بعد أن أفصح مؤلف إنجيل يوحنا عن اسم التلميذ الآخر الذي أغفل ذكر اسمه في رواية دعوة التلاميذ، وعرفنا أنه لعازر الذي أحبه يسوع، يعود إلى ذكره في قصة العشاء الأخير تحت لقب «التلميذ الذي أحبه يسوع». فأثناء العشاء قال يسوع لتلاميذه: «الحق، الحق أقول لكم إن واحدا منكم سيسلمني. فكان التلاميذ ينظرون إلى بعضهم بعضا وهم محتارون فيمن قال عنه. وكان أحد التلاميذ متكئا على حضن يسوع وهو الذي كان يسوع يحبه. فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه. فاتكأ على صدر يسوع، وقال له: يا سيد من هو؟ أجاب يسوع: هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه» (يوحنا، 13: 21-26).
ويبدو أن هذا الاجتماع للعشاء الأخير قد حدث في بيت بأورشليم يملكه التلميذ الغني لعازر، وأن يسوع قد أوكل إليه أمر ترتيب هذا العشاء بسرية تامة كي لا يعرف اليهود مكانه. هذه الترتيبات السرية يتحدث عنها إنجيل مرقس حيث نقرأ: «فأرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما: اذهبا إلى المدينة فيلاقيكما إنسان حامل جرة ماء فاتبعاه، وحيثما يدخل فقولا لرب البيت: إن المعلم يقول أين غرفتي التي آكل فيها عشاء الفصح مع تلاميذي؟ فيريكما في أعلى البيت غرفة واسعة مفروشة، فهيئاه لنا هناك» (مرقس، 14: 12-15). يتضح لنا من قول يسوع للتلميذين: «فيريكما في أعلى البيت غرفة ... إلخ»، أن يسوع قد رتب مسبقا للعشاء، وتفقد المنزل الذي اختاره للعشاء واتفق مع صاحبه بخصوص الموضع الذي سيتم فيه الاجتماع.
ولعل مما يؤكد لنا أن العشاء قد حصل في بيت لعازر، هو جلوسه إلى جانب يسوع في صدر المائدة كما يجلس المضيف إلى جانب ضيفه الرئيس. كما تفصح جلسة لعازر وهو يتكئ بمرفقه على ساق يسوع المطوية تحته، عن مدى قربه من معلمه وغياب الرسميات في العلاقة بينهما. من هنا فقد كان الأجرأ على طرح أسئلة لا يجرؤ الآخرون على طرحها. وهذا ما حفز بطرس وهو رئيس الاثني عشر على الإيماء له لكي يسأل يسوع عن هوية الخائن. فقام لعازر بحركة تدل ثانية على دفء العلاقة بينهما عندما اتكأ على صدر يسوع وهو يوجه السؤال إليه.
ولكي نأخذ فكرة واقعية عن مشهد العشاء الأخير، يجب أن ننسى لوحات عصر النهضة الأوروبية التي تصور يسوع والاثني عشر جالسين على كراسي إلى طاولة مستطيلة عليها عدد من الصحفات الحاوية على أطعمة متنوعة يسكب منها في صحون إفرادية، ونتصور بدلا من ذلك جلسة على الأرض حيث يتربع التلاميذ حول غطاء مفروش أو طبلية قليلة الارتفاع عليها صحفة واحدة أو اثنتان يغمس فيها الجلوس بقطع صغيرة من الخبز المرقوق دون ملاعق أو شوكات وسكاكين. وهذا ما يدل عليه جواب يسوع عندما قال: «هو ذاك الذي أغمس اللقمة وأعطيه.» وفي إنجيل مرقس: «هو واحد من الاثني عشر، الذي يغمس معي في الصحفة» (مرقس: 14-20). (7)
في قصة القبض على يسوع وسوقه إلى دار رئيس الكهنة من أجل استجوابه، يعود مؤلف الإنجيل إلى استخدام لقب «التلميذ الآخر» الذي استخدمه في مطلع الإنجيل بدلا من لقب التلميذ الذي أحبه يسوع. فقد تفرق التلاميذ بعد القبض على يسوع مثل خراف ضرب راعيها، ولم يتبعه إلى دار رئيس الكهنة إلا اثنان: «وكان سمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع. وكان ذلك التلميذ معروفا عند رئيس الكهنة فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة، وأما بطرس فكان واقفا عند الباب خارجا. فخرج التلميذ الآخر الذي كان معروفا عند رئيس الكهنة وكلم (الجارية) البوابة فأدخل بطرس» (يوحنا، 18: 15-16). فمن من بين تلاميذ يسوع «كان معروفا عند رئيس الكهنة» على حد قول المؤلف، ويملك حق إدخال من شاء إلى بيته؟ هل هو يوحنا بن زبدي صياد السمك المتواضع من الجليل، أم لعازر الأورشليمي ابن الأسرة الغنية التي تقيم في ضاحية بيت عنيا ولها بيت آخر في أورشليم؟
ويبدو أن صداقة لعازر الشاب مع رئيس الكهنة لم تكن صداقة شخصية، وإنما صداقة عائلية تقليدية ورثها لعازر عن أبيه الذي كان رئيس الكهنة يحمل له مودة شخصية قبل وفاته، ثم تابع بعد ذلك اهتمامه بلعازر وأختيه وفاء لذكرى والدهم. وقد كشفنا سابقا عن شخصية أبي لعازر باعتباره سمعان الأبرص من بيت عنيا، والذي جرت في بيته بعد وفاته قصة قيام امرأة بسكب زجاجة عطر على يسوع (راجع مرقس، 14: 3-9؛ ومتى، 26: 6-13؛ ويوحنا، 12: 1-8)، وذلك في بحثنا «لغز مريم المجدلية»، فليراجع في موضعه. (8)
وقد سمح القائمون على عملية الصلب للتلميذ الحبيب ومعه أم يسوع وامرأتان من التلاميذ بالوقوف تحت صليب يسوع، أما الباقون فكانوا ينظرون من بعيد: «فلما رأى يسوع أمه وإلى جانبها التلميذ الذي كان يحبه قال لأمه: يا امرأة هو ذا ابنك، ثم قال للتلميذ: هو ذا أمك. فأخذها التلميذ إلى بيته من تلك الساعة» (يوحنا، 19: 25-27). هذا التلميذ الذي أخذ أم يسوع إلى بيته، لا يمكن أن يكون إلا لعازر، لأنه الوحيد بين تلاميذ يسوع الذي يملك بيتا في ضواحي المدينة، وربما بيتا آخر في أورشليم نفسها على ما استنتجنا أعلاه. (9)
عندما طعن يسوع بحربة في جنبه فظهر على إثرها دم وماء، يقول مؤلف الإنجيل: «يشهد بذلك الذي رأى، وشهادته صحيحة، ويعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا مثله» (يوحنا، 19: 35). والمقصود ب «الذي رأى» في هذا الخبر هو التلميذ الحبيب لأنه الوحيد من بين التلاميذ الذي كان حاضرا واقعة الصلب وعاينها عن قرب. (10)
في قصة ظهور يسوع للمجدلية بعد قيامته، يستخدم المؤلف لقب «التلميذ الآخر» مضافا إليه لقب «الذي أحبه يسوع». فعندما جاءت المجدلية لتتفقد القبر فوجدته فارغا وقد أزيح الحجر عن مدخله: «ركضت وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي أحبه يسوع وقالت لهما: أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه. فخرج بطرس والتلميذ الآخر وأتيا إلى القبر، وكان الاثنان يركضان معا فسبق التلميذ الآخر بطرس، وجاء إلى القبر فانحنى فنظر الأكفان موضوعة ولكنه لم يدخل، ثم جاء بطرس يتبعه ودخل القبر ... فحينئذ دخل التلميذ الآخر الذي جاء أولا ورأى فآمن» (يوحنا، 20: 1-10). (11)
في آخر ظهور ليسوع بعد قيامته، وفق إنجيل يوحنا، يرد ذكر التلميذ الآخر أو الذي أحبه يسوع ثلاث مرات في المرة الأولى نفهم أنه واحد من اثنين لم يذكر المؤلف اسميهما: «بعد هذا أظهر يسوع نفسه للتلاميذ على بحيرة طبرية. ظهر هكذا: كان سمعان بطرس، وتوما الذي يقال له التوءم، ونثنائيل الذي من قانا الجليل، وابنا زبدي (= يوحنا، ويعقوب)، واثنان آخران من تلاميذه مع بعضهما» (يوحنا، 21: 1-2). لمعرفة هوية التلميذين اللذين لم يذكر المؤلف اسميهما، علينا أن نرجع إلى رواية دعوة التلاميذ، إلى أول تلميذين استجابا ليسوع؛ أحدهما ذكر لنا المؤلف اسمه على أنه أندراوس أخو سمعان بطرس، والثاني ترك اسمه مغفلا ودعاه فيما بعد التلميذ الآخر، أو الذي أحبه يسوع، أو باللقبين معا: «وفي الغد أيضا كان يوحنا واقفا هو واثنان من تلاميذه. فنظر إلى يسوع ماشيا، فقال: هو ذا حمل الله. فسمعه التلميذان يتكلم فتبعا يسوع ... وكان أندراوس أخو سمعان بطرس واحدا من الاثنين اللذين سمعا يوحنا وتبعاه» (يوحنا، 1: 35-40). وبالطريقة نفسها فإن المؤلف في قصة الظهور الأخير يغفل اسم أندراوس، وفي المشهد التالي يفصح عن هوية الثاني باعتباره التلميذ المحبوب. وفي كلتا الحالتين فإن التلميذين المقصودين هما أندراوس ولعازر، أما يوحنا بن زبدي فقد أشار المؤلف إلى وجوده مع أخيه يعقوب عندما أشار إلى وجودهما معا كابني زبدي دون ذكر اسميهما، وبالتالي فإن التلميذ المحبوب لا يمكن أن يكون يوحنا بن زبدي.
অজানা পৃষ্ঠা