هنالك ملاحظتان في غاية الوضوح تركهما لنا المسئول عن الصياغة النهائية للإنجيل، نستشف منهما وجود شخصين مسئولين عن إنجاز هذا العمل، الأول هو التلميذ الحبيب الذي كان يملي ذكرياته عن يسوع، والثاني هو الذي كان يدون هذه الذكريات ويعيد صياغتها بأسلوبه ومن خلال فهمه وتفسيره للوقائع، بطريقة اختلطت معها الواقعة بالتفسير الذاتي للمدون. وإليكم هاتين الملاحظتين: (1)
عندما تلقى الجنود الأمر بكسر سيقان المصلوبين من أجل التعجيل بموتهم، قاموا بكسر ساقي اللص الأول والثاني، وعندما وصلوا إلى يسوع وجدوه ميتا فطعنه أحدهم بحربة في جنبه فخرج على الإثر دم وماء. وهنا يقول مؤلف الإنجيل: «يشهد بذلك الذي رأى، وشهادته صحيحة ويعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا مثله» (19: 31-35). ومن الواضح هنا أن المؤلف لا يقدم لنا شهادته الخاصة وإنما شهادة شخص آخر. (2)
يختم المؤلف إنجيله بالجملة التالية التي يعزو فيها إلى التلميذ الحبيب كل ما دونه عن يسوع من شهادات، فيقول: «وهذا التلميذ هو الذي يشهد بهذه الأمور ويدونها.» ثم يميز المؤلف نفسه عن صاحب الشهادات ويتابع قائلا: «ونحن نعلم أن شهادته حق» (21: 24).
ولنتابع الآن ظهورات هذا التلميذ من البداية إلى النهاية في سياق الأحداث، ونلاحظ كيف أن مدون الإنجيل لم يشأ لنا أن نفترض بأن التلميذ الذي أحبه يسوع هو يوحنا بن زبدي، وأن كل ما أورده بشأنه ينطبق على شخص مختلف تماما. ولسوف نعيد هنا ذكر بعض ما أوردناه في بحث «الإنجيل السري ولغز التلميذ الحبيب»، متوسعين في الموضوع ومضيفين إليه عناصر جديدة. (1)
يظهر التلميذ الحبيب للمرة الأولى في رواية دعوة التلاميذ، حيث نجد اثنين من أتباع يوحنا المعمدان وقد التحقا بيسوع وصارا أول أتباعه، وهما أندراوس أخو بطرس وآخر لم يذكر لنا المؤلف اسمه: وفي الغد أيضا كان يوحنا واقفا هو واثنان من تلاميذه، فنظر إلى يسوع ماشيا، فقال: هو ذا حمل الله. فسمعه التلميذان يتكلم فتبعا يسوع. فالتفت يسوع ونظرهما يتبعانه، فقال لهما: ماذا تطلبان؟ فقالا: رابي (الذي تفسيره يا معلم) أين تقيم؟ فقال لهما: تعالا وانظرا. فأتيا ونظرا أين يقيم ومكثا عنده ذلك اليوم. وكانت الساعة نحو العاشرة (= الرابعة بعد الظهر). وكان أندراوس أخو سمعان بطرس واحدا من الاثنين اللذين سمعا يوحنا وتبعاه. فلقي عند الصباح أخاه سمعان، فقال له: وجدنا ماشيحا، أي المسيح. وجاء به إلى يسوع. فنظر إليه يسوع وقال: أنت سمعان بن يونا، أنت تدعى صفا، الذي تفسيره بطرس (1: 35-42). بعد ذلك يدعو يسوع تلميذين آخرين هما فيلبس ونثنائيل، وبذلك يغدو عدد التلاميذ الأوائل الذين تبعوا يسوع خمسة، هم: أندراوس وسمعان بطرس أخوه، وفيلبس ونثنائيل، والتلميذ المغفل الاسم. وعلى عكس رواية دعوة التلاميذ لدى الإزائيين، فإن يعقوب ويوحنا ابني زبدي غائبان عن رواية التلاميذ الأوائل عند يوحنا ولا ندري متى وأين التحقا به بعد ذلك. (2)
لا يظهر هذا التلميذ المغفل الاسم بعد ذلك في إنجيل يوحنا إلا خلال الأسبوع الأخير من حياة يسوع، وبعد أن أضاف إليه المؤلف لقب «التلميذ الذي أحبه يسوع». وبما أن مؤلف الإنجيل قد أشار في إصحاحه الأخير إلى أن شهادات تلميذ مغفل الاسم تكمن وراء إنجاز إنجيله الذي تلقاه المسيحيون الأوائل تحت عنوان «الإنجيل بحسب يوحنا»، فقد شاع منذ البداية أن مؤلف هذا الإنجيل هو يوحنا الرسول أخو يعقوب. هذه الفكرة المسيطرة قد حجبت عن الجميع حقيقة في غاية الوضوح، وهي أن التلميذ الوحيد الذي أكن له يسوع حبا خاصا هو لعازر من بيت عنيا أخو مريم ومرتا. وقصة إحياء لعازر التي يظهر فيها التلميذ المغفل الاسم للمرة الثانية، ولكن باسمه الصريح هذه المرة، تثبت صحة ما نذهب إليه: «وكان إنسانا مريضا وهو لعازر من بيت عنيا من قرية مريم وأختها مرتا. ومريم هي التي دهنت الرب بالطيب ومسحت قدميه بشعرها، وكان لعازر المريض أخاها. فأرسلت الأختان إلى يسوع تقولان: يا سيد هو ذا الذي تحبه مريض ... وكان يسوع يحب مرتا وأختها ولعازر، على أنه لبث في مكانه يومين بعدما عرف أنه مريض» (يوحنا، 11: 1-6). نلاحظ في هذا المقطع أن المؤلف أكد مرتين على حب يسوع للعازر، فالأختان قالتا له: «الذي تحبه مريض»، وقال المؤلف: «وكان يسوع يحب مرتا وأختها ولعازر». وفيما يلي من هذه القصة هناك توكيدات أخرى على هذه المحبة التي جمعت بين الطرفين. فبعد يومين من تلقيه الخبر قال يسوع لتلاميذه: «لعازر حبيبنا قد نام، لكني أذهب لكي أوقظه» (11: 11). وعندما وصل إلى بيت عنيا واستقبلته مريم وهي تبكي ويبكي معها من تبعها من المعزين «بكى يسوع. فقال اليهود: انظروا كيف كان يحبه» (11: 35-36). وفي إنجيل مرقس السري (راجع بحثنا السابق: إنجيل مرقس السري ولغز التلميذ المحبوب) نجد يسوع وقد اختلى بالتلميذ الحبيب بعد إحيائه الليل بطوله وهو «يعلمه أسرار ملكوت الله»، أي أنه كان يفضي إليه بتعاليم خاصة كانت وقفا على المقربين منه.
هذا الظهور الثاني للتلميذ المحبوب في آخر حياة يسوع التبشيرية، لا يعني أن يسوع لم يجتمع به منذ الظهور الأول في رواية دعوة التلاميذ. وسوف نرى لاحقا كيف أن يسوع خلال إقامته الطويلة في أورشليم والتي سبقت الفصح الأخير وأسبوع الآلام، كان في كل يوم ولمدة ثلاثة أشهر يترك أورشليم حيث كان يعلم في النهار، ويتوجه إلى بيت عنيا في جبل الزيتون لقضاء الليل هناك. وقد حفظت لنا الأناجيل الإزائية التي أغفلت ذكر التلميذ المحبوب أثرا من هذه العلاقة المميزة التي جمعت بين يسوع وأسرة بيت عنيا: «وبينما هم سائرون دخل قرية فأضافته امرأة اسمها مرتا، وكان لها أخت تدعى مريم جلست عند قدمي يسوع تستمع إلى كلامه. وكانت مرتا مشغولة بأمور كثيرة من الضيافة فأقبلت وقالت: يا رب، أما تبالي أن تتركني أختي أخدم وحدي؟ فقل لها أن تعينني. فأجاب يسوع وقال لها ... إلخ» (لوقا، 10: 38-42). (3)
في زيارته الأخيرة لأورشليم، وصل يسوع قادما من الجليل قبل الفصح بستة أيام وتوقف في بيت عنيا؛ حيث بات ليلته هناك. فأعدت له الأسرة عشاء، «وأخذت مرتا تخدم، أما لعازر فكان في جملة المتكئين معه. فأخذت منا من طيب ناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ثم مسحتهما بشعرها، فعبق البيت بالطيب ... إلخ» (يوحنا، 12: 1-8). (4)
ويبدو أنه كان للعازر دور مهم في الترتيبات التي أعدها يسوع لدخوله أورشليم. والشهادة هنا تأتينا من إنجيل لوقا: «وإذا قرب من بيت فاحي وبيت عنيا عند الجبل الذي يدعى جبل الزيتون، أرسل اثنين من تلاميذه قائلا: اذهبا إلى القرية التي أمامكما، وحين تدخلانها تجدان جحشا مربوطا لم يركبه أحد من الناس قط، فحلاه وأتيا به. وإن سألكما أحد لماذا تحلانه فقولا له إن السيد محتاج إليه ... فأتيا به إلى يسوع وطرحا ثيابهما على الجحش وأركبا يسوع ...» (لوقا، 19: 28-36). من الواضح هنا أن يسوع قد عهد إلى شخص من بيت عنيا مهمة تأمين الجحش الذي سيركب عليه وهو داخل إلى أورشليم، وهذا الشخص ليس سوى لعازر الذي يثق به يسوع، وقد أعطاه كلمة السر التي سيقولها من يأتي لاستلام الجحش، وهي: «الرب محتاج إليه». (5)
خلال الأيام الخمسة الأخيرة التي قضاها يسوع في أورشليم قبل القبض عليه كان ينسحب من المدينة في المساء ليبيت في بيت عنيا. نقرأ في إنجيل مرقس: «فدخل يسوع أورشليم والهيكل، وتفقد كل شيء فيه. وكان الوقت قد أمسى فخرج إلى بيت عنيا مع الاثني عشر» (مرقس، 11: 11). وفي إنجيل متى: «ثم تركهم وخرج من المدينة إلى بيت عنيا فبات فيها. وبينما هو راجع إلى المدينة صباحا ... إلخ» (متى، 21: 17-18). ومن المؤكد هنا أن يسوع كان يبيت في دار لعازر وأختيه لا في أي مكان آخر. (6)
অজানা পৃষ্ঠা