وكان من الممكن ألا يقف الأب هكذا طويلا يراقب القطة وأولادها، ولكنه لم يدر السر الذي جعله يقف جامدا هكذا يراقب هذه الكتلة الحية المكومة في جانب من السبت. كان أولاد القطة يتناوبون الرضاعة ولا يكفون عن الحركة. ويدفع الواحد منهم الآخر برأس مغمض ليأخذ نوبتجيته على الثدي الصغير، حتى إذا ما اكتشف أن أخاه قد شطب عليه انتقل إلى ثدي آخر، وأعمل فيه فمه الأحمر الدقيق.
وكانت الأم متكئة على ما يجاورها من ملابس تراقب الأولاد بعيون وسنانة نصف مفتوحة، وشواربها مهدلة على جانبي فمها غبطة، وكان يبدو أنها في قمة السعادة. وكانت أحيانا تبقى على وضعها ذاك، وأحيانا تنقل رأسها فقط دون جذعها وتدفنه بين أولادها، فيصبح وكأنه قطة رابعة هو الآخر، وأحيانا تلعقهم بلسانها النظيف، وأحيانا تدفع الواحد منهم عن ثديها في رفق لتعطي الفرصة لآخر.
كان الرجل واقفا فوق رأسها في وضع لا تراه فيه، واقفا وقد ذهب عنه التحفز الذي جاء به، وتراخت ذاكرته وذكرياته، وتعددت ألوان القطة في عينيه وتاهت. لم تكن القطة هكذا يوم جاءت. كانت شاحبة عجفاء يوم جاءت! لقد استيقظوا يومها فوجدوا في المطبخ كارثة. كانت امرأته قد أبقت حلة الطبيخ مكشوفة بعد أن غلتها حتى لا تحمض، وإذا بهم يفاجئون بحدثين خطيرين؛ اختفاء قطع اللحم التي كانت في الحلة كلها، ومواء قطة في الشقة.
ويومها أمسكت امرأته فردة القبقاب وظلت مدة طويلة تحكم النيشان، ثم قذفت بالفردة. ولولا أن القطة تحركت في الوقت المناسب لكانت قد أصبحت في ذمة التاريخ، ذي الذمة الواسعة. وظلت بعد هذا تتحرك وتزوغ بطريقة لولبية من كل الفرد والمداسات وقطع الأخشاب والزجاجات وأيدي المقشات، وأثبتت بهذا أن القطط ليس لها سبعة أرواح، وإنما لها روح واحدة طويلة مصنوعة من مطاط يلين، ولكنه لا ينقطع.
والمثل يقول: ما محبة إلا بعد عداوة. وهكذا وحين لم تفلح الزوجة في إصابة القطة أو إجلائها عن الشقة التي وجدت فيها كل تلك الكمية من اللحم، سلمت أمرها لله، واتخذت الاحتياطات اللازمة لتأمين الطعام. ثم ما لبثت أن أدركت أن صراصير المنزل تتناقص باستمرار، وأن الفأر المرعب الذي كان يطلع ويبصبص لها بذنبه قد اختفى. وحينئذ أدركت أن لون القطة جميل وشعرها ناعم، وإذا شبعت أصبحت لطيفة مؤدبة بنت حلال دمها زي الشربات. وحينئذ، وحينئذ فقط أنعمت عليها الزوجة باسمها، وصارت معها مثل اللبن على العسل. أنيسة عيب، أنيسة اطلعي برة، أنيسة عمى في عينيك، بل إنها أحيانا كانت تشكو لها متاعبها وتأخذ رأيها في كثير من المشاكل. والحقيقة أن أنيسة أثبتت في كثير من الأحيان أن لها نظرا بعيدا، على الأقل أبعد من نظر الزوج.
والذي حدث أن أنيسة شحمت ولحمت وصارت حلوة على مر الأيام، ولا بد أن جودة طعامهم كانت هي السبب، ومع مقدم الدفء والربيع بدأت أنيسة تكثر من حك نفسها في الزوج، وأحيانا في الزوجة، وتكثر من الأزيز والسرحان، ثم جاء اليوم الذي بدأت فيه تموء مواء غريبا عجيبا يكاد ينطق ويقول: داوود، داوود.
إن الرجل يذكر هذه الآونة تماما؛ فامرأته هي الأخرى لم يرها أجمل ولا أروع مما رآها في تلك الأيام. كانت خدودها الشاحبة قد أصبح فيها خوخ وتفاح، وعيونها امتلأت بأشياء وأشياء، وهي كلها قد حدث فيها حادث غيرها وحلاها، وجعل منها سنيورة جديدة في نظره، ولكن العجيب أنه بالقدر الذي احلوت به ملامحها فسدت طباعها؛ المشاحنات أصبحت لا تنقطع، وثمة غيرة جديدة طرأت عليها لم يكن يدري من أين جاءت، وكان يأتيها المرض الشهري قبل ذلك وهو لا يكاد يحس به، فإذا به أصبح لا يجيئها إلا وهي راقدة تتلوى وتتأوه. فإذا أفاقت من المرض ظلت تذكره، وإذا غاب عنها ذكره اختلقت شجارا، وخاصمته وتبغددت وهي تصالحه، وأكثرت من شروط الصلح، ثم حكاية وجع ظهرها الذي كان لا يلازمها إلا في أوقات معينة، ولا يحلو لها الشكوى منه إلا في الليل، في عز الليل وهو نائم، تظل تشكو بصوت مسموع، وتتباكى من الألم حتى يستيقظ، فإذا تناوم جذبت من فوقه الغطاء لتسند به ظهرها الموجوع.
بالضبط إنه يذكر تلك الأيام التي بدأ فيها مواء القطة وعواؤها؛ إذ طالما صحا من نومه على داووود وهي تجلجل في سكون الليل، وكانت امرأته تصحو هي الأخرى إذا لم تكن صاحية، ويتأملان النداء، ويلعنانه كثيرا، ثم يناقشانه في خجل، ويتفقان على أنها لعوب تجأر في طلب الذكر، ويدلفان أخيرا إلى سجال أكثر إمتاعا يهيجه العواء الأنثوي الذي لا ينقطع.
وما أكثر ما جره العواء من متاعب؛ إذ استجاب له لسوء الحظ أكثر من ذكر. وكانوا - لسوء الحظ أيضا - كثيرا ما يقبلون في وقت واحد وتقوم المعارك؛ معارك حادة لا رحمة فيها ولا هوادة، كثيرا ما أفسدت ضجتها النقاش الآخر الذي كان يدور بين الرجل وامرأته.
والأدهى من ذلك أن المعركة وصلت ذات يوم إلى الحجرة التي ينامان فيها، ووصلت في لحظة حاسمة من لحظات النقاش. وكف الزوج عن الجدل في الحال، وراح يشخط ويهدر في القطة وصاحبيها. واكتفى بالشخط من بعيد لبعيد؛ فالقطان كانا غريبين لم يرهما قبل ذلك، وفي عيونهما شر مستطير، وكان الواحد منهما يزعق في الآخر فيقابل الآخر زعيقه بزمجرة لا تقل عنها قسوة؛ يعني حالة يستحسن فيها الابتعاد قدر الطاقة عن أرض المعركة. وكانت أنيسة واقفة ترقب العراك بعينين فيهما تهافت وحور. وكلما آذنت المعركة بالانتهاء ارتفع صوتها الأخنف: داووود، داوووود. وتستعر نيران المعركة من جديد. والغريب أنها كانت مثل المعارك التي تنشب بين المصريين. كل قط واقف بعيدا عن الآخر يرعد فيه، ويلعن سنسفيل أجداده، ويحاول إخافته وإرساء الرعب في قلبه ليتراجع فيظفر هو دون إراقة قطرة دم، والطيب أحسن! ولكن حدث أن تطور أحدهما على الآخر. وهذا الذي تطور كان يبدو أصغر من الآخر سنا، فاقترب من العجوز وقذفه بصرخة مرعبة، ولم يتراجع العجوز، وكأنما أدرك بحكمته أن المسألة تهويش لا أكثر ولا أقل. وحينئذ فقد صغير السن والخبرة أعصابه، ورفع كفه الأمامية وأهوى بها على وجه غريمه هكذا بسرعة متهورة غاضبة. وما كان من العجوز إلا أن كف عن الصراخ في الحال، وحدق في ضاربه برهة، ثم ألقى عليه نظرة احتقار هائلة، واستدار في عظمة نمر وغادر الحجرة، وكاد يصفق الباب خلفه.
অজানা পৃষ্ঠা