كانت حالة الرجل واضحة، وكان ممكنا أن أكتفي بالأسئلة القليلة التي وجهتها وأملأ خانات الاستمارة، وأنتهي من «الحالة»، ولكننا أحيانا تخطر لنا خواطر، فتقودنا إلى اكتشاف آفاق لم نكن نستطيع الوصول إليها بالتدبير والتمعن والتفكير، والخاطر الذي خطر لي لم يكن من قبيل الصدفة؛ إذ لم أكن أنظر إلى المريض على أنه مجرد «حالة» أخرى، كانت مشكلة العقل البشري تحيرني وتجبرني على التفكير. هذا العقل، هذا الجهاز المذهل الكامن في تجويف الرأس المزدحم بالأفكار والحوادث والغرائز والمشاعر والذكريات، هذا الساحر الصغير القادر على أن يحيل الحجر إلى ماس، والخاطر إلى اختراع، والغريزة الدنيا إلى غريزة سامية عليا، تلك البوصلة الرائعة في دقتها التي تحدد الشرف، وتقيس المعقول، وتربط ألف فكرة بألف فكرة، وتخرج بنتيجة وتصنع من النتائج أحكاما وقوانين، هذه المعجزة التي تحل أعقد الطلاسم، وتتذكر أدق التفاصيل، وتحس وتفرق بين الأحاسيس، هذه المساحة المتناهية الصغر التي تخلق، وتضع الخطط العميقة، وتبتكر ملايين الكلمات والتعبيرات، وتحوي كل هذا وتحفظه، هذا العقل الذي يحتوي الدنيا كلها بما عليها ولا يضيق؛ ترى ماذا يحدث له حين يختل وتشب فيه النار؟ ما هو الأصيل الذي يبقى، وماذا فيه يستحيل إلى دخان؟ وعم محمد شحاتة علي الواقف أمامي لم يغير وقفته، ترى ماذا طار من عقله؟ وماذا لا يزال كامنا مقدسا في أخاديد تفكيره؟!
والمسألة نسبية لا ضابط لها ولا رابط؛ فقد لا يكون بعضهم يعرف اليوم الذي هو فيه، ولكنه يرفض أن تتعرى أجزاء جسمه، وقد لا يعرف اسمه، ولكنه يخنقك إذا شتمته.
وكنت أحب ذلك الحوار الذي يدور بيني وبين المريض، فإذا كان الإنسان العادي له عقل بالغ التعقيد، فالمجنون بسيط، والمشكلة التي تحيره واحدة، ويقول ما يريده على الفور وبصراحة، وتستطيع أن تقرأ تفكيره بسهولة، وتعرف ما احترق في عقله وما لا يزال سليما.
وسألته: إيه اللي مضايقك يا عم محمد؟
وكان لا يزال على نفس وضعه، لم يرفع بصره مرة، وينظر حوله وسيال حديثه مستمر، وكأنه يتحدث إلى كائنات أخرى لا نراها ولا تتبرم بحديثه، يتحدث وكأن لا زمان هناك ولا مكان، ولا يهمه إن كان هناك زمان أو إنسان أو مكان، والبقية الباقية في رأسه تطحن الكلمات والجمل، فتخرج كالدقيق الناعم المستمر لا انفعال فيها ولا إدراك. وحين سألته كان لا يزال ماضيا في قوله: سلطوا علي نسوانهم بالشباشب هانوني، تعبوني قوي. سكان متعبين، وبيدفعوا في الشقة نكلة إيجار قديم، ولازم أبيع العمارات حالا قبل ما يهدوهم، الجدع ده سلط علي مراته قلعتني الهدوم في الليل وسرقت المحفظة.
وتدخل قريبه الذي كان واقفا: ما تصدقوش والله العظيم ما حد عمل فيه حاجة.
وتطلعت إليه؛ سحنة ضامرة أخرى، ولحية نامية، وملابس مهلهلة لا تكاد تفترق عن ملابس المجنون، حتى كدت أسأله هو الآخر عن اسمه واليوم الذي نحن فيه، وربما لو كنت سألته لما كان قد عرف. وتلك ظاهرة غريبة؛ فلا بد أن يكون مع المجنون قريب، ولا بد بطريقة أو بأخرى أن يخرم المريض على أقربائه ويتهمهم أي اتهام، والأغرب من هذا أن القريب لا بد يدافع عن نفسه بحرارة، وكأن الاتهام صادر عن عاقل، أو كأنه صحيح.
وأشرت للقريب أن يسكت، ولكنه لم يفعل، بل مضى يدلل ويروي على مسامعي كل ما قام به المريض من أفعال خارقة، وكأنما ليثبت لي أنه حقا مجنون وكلامه فارغ، وبينما هو يتكلم بحرارة كان المريض يقول: كلهم حرامية ما تصدقوش دول كدابين. بيقول كده عشان يوديني في داهية، وياخد هو حق العمارات. قال لي امضي على بياض عايز ينهبني. دول على ذمتي تلات عمارات يسووا 150 قرش، وأبيعهم بنص فرنك؟ حرام أنا يتيم.
وقاطعته وسألته: إنت عارف ده مين؟
ودون أن ينظر إليه استمر: يتيم، أمي ماتت السنة اللي فاتت وده حرامي ابن حرامية.
অজানা পৃষ্ঠা