وإنما يثبت وجود هذا الإله بعلامة في النفس الإنسانية لا يتأتى وجودها فيها بغير وجود إله، وتلك هي علامة الوازع الأخلاقي أو علامة الواجب أو علامة الضمير.
فمن أين استوجب الإنسان أن يدين نفسه بالحق كما نعرفه إن لم يكن في الكون قسطاس للحق يغرس في نفسه هذا الوجوب؟ ومن أين تقرر في طبع الإنسان أن الواجب الكريه لديه أولى به من إطاعة الهوى المحبب إليه، وإن لم يطلع أحد على دخيلة سره؟
المستضعفون لهذا البرهان يقولون: إنها العادة الاجتماعية رسخت في النفس حتى استحالت إلى رغبة مقبولة أو مطلب محبوب.
ولكنهم ينسون أن معرفة السبب لا تقضي بإبطال الغاية أو بفقدان الحكمة.
فنحن نعلم أن القطار يتحرك بغليان المرجل فيه، ونعلم أن المهندس قد مد قضبانه لأنه يكافأ على مدها بأجر يحتاج إليه، وأن نظار المحطات ييسرون حركة القطار لأنهم مجزيون على ذلك أو معاقبون على إهماله، ولكن ذلك كله لا يبطل الغاية ولا يقضي بمسير القطار لغير حكمة وقيام العمل كله بغير تدبير.
ثم ينسى المستضعفون لبرهان الضمير أن «العادة الاجتماعية» ليست بالتفسير الذي يعلل نشأتها وإنما هي تكرير للمشاهدة كما رأيناها، فإذا سألهم سائل: لماذا نشأت العادة الاجتماعية؟ قالوا للمصلحة الاجتماعية! ولكنهم لا يسألون أنفسهم: لماذا كانت المصلحة الاجتماعية أمرا مفروغا منه مقضيا بوقوعه، ولماذا تعلل المصلحة الاجتماعية نشوء العادة ولا تحتاج هي إلى تعليل؟
ولم يكن «عمانويل كانت» أول من قال بهذا البرهان بين الغربيين؛ لأن برهانه صورة مختصرة من برهان القديس توما الأكويني الذي يستدل به على وجود الله من آيات الخير ومحاسن الجمال في نفس الإنسان وفي مشاهد الطبيعة.
فنحن نفضل جميلا على جميل ومأثرة على مأثرة، ولا تتأتى لنا المفاضلة بينها بغير قسطاس شامل نرجع إليه في فهم الخير والجمال، وهذا القسطاس الشامل لا يكون فيما دون تلك الخيرات والمحاسن، بل فيما فوقها إلى مصدرها الأصيل، وهو الله.
ولا يتعين أن يكون كل شيء جميلا وكل شيء خيرا لنبحث عن ذلك القسطاس في العالم كله ، بل يكفي أن يكون في العالم خير وجمال ليبحث الذهن عن ذلك القسطاس ويقتضيه. •••
هذه هي زبدة البراهين الفلسفية العامة على وجود الله، ومن الحق أن نعيد هنا أن الإيمان الإلهي لا يقوم عليها وحدها في البصيرة الإنسانية، وأن قصاراها من الإقناع أنها أرجح وزنا من ردود المنكرين، ولا سيما المنكرين الذين في إنكارهم ادعاء وهجوم على الفروض بغير دليل، وبغير إيمان.
অজানা পৃষ্ঠা