الألمان حشد الألوف من شبان الريخ لمنازلة الجحافل الروسية، ولا جدال في أن تلك المقاومة كانت مقصودة، فضلا عن أنها كانت نتيجة حتمية لما حل بالجنود من التعب والملل والشكوى من سوء التموين، والتذمر من قلة الملابس والتعرض لبرد الروسيا القارص، واليأس من إحراز النصر السريع، على نحو ما كان يعدهم به الهر هتلر من جانب، ويغرر بهم الهر جوبلز بدعايته الواسعة العريضة من جانب آخر. وقد ظهرت المقاومة في أشكال متنوعة، كان منها هروب المقاتلة الألمان وتسليمهم من غير قتال وامتناعهم عن تنفيذ أوامر الهجوم وتفضيلهم التقهقر في الميدان على مواجهة العدو، ثم التذرع بشتى الوسائل عقب وقوعهم في الأسر واطمئنانهم إلى أنهم قد أصبحوا بعيدين عن مخالب الجستابو؛ لإظهار كراهيتهم وبغضهم للنظام النازي وللزعيم، وعصابته. وما لبثت حوادث هذه المقاومة أن استرعت أنظار الروس عقب نشوب الحرب بينهم وبين النازيين، وذلك على الرغم من أن انتصارات الألمان كانت قد جعلتهم في الشهور الأولى من عام 1942 على مقربة من ليننجراد وتجاوزت بهم «سمولنسك» ومكنتهم من التوغل في الأوكرين، فبدأ الروس يدرسون أحوال الهاربين والأسرى الألمان دراسة منظمة تلقي ضوءا كبيرا على حقيقة هذا النوع من المقاومة. وسواء كانت هذه المقاومة ذات أثر فعال في اندحار النازيين في النهاية أو تضافرت عوامل أخرى أشد خطرا على تقويض دعائم الريخ الثالث؛ فإن وجود هذه المقاومة في مراحل الحرب الأولى دليل على أن الهتلريين قد أخفقوا في استمالة سواد الأمة الألمانية إلى تأييد ذلك النظام، الذي فرضوه على ألمانيا فرضا ثم أرادوا تطبيقه على بقية أوروبا النازية، وأسطع برهان على هذا الإخفاق أن الجندي الألماني الذي عمد إلى الفرار من الخطوط الأمامية أو التسليم أو عصيان الأوامر أو عدم الثبات أمام العدو في بداية الحرب مع روسيا كان - من غير شك - لا يجد في تلك الفلسفة التي قامت عليها دعائم النظام النازي أية مثل عليا خليقة بتضحية النفس، وبذلها رخيصة في سبيل تحقيقها.
فقد أخذ عدد الهاربين من المقاتلة الألمان إلى الجيش الأحمر يزداد منذ بداية الحملة الروسية حتى بلغ درجة جعلت من المتعذر الاعتقاد بأن حوادث الهرب كانت حوادث فردية ، ولا تدل على فقدان الرغبة في القتال لدى شطر من الجنود الألمان في الجبهة الشرقية. ومنذ 18 مارس 1942 أشارت صحيفة النازيين الرسمية «فولكشير بيوبختر» إلى هذه الحالة إشارة خفية عندما قالت:
إن الجنود الألمان يفكرون في البرد والقمل وغيره من كلام أكثر مما يفكرون في وطنهم، فإذا فتح جندي فاه في الجبهة الروسية فعل ذلك دائما للشكوى من البرد أو من أن مطبخ الميدان لا يعد الطعام في موعده، أو من أن الخبز قديم أو غير ذلك من الشكاوي.
وجاء في مفكرة يومية عثر عليها الروس بين أوراق «ألفريد روهيل» أحد الضباط الألمان الذين سقطوا في الميدان الأوسط بالقرب من «أفاوفو» في غربي موتزايسك في آخر يناير 1942 ما يؤيد انتشار روح التذمر في الجيش إبان الحملة الروسية. فقد دون هذا الضابط في مذكرته بتاريخ 28 ديسمبر 1941: «إنه من الصعب على المرء أن يفهم ما يحدث الآن، فإننا نتقهقر، مع أننا لم نتقهقر في بولندة، ولم نتقهقر في فرنسا أو اليونان، ولكن هنا في الروسيا، بدلا من التقدم إلى الأمام بدأنا لسبب ما نتقهقر، وهذا أمر يصعب فهمه لا سيما وأن «الزعيم» أكد لنا أن الروس سوف يخرون صرعى، وأن الحملة الروسية لا بد منتهية في ختام عام 1941 حتى يستطيع الانتهاء من الإنجليز أيضا في عام 1942. ولكن هذه الآمال تنهار الآن كأنها بيت من الورق.» وكتب الضابط أيضا في 8 يناير 1942: «لقد أصبح جنودنا غير أولئك الذين عهدناهم من قبل، إنهم الآن يلزمون الصمت ويصعب على المرء أن يجد من يتحدث إليه منهم، بل إنه ليبدو عليهم التجهم وعدم الثقة، وصحيح أن الجنود ما زالوا يخشون بأس الضباط، ولكن العلاقات القائمة بين الطرفين قد تغيرت نوعا ما، حتى إن الإنسان ليشعر بوجود توتر غير طبيعي. وذلك نذير سوء.» وكتب في اليوم التالي : «اختفى من فرقتنا أمس ثلاثة رجال، ولم يكن هذا الحادث الأول من نوعه، والظاهر أنهم هربوا أو سلموا للعدو.» وكتب في 20 يناير: «اخترق الروس صفوفنا ثانية، ونحن في خطر التطويق وخسارتنا جسيمة ، والجنود متجهمون، يبدو عليهم الوجوم، وحبذا لو أمكن معرفة ما يجول بخاطرهم، ولكنهم يلزمون الصمت دائما، وهذا الصمت يرهق أعصابنا كثيرا.» وذكر في 21 يناير: «لا شك أن الجنود يكثرون من الكلام فيما بينهم، ولم يعد النظام دقيقا، وحدث أمس أن الجندي «هانز إيبرت» أرسل إلى مركز أمامي للمراقبة، ولكنه سرعان ما رجع إلى الجنود لاهثا مذعورا، ولم يعد إلى مركزه إلا بعد أن هدد بإطلاق الرصاص عليه.» وفي 22 يناير كتب يقول: «تزداد نفسية الجنود سوءا يوما بعد يوم ... وقد حدث أمس أن رفض عدد منهم القيام بهجوم مضاد، حتى اضطررنا إلى تهديدهم بإطلاق نيران المدافع الرشاشة عليهم. وقد حاول ثلاثة من الرجال التسليم إلى العدو، فأعدموا رميا بالرصاص. إن النجدات التي تصل إلينا هي من رجال الاحتياطي غير المدربين ...» وأخيرا دون في مذكرته بتاريخ 24 يناير: «وصلت إلينا أوامر تحتم علينا عدم التقهقر خطوة واحدة، وقد أنذر الضباط بأنهم سوف يقدمون إلى المحاكم العسكرية إذا انسحبوا أو تقهقروا قبل أن تصل إليهم أوامر بذلك. ولكن إصدار الأوامر شيء، وإطاعتها شيء آخر، ويبدو أن القيادة العامة لا تدري بكل ما يجري في هذه الجهات على وجهه الصحيح ... إن معركة اليوم يقصد من ورائها الاستيلاء على «أفاروفو» ...» وفي هذه المعركة قضى صاحب المذكرات نحبه.
ومن أمثلة التسليم المقصود إلى العدو ما وقع في أكتوبر 1941 في الجبهة الشمالية عندما أرغم جنود إحدى آلايات المشاة على رفع راية التسليم البيضاء، فقد غادروا أماكنهم آخذين معهم ضابطهم وسلموا أنفسهم لرجال الجيش الأحمر، وقد حدث أن وقف أحد هؤلاء الجنود خطيبا يتنبأ بقرب انهيار النازية ويحض الجنود الألمان على وقف القتال. وحدث في فبراير 1942 أن عهد إلى فريق من جنود المشاة بمهمة تغطية تقهقر الجيش، ولكنهم بدلا من ذلك «لم يطلقوا رصاصة واحدة على العدو ، وعندما اقترب الروس منهم، أرسل رئيسهم مندوبا يبلغهم رغبة جنوده في التسليم». وفي غير الميدان الروسي أمثلة عدة للهرب من الجيش والتسليم للعدو ورفض القتال، حتى إن القيادة العليا الألمانية وجدت من الضروري إرسال الجستابو وطائفة من الجنود المتحمسين للنازية للانضمام إلى القوات المحاربة في الميدان لمراقبة الهاربين أو الراغبين في التسليم أو الممتنعين عن تنفيذ الأوامر والقبض عليهم وتقديمهم إلى المحاكم العسكرية أو إطلاق الرصاص عليهم بدلا من ذلك في التو والساعة. فقد حدث في نوفمبر سنة 1941 أن رفضت وحدة ألمانية في ليل
Lille
على حدود فرنسا الشمالية الشرقية مغادرة الثكنات والانتقال إلى الجبهة الشرقية، فأطلق الرصاص على تسعة وعشرين منهم، وألقي القبض على ثلاثمائة، وأعدم في الشهر نفسه ستة من الجنود الألمان في بتسامو في طرف فنلندة الشمالي لمحاولة الهرب. وفي 23 ديسمبر 1941 حدث في قرية «ميليخوفو» بالقرب من «بلجورود» أن رفض تسعون جنديا إطاعة أوامر الهجوم فأطلق الرصاص عليهم. وفي يناير 1942 أطلق الرصاص على عدد من جند الآلاي السابع والثلاثين بعد المائة بسبب التمرد والعصيان. وفي نفس الشهر أعدم ثلاثة عشر جنديا ألمانيا في «أسن» وثمان في «ليبزج»؛ لرفضهم الذهاب إلى الجبهة الشرقية. وفي فبراير 1942 أعدم ثلاثة وستون من الألمان في «نانسي» بفرنسا؛ لأنهم رفضوا الذهاب إلى خطوط القتال الروسية، وفي نفس الشهر هرب عشرة جنود في أثناء نقلهم بالسكة الحديد من أحد المراكز بفرنسا، وضبط واحد منهم فانتحر قبل محاكمته.
وثمة ظاهرة أخيرة تدل على مبلغ ما كان هناك من شعور عدائي مشترك بين أسرى الحرب الألمان نحو النازية وزعيمها أنه لم تكد السلطات السوفيتية في معسكرات أسرى الحرب تسمح بتأليف الجمعيات الأدبية للخطابة والمناظرة، وما إلى ذلك حتى انتهز هؤلاء الفرصة للخوض في مساوئ الوطنية الاشتراكية والتدمير الذي تم على أيدي الزعماء النازيين الذين ألقوا - تلبية لأطماعهم وخدمة لمآربهم الشخصية - بملايين الرجال من الألمان، ومن حلفائهم «المكرهين» على التعاون معهم إلى ميادين القتال.
وكان من المتوقع بطبيعة الحال أن تشجع السلطات السوفيتية هذه الحركة فسمحت بذهاب الوفود من الأسرى الألمان لزيارة أسرى الحرب الرومانيين وغيرهم؛ لنشر الدعوة ضد النازية وبيان مبلغ الأخطار التي تستهدف لها البلاد المحتلة من جراء تعاونها مع النازيين، وزيادة على ذلك أذنت السلطات السوفيتية بعقد اجتماعات كبيرة يحضرها مندوبون عن معسكرات أسرى الحرب جميعا؛ لتوضيح موقفهم من النازية وتوثيق العلاقات بين كافة أسرى الحرب على أساس التخلص من الهر هتلر والنازيين كخطوة لا غنى عنها لنشر ألوية السلام على أوروبا. وفي يناير 1943 اجتمع في أحد معسكرات أسرى الحرب في الروسيا مندوبون عن سائر معسكرات الأسرى بلغ عددهم 876، وكان معظم المندوبين من الألمان برئاسة «الأونباشي» ردولف وولف من برلين، ثم كثرت اجتماعات أسرى الحرب في الشهور التالية. فحدث في فبراير أن حضر إلى المعسكر رقم 95 حوالي مائة وتسعين مندوبا يمثلون 1242 من ضباط الصف في المعسكرات الأخرى. وبعد أسابيع قليلة - أي في أواخر مارس - عقد الأسرى الألمان الذين وقعوا في الأسر بين ديسمبر 1941 وفبراير 1942 اجتماعا في المعسكر رقم 74، واتخذوا قرارا طويلا، ختموه بعبارة رنانة: «لتسقط الحرب، وليسقط هتلر وعصابته، وليحي النضال من أجل ألمانيا الحرة!» وفي فبراير ومارس من العام نفسه أصدر ثمانية وعشرون ضابطا من أسرى الحرب الألمان في روسيا نداء طويلا أذاعته المحطات الروسية وكذلك المحطات السرية في الريخ الثالث عدة مرات، أوضح فيه الضباط لأبناء وطنهم كيف غرر هتلر وعصابته بأهل البلاد وزجوا بهم من أجل أطماعهم الجنونية في حرب يفنى فيها مئات الألوف من الشباب سدى، وأنه لا يمكن أن تنتهي ما دام هتلر في الحكم؛ لأنه لن يعقد إنسان أي صلح معه بينما تستطيع حكومة وطنية يؤيدها الجيش ويوليها الشعب ثقته أن تحصل لألمانيا على صلح خليق بأمة عظيمة، فكان هذا النداء دعوة صريحة للثورة على النازيين في ألمانيا.
وقد يتبادر إلى الذهن أن أسرى الحرب كانوا مدفوعين لظروفهم الخاصة إلى إظهار هذا العداء وهذا البغض نحو النازية وزعيمها، ولكن الحقيقة كانت على عكس ذلك تماما، بل إن هناك من الأمثلة الكثيرة الأخرى ما يكفي لإظهار مبلغ التصدع للجيش الألماني وقتذاك. ولعل من أخطر هذه الحوادث ما وقع في إقليم «الفوج» الفرنسي على الحدود الشرقية بين فرنسا وألمانيا في فبراير 1942، عندما التحم الجند الألمان مع حرس «هيملر» في معارك دموية كما حدث بالقرب من باريس في الوقت نفسه أن أعدم ثمانية من الجنود الألمان؛ لارتكابهم جريمتي التخريب ومحاولة الهرب. وفي «بار دوبيش» في تشيكوسلوفاكيا سار الجنود الألمان في مظاهرة كبيرة؛ فطافوا بشوارع المدينة وهم يصيحون: «نطلب الصلح ونريد العودة إلى الوطن.» فما لبث رجال «هيملر» أن حضروا مسرعين وأطلقوا الرصاص، فقتلوا من المتظاهرين ثمانية وجرحوا ثلاثين وألقوا القبض على ستين منهم. وحدث في أوائل عام 1943 أن اختفى فجأة عدد من القواد في ظروف غامضة كان من بينهم الجنرال «فون ريشناو» عدا غيره من كبار الضباط الألمان، وقد أذاعت المحطات السرية الحرة الألمانية وقتذاك تفصيلات عن ظروف اختفائهم ثم إعدامهم بعد ذلك. ويتبين من هذه التفصيلات أن أحد عشر ضابطا من كبار رجال الطيران الألماني الذين قتلهم «الجستابو» كانوا جميعا قد وقعوا بأسمائهم على «مذكرة» يعارضون فيها هيملر، فكان توقيعهم على هذه المذكرة السبب المباشر لسفك دمائهم.
وكان «هيملر» قد طلب في ذلك الحين أن يكون لدى فرق الحرس النازي من أصحاب القمصان السود
S. S.
الخاضعين لرياسته قوة منفصلة من السلاح الجوي خاصة بها، فلقي هذا الطلب معارضة شديدة من الجنرال «براو شيتش» ومن هيئة القيادة العليا للجيش الألماني، ومن جانب فريق من كبار الضباط وخصوصا في سلاح الطيران، وكانت حجة المعارضين أنه ينبغي الاحتفاظ بوحدة القيادة العليا العسكرية وعدم تجزئتها، وأنه ما دامت التنظيمات النازية الحزبية المعروفة، وهي فرق الهجوم وفرق الحرس قد دخلت في خدمة الجيش، فقد أصبح من المتحتم عليها الخضوع التام لنظامه. وأمام هذه المعارضة، رأى «هيملر» أن يلجأ إلى «هتلر» حتى يحصل على تأييده، ولكن «هتلر» كما كانت عادته في هذه الأمور ظل مترددا، ورأى تأجيل الفصل في هذا الموضوع، وعندئذ وجد الضباط والقواد بدورهم، وكانوا قد فاتحوا «هتلر» نفسه في الأمر، أن يستميلوا إلى جانبهم «هرمان جورنج». بيد أن «جورنج» الذي كان قد بدأ يفقد في تلك الأونة ذلك النفوذ القديم الذي تمتع به طويلا، لم يلبث أن رأى من مصلحته عدم القطع برأي حاسم قد يرضي فريقا ويغضب فريقا آخر، وفضل بدلا من ذلك أن تظل علاقاته طيبة مع الجماعتين، ولكنه لما كان يرى في شخص «هيملر» منافسا خطيرا له فقد لجأ إلى استخدام الجنرال «ميلش» وسيطا لدى كبار ضباط الطيران في السلاح الجوي حتى يطلب إليهم إعداد «مذكرة» في هذا الموضوع يرفعونها إلى هتلر، متضمنة احتجاجا شديدا على ما يريده «هيملر»، وقد أعد هؤلاء الضباط المذكرة فعلا، وكان عددهم أحد عشر، وعلى رأسهم كل من «أوديت»، «مولدرز»، و«فون فيرا» و«ويلبرج»، فكانت نتيجة ذلك أن اختفى الموقعون عليها في أيام قليلة، فجاء هذا الحادث دليلا جديدا - إلى جانب حوادث أخرى من نوعه - على أن الضعف قد بدأ يتطرق إلى قوة الحرب الألمانية بسبب ذلك الانقسام القائم على وجه الخصوص بين المنظمات النازية العسكرية، وهي تنظيمات حزبية وقوة الجيش المقاتلة النظامية في ألمانيا. وأحدث انقساما كبيرا بين كبار القواد الألمان فشل الألمان في الاحتفاظ بستالينجراد في أواخر عام 1942، واضطرارهم إلى تسليمها للروس ثم التقهقر المستمر في الجبهة الروسية منذ نوفمبر من العام نفسه إلى أواخر 1943، وبدأ جماعة من الضباط الألمان في الجبهة الروسية يضعون الخطط من أيام تسليم «فون باولوس» في ستالينجراد لإسقاط هتلر، وسرعان ما تطورت هذه الخطط بعد ذلك حتى أصبحت مؤامرة طفق أصحابها يضعون التدابير لاغتياله، وكادت المؤامرة تنجح وقتذاك لولا أن الصدفة وحدها جعلت هتلر يغادر مركز القيادة قبل تنفيذها بحوالي خمس وعشرين دقيقة.
وكانت معركة ستالينجراد فاتحة شؤم على الجيوش الهتلرية؛ إذ انهالت عليها الضربات من كل جانب، فنزلت القوات البريطانية والكندية في جنوبي إيطاليا في سبتمبر 1943، واستمر زحفهم إلى الشمال طوال العام التالي، وأزال سقوط «كاسينو» العقبات التي كانت تعترض سبيل الحلفاء في الطريق إلى روما «مايو 1944»، فتقهقر الألمان بدون نظام أمام الغزاة. وفي أوائل يونية نزلت القوات البريطانية والأمريكية من البحر والجو على ساحل أوروبا الغربي في مقاطعة نورمانديا، فأعلن تشرشل في مجلس العموم البريطاني في 6 يونية 1944 بدء الغزو وفتح الجبهة الثانية، وبدا كأنما قد أطبقت جحافل الحلفاء على «قلعة هتلر» التي ظلت مصدر رعب وفزع ردحا من الزمن، وأنه لا مفر من تقويض أركانها بسرعة خاطفة، وعندئذ أفاق الزعماء النازيون من غفلتهم، وكان من المتوقع أن يتضافروا على دفع هذه الكارثة التي نزلت بساحتهم، ولكن بدلا من ذلك فوجئ العالم يوم 20 يولية 1944 بإذاعة من برلين أن فريق القواد المتذمرين في الجيش الألماني منذ أيام الحملة الروسية أرادوا اغتيال هتلر، ومع أن العناية الألهية وحدها - على حد قول إذاعتهم - هي التي أنقذت هتلر من الموت في «أوبرسالزبرج»، وأن جوبلز استطاع أن يحبط محاولة «عصبة كبار الضباط للاستيلاء على مباني الحكومة في برلين»، فإن الأمر كان على جانب عظيم من الخطر؛ إذ ثبت أن عددا من كبار القواد الذين قادوا الجيوش الألمانية المنتصرة في السنوات الماضية كانوا ضالعين مع المتآمرين أو كانوا على الأقل من الناقمين على هتلر وجماعته، فعزل هؤلاء من مركز القيادة، وكانوا الفيلد مارشال فون رونشتد القائد العام السابق للجيش الألماني في غرب أوروبا، والفيلد مارشال فون براوشتش قائد القوات الألمانية البرية العام سابقا، والفيلد مارشال فون بوك أحد قواد الجيش في روسيا، وزملاؤه الثلاثة في الحملة الروسية الفيلد مارشال فون لبيب، والفيلد مارشال فون مانشتين والفيلد مارشال فون كلايست، ثم الجنرال فون فالكنهاوسن القائد العام السابق في هولندة. وفضلا عن ذلك فقد تمردت وحدات من القوات البرية والبحرية، وقام الأهلون بحركة عصيان واسعة في المناطق الصناعية التي خربتها قذائف طائرات الحلفاء في ستوتجارت وشواينفرت وبريمن وميونخ، ونشبت الثورة بين وحدات من الجيش الألماني في جنوبي ألمانيا واشتبك الجيش مع الجستابو في جهات مختلفة بألمانيا، ووقعت مصادمات بين شراذم الهجوم وجنود الجيش الألماني في فرنسا في بوردو وليموج ونيم ونانت، وأعطى الفوهرر هيملر سلطات واسعة فقام الآخر بعمليات تطهير واسعة قاسية، فانقض الجستابو على كل من اشتبهوا في أمره يعدمونه رميا بالرصاص أو يرسلونه إلى معسكرات الاعتقال، ونفذ الإعدام في كثير من المقبوض عليهم، وأودع غياهب السجون عديدون من العلماء والنبلاء ورجال المال والصناعة. وتألفت في أوائل أغسطس 1944 «محكمة الشرف»، وكانت مهمتها عزل القواد الذين تحوم حولهم الريب في الجيش، ورفع أسمائهم إلى هتلر حتى يتخذ قرارا بتقديمهم إلى «محكمة الشعب الألمانية»، فباشرت محكمة الشرف مهمتها، وأصدرت قرارها بإدانة كثير من القواد وفصلهم من خدمة الجيش، وبعد محاكمة دامت يومين أصدرت محكمة الشعب الألمانية أحكامها على ثمانين من القواد بالإعدام، ثم نفذ فيهم الحكم شنقا.
ووسط هذا الاضطراب الشامل ظلت تجيء الأخبار السيئة من كل جانب منبثة بتحرج الأمور في الميدان الروسي والجبهة الغربية وميدان إيطاليا، ولم يحدث إعدام القواد المتآمرين أو الضالعين معهم أو انتحار فريق منهم أي تأثير في بقية الضباط والقواد المتذمرين في الجيش الألماني حتى إنه في أوائل سبتمبر كان شغل هؤلاء الشاغل إفساد جميع الخطط التي كان يضعها الفوهرر لمنع إطباق العدو على دولة الزعامة المسئولة، فقد رفض الجنرال فون شولتز أن ينفذ أوامر هتلر له بتدمير أقصى ما يمكن تدميره من باريس حتى يتأخر زحف الحلفاء في فرنسا وبلجيكا، وعظم الشعور بأن اهتمام القواد الألمان كان منصرفا إلى محاولة إدخال قوات الحلفاء الزاحفة من الغرب إلى ألمانيا قبل وصول الروس إليها، واعترف جوبلز بحرج موقف ألمانيا في منتصف سبتمبر.
وفي أواخر الشهر نفسه بعث فون رونشتد بتقرير عن سوء الموقف في الجبهة الغربية، فاشتد القلق بالهر هتلر وفقد السيطرة على أعصابه؛ إذ بات متيقنا من تدهور الروح المعنوية في نفوس قواد الجيش الألماني، وذلك علاوة على ما كان يخامره من ريبة شديدة في ولائهم أو في عزمهم الصمود أمام العدو، ولمس هتلر تدهور الروح المعنوية في أقرب الناس صلة به وتطايرت الشائعات أن هيملر وجوبلز وجورنج وغيرهم من كبار رجال حكومة الريخ الثالث يعدون العدة للفرار من ألمانيا، حينما يرون بوادر الانهيار التام تلوح للأبصار، ولكن إطباق الروس عليهم من جانب وقوات الأمريكيين والبريطانيين من جانب آخر، لم يدع لهؤلاء الزعماء والقواد فرصة للهرب، وكان الروس أول من طرق أبواب برلين، ونشطت طائرات الحلفاء في تسديد الضربات القاصمة إلى قلب الريخ الألماني، وكان على إثر إحدى هذه الغارات الشديدة أن لقي الهر هتلر حتفه تحت أنقاض دار المستشارية في 1-2 مايو 1945، واختلفت مصائر بقية الزعماء؛ فآثر جوبلز الانتحار، أما بقية الزعماء فقد قدمهم الحلفاء المنتصرون إلى المحاكمة في نورمبرج إحدى معاقل النازية، وأصدرت المحكمة العسكرية الدولية حكم الإعدام على المرشال «هرمان جورنج» والمرشال «ويلهلم كيتل» والجنرال «ألفريد يودل» و«هانز فرانك» و«يوليوس شترايخر» و«سايس أنكوارت» و«يواكيم فون رينتروب» و«أرنست كالتنبرونر» و«ألفريد روزنبرج» و«ويلهلم فريك» «وفريتر سوكل»، وصدر حكم الإعدام أيضا غيابيا على مارتن بورمان الذي اختلفت الآراء في مصيره، كما حكمت بالسجن المؤبد على رودلف هيس والأميرال رايدر وولتر فونك، وحكمت على الأميرال «دونتز» بالسجن عشر سنوات وبخمسة عشر عاما على فون نوراث، وبعشرين سنة على بالدور فون شيراخ وألبرت سبير، وقد أفرج عن كل من هيالمار شاخت وهانز فريتش، وفرانز فون بابن، وكان إصدار الحكم بتاريخ أول أكتوبر 1946، وقد نفذ حكم الإعدام شنقا في 16 أكتوبر 1946، وأما جورنج فقد انتحر قبل تنفيذ الحكم بساعات، وقد أحرقت جثث الأحد عشر زعيما فصارت رمادا تذروه الرياح.
الفصل التاسع
السلام الدائم
كانت خاتمة حياة الزعماء والفلاسفة النازيين على النحو الذي شهدناه قصاصا عادلا لجماعة توهموا أو زين لهم الشيطان أن باستطاعتهم أن يفرضوا سيطرتهم على العالم أجمع إذا هم أحكموا تدبيرهم فسلبوا الشعوب حرياتها، وأرغموا الأمم على الخضوع لسلطانهم، ولم تكن ثم مندوحة عن انهيار دولتهم في النهاية؛ لأن ذلك «النظام الجديد» الذي ابتكره خيالهم كان مبنيا على قواعد مستمدة من «فلسفة» هي أقرب إلى الخلط منها إلى شيء آخر؛ فلسفة تقسم الأمم والشعوب إلى طبقات وطوائف من السادة المبجلين الذين توهموا أن من حقهم الأزلي فرض سيطرتهم وسلطانهم على بقية أبناء البشر لا لسبب سوى أن القدر على حد قولهم قد أجرى في عروقهم دما نقيا، وأنشأ هؤلاء السادة في تربة لا تنتج غير الرجال الممتازين، وأما من عداهم فمن الهوام والحشرات التي يجب إبادتها أو معاملتها معاملة الرقيق. وأي نظام ذلك الذي طمع النازيون في إرغام الشعوب على قبوله وهم من الناحية السياسية يريدون الرجوع بالعالم الأوروبي إلى تنظيم عصور مضت وانقضت وصار ينظر إليه الناس على أنه مرحلة من مراحل التطور الإنشائي كان لا بد للعالم من اجتيازها حتى يصل إلى هذه الدرجة من الرقي المادي والمعنوي في هذا القرن العشرين؟ وأي نظام ذلك الذي طمع فيه النازيون في إرغام الشعوب على قبوله وهم من الناحية الاقتصادية يريدون نهب الأمم وسلب ثروتها بطرق بعيدة عن الحق والقانون؟
لقد أفلح النازيون بتدابيرهم أن يستثيروا المقاومة ضدهم من كل جانب، وعلى الرغم من أن دعايتهم المنظمة القوية كانت تذيع في أرجاء العالم أن الفوهرر والقادة النازيين استطاعوا أن يجعلوا من دولة الريخ الثالث كتلة نازية لحما ودما، فإن عوامل الضعف كانت تعمل رويدا رويدا لتقويض أركان هذه الدولة، وهل كان يتسنى للفوهرر وسائر الزعماء أن يخمدوا في صدور تلك الشعوب المقهورة جذوة الأمل في الخلاص من سلطانهم مهما امتد به الزمن وهم الذين حطموا حياة هذه الشعوب من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حتى إن أوروبا الآن ما تزال تعاني آثار الاحتلال النازي؟
وقديما كان من برنامج النازيين أن يعيدوا تكوين البنيان الاقتصادي بأوروبا على نحو يكفل تحقيق غرضين: أولهما؛ جعل الجرمان الخلص أرباب الصناعة والمال وحدهم وأصحاب السيطرة والسلطان بفضل ما يسبغه النشاط الصناعي عليهم من قوة فيزدادون جاها ورقيا، بينما تنصرف بقية الأمم في القارة الأوروبية إلى العناية بشئون الزراعة فتنحط منزلتهم ويصبحون بمرور الزمن عبيدا أرقاء، وأما الغرض الثاني: فهو أن يحطموا كيان الأمم الأوروبية إلى حد يستحيل معه إعادة بنائها إذا قدر لدولتهم الانهيار وخيل إلى النازيين أنهم ما داموا في دست الأحكام بأوروبا كانت عبقريتهم الفذة كفيلة وحدها برعاية النظام الذي وضعوه ، وأما إذا انقضى عهدهم لسبب لم يكن في حسبانهم فلن يستطيع أحد من بعدهم منع أوروبا بأجمعها من الانهيار بعد انهيارهم، ولا جدال في أن النازيين أفلحوا في تطبيق نظامهم الجديد وبالطريقة التي هداهم إليها تفكير فلاسفتهم وزعمائهم، ولكنه لا جدال كذلك في أن هذا النجاح نفسه كان المعول الذي هدم به النازيون بنيانهم الشامخ في أوروبا، ويرجع ذلك إلى أسباب ثلاثة:
أولا: إن نجاحهم في تطبيق نظامهم الجديد حرك الشعوب في البلدان المفتتحة إلى المقاومة بشتى ضروبها، وأخفقت صرامة النازيين كما فشل الجستابو في اقتلاع جذور هذه المقاومة، بل صارت تشتد وتقوى كلما غلا النازيون في تطبيق نظامهم، فكانت قلعتهم الهتلرية «قلعة من الورق» ما لبثت أن تداعت أركانها عند أول طارق؛ لأنها ما كانت تضم أقواما مستعدين لبذل نفوسهم من أجل الذود عنها ومنع العدو من اقتحامها، وأما السبب الثاني: فهو أن الوقت كان ألزم ما يكون لنجاح تطبيق هذا النظام من الناحية الاقتصادية، بينما أقدم النازيون السكارى بنشوة الانتصار الخاطف ولذته على إجراء التغييرات الاقتصادية التي اقتصاها تطبيق النظام الجديد دون أن يتخذوا التدابير التي تكفل الاطمئنان إلى أن سيطرتهم باقية مخلدة.
وأنى لهم أن يفعلوا ذلك، فالأسر التي انتزعت من مواطنها بقضها وقضيضها وشتت أفرادها أو أرسلوا للعمل مسخرين في خدمة الريخ في أنحاء أوروبا المحتلة كان لا بد لاستقرارها في مواضعها الجديدة من عامل الوقت، وفضلا عن ذلك فإنه ما كان يكفي أن تنقل المصانع من الروهر مثلا إلى ألمانيا الجنوبية الشرقية، أو يطلب إلى أهل المقاطعات الفرنسية الشمالية الشرقية أن يقصروا جهودهم على الزراعة، أو تصدر الأوامر بإبطال التعدين في فرنسا المحتلة كذلك، أو تهيئة بولندة لإدماجها في الريخ الصناعي بعد إبادة أهلها، أو ترغم البلدان المفتتحة على اعتبار برلين عاصمة العالم النازي المالية، أو غير ذلك من أباطيل الاقتصاد النازي، فما كان يكفي ذلك كله لأن يخلق أوروبا خلقا اقتصاديا جديدا بين طرفة عين وانتباهتها، ناهيك بعدم ملاءمة هذا النظام لطبيعة تكوين القارة ذاتها وبحاجته إلى وقت طويل حتى ترسخ قواعده وتتوطد أركانه، فلما عجز النازيون عن كسب الوقت، بات العمل الإنتاجي معطلا في بلدان أوروبا المفتتحة حتى إذا ما حانت الساعة وزحفت جيوش العدو عليهم استحال عليهم أن يجدوا موارد كافية لمتابعة إنتاج عتاد الحرب فعجل ذلك بهزيمتهم. وأما السبب الثالث: فإنه كان من مقتضيات العمل بهذا النظام الجديد أن يكون الريخ الثالث نفسه هو المحور الذي يدور عليه هذا النظام بأجمعه. ومنذ استتب للنازيين الحكم والسلطان في ألمانيا عملوا على تهيئة دولة الريخ - أو دولة الزعامة المسئولة على حد قولهم - لاحتلال المركز الذي كان ينتظرها في عهدها الجديد، فأحكموا تطبيق قواعد النظام الجديد في ألمانيا قبل أن يطبقوه في أوروبا المحتلة بنحو ستة أعوام، فأوجدوا بذلك نواة تلك المقاومة الداخلية التي أرغمت هنريك هيملر على إعداد العدة لإخمادها قبل نشوب الحرب الهتلرية بعامين تقريبا. وكان من أثر نجاح النازيين الظاهر في تطبيق النظام الجديد في أوروبا نتيجة لانتصاراتهم الخاطفة الأولى أن زاد خطر الجبهة الرابعة الداخلية، وأخفق الجستابو في داخل الريخ كما أخفقوا في أوروبا المحتلة في إخماد هذه المقاومة، ولم تفلح السجون ومعسكرات الاعتقال ووسائل الإبادة والتقتيل في صون هذه الجبهة من التصدع، وفضلا عن ذلك فقد انتقلت عدوى المقاومة إلى الجند والضباط والقواد، فاضمحلت الروح المعنوية في الألمان جميعا. وكانت محاولة النازيين في تأليف تلك الكتلة الصلبة المتماسكة في قلب الريخ الثالث المعول نفسه الذي قوض دعائم سيطرتهم في الداخل والخارج معا.
والآن - وقد زالت دولة النازيين من الوجود بقضها وقضيضها - حق لنا أن نتساءل ماذا يكون ذلك النظام الذي يجب أن يحل في ألمانيا محل النظام النازي القديم؟ وهل يكفي أن يعد أقطاب الدول المنتصرة تلك الشعوب التي ذاقت الأمرين من احتلال النازيين لبلادهم بأنه ما دام النازيون قد زالت دولتهم ودمرت أنظمتهم ومنشآتهم وأعدم زعماؤهم أو انتحروا، فإن ذلك وحده ومن تلقاء نفسه كفيل بعودة الأمور إلى مجاريها ومؤذن بأن المستقبل لا بد منطو على العيش الرغيد والحياة المطمئنة الهادئة؟ أم إنه لا مناص من التفكير العميق لابتكار أجدى الوسائل العملية لتحقيق هذه الآمال وإتاحة الفرصة لتلك الشعوب حتى تتحرر من خوف الاعتداء عليها في عقر دارها من جانب طغاة آخرين غاشمين؟ أو هل يسمح المنتصرون بإعطاء الألمان فرصة ثانية تمكنهم من السعي لفرض تلك السيطرة الجرمانية على أوروبا من جديد؟
في الماضي القريب ادعى أنصار سياسة «التسكين والتهدئة» أن هناك فروقا بين سواد الشعب الألماني وطغمة النازيين، وأن توقيع العقوبة على الجناة المسئولين عن الحرب الهتلرية لا يقتضي إلحاق الأذى بالأمة الألمانية، واتخذوا دليلا على وجود هذه الفوارق تلك المقاومة الإيجابية والسلبية التي أبداها فريق من الألمان الناقمين على النازية، ومع هذا فقد علمنا التاريخ أن الشعب الألماني - كمجموعة - لا يقل في نزوعه إلى السيطرة والطمع في السيادة وخوض غمار الحرب من أجل تحقيق هذه السيطرة وتلك السيادة عن قادته وزعمائه، وكذلك علمتنا التجارب القريبة أن هذا الشعب الألماني الذي قد يبدو أفراده كل على حدة، مساكين وادعين، لا يقل في مجموعه كأمة عن قادته وزعمائه اندفاعا وراء السيطرة والسيادة. ومن ميزات هذا الشعب القدرة على الانتعاش واجتياز الأزمات الاقتصادية بسرعة تدعو إلى العجب، ولكنها تدعو في الوقت نفسه إلى الإشفاق على الشعوب المجاورة له؛ لأن هذا الانتعاش الاقتصادي يقترن دائما بالرغبة في الفتح والتوسع، فهل يسمح للألمان بأن ينتعشوا اقتصاديا بحيث يتمكنون من تجهيز آلة الحرب المخربة من جديد والقذف بالشعوب الأوروبية وبغيرهم من شعوب العالم في أتون الحرب مرة ثانية؟ وما يزال الاعتقاد سائدا بأن منشأ الحرب الهتلرية والحرب العالمية الأولى كذلك هو حاجة ألمانيا إلى موارد طبيعية لا توجد في بلادها، ولا غنى عن جلبها من الخارج لتنظيم حياتها الاقتصادية، أي إن الدافع إلى الحرب الأخيرة - كما كان الحال في الحرب السابقة - دافع اقتصادي. ومع أنه مما يخرج عن موضوع هذا الكتاب مناقشة هذا الاعتقاد السائد عن جوهر العوامل التي أدت إلى قيام الحرب العالمية الثانية، فإنه مما يجدر ذكره أن كافة المحاولات التي بذلها أقطاب سياسة «التهدئة والتسكين»، وبخاصة في عامي 1938-1939 باستخدام رجال المال والصناعة لإقناع النازيين بالعدول عن إثارة الحرب كان نصيبها الفشل، وكان أصحاب تلك السياسة يرمون إلى عقد اتفاقات اقتصادية مع الريخ الثالث لخدمة التجارة الألمانية في أوروبا الجنوبية الشرقية وفي أفريقية الجنوبية (البريطانية) والسويد وغير ذلك من الأقطار، أضف إلى هذا أنهم حاولوا إقراض ألمانيا (في لندن يولية 1939) ألف مليون من الجنيهات الإنجليزية لمعاونتها على تحويل إنتاجها الصناعي الحربي إلى إنتاج سلمي نظير أن يجري الريخ الثالث تعديلا جوهريا في سياسته الخارجية، على أساس تخفيض تسلحه تحت مراقبة دولية وإخلاء تشيكوسلوفاكيا. بيد أن النازيين - كما كان يتوقع - ما لبثوا أن رفضوا هذه العروض السخية وعلة ذلك أن دافع الحرب لم يصبح في الحقيقة اقتصاديا صرفا كما كان الحال في القرن الماضي على وجه الخصوص. لأنه منذ تقدم الفنون الصناعية، وتطبيق الطرق العلمية الحديثة في الصناعة بحيث أمكن إنتاج طراز الطائرات الجديدة أضحى النضال من أجل إحراز السيطرة العالمية هو الذي يحرك الحوادث ويكيف سياسة الدول، فبدلا من أن تظل «الدولة الوطنية» وحدة التنظيم السياسي كما كان الحال في عصور النشاط الاقتصادي أضحت «القارة» وحدة ذلك التنظيم. وقد حاول أحد الكتاب المعاصرين (ه. ن. بريلسفورد) تلخيص ذلك في قوله: «كانت القاطرة البخارية سببا في حدوث الانقلاب الصناعي، كذلك كان استخدام الطائرة بداية عصر الوحدة القارية.» ولم تكن محاولة النازيين فرض السيطرة الجرمانية على القارة الأوروبية سوى مظهر من مظاهر تلك العوامل الجديدة التي برزت في ميدان السياسة الدولية من أجل إحراز التفوق والسيطرة على العالم، وهذا ما يفسر إخفاق الساسة «المهدئين» في الفترة التي سبقت قيام الحرب الأخيرة؛ لذلك كان من العبث أن تعاد تجربة «التهدئة» مرة ثانية كعلاج لتجنيب الأمم والشعوب ويلات حرب أخرى يثيرها الألمان كما فعلوا في الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومن العبث كذلك أن يرغب واضعو الصلح المنتظر في أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل السيطرة النازية.
ولكنه إذا كان قد ثبت إخفاق سياسة «التهدئة والتسكين» في إقناع الألمان بالعدول عن استخدام الحرب كوسيلة لفض مشكلاتهم الاقتصادية والسياسية مع بقية الأمم، وكان معروفا أن التنظيم الذي بني على أساس معاهدات الصلح في فرساي في عام 1919، وما تفرع عن هذه المعاهدات حتى عام 1939، قد أسفر عن تمكن الألمان من إشعال نار الحرب العالمية الثانية، ولا أمل لذلك في سلام دائم إذا أعطي الألمان الفرصة لإعادة تمثيل الرواية من جديد، فما القواعد التي ينبغي على الساسة أن يبنوا على هديها صرح السلام المنتظر؟ وبعبارة أخرى: ما ذلك النظام الذي يجب أن يجري بمقتضاه تنظيم شئون العالم حتى يتجنب البشر ويلات الحروب في المستقبل؟
على أن البحث في هذه المسألة لم يفت المفكرين والكتاب الاقتصاديين والسياسيين منذ نشوب الحرب الأخيرة وبعد انتهائها، وقد ذهبوا في ذلك مذاهب شتى، ولعل أصحاب التهدئة والتسكين أخفضهم صوتا وأقلهم أنصارا. أما أولئك الذين لا يريدون أن يفوتوا تجارب الماضي القريب دون الاستفادة من عبرها ومواعظها، فقد تنوعت آراؤهم فيما ينبغي اتخاذه من وسائل تكفل استمرار السلم في المستقبل أجيالا عدة، ولعل أظهر ما جاء في هذا الصدد، ما ذكره «بول إينتزج» أحد أعلام المفكرين الأوروبيين في الاقتصاد والسياسة، فمن قوله: إن هناك - ولا شك - نظاما آخر في الاستطاعة أن يشغل مكان النظام الجديد الذي أوجده النازيون، وذلك بأن يطبق النظام الجديد الهتلري تطبيقا عكسيا، أي إنه ينبغي أن يجري ضد ألمانيا ذاتها تطبيق كافة المبادئ والقواعد التي أرادت أن تسترشد بها في تحقيق سيطرتها على أوروبا والعالم، ومعنى ذلك أن يعامل الشعب الألماني بالمعاملة القاسية التي لقيها البولنديون التعساء من الألمان، فإنه لما كانت ألمانيا قد تعمدت إبادة الشعب البولندي بأسلوب منظم، فهناك ما يبرر تكليف البولنديين بأن يحكموا الأمة الجرمانية على أن نطلق يدهم حتى ينتقموا لأنفسهم مما أصابهم على يد الألمان باتباع نفس الوسائل التي اتبعها هؤلاء لإبادتهم، وذلك بأن يحشدوا الجماعات الغفيرة من الألمان، ويطلقوا الرصاص عليهم أو يحرموهم الطعام حتى يموتوا جوعا ويطردوهم من بيوتهم في أثناء الشتاء حتى يهلكوا بردا إلى غير ذلك مما كان يفعله الألمان في بولندة. وفضلا عن ذلك فإن تطبيق النظام الجديد النازي تطبيقا عكسيا يعني مصادرة الأطعمة الألمانية وموارد أغذية الشعب الألماني ، وتقييد نشاط الألمان الإنتاجي والحد منه، ما دام الحكام أو الفاتحون البولنديون لا يفيدون من هذا النشاط شيئا لمصلحتهم، ومن المتعذر أن يعارض إنسان في ذلك كله بحجة أن هذا الحل القاسي لا يتفق مع القواعد الخلقية أو المبادئ الإنسانية؛ لأن ألمانيا فعلت ذلك وأكبر الظن أنها لن تتردد في العودة إليه إذا سنحت أمامها الفرصة مرة أخرى في المستقبل. بيد أن ما فعله الهتلريون في الماضي القريب - وما تزال الإنسانية تشكو آثاره مر الشكوى - لا يمكن أن تلجأ إليه الديموقراطية الصحيحة لحل مشكلة الحرية والسلم مهما كان حل هذه المشكلة متوقفا على مدى نجاحها في إزالة الخطر الألماني.
على أن هناك - لحسن الحظ - حلا آخر، قد لا يفضي العمل به إلى ضمان السلم ضمانا تاما، ولكن من مزاياه - على حد قول إينتزج - تعطيل قدرة ألمانيا على فعل الشر تعطيلا كبيرا، ولهذا الحل ناحية سياسية وأخرى اقتصادية. فمن الناحية السياسية: يبدو عند تطبيق «النظام الجديد» تطبيقا عكسيا أن تجزئة الريخ بعد إلحاق الهزيمة به أمر لا مفر منه، ومعنى هذا أن تسترجع الدويلات والإمارات الكبيرة الألمانية ذلك الاستقلال القديم الذي تمتعت به قبل أن يتم اتحاد ألمانيا المعروف في عام 1871، فتستعيد هذا الاستقلال كل من النمسا وبافاريا، وورتمبرج، وبادن، وسكسونيا، وغيرها. وكذلك ينبغي أن تقام من «الراين» دولة حاجزة؛ لأن استيلاء بروسيا على أرض «الراين» حديث العهد نسبيا؛ ولذلك لا يتصف أهلها بتلك البروسيانية الصميمة، على غرار ما يظهر في ألمانيا الشرقية. وفي هذه الإمارات والدويلات المستقلة كافة، ينبغي أن يكون التاج من نصيب الأسرات القديمة التي حكمت هذه البلاد في الماضي، والتي ما يزال لها أتباع ومريدون في ألمانيا؛ لأن من شأن ذلك مساعدة هذه «الدول الجرمانية» على الاستقرار ودعم استقلالها وبقائها منفصلة كل الانفصال في حياتها المستقلة الجديدة عن بروسيا، ولكنه لما كانت بروسيا ذاتها من أيام فردريك الأعظم قد أقامت البرهان المرة بعد الأخرى على طغيانها وإمعانها في العدوان، وإثارة الحروب، فقد سقط حقها في أن تصبح دولة مستقلة ضمن مجموعة الدول الألمانية الأخرى المستقلة، ومع أنه من مقتضيات نجاح هذا الحل السياسي أن يحتل ألمانيا جنود الحلفاء المنتصرين في الحرب الأخيرة، إلا أن هذا الاحتلال ينبغي أن يكون احتلالا مؤقتا في هذه الدول الألمانية المستقلة، ما عدا بروسيا، وقد تدعو الحاجة إلى احتلال بروسيا وحدها احتلالا دائما.
ومن الناحية الاقتصادية يقتضي هذا الحل أيضا تطبيق «النظام الهتلري الجديد» على ألمانيا تطبيقا عكسيا، فمن المعروف أنه كان من أهداف ذلك النظام أن تصبح ألمانيا مركز الصناعة وإنتاج الأسلحة وعتاد الحرب في أوروبا، ثم حرمان سائر الشعوب من صناعاتها، على أن تصبح مهمة هذه الشعوب مجرد إنتاج السلع التي تطلبها ألمانيا وتقديم العمال الأرقاء الذين يسخرون في خدمة الصناعة الألمانية؛ ولذلك ينبغي حرمان ألمانيا المهزومة من صناعاتها إلى حد بعيد، فتمحى من الوجود كافة الصناعات المستخدمة في إنتاج معدات الحرب وأدوات القتال، كما يجب تقليل الصناعات التي يمكن تحويلها لمثل ذلك، هذا إلى أنه يجب أن توضع الصناعات الباقية مباشرة تحت إشراف الأمم المنتصرة ورقابتها، كما يجب الحد من قدرة ألمانيا على إنتاج الخامات والنفط وأدوات الحرب الضرورية.
ولما كان حرمان ألمانيا من الصناعة يترتب عليه نقص ظاهر في حاجتها إلى السكك الحديدية وطرق النقل السريع الأخرى، فقد بات ضروريا خفض طاقة العمل في الخطوط الحديدية ذات الأهمية العسكرية، أما إذا نجم عن ذلك كله تعطل عدد كبير من العمال الألمان كما هو منتظر، فإن تطبيق هذا النظام العكسي لا يترك هؤلاء المتعطلين دون عمل؛ إذ يجب استخدامهم أولا في الأعمال الإنشائية في البلدان التي وقعت فريسة في قبضة الألمان إبان سيطرتهم، فدمروا مصانعها ومبانيها وخربوا حقولها، فإذا فرغ العمال من هذه الأعمال العمرانية استخدموا في إقامة خطوط قوية من التحصينات في البلدان التي تكرر في الماضي اعتداء الألمان عليها، وفضلا عن ذلك يجب أن يتألف من هؤلاء العمال الألمان «مورد» لا ينضب له معين يوضع تحت تصرف الدول، حتى تستقدم كل دولة من هذا «المورد» العدد الذي تريد استخدامه في جميع الأعمال التي لا تتطلب مهارة فنية، والسبب في ضرورة وجود هذا «المورد» أنه لما كان من واجب الديمقراطية الصحيحة أن تسهر على دوام السلام - وهذا أمر يستحيل تحقيقه إلا إذا احتفظ بجيوش جرارة - فمن المنتظر أن تقل الأيدي العاملة في هذه الدول من جراء تجنيد شبابها في الخدمة العسكرية. ولذلك لا مندوحة عن أن تبحث هذه الدول عن وسيلة تسد هذا النقص المنتظر في الأيدي العاملة بها، فيصبح العمال الألمان ذلك «المورد» الدائم الذي تستطيع الدول أن تستقدم منه ما تريده وكل هذا يتفق مع المبادئ التي كان يطبقها الألمان مع ضحاياهم، مع فارق واحد: هو أن العمال الألمان سوف يعاملون معاملة الأناسي، أضف إلى هذا أنه كان يعرف عن نوايا ألمانيا إذا قدر لها الانتصار أنها تريد أن تنشئ من «الجنس الجرماني الحاكم» جنسا مهمته الحرب والقتال والاضطلاع بالأعمال التي تتطلب مهارة فنية ليس غير، بينما يستخدم ملايين العمال من بين الأجناس التي قد تخضعهم لسلطانها في الأعمال «الوضعية»، ومن الممكن تنفيذ هذه الخطة بشكل عكسي فترغم ألمانيا على تقديم «الأيدي العاملة» ليحلوا محل الرجال الذين تتألف منهم تلك القوة العسكرية التي عليها صون السلم من أن يتعكر مرة ثانية إذا ما حدث الألمان أنفسهم أن يحاولوا مرة أخرى تحقيق أغراض عداونية.
وهناك وسائل عدة لتطبيق مبدأ «المجال الحيوي» الألماني تطبيقا عكسيا، فقد سبق القول: إنه كان من أهم أغراض «النظام الاقتصادي الجديد» الذي وضعه هتلر أن يجري تعديل الحياة الاقتصادية في البلدان المجاورة على نحو يجعل تكوينها ملائما لحاجات ألمانيا الاقتصادية؛ ولذلك فإن عكس العمل بهذا المبدأ معناه منع الاقتصاد الوطني في هذه البلدان من أن يكون مكملا لنظام الاقتصاد الألماني، ولا جدال في أن مثل ذلك من مصلحة هذه البلدان، وسوف تجد فيه الضمان الكافي لسلامتها؛ لأنه إذا امتنعت البلدان عن إنتاج ما تحتاج إليه ألمانيا فإن ألمانيا لن تستطيع أن تحصل على ما تريده من خامات ونفط وما إلى ذلك، فلا يتجدد عندئذ عدوانها عليها، وعلاوة على ذلك فإن خلو هذه البلدان من المنتجات اللازمة لألمانيا من شأنه أن يصرف الألمان عن الطمع في غزوها وامتلاكها، من ذلك أن زوال موارد النفط الرومانية يساعد - ولا شك - إلى حد كبير على تقليل مدى اعتماد ألمانيا على أوروبا الجنوبية الشرقية في سد مطالب الحرب التي تحتاج إليها، ومن الممكن استغلال موارد النفط في رومانيا بسرعة عظيمة دون التقيد بأية اعتبارات تجارية حتى ينضب معين آبارها، ولا تكون رومانيا موضع أطماع جديدة من جانب الألمان في المستقبل. وعلى كل حال يسود الظن اليوم أن موارد النفط في رومانيا قد أشرفت على النضوب؛ ولذلك كان من واجب الدول المحبة للسلام أن تبذل كل جهد بالتعاون مع رومانيا ذاتها لإخراج رومانيا من قائمة مناطق إنتاج النفط الهامة، فإذا أضيف هذا إلى تحطيم منشآت صنع النفط كيميائيا بتحطيم مصانع تقطيره لأصبح من المتعذر على ألمانيا أن تغامر بحرب عدائية مرة ثانية.
وثمة مثال آخر، هو «فول الصويا» الذي شجعت ألمانيا على زراعته والإكثار من إنتاجه في بلدان أوروبا الجنوبية الشرقية في السنوات القليلة التي سبقت الحرب الأخيرة، وفي أثناء سنوات الحرب أيضا، وقد فعلت ألمانيا ذلك؛ لأن هذا المحصول يستخدم غذاء للإنسان وعلفا للماشية، ويمكن استخراج الزيوت منه واستعماله سمادا. وينمو فول الصويا بكثرة عظيمة في الصين واليابان وغيرهما من بلدان الشرق الأقصى؛ ولذلك يجب حرمان ألمانيا من الحصول عليه من أوروبا الجنوبية الشرقية حتى يكون اعتمادها كله في سدد حاجتها منه على «منشوكو» وغيرها من البلدان البعيدة؛ إذ إنه لا معنى من الناحية الاقتصادية لأن يرخص بإنتاج «فول الصويا» لبلدان لا تساعد أحوالها الطبيعية أو أجور العمال فيها على إنتاجه بالكميات الهائلة التي تنتجها «منشوكو». ومن الأوفق أن تستورد ألمانيا حاجتها منه من «منشوكو» بطريق البحر الطويل، دون أن يشجع زراعة هذا الصنف في أوروبا الجنوبية الشرقية؛ إذ اهتمام ألمانيا بإدخال زراعته في هذه الأقاليم لم يكن عبثا. ولا جدال في أنه إذا ظلت أوروبا الجنوبية تنتج «فول الصويا» وتمد به ألمانيا فإن الوقت لن يطول كثيرا قبل أن تجد ألمانيا ما يسهل عليها إثارة حرب عالمية ثالثة.
ومن مصلحة البلدان الجنوبية الشرقية في أوروبا أن نعمل على إنشاء الصناعات بأرضها حتى تصبح دولا صناعية ولو إلى حد محدود؛ لأن ذلك من شأنه أن يقلل من اعتمادها على المصنوعات التي تستوردها من ألمانيا، وتقتصر وارداتها من ألمانيا على بعض السلع الكمالية، فبذلك تفقد الصادرات الألمانية أسواقها في هذا الجزء من أوروبا، ويمكن الاستعاضة عن هذه الأسواق المفقودة بأن تظل الأسواق في البلدان الواقعة وراء البحار مفتوحة لتصريف الصادرات الألمانية، كما أن ألمانيا يجب أن تظل معتمدة كذلك في وارداتها من النفظ والخامات على ما تصدره إليها هذه البلدان النائية.
وأما نتيجة هذا «النظام» فهي أن ألمانيا سوف تبقى معتمدة في سد حاجاتها الضرورية على استمرار تجارتها الخارجية عبر البحار، ولا يلحق ذلك أي أذى بها في وقت السلم، بينما يزيد في مقدار الصعوبات التي تصادفها في وقت الحرب زيادة كبيرة، فلا تقدم بسبب هذه الصعوبات المتوقعة على إشعال حرب ثانية.
بيد أنه لا مناص من أن يسفر تطبيق هذا «النظام» عن خفض مستوى المعيشة في ألمانيا. ولكنه لما كان من المتوقع أن تعنى ألمانيا بالزراعة عناية كبيرة، ويرسل العمال الألمان إلى بلادهم دفعات من أجور الخدمة التي يحصلون عليها في الخارج، ويسرح الجيش الألماني، ويعفى الألمان من نفقات جيوش الاحتلال في بلادهم، فإن من شأن ذلك جميعه أن يخفف كثيرا من وطأة هبوط مستوى المعيشة في ألمانيا، ولو أنه من الطبيعي أن يظل هذا الهبوط ملحوظا، ومع ذلك فهناك ما يمكن أن يجد فيه الشعب الألماني ما يعوضه شيئا كثيرا عما قد يلقاه من شظف العيش، وهو تيقنه من أن زعماءه لن يسمح لهم بأن يقذفوا بألمانيا في حرب جديدة وأن يستغلوا مواردها من أجل التسليح مرة ثانية. وقد لا يرضى عن هذا الحال جيل من الألمان نشأ على الاعتقاد بأن الجنس الجرماني له وحده حق السيادة على سائر الأجناس، ولكن على العالم أن يواجه أمرين لا ثالث لهما: إما خفض مستوى المعيشة في ألمانيا، وهو أمر لا مفر منه، وإما الاستهداف لحرب جديدة. ولذلك فإنه من خطل الرأي أن يعارض أحد فيما ينتظر من خفض مستوى المعيشة في ألمانيا لأسباب إنسانية، وكذلك من الخطأ معارضة ذلك بدعوى أن العالم سوف يخسر كثيرا إذا أضحى ثمانون مليونا من الجرمان يعيشون عيشة غير رخية إلى حد ما، ووجه الخطأ في مثل هذه الأقوال أن شيئا لا يمكن أن يعدل خطر تعرض العالم لأهوال الحرب مرة ثانية، بل إن الاهتمام بصون السلام يجب أن يلغي إلغاء جميع الاعتبارات الأخرى ولا يمكن - من غير شك - أن ينظر إنسان إلى هذا النظام المقترح على أنه من الحلول المثالية؛ لأنه من المتعذر الحصول على حلول مثالية، ولا يعيش البشر في عالم مثالي، وكل ما هنالك أن يختار الإنسان بين طائفتين من المزايا والأفكار. ومن شأن تطبيق «النظام الجديد» تطبيقا عكسيا، أو بعبارة أخرى العمل «بالنظام الجديد المعكوس» أن يقلل كثيرا من خطر نشوب حرب أخرى بفضل اتباع وسائل قد تبدو شاقة مرهقة إذا قيست بتلك التي أوجدتها معاهدة فرساي، ولو أنها من الناحية الإنسانية تفوق كثيرا ما كانت تتبعه ألمانيا.
ويتطلب تطبيق هذا «النظام الجديد المعكوس» وضع خطة محكمة للتنظيم الدولي، وفي كل دولة على حدة، أي إنه ينبغي استخدام العمال الألمان «المجندين» أو «المسخرين» للخدمة في أوروبا على نحو لا يسبب تعطلا عن العمل في البلدان التي تستخدمهم، فمن المعروف أن الحكومة الفرنسية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى رفضت أن يقوم العمال الألمان بإعادة بناء المنشآت في الجهات المخربة في فرنسا، بدعوى أن استخدامهم يضر بمصلحة العمال الفرنسيين ومصلحة الصناعات الفرنسية وهذا صحيح - ولا شك - إذا اتبع نظام «الباب المفتوح» الذي لا يقيد الهجرة من بلد إلى آخر، ولذلك سوف يجد العمال الفرنسيون، وتجد الصناعات الفرنسية عند وضع خطة التنظيم المحكم ما يستنفد كل الوقت في إنتاج السلع والبضائع التي تدعو الحاجة المستمرة إليها لسد المطالب اليومية والعادية، وينجم عن استخدام العمال الألمان لذلك عدم الحاجة إلى خفض مستوى المعيشة من أجل تيسير العمل في إعادة بناء الأملاك والمنشآت المخربة، وعلاوة على ذلك فإنه بعد أن يتم هذا العمل الإنشائي ينبغي أن يوجد هذا التنظيم مجالا دائما لاستخدام العمال الألمان دون أن يترتب على ذلك تعطل العمال الوطنيين في البلدان المختلفة. وهناك ما يدعو إلى احتمال زوال الحاجة إلى بقاء الرقابة الدائمة على الدول الجرمانية غير البروسيانية؛ إذ من المحتمل كثيرا أن تستقر الأمور في هذه الدول، فتقتصر عنايتها على النشاط السلمي، بينما يدرك أهلها أن في استطاعتهم - وقد نبذوا جانبا أطماعهم في غزو شعوب العالم وإخضاعها لسلطانهم - أن يبنوا لأنفسهم صرحا من الحياة المطمئنة الرضية، بل إنه ليكاد يكون أمرا مفروغا منه أن يؤدي إحكام رقابة الأمم المنتصرة على بروسيا إلى الحد من عجرفة البروسيين وكسر حدة أطماعهم الأشعبية. ومن المسلم به أن هذه العجرفة والأطماع البروسيانية كانت المسئولة عن ذلك التخريب الذي حدث بأوروبا وتلك الآلام التي ما زالت تقاسيها الإنسانية.
والواقع أنه إذا أدركت بروسيا أنه لم يعد في استطاعتها بعد هذه الهزيمة المنكرة أن تعود إلى التسلح مرة أخرى على نحو ما حدث بين عامي 1933-1939، فإن ذلك في حد ذاته قد يضعف كثيرا ذلك الروح الحربي الذي يميز بروسيا من غيرها، ولا يشجعه، وقد يأتي الوقت الذي يمكننا أن نرى فيه الأمة البروسيانية وقد اتخذت مكانها بين مجموعة الأمم الحرة في ظل المساواة الشاملة، مساهمة في تلك الجهود التي يجب أن يبذلها الجميع متضامنين من أجل رفاهية العالم وسعادة الإنسانية.
تلك حقيقة المشكلات التي يواجهها أقطاب الأمم المنتصرة بعد الحرب الأخيرة، وإنا لنرجو الله صادقين أن يوفقهم، وأن يستهدفوا رفاهية العالم وسعادة الإنسانية وهم يضعون شروط الصلح النهائية.
مصادر البحث
(أ)
عن الموقف السياسي في ألمانيا وأوروبا قبل ظهور النازية وفي عهدها. (ب)
عن ألمانيا والنازية. (ج)
عن النظام الجديد، والمشكلات التي ترتبت على تطبيقه. (د)
عن أوروبا المحتلة، والمقاومة. (ه)
عن أهداف الديمقراطيات المتحالفة ومشروعات السلام. (أ) (1)
Averoff, M. 3 Histoires d’une Resistance. Caire 1942. (2) ... La Lutte de la Grece, 28 oct 1940-30 Mai. 1941. Paris 1941. (3)
Bojanov, B. Avec Stalint dans le Kremlin. Paris 1930. (4)
Barbusse, H. Staline-Un Homme Nouveau. Paris 1935. (5)
Biglaud, E. The Riddle of the Kremlin. London 1940. (6)
Birdsall, B. Versailles Twenty Years After. London 1941 . (7)
Blue Book, The Govesnment-Documents Concerning German-Polish Relations and the Outbreak of Hostilities Between Great Britain and Germany on Sept. 3, 1939. London 1930. (8)
Bruce, M. British Foreign Policy. London 1939. (9)
Ciano, The Ciano Diaries 1939-1943, New York 1946. (10)
Citrine, Sir W. My Finnish Diary. London 1940. (11)
Clark. G. N. Holland and the War. Oxford 1941. (12) ... Belgium and the War. Oxford 1942. (13)
Duchess of Atholl. Searh Light on Spain. London 1938. (14)
Duff, Ch. A Key to Victory: Spain. London 1940. (15)
Duff, S. G. Europe and the Czechs. London 1938 . (16)
Dutt, R. P. World Politics 1918-1936. London 1936. (17)
Eastman, M. Stalin’s Russia and the Crisis in Socialism. London 1940. (18)
Fischer, L. Stalin and Hitler. London 1940. (19)
Franzero, C. M. Inside Italy. London 1941. (20)
Garrat G. T. Europe’s Dance of Death. London 1940. (21) ... Mussolini’s Roman Empire. London 1938. (22)
Gilbert, E. W. How the Map of Europe was Changed. 1938-1940 London 1940. (23)
Golding, C. From Versailles to Danzing. London 1940. (24)
Gunther, J. Inside Europe. London 1936. (25)
Johnson, H. The Soviet Power. New York 1940. (26)
Jackson J. H. Finland. London 1938. (27)
Jerrold, D. Britain and Europe 1900-1940. London 1941. (28)
Jones E. The Attack From Within. London 1941. (29)
Lévy, L. Vérités Sur La France. London 1941. (30)
Lippmann, W. U. S. Foreign Policy. London 1944. (31)
Massock, R. G. Italy From Within. London 1943. (32)
Melville, C. F, Balkan Racket. London 1941. (33)
Nicolson, H. Why Britain is at War. London 1940. (34)
Owen, F. The Three Dictators. London 1940. (35)
(36)
1941. (37)
1937. (38)
Salvemini and La Piana. What To Do With Italy. London 1943. (39)
S. K. Agent In Italy. London 1943. (40)
Sturmthal, A. The Tragedy of European Labour 1918-1939. London 1944. (41)
Theimer, W. An A B C of International Affairs. London 1940. (42)
Tissier, Lt. Col. Pierre. The Government of Vichy. London 1942. (43)
Treves, P. Italy Yesterday Today and Tomorrow London 1942. (44)
Ullmann, S. de. The Epic of the Finnish Nation. London 1944. (45)
Volpe, G. Histoire Du Mouvement Fascite. Roma (?) (46)
Ward, B. Italian Foreign Policy. Oxford 1941. (47)
Waterfield, G. What Happened to France. Londen 1941. (48)
Weaver, D. Front Page Europe. London 1943. (49)
Werner, M. The Battle For The World. London 1941. (50)
Woodward, E. L. The Origins of War, Oxford 1941. (51)
Zacharoff, L. “We made a mistake.” Hitler, London 1942. (ب) (52)
Banse, E. Germany, Prepare for War! (TranS. Alan Harris) London 1935. (53)
Bartlett, V Nazi Germany Explained. London 1933. (54)
Borkenau, F. The New German Empire. London 1938. (55) (a) Cooper R. W. The Nuremberg Trial. London 1947. (56)
Brinitzer, C. and Grossband, B. Germans Versus Huns. London 1941. (57)
Dalton, H. Hitler’s War: Before and After. London 1941. (58)
Dodds, E. R. Minds In The Making. London 1941. (59)
Duncan-Jones, A. S. The Crooked Cross. London 1940. (60)
Einzig, P. Bloodless Invasion. London 1938. (61)
Forster, E. M. Nordic Twilight London 1940. (62)
Fraenkel, N. The Other Germany. London 1943. (63) ... Help Us Germans To Beat The Nazis! London 1940. (64)
Gangulee, N. The Mind And Face of Nazi Germany. London 1942. (65)
Gibbs, Ph. European Journey ... London 1934. (66)
Giles, O. C. The Gestapo. Oxford 1940. (67)
Gregory, R. Science in Chains. London 1942. (68)
Heiden, K. History of National Socialism. London 1934. (69) ... Hitler. London 1936. (70) ... One Man Against Europe. London 1939. (71)
Hitler, A. My Struggle. London 1936. (72)
Keane, R. Germany What Next? London 1939. (73)
Kirpatrick, C. Nazi Germany. Its Woman And Family Life. London 1940 . (74)
Knickerbocker, H. R. Is Tommorrow Hitler’s. London 1942. (75)
Knox, R. Nazi And Nazarene. London 1940. (76)
Lend, E. Underground Struggle in Germany. London 1938. (77)
Lichtenberger, H. The Third Reich (Trans. Koppel S.
(78)
Lorant, S. I was Hitler’s Prisoner. London 1941. (79)
Lorimer, E. O. What Hitler Wants. London 1939. (80)
Moeller Van Den Bruck. German’s Third Empire (Trans. E. O. Lorimer). London 1934. (81)
Mower, E. Germany Puts The Clock Back. London 1938. (82)
Oliveira, A. R. A People’s History of Germany. London 1942. (83)
Rauschning. H. Hitler Speaks. London 1934. (84)
Read, D. The Burning of the Reichstag. London 1934. (85) ... Insanity Fair. London 1938. (86)
Roberts, S. The House that Hitler Built. London 1938. (87)
Schütz, W. W. German Home Front. London 1943. (88)
Smith, A. D. Guilty Germans? London 1942. (89)
Sington, D. and Weidenfeld, A. The Goebels Experiment. London 1942. (90)
Strasser, O. History In My Time. London 1941. (91)
Tabouis, G. Blackmail Or War. London 1938. (92)
Thomas, K. Women In Nazi Germany. London 1943. (93)
Thyssen, F. I paid Hitler. London 1947. (94) (a) Trevor-Oper, H. R. The last Days Of Hitler. London 1947. (95)
Weaver, D. The Diplomacy of the Third Reich. London (?) (96)
Wolfe, L. By Order of the Gestapo. London 1942. (97)
Zarek, O. German Kultur. London 1943. (ج) (98)
Angell, N. You And The Refuggee. London 1939. (99)
Beales, A. C. F. The Catholic Church And International Order. London 1941. (100)
Carr, E. H. Propaganda in International Politics. Oxford 1940. (101)
Chakotin, S. The Rape of the Masses. London 1940. (102)
Deuel, W. People Under Hitler. London 1942. (103)
Einzig, P. Hitler’s New Order in Europe. London 1941. (104) ... Europe in Chains. London 1941. (105)
Gentile, A-S. Le “Racisme” devant La Science. Caire 1942. (106)
Hadham, J. God in a World at War. London 1941. (107)
Harsch, J. C. Pattern of Conquest. London 1942. (108)
Hoden, M, A Diary of World Affairs. London 1941. (109)
Horsefield, J. K. The Real Cost of the War. London 1941. (110)
Huxley, J. Argument of Blood. London 1941. (111)
Kuczymski, R. R. “Lvüng-Space.” Oxford 1940. (112)
Lafitte, F. The Internment of Aliens. London 1940. (113)
Miller, D. You Can’t Do Business With Hitler. London 1942. (114)
1940. (115) ... An Enemy of the People: Antisemitism. London 1945. (116)
Rauschning, H. Hitler wants the World! London 1941. (117)
Reveille, Th. The Spoil of Europe. London 1942. (118)
Ruppin, A. The Jewish Fate and Future. London 1940. (119)
Samuel, M. The Great Hatred. London 1943. (120)
Simpson, J. H. The Refugee Question. London 1939 (121)
Slater, H. Home Guard for Victory. London 1941. (122)
Thomas, J. Warfare by Words. London 1942. (123)
Wilson, D. Germany’s “New Order,” Oxford 1941. (د) (124)
Amyntor. Victors in Chains-Greek Resistance 1942-3. London 1943. (125)
Anonymous, “All Gaul is Divided ...” Letters From Occupied France. London 1941. (126)
Brome, V. Europe’s Free-Press. London 1943. (127)
De Jong, L. Holland fights the Nazis. London 1941. (128)
Duff, S. G. A German Protectorate. The Czechs under Nazi Rule. London 1942. (129)
Dutch, O. Pall over Europe. London 1942. (130)
Europe Under Hitler. In Prospect and in Practice. Roy. Inst. Of Inter. Affairs Oxford 1941. (131)
Feuchtwanger, L. The Devil in France. London 1943. (132)
Gathorne Hardy, G. M. Norway and the War. London 1941. (133)
Gudme, S. Denmark: Hitler’s “Model Protectorate.” London 1942. (134)
Hasek, J. The Good Soldier Schweik. London 1940. (135)
Kernan, Th. Report on France. London 1942. (136)
Kraus, R. Europe in Revolt. London 1943. (137)
Mackworth, C. Czechoslovakia Fights Back. London 1942. (138) “Michael.” France Still Lives. London 1942 . (139)
Motz, R. Belgium Unvanquished. London 1942. (140)
Myklebost, T. They Came as Friends. (Nazi-Occupied Norway). London 1943. (141)
1942. (142)
1941. (143)
1941. (144)
Simon, V. The Gestapo at work in Norway. (Forward By ...) London 1942. (145)
Tayler, E. L. The Strategy of Terror. New York. 1940. (146)
Segal, S. Nazi Rule in Poland. London 1943. (147)
Sudjic, N. J. Yugoslavia in Arms. London 1942. (148)
Volterkis, A. In Gestapo Service. Cairo 1944. (149)
Woodman, D. Europe Rises. London 1943. (150)
Worm-Müller, J. C. Norway Revolts against the Nazis. London 1941. (ه) (151)
Acland, R. Uuser Kampf. (Our Struggle). London 1949. (152)
America Looks to the Future. (Four Speeches by American Statesmen). Oxford 1942. (153)
Angell, N. The Great Illusion Now. London 1939. (154) ... Why Freedom Matters. London 1940. (155)
Brailsford, H. N. America our Ally. London 1940. (156)
Dallin, D. J. Russia and Postwar Europe. New Haven 1943. (157)
Eiuzig, P. Appeasement Before, During, and After the War. London 1941. (158)
Evans. R. Prelude to Peace, London 1943. (159)
Glover, E. The Psychology of Fear and Courage. London 1941. (160)
Goodhart, A. Ouels Actes De Guerre Sont Justifiables? Oxford 1941. (161)
Hancock, W. K. Argument of Empire. London 1943. (162) ... Empire in the Changing world. London 1944. (163)
Joad, C. E. M. What is at stake, and why not say so? London 1940. (164)
Laski, H. J. Where do we go from here? London 1941. (165)
Milne, A. A. War with Honour. London 1940. (166)
Wells, H. G. The Common Sense of war and Peace. London 1940.
إسكندناوة وفنلندة ودول البلطيق.
تقسيم تشيكوسلوفاكيا.
خريطة فرنسا في يونية سنة 1940م
অজানা পৃষ্ঠা