وقد بادل يسوع أورشليم هذا الموقف العدائي: «أورشليم، أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها. كم مرة أردت أن أجمع أبناءك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم تريدوا. هو ذا بيتكم يترك لكم، وإني أقول لكم: لا تروني حتى يأتي يوم تقولون فيه: تبارك الآتي باسم الرب» (لوقا، 13: 34-35). «ليتك عرفت في هذا اليوم طريق السلام، ولكنه حجب عن عينيك. فسوف يأتي زمن يحيطك أعداؤك بالمتاريس ويحاصرونك، ويضيقون عليك الخناق من كل جهة ويدمرونك وأبناءك الذين هم فيك، ولا يتركون فيك حجرا على حجر، لأنك لم تعرفي الزمن الذي كنت فيه مفتقدة» (لوقا، 19: 41-44).
كل ذلك يقودنا على الاستنتاج بأن يسوع لم يفلح خلال حياته في خلق حركة دينية قوية لا في موطنه ولا في اليهودية. وحتى تلاميذه الاثنا عشر لم يستوعب جميعهم مغزى رسالته، وظهر أخيرا بينهم خائن أسلمه إلى أعدائه. وعندما ألقي القبض عليه انفضوا عنه وهربوا كل يطلب سلامة روحه، أما رئيسهم بطرس الذي كان موضع ثقة المعلم فقد أنكره ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك مرتين. وأثناء المحاكمة العلنية ليسوع كانوا في مخابئهم يتلقطون الأخبار من بعيد. وعندما علق معلمهم على الصليب لم يكن حاضرا واقعة الصلب منهم إلا النساء اللواتي تبعنه من الجليل وخدمنه بعرقهن وأموالهن، حتى بدا ليسوع أخيرا أن إلهه نفسه قد تخلى عنه أيضا عندما صاح: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني!»
وعلى الرغم من أن الأناجيل لا تسعفنا في معرفة العدد الدقيق لأتباع يسوع بين تلاميذ ورسل، إلا أن الوقائع تدل على أنهم لم يتجاوزوا بضع عشرات بين رجال ونساء. وهذا ما يثبته لنا سفر أعمال الرسل الذي يقول مؤلفه في وصفه للاجتماع الأول للتلاميذ بعد صعود معلمهم: «وفي تلك الأيام قام بطرس في الإخوة، وكان عدد المجتمعين يناهز مائة وعشرين ، فقال: أيها الإخوة ... إلخ» (أعمال، 1: 15-16). ولكن هذه القلة التي اجتمعت في غرفة علوية في أحد بيوت أورشليم، قد قيض لها بعد ذلك أن تغير تاريخ العالم، وتحمل تعاليم يسوع إلى أربعة أطراف الأرض. لقد أفلح يسوع ولكن ليس في حياته، وتحققت نبوءته القائلة: «سوف يأتي الناس من المشرق والمغرب، ومن الشمال والجنوب، فيجلسون على المائدة في ملكوت الله» (لوقا، 13: 29).
هل تنبأ بموته وقيامته؟
سيرة يسوع والنبوءات التوراتية
منذ الأشهر الأولى لكرازته، وبعد سماعه خبر مقتل يوحنا المعمدان، ابتدأ يسوع يتنبأ أمام تلامذته بأنه سوف يعاني آلاما شديدة في أورشليم ويقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم. وقد كانت النبوءة الأولى في مدينة قصيرية فيلبس بعد أن تعرف عليه بطرس على أنه المسيح: «فسأل في الطريق تلاميذه: من أنا على حد قول الناس؟ فأجابوه: يوحنا المعمدان وبعضهم يقول إيليا وآخرون أحد الأنبياء. فسألهم: ومن أنا على حد قولكم أنتم؟ فأجاب بطرس: أنت المسيح. فنهاهم أن يخبروا أحدا بأمره. ثم بدأ يعلمهم أن ابن الإنسان يجب عليه أن يعاني آلاما شديدة، وأن يرذله الشيوخ والأحبار والكتبة، وأن يقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم. وكان يقول هذا القول صراحة، فانفرد به بطرس وراح يعاتبه (وفي ترجمة أخرى ينتهره). فالتفت فرأى تلاميذه فزجر بطرس قائلا: اذهب عني يا شيطان، لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس» (مرقس، 8: 27-33). هذه القصة التي رواها مرقس تتكرر عند متى ولكن مع إضافة ثناء يسوع على بطرس بعد أن شهد أنه المسيح: «فأجابه يسوع: طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحما ودما لم يعلن لك لكن أبي الذي في السماوات. وأنا أقول لك أيضا: أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي ... إلخ» (متى، 16: 17-19). أما لوقا فقد حذف ما أورده متى من ثناء يسوع على بطرس، كما حذف أيضا ما أورده متى ومرقس من معاتبة بطرس ليسوع على ما سمعه منه وزجر يسوع له: «واتفق أنه كان يصلي في عزلة والتلاميذ معه، فسألهم: من أنا على حد قول الجموع؟ فأجابوه: يوحنا المعمدان، وبعضهم يقول إيليا، وآخرون نبي من الأولين قام. فقال لهم: ومن أنا على حد قولكم أنتم؟ فأجاب بطرس: مسيح الله. فنهاهم بشدة أن يخبروا أحدا بذلك. وقال: يجب على ابن الإنسان أن يعاني آلاما شديدة وأن يرذله الشيوخ والأحبار والكتبة، وأن يقتل وفي اليوم الثالث يقوم» (لوقا، 9: 18-22).
في هذه القصة برواياتها الثلاث يتنبأ يسوع بموته وقيامته، ولكنه يتردد في قبول لقب المسيح لما لهذا اللقب من تداعيات سياسية في ذلك الزمن المشحون بتوقعات ظهور المسيح السياسي، ملك اليهود، الذي يعيد الملك إلى إسرائيل ويحرر الشعب من نير الحكم الروماني. وفي الحقيقة فإننا لن نعرف قط ما إذا كان يسوع قد قبل لقب المسيح. فالشهادات الإنجيلية متضاربة بهذا الخصوص ولا نستطيع الركون إلى واحدة منها في مقابل الأخرى، كما أن إجابات يسوع على أسئلة قضاته خلال المحاكمة عما إذا كان المسيح أو ملك اليهود أو ابن الله، كانت غامضة وملتوية ولا تقطع بشيء. وعلى الرغم من أن يسوع كان مدركا للدور الموكل إليه من العناية الإلهية، إلا أنه كان مدركا في الوقت نفسه أن دوره هذا لا علاقة له بالهموم السياسية والنزعات القومية لليهود. وقد أوضح تدريجيا لتلامذته مفهومه الخاص عن ملكوت الله وميزه بحدة عن مفهوم ملكوت يهوه الذي كان اليهود يتطلعون إليه. فملكوت الله هو ملكوت روحاني يجمع جميع الأمم والشعوب إلى بعضهم وإلى خالقهم، بعد عصور الظلام التي باعدت بينهم، عصر تتم فيه معرفة الآب، أبي البشر الذي لم يعرفه اليهود قط. في هذا الملكوت الذي افتتحه يسوع، يعقد الله صلحا مع البشرية ويمد لها يد الخلاص من الخطيئة الأولى ومن الموت، ومن سلطان أمير الظلام الذي كان سيد هذا العالم قبل البشارة، ويعقد معها عهدا جديدا هو عهد الله مع الإنسانية يحل محل عهد يهوه مع شعب إسرائيل. ولهذا قال يسوع عندما قدم نفسه لأول مرة في مجمع الناصرة: «روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية» (لوقا، 4: 18). فإذا كان يسوع قد قبل لقب المسيح، فبهذا المعنى قبله لا بأي معنى آخر.
بعد ذلك يكرر يسوع عبر مسيرته التبشيرية النبوءة نفسها وصولا إلى الأسبوع الأخير من حياته: «فسأله التلاميذ: فلماذا يقول الكتبة: إنه يجب أن يأتي إيليا أولا؟ فأجابهم: يجب أن يأتي إيليا أولا ويصلح كل شيء. ولكن أقول لكم: إن إيليا قد أتى فلم يعرفوه وفعلوا به ما أرادوا. وكذلك ابن الإنسان سيلقى منهم الآلام. ففهم التلاميذ أنه عنى بكلامه يوحنا المعمدان» (متى، 17: 10-13). «ومضوا من هناك ومروا بالجليل، ولم يرد أن يعلم به أحد، لأنه كان يعلم تلاميذه فيقول لهم: إن ابن الإنسان سيسلم إلى أيدي الناس فيقتلونه، وبعد قتله بثلاثة أيام يقوم، فلم يفهموا هذا الكلام، وهابوا أن يسألوه» (مرقس، 9: 30-32). ومن الغريب هنا ألا يفهم تلاميذه قوله هذا على الرغم مما حدث بينه وبين بطرس من مشادة كلامية أمامهم بعد أن تنبأ بموته في المرة الأولى (مرقس، 8: 27-30). وربما هذا ما حدا بمتى إلى إدخال بعض التعديل على رواية مرقس؛ حيث قال: «فحزنوا حزنا شديدا» (متى، 17: 22-23) بدل «فلم يفهموا هذا القول وهابوا أن يسألوه» أما لوقا فقد حافظ على رواية مرقس دون تغيير (لوقا، 9: 44-45). «ودنا حينئذ بعض الفريسيين فقالوا له: اذهب من هنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك. فقال لهم: اذهبوا فقولوا لهذا الثعلب: إني أطرد الشياطين وأجري الشفاء اليوم وغدا، وفي اليوم الثالث يتم بي كل شيء. فعلي أن أسير اليوم وغدا والذي بعدهما، لأنه لا ينبغي لنبي أن يهلك خارج أورشليم» (لوقا، 13: 31-33). «وكانوا سائرين في الطريق صعودا إلى أورشليم ... فخلا بالاثني عشر مرة أخرى وأخذ ينبئهم بما سيحدث له قائلا: إنا لصاعدون إلى أورشليم، وسيسلم ابن الإنسان إلى الأحبار والكتبة فيحكمون عليه بالموت ويسلمونه إلى الوثنيين فيسخرون منه ويبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه، وبعد ثلاثة أيام يقوم» (مرقس، 10: 32-34. قارن مع متى، 20: 17-19؛ ولوقا، 18: 31-34).
وعلى مائدة العشاء الأخير قال لتلاميذه: «سوف تشكون في بأجمعكم هذه الليلة. فقد كتب: سأضرب الراعي فتتبدد الخراف. ولكن بعد قيامتي أسبقكم إلى الجليل. فقال له بطرس: لو شكوا بأجمعهم فأنا لا أشك. فقال له يسوع: الحق أقول لك: اليوم في هذه الليلة قبل أن يصبح الديك مرتين سوف تنكرني ثلاث مرات» (مرقس، 14: 27-30. قارن مع متى، 26: 31-34؛ ولوقا، 22: 31-34).
في إنجيل يوحنا يشير يسوع إلى موته القريب ولكن بشكل أكثر إلغازا. فقد قال لليهود في إحدى مجادلاته معهم: «أنا باق معكم زمنا قليلا ثم أذهب إلى الذي أرسلني، ستطلبوني فلا تجدوني، وحيث أكون أنا لا تستطيعون أن تجيئوا أنتم» (يوحنا، 7: 33-34). وقال: «اليوم دينونة هذا العالم، اليوم يطرح سيد هذا العالم خارجا وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع. قال هذا مشيرا إلى أية ميتة كان مزمعا أن يموت» (يوحنا، 12: 31-33).
অজানা পৃষ্ঠা