ولكن لماذا كان على يسوع أن يعتقل بخيانة من أحد تلاميذه؟ ولماذا كان على عملية الاعتقال أن تجري سرا وفي الليل في هذا المكان المنعزل؟ ألم يكن من الممكن اعتقاله وهو يعلم في الهيكل نهارا ودون الحاجة إلى خائن من جماعته يدل عليه وعلى مكان تواجده ليلا؟ إن الجواب التقليدي على هذه الأسئلة يذهب إلى أن سلطة الهيكل كانت تخشى من وضع يدها عليه نهارا وعلى مرأى من الناس، منعا لحدوث شغب وتمرد بين صفوف الشعب. وهذا التفسير يجد سندا له فيما ورد في إنجيل مرقس: «وكان وقوع الفصح والفطير بعد يومين، وكان الأحبار يلتمسون حيلة يمسكونه بها فيقتلونه، لأنهم قالوا لا نفعل ذلك في العيد مخافة حدوث شغب في الشعب» (مرقس، 14: 1-2). وأيضا: «فسمع الأحبار والكتبة فجعلوا يبحثون كيف يهلكونه. وكانوا يخافون من ذلك لأن الجمع كان معجبا بتعليمه» (مرقس، 11: 18).
والحقيقة التي بيناها في أكثر من بحث سابق هي أن يسوع خلال زياراته السابقة لأورشليم، وفي هذه الزيارة الأخيرة، لم يفلح في استمالة عدد كبير من يهود أورشليم. وقد لخص إنجيل يوحنا موقف اليهود منه بالكلمات التالية: «أتاهم يسوع بجميع هذه الآيات فلم يؤمنوا به، ليتم ما قال النبي إشعيا: رب، من الذي آمن بكلامنا، ولمن ظهرت يد الرب» (يوحنا، 12: 37-38). أما عن «الجمع الذي كان معجبا بتعليم يسوع» وفق نص مرقس، فقد وصفهم إنجيل يوحنا بالنفاق؛ حيث قال في سياق وصفه لزيارة سابقة ليسوع: «ولما كان في أورشليم مدة الفصح، آمن باسمه كثير من الناس لما رأوا من الآيات التي يأتي بها. على أن يسوع لم يطمئن إليهم لأنه كان يعرفهم كلهم ولا يحتاج إلى من يخبره عن أحد، فقد كان يعلم ما في الإنسان» (يوحنا، 2: 23-25). يضاف إلى ذلك أن الإعجاب بالتعليم شيء، ووصول هذا الإعجاب حد التمرد والشغب والفتنة شيء آخر. ولو أن الشعب كان مستعدا للشغب من أجل اعتقال يسوع، لكان شغبه أشد من أجل صلبه. ولكن شيئا من هذا لم يحدث بل على العكس، فقد كان حشد اليهود المجتمع أمام قصر بيلاطس يهتف: «اقتله، اقتله، اصلبه» (يوحنا، 19: 15). و: «اقتل هذا وأطلق لنا براباس» (لوقا، 23: 18). و: «دمه علينا وعلى أولادنا» (متى، 27: 25).
بعد القبض على يسوع ساقوه إلى قيافا رئيس الكهنة، وكان الوقت بعد منتصف الليل وقد تفرق الرسل كل يطلب نجاته، عدا بطرس الذي تبع يسوع على ما يرويه مرقس: «فذهبوا بيسوع إلى رئيس الكهنة، فاجتمع الأحبار والشيوخ والكتبة كلهم. وتبعه بطرس عن بعد إلى دار رئيس الكهنة وقعد مع الحرس يستدفئ عند النار ... وبينما بطرس في الساحة السفلي من الدار، جاءت جارية من جواري رئيس الكهنة فتفرست فيه وقالت: أنت كنت مع الناصري مع يسوع. فأنكر قائلا: لا أدري ولا أفهم ما تقولين. ثم انسل خارجا إلى الدهليز، فصاح الديك. فرأته الجارية وأخذت تقول للحاضرين : إن هذا منهم، فأنكر أيضا. وبعد قليل قال الحاضرون لبطرس: حقا أنت منهم لأنك جليلي أيضا ولغتك تشبه لغتهم. فأخذ يلعن ويحلف إني لا أعرف الرجل الذي تقولون عنه. فصاح الديك مرة ثانية. فتذكر بطرس قول يسوع: قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات. وأخذ يبكي» (مرقس، 14: 53-72).
هذه القصة تتكرر بحذافيرها لدى كل من متى ولوقا، وهي تحتوي على مشكلتين؛ الأولى تتعلق بكيفية تعرف الجارية (أو الجاريتين على التوالي وفق رواية متى) على بطرس مع أنها لم تره من قبل ولم تكن مع الفريق الذي خرج للقبض على يسوع؟ والثانية تتعلق بكيفية دخول بطرس إلى بيت رئيس الكهنة، الذي يمثل السلطة المدنية العليا في أورشليم ومن المفترض ألا يدخل أحد بيته الذي هو مقره الإداري إلا وفق إجراءات خاصة. هاتان المشكلتان تحلهما رواية إنجيل يوحنا التي تبدو أقرب إلى الواقع. فقد تعرف على بطرس شخص كان من مجموعة القبض على يسوع. وبطرس دخل إلى بيت رئيس الكهنة بعد أن توسط له التلميذ المحبوب الذي كان مع الاثني عشر في بستان جتسماني، والذي تجاهل التقليد المرقسي على عادته وجوده. وقد كان هذا التلميذ الأورشليمي معروفا لدى رئيس الكهنة وتربطه معه أواصر صداقة عائلية قديمة، على ما أوضحنا في بحثنا السابق عن مشكلة إنجيل يوحنا. نقرأ عند يوحنا: «فقبض الجند والقائد وحرس اليهود على يسوع وأوثقوه، ومضوا به إلى دار حنان وهو حمو قيافا رئيس الكهنة في تلك السنة ... وتبع يسوع سمعان بطرس وتلميذ آخر كان معروفا عند رئيس الكهنة، فدخل دار رئيس الكهنة مع يسوع، أما بطرس فوقف عند الباب خارجا. فخرج التلميذ الآخر الذي كان معروفا عند رئيس الكهنة وكلم البوابة فأدخل بطرس. فقالت البوابة لبطرس: ألست أنت أيضا من تلاميذ هذا الرجل؟ فأجابها: لست منهم. فقال واحد من عبيد رئيس الكهنة وكان نسيبا للرجل الذي قطع بطرس أذنه: أما رأيتك معه في البستان؟ فأنكر بطرس أيضا. وعندئذ صاح الديك» (يوحنا، 18: 12-27).
يقدم يوحنا في هذه الرواية عنصرا مفقودا في بقية الروايات، وهو سوق يسوع أولا إلى دار حنان حمي قيافا رئيس الكهنة في تلك السنة. وعلى ما سنرى بعد قليل فإن مؤلف الإنجيل يطلق لقب رئيس الكهنة أيضا على حنان ويجعله يقوم بالاستجواب الأولي ليسوع قبل إرساله إلى قيافا. فمن هو حنان هذا؟ وهل كان هنالك رئيسان للكهنة لا رئيس واحد؟
كان حنان ينتمي إلى أسرة كهنوتية هي الأكثر قوة وثروة في ذلك الوقت، وذلك من خلال سيطرتها على التجارة وعمليات الصرافة التي كانت تجري في فناء الهيكل. وقد شغل منصب رئيس الكهنة منذ عام 6م إلى عام 15م عندما عزلته السطلة الرومانية وعينت بدلا عنه زوج ابنته قيافا الذي استمر في منصبه حتى عام 36م، ولكن تحت إشراف وتوجيه حنان الذي فقد سلطته الرسمية ولكن لم يفقد سلطته الفعلية التي كان يمارسها من خلال زوج ابنته الدمية قيافا، وظل يحتفظ بلقب رئيس الكهنة ويمارس الاحتكار على التجارة المرتبطة بخدمات المعبد. ولذلك فقد قرنه مؤلف إنجيل لوقا بقيافا عندما وصفهما معا برئيسي الكهنة أيام يسوع؛ حيث قال في مطلع حديثه عن ظهور يوحنا المعمدان: «وفي الخامسة عشرة من ملك القيصر طيباريوس؛ إذ كان بيلاطس البنطي واليا على اليهودية، وهيرودس أمير الربع في الجليل ... وحنان وقيافا رئيسي الكهنة، كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية» (لوقا، 3: 1-2). وقد شغل خمسة من أولاد حنان منصب رئيس الكهنة بعد قيافا، كان آخرهم حنان الثاني الذي يروي لنا المؤرخ اليهودي يوسيفوس أنه دعا لاجتماع غير قانوني للسنهدرين عام 62م مستغلا فرصة انتهاء ولاية الحاكم الروماني لليهودية الذي سافر قبل وصول الحاكم الجديد الذي كان عليه أن يعطي الموافقة على مثل هذا الاجتماع، وجعل السنهدرين ينطق بحكم الإعدام بحق يعقوب أخي يسوع بتهمة تجاهل الشريعة اليهودية، الأمر الذي أدى إلى عزله من منصبه. وفي الحقيقة، فقد كان حنان على ما يبدو هو الداعي الأول لاعتقال يسوع والمستفيد الأساسي من موته، بسبب تهديد يسوع لمصالح أسرته عندما أظهر للناس عدم شرعية تجارة الهيكل التي تحتكرها هذه الأسرة. ووفق رواية يوحنا فإن حنان هو الذي قام بالاستجواب المبدئي ليسوع، ثم أرسل به إلى قيافا الذي اقتصرت مهمته على رفع قضية يسوع رسميا إلى الوالي بيلاطس البنطي، على ما سنرى في البحث التالي.
محاكمة يسوع
مرت محاكمة يسوع بمرحلتين، المرحلة الأولى في بيت رئيس الكهنة وكان الهدف منها جمع الشهادات ضد يسوع من أجل تقديمه إلى الوالي الروماني بيلاطس بتهمة التحريض السياسي ضد روما، والمرحلة الثانية في قصر بيلاطس الذي تولى بنفسه إجراءات المحاكمة.
إن كل ما وصل إلى يدي مما كتبه الباحثون المحدثون في العهد الجديد عن محاكمة يسوع، يركز على ما ورد في التقليد المرقسي ولا يعير اهتماما لما ورد في إنجيل يوحنا. فيسوع قد اعترف أمام قضاته أخيرا بأنه المسيح وبأنه ابن الله، وملك اليهود، وحكم عليه بالموت لما تثيره هذه الألقاب من تداعيات سياسية في ذلك الوقت. ولكن أجوبة يسوع على قضاته في التقليد المرقسي ليست على هذه الدرجة من المباشرة والوضوح، على ما تبينه المقتبسات التالية: (1) في بيت رئيس الكهنة
مرقس «فذهبوا بيسوع إلى رئيس الكهنة. فاجتمع الأحبار والشيوخ والكتبة كلهم. وكان الأحبار والمجلس (= السنهدرين) كافة يطلبون شهادة على يسوع ليقتلوه فلم يجدوا. ذلك بأن أناسا كثيرين كانوا يشهدون عليه زورا فلا تتفق شهاداتهم. فقام بعضهم وشهدوا عليه زورا وقالوا: قد سمعناه يقول: سأنقض هذا الهيكل الذي صنعته الأيدي وأبني في ثلاثة أيام هيكلا لم تصنعه الأيدي. وهذا أيضا لم تتفق عليه شهاداتهم ... فقام رئيس الكهنة في وسط المجلس وسأل يسوع: أما تجيب بشيء؟ ما هذا الذي يشهد به هؤلاء عليك؟ فظل صامتا ولم يجب بشيء. فسأله أيضا رئيس الكهنة: أأنت المسيح ابن المبارك؟ فقال يسوع: أنا هو. وسترون ابن الإنسان جالسا عن يمين قدرة الله وآتيا على غمام السماء. فشق رئيس الكهنة ثيابه وقال: ما حاجتنا بعد إلى شهود وقد سمعتم التجديف؟ ما رأيكم؟ فأجمعوا على الحكم بأنه يستوجب الموت. وأخذ بعضهم يبصقون عليه ويغطون وجهه ويلكمونه ويقولون له: تنبأ. وكان الحرس يلطمونه» (مرقس ، 14: 53-65).
অজানা পৃষ্ঠা