ولكنك تستطيع أن تجزم كل الجزم أن الأمر كذلك في العقيدة والإيمان، فإن الذين يختبرون شعور الرسل والقديسين بإيمانهم لا بد أن يشعروا بذلك الإيمان كما شعر به الرسل والقديسون، وقد يعبرون عنه بأسلوب غير أسلوب العلماء في صوغ النظريات وتركيب المعادلات، فلا يدل ذلك على عجب، بل يدل على أمر مألوف معهود: وهو أن التعبير عن الوجدانيات غير التعبير عن المعقولات، وآية ذلك في مبتكرات الفنون، وفيما نراه كل يوم من أساليب الناس في التعبير عما يحسون.
فبهجة الربيعة ينعم بها الطائر والجواد والإنسان، فيرسلها الطائر تغريدا، ويطلقها الجواد صهيلا، وينظمها الإنسان قصيدا إن كان من الشعراء، وينحتها تمثالا إن كان من المثالين، ويرددها ألحانا إن كان من الموسيقيين، وينقلها إلى شخوص قصة إن كان من كتاب القصص والروايات، ويؤلف منها أسطورة إن كان ممن يتخيلون الأساطير، ولا نشك في وجود الشعر لاختلاف العبارات؛ لأن الشعور موجود لا شك فيه.
ويبلغ إنسانا ما يسره فيترجم عن سروره بتوزيع الصدقات وإطعام المساكين، ويبلغ غيره ذلك النبأ بعينه فيترجم عنه بوليمة يدعو إليها الأحباب والأصدقاء، ويبلغ آخرين فيعبرون عنه بالقصف واللهو أو بالراحة وإعفاء النفس من الأعمال أو بالصلاة والدعاء، وقد يتهلل الوجه وقد تسيل الدموع من العيون، ولا شك فيما يترجمون عنه، وإن كان لكل سرور ترجمان يوافق الإنسان.
فثقة البديهة لازمة في مقررات العلم فضلا عن مقررات الإيمان بالغيوب، ولزومها يقتضيه العقل ولا يعتمد على وحي البديهة وحده، أو على مجرد التسليم.
إن الكائن الذي يستحق الإيمان به هو الكائن المطلق الكمال، كما أسلفنا في ختام الكلام على خلاصة الفلسفة الوضعية، أي فلسفة أوجست كونت.
والكائن المطلق الكمال هو الكائن الذي لا يدخل في حدود العقول ولا يخضع لتجارب العلماء.
فما الذي يقضي به العقل في هذه المناقضة؟
إنه لا يقضي بأن يكون سبب الإيمان هو مبطل الإيمان؛ لأنه كلام لا يسيغه عقل ولا علم، ولكنه يقضي بما قضى به الواقع أيضا واتفق عليه المفهوم والمحسوس، وهو ألا نكتفي بالعقل وحده ولا بالعلم وحده في الإيمان بالكائن الذي يستحق الإيمان، وأن نعلم أن ثقة البديهة متمم لا غنى عنه لوظيفة العقل والعلم في معرفة الله، ولا عجب في ذلك، وهي مسألة أكبر من المسائل العقلية والمسائل العلمية؛ لأنها مسألة الوجود كله في جوهره وعرضه وفي ظاهره وخافيه، ومسألة العالم والمعلوم والعقل والمعقول.
وقد اختارت طائفة من العلماء المعاصرين موقفا غير هذا الموقف في مواجهة الغيب وتفسير العقيدة الإلهية، وكان أكثرهم من البيولوجيين الذين يقررون أن المادة تشتمل على خواص الحياة، وأنه لا حاجة إلى فرض قوة غير القوى المادية لتفسير نشأة الأحياء على الكرة الأرضية.
وكلامهم هذا لا قيمة له من العلم نفسه إلا في اليوم الذي يروننا فيه مكانا تنشأ فيه الحياة من الجماد كما نشأت في زعمهم قبل التطور الأخير، أو في اليوم الذي يروننا فيه مادة مخلوقة بأعين العلم تتحول إلى حياة، أو في اليوم الذي يحللون فيه خلية تلد إنسانا سويا فيصنعون خلية مثلها في مقاديرها تلد إنسانا يرث ما ينمو في الخلية الحية من خلائق الآباء والأجداد منذ آلاف السنين.
অজানা পৃষ্ঠা