49 -
ومتى حكم بحكم على موضوع فلم يعلم هل ذلك الحكم صادق على ذلك الموضوع أم لا، فإن أحد ما يوقع لنا التصديق به أن نتصفح جزئيات ذلك الموضوع إما كلها وإما أكثرها، فإذا وجدنا ذلك الحكم صادقا على جزئياته وقع لنا التصديق بأن الذي حكم به على هذا الموضوع هو ما حكم. فتصفح جزئيات موضوع ما لنتبين به صدق حكم حكم به على ذلك الموضع يسمى الاستقراء. ومتى أخذ من جزئيات الموضوع شيء واحد أو أقل جزئياته، لم يسم ذلك استقراء، لكن يسمى أخذ المثال. فعلى هذه الجهة ينفع المثال والاستقراء في إيقاع التصديق بالشيء. وقد ينفعان أيضا في تفهيم الشيء. فإنه ربما عسر تصور الكلي وأخذه مجردا، فيؤخذ ذلك الكلي في بعض جزئياته فيخيل فيه فيسهل تصوره، وكلما خيل الكلي في جزئيات أكثر كان المتعلم له أقوى. وينفعان أيضا في سهولة الحفظ. فإن جزئيات الشيء وأشخاصه المحسوسه لا يكاد يعسر على الإنسان أن يحصرها ذهن، فيسهل لذلك على الذهن أن يتذكر بها الأمر الذي قصده، فيسهل بذلك حفظ الشيء، وكلما كثرت الجزئيات كان أبلغ في المعونة على حفظ الشيء وفي المعونة على استذكاره.
50 -
والوضع نصب العين مما يستعمل في التعليم، وهو إيقاع الشيء تحت البصر بالجهة الممكنة. وهذا النحو هو أحد أنحاء التعليم الذي يستعمله أصحاب التعاليم، وهو أن يجعل بحذاء البصر إما المحسوس من الشيء بالبصر وإما المحسوس من شبيهه. والنحو الذي تستعمل فيه الحروف هو جزء من نصب العين. والتصوير واستعمال الأشكال واستعمال الترتيب بالأشياء التي تدرك بالبصر هي أجزاء من نصب حذاء العين. وأما سائر أجزائها فليس يستعمل في الفلسفة وله مدخل يسير في التصديق.
وهذا المقدار من القول في انحاء التعليم قانع في هذا الموضع.
9 -
51 -
وبعد هذا ينبغي أن نعدد الأمور التي ينبغي أن يعرفها المتعلم في افتتاح كل كتاب. وتلك فليس يعسر عليك معرفتها من تعديد المفسرين الحدث لها. وهي غرض الكتاب ومنفعته وقسمته ونسبته ومرتبته وعنوانه واسم واضعه ونحو التعليم الذي استعمل فيه. ويعنى بالغرض الأمور التي قصد تعريفها في الكتاب. ومنفعته هي منفعة ما عرف من الكتاب في شيء آخر خارج عن ذلك الكتاب. ويعنى بقسمته عدد أجزاء الكتاب مقالات كانت أو فصولا أو غير ذلك مما يليق أن يؤخذ ألقابا لأجزاء الكتاب من فنون أو أبواب أو ما أشبه ذلك وتعريف ما في كل جزء منه. ونسبة الكتاب يعنى بها تعريف الكتاب من أي صناعة هو. والمرتبة يعنى بها مرتبة الكتاب من تلك الصناعة أي مرتبة هي، هل هو جزء أول في تلك الصناعة أو أوسط أو أخير أو في مرتبة منها أخرى. وعنوانه هو معنى اسم الكتاب. وأما اسم واضع الكتاب فمعناه بين. فأما نحو التعليم فقد بينا نحن معناه آنفا. وكل واحد من هذه متى عرف كان له غناء في تعليم ما في الكتاب ومعرفة غنائها فليس تعدمها في تفاسير الحدث، فإن عناية أكثرهم مصروفة إلى التكثير بأمثال هذه الأشياء. ونحن فقد خلينا أمثال هذه الأشياء لهم. وأرسطاطاليس والقدماء من شيعته يستعملون من هذه الأشياء في افتتاح كل كتاب مقدار الحاجة، وربما لم يستعملوا منها شيئا أصلا. وفي أكثر الكتب فلا يكاد أرسطاطاليس يخل بمعظم ما يحتاج إليه من هذه، وذلك هو الغرض والمنفعة. وكثيرا ما يذكر النسبة والمرتبة، وربما ذكر معها نحو التعليم الذي يستعمله في الكتاب.
52 -
وقد قيل في الكتاب الذي قدم على هذا الكتاب أي قوة يفيدها صناعة المنطق وأي كمال يكسبه الإنسان بها. وهذه القوة وهذا الكمال إنما يحصل بالوقوف على جميع الجهات والأمور التي بها ينقاد الذهن إلى أن الشيء هو ذا أو ليس هو كذا، أو بالوقوف على أصناف انقيادات الذهن كم هي وعلى كم جهة هي وبالوقوف على أصناف الجهات وأصناف الأمور التي صنف صنف منها سبب لصنف صنف من أصناف انقيادات الذهن. وأصناف انقيادات الذهن كثيرة. منها انقياد الذهن الشيء عن طريق ما ينقاد عن الأشياء الشعرية. ومنها انقياده للشيء على جهة انقياده عن الأقاويل المشورية والأقاويل التي تؤخذ فيها ما يمدح به ا لإنسان أو يهجى، وعلى مثال ما ينقاد عن الأقاويل الخصومية والمعاتبات والشكاية والإعتذار وما جانس هذا، الصنف هو الإنقياد الخطبي. ومنها انقياد الذهن للمغالطات الواردة عليه. ومنها انقياده للشيء على طريق الجدل. ومنها انقياده لما هو حق يقين.
পৃষ্ঠা ২১