ومن الجدير بالذكر أن بولس لم يذكر في رسائله شيئا عن مكان مولده ولا عن مواطنيته الرومانية، وهذا أمر مستغرب نظرا لما لعبه هذان العنصران من أهمية في سيرة بولس كما رواها سفر أعمال الرسل. أما الاسم الذي أطلقه على نفسه فكان على الدوام بولس، على الرغم من أن مؤلف سفر أعمال الرسل قد دعاه أيضا بالاسم اليهودي شاؤل. ويبدو أن اسم مولده كان شاؤل ولكنه تكنى بالاسم بولس بعد تحوله إلى المسيحية، أو أنه حمل منذ البداية اسمين على عادة اليهود اليونانيين الذين كانوا يطلقون على أبنائهم اسما يهوديا وآخر يونانيا. كانت اليونانية لغته الأم، لكنه كان متضلعا بالآرامية التي كانت لغة اليهود في تلك الأيام. ووفق شهادة سفر أعمال الرسل، فقد جاء بولس إلى أورشليم ودرس فيها علوم الدين على الطريقة الفريسية على يد واحد من أعلم معلميها وهو جملائيل. يقول عن نفسه في الرسالة إلى أهالي روما: «أنا إسرائيلي من ذرية إبراهيم وسبط بنيامين» (روما، 11: 1). ويقول في سفر أعمال الرسل: «أنا رجل يهودي ولدت في طرسوس من كيليكية. على أني نشأت في هذه المدينة (= أورشليم) وتلقيت عند قدمي جملائيل تربية صالحة موافقة كل الموافقة لشريعة الآباء» (أعمال، 22: 1-3). ولكن صمت بولس في رسائله عن ذكر تلقيه العلم على يد هذا المعلم الفريسي، يضع إشارة استفهام حول مصداقية هذه المعلومة، لأنها لو كانت صحيحة لما تردد بولس في ذكرها في سياق جدالاته مع السلطات الدينية الأورشليمية. ومع ذلك فإن خلفية بولس الفريسية تنبئ عن نفسها في العديد من أفكاره لا سيما إيمانه بقيامة الموتى، وهي عقيدة غريبة عن الفكر التوراتي. فعندما مثل للمحاكمة أمام المجلس اليهودي ، وكان يعلم أن فريقا منهم صدوقي لا يؤمن بقيامة الموتى وفريقا فريسي، حاول استمالة الفريسيين إلى جانبه وصاح في المجلس: «أيها الإخوة، أنا فريسي ابن فريسي، وإنما أحاكم لأني أرجو قيامة الأموات. فما قال ذلك حتى وقع الخلاف بين الفريسيين والصدوقيين وانشقت عصا المجلس» (أعمال، 23: 1-8).
ويبدو أن بولس ابتدأ حياته العامة عندما التحق بسلك حرس الهيكل. وهذا ما يفسر تواجده في الساحة التي رجم فيها استيفانوس حتى الموت، حيث راح يحرس الثياب التي خلعها الجلادون. وبعد ذلك شارك في الحملة الواسعة التي شنتها سلطات الهيكل على المسيحيين. وعلى حد وصف سفر أعمال الرسل: «وكان شاؤل موافقا على قتله (= استيفانوس). ووقع يومئذ اضطهاد شديد على كنيسة أورشليم فتشتت أبناؤها أجمع ... أما شاؤل فكان يعيث في الكنيسة فسادا، يذهب من بيت إلى بيت فيخرج الرجال والنساء ويلقيهم في السجن» (أعمال، 1: 8-3). ويشير بولس في رسائله إلى هذه الفترة من حياته، فيقول: «قد سمعتم بسيرتي الماضية في ملة اليهود، وكيف كنت أضطهد كنيسة الله غاية الاضطهاد وأحاول تدميرها، وأتقدم أكثر أترابي من بني قومي في ملة اليهود وأفوقهم حمية على سنن آبائي» (غلاطية، 1: 11-14).
هذه الحمية التي أبداها بولس في عمله هي التي دفعت رئيس الكهنة إلى تكليفه بمهمة التوجه إلى دمشق من أجل تطهير الكنيس اليهودي فيها من أتباع يسوع وسوقهم موثقين إلى أورشليم (أعمال، 9: 1-2). وقبل وصوله إلى دمشق حصلت له تلك الرؤيا الحاسمة التي حولته من مضطهد للكنيسة إلى أكثر دعاتها حماسة. أما ما حدث بعد ذلك، فإن رواية سفر أعمال الرسل تناقض رواية بولس نفسه التي أشرنا إليها سابقا (أي توجهه إلى بلاد العرب لا إلى أورشليم بعد اهتدائه). فبولس وفق سفر الأعمال، بعد أن استرد بصره وتعمد: «لبث مع التلاميذ بضعة أيام ثم أخذ من ساعته ينادي في المجامع بأن يسوع هو ابن الله. فكان كل من يسمعه يدهش ويقول: أليس هذا الذي كان في أورشليم يطارد من يدعو بذلك الاسم؟ أما جاء إلى هنا ليسوقهم موثقين إلى الكهنة؟ على أن شاؤل كان يزداد قوة ويفحم اليهود المقيمين في دمشق مبينا أن يسوع هو المسيح. وما هي إلا مدة من الزمن حتى طفق اليهود يأتمرون به ليهلكوه، فانتهى خبر ائتمارهم إلى شاؤل. فكانوا يراقبون الأبواب ليل نهار ليوقعوا به، فسار به التلاميذ ليلا ودلوه من السور في سلة. ولما وصل إلى أورشليم حاول أن ينضم إلى الرسل، فكانوا يخشونه غير مصدقين أنه تلميذ. فسار به برنابا إلى الرسل وروى لهم كيف رأى الرب في الطريق وكلمه الرب، وكيف بشر رابط الجأش باسم يسوع في دمشق، فأخذ يذهب ويجيء معهم في أورشليم يبشر باسم الرب. وكان يخاطب اليهود أيضا ويجادلهم، فجعلوا يأتمرون به ليقتلوه، فشعر الإخوة بذلك فمضوا به إلى قيصرية، ثم رحلوه منها إلى طرسوس» (أعمال، 9: 20-30).
مثل هذه التناقضات في سيرة بولس بين ما يورده سفر أعمال الرسل وما يرد في رسائل بولس، ينبغي في رأيي حلها بترجيح نص الرسائل على نص سفر الأعمال، وذلك لسببين؛ الأول هو أن بولس نفسه هو من يتحدث في الرسائل، وهو الأدرى بسيرته الشخصية من مؤلف سفر أعمال الرسل. والثاني أن الرسائل أسبق تدوينا وتداولا من سفر الأعمال، فقد دونت الرسائل الأولى في مطلع خمسينيات القرن الأول والأخيرة في أواسط الستينيات. أما سفر أعمال الرسل فلم يدون إلا في أواخر القرن الأول.
عانى بولس طيلة حياته من علة جسدية لا ندري طبيعتها، أشار إليها بوصفها شوكة في جسده، وكأنها رسول الشيطان الذي وكل إليه أن يلطمه لئلا يتكبر (2 كورنثة: 7). وقد اختلف الباحثون في طبيعة هذه العلة، فقال البعض إنها الصرع الذي كان يسبب له هذيانات ورؤى، وقال البعض الآخر إنها الملاريا، وفريق ثالث إنها حالات من العمى المؤقت الناتج عن أسباب نفسانية. ولكن هذه العلة لم تكن عائقا له لا في نشاطه التبشيري ولا في مهنته التي كان يتكسب منها وهي صناعة الخيام (أعمال، 18: 3)، التي ظل يمارسها ويكسب عيشه منها رافضا الاتكاء على صدقات أعضاء كنائسه، على الرغم من أن يسوع قد أباح للذين يعلنون البشارة أن ينالوا رزقهم من البشارة (متى، 10: 10). وهو يقول في ذلك: «أما تعلمون أن خدم الهيكل رزقهم من أرزاق الهيكل، والذين يخدمون المذبح يأخذون نصيبهم من المذبح؟ وهكذا قضى الله للذين يعلنون البشارة أن ينالوا رزقهم من البشارة. أما أنا فلم أستعمل أي حق من هذه الحقوق» (1 كورنثة، 9: 12-15).
أمضى بولس نحو عشرين سنة في تأسيس الكنائس في سوريا وآسيا الصغرى واليونان. وفي كل مكان ذهب إليه كانت الجاليات اليهودية فيه تشغب عليه وتحاول قتله. ففي لسترة جنوب آسيا الصغرى ألبت الجموع اليهودية الناس عليه ورجموه حتى ظنوا أنه قد مات فتركوه، فخف إليه تلاميذه وأسعفوه (أعمال، 14: 19-20). وفي آخائية بأرض اليونان ثار اليهود عليه وجروه إلى غاليون حاكم المدينة وقالوا: إن هذا الرجل يحاول إقناع الناس بأن يعبدوا الله عبادة تخالف الشريعة. فقال غاليون لليهود: أيها اليهود، لو كانت المسألة مسألة جرم أو ذنب لسمعت شكواكم كما يقضي الحق، فأما أن يكون الجدل في الألفاظ والأسماء وفي شريعتكم فانظروا أنتم في الأمر. ثم طردهم من المحكمة (أعمال، 18: 12-17).
وأخيرا انتهت حياة بولس التبشيرية على يد يهود أورشليم. فقد جاء بولس إلى أورشليم نحو عام 58م، في زيارته الثالثة والأخيرة إليها ليحمل إلى المسيحيين الذي فيها هبات إخوانهم من آسيا. فرآه بعض اليهود في الهيكل وعرفوه، فصاحوا: النجدة يا بني إسرائيل، هذا هو الرجل الذي يعلم تعليما ينال به شعبنا وشريعتنا وهذا الهيكل. فتجمع الناس على بولس وجروه إلى الخارج وانهالوا عليه بالضرب المبرح محاولين قتله، فأنقذه الجنود الرومان من أيديهم وسلموه إلى قائدهم الذي ساقه إلى القلعة وكان الجمع وراءه يصيح: «اقتله، اقتله»، مثلما صاح في وجه بيلاطس أثناء محاكمته ليسوع. وفي الغد أحال القائد بولس إلى المجلس اليهودي ومثل بولس أمامه. ولكن المجلس لم يتوصل إلى قرار بشأنه بعد أن وقع الخلاف بين الفريسيين والصدوقيين، فأعاده القائد إلى القلعة. ثم إن أخبارا وصلته بأن مجموعة من اليهود أخذوا عهدا على أنفسهم بالامتناع عن الطعام والشراب حتى يقتلوا بولس. فأرسله القائد تحت حماية مشددة إلى مقر الوالي الروماني فيليكس في قيصرية، فاستدعى الوالي متهمي بولس إلى محكمة عقدها بعد خمسة أيام، فجاء رئيس الكهنة وبعض الشيوخ معه واتهموا بولس بأنه يثير الفتن بين اليهود في كل مكان. ولكن بولس دافع عن نفسه وأقنع الوالي ببراءته، ولكنه احتفظ به مع ذلك في السجن سنتين.
ثم إن فيليكس أقيل من منصبه وخلفه فسطس، فعرض عليه الكهنة دعواهم على بولس طالبين منه تسليمه إلى محكمتهم، وأقاموا له كمينا في الطريق ليغتالوه. فأراد فسطس أن يرضي اليهود، فقال لبولس: أتريد أن تصعد إلى أورشليم حيث تحاكم بحضوري؟ فأجابه بولس: ما من أحد يحق له أن يسلمني إليهم (لأنه مواطن روماني) إني أرفع دعواي إلى قيصر. فقال له فسطس: رفعت دعواك إلى قيصر، فإلى قيصر تذهب. وهكذا أرسل بولس إلى روما حيث لبث هناك سنتين في السجن ينتظر محكمة قيصر. وهنا، ونحو عام 63م، تنتهي رواية سفر أعمال الرسل دون أن نعرف المصير الذي آل إليه بولس (أعمال، 21-28).
وهنالك موروثات مسيحية متضاربة عن مصير بولس. فالبعض يقول بأنه أطلق من السجن وسافر إلى إسبانيا، وآخرون بأنه أعدم عام 64م إبان حملة الاضطهاد التي شنها نيرون على المسيحيين عقب حريق روما المشهور. وآخرون بأنه اعتقل ثانية بعد إطلاق سراحه وأعدم نحو عام 67 أو 68م. ولكن أيا من هذه الأخبار لا تجد لها سندا لا من العهد الجديد ولا من الوثائق التاريخية.
أضواء على لاهوت بولس
অজানা পৃষ্ঠা