الكنز
الحالة الرابعة
المحفظة
الناس
الوجه الآخر
داووود
مارش الغروب
ليلة صيف
أليس كذلك
المستحيل
التمرين الأول
الكنز
الحالة الرابعة
المحفظة
الناس
الوجه الآخر
داووود
مارش الغروب
ليلة صيف
أليس كذلك
المستحيل
التمرين الأول
أليس كذلك
أليس كذلك
تأليف
يوسف إدريس
الكنز
عبد العال مخبر بوليس طويل أسمر، وعلى ظهر يده اليمنى سمكة فمها مفتوح، وذيلها مشقوق، وعلى عينها نقطة.
عبد العال مخبر، ومع هذا فله عيلة وزوجة أحيانا تناكفه، وأحيانا ترضى عنه، وأحيانا يحلف عليها يمين الطلاق، ونادرا ما يقع اليمين.
ولعبد العال ماهية عشرة جنيهات بما فيها كل ما ناله، وما لم ينله من علاوات.
وعبد العال سعيد جدا بحكاية المخبر. إذا ركب الأتوبيس وجاء الكمسري قال: «بوليس.» وأحس بأهميته وهو يقول بوليس، والناس يرمقونه ويضربون له بعيونهم السلام.
وعبد العال مثل كل الناس يحلم بالمستقبل. وهو لا يحلم حلما عاديا مثل أن يصبح ضابطا أو مساعد حكمدار. هو في الحقيقة يحلم أن يكون وزيرا للداخلية. يا سلام! يصحى الواحد، ويلاقي نفسه وزيرا له عربة وله حاجب، ويقف على باب منزله عسكري على الأقل بشريطين. بسيطة! وليست على الله ببعيدة؛ فالذي خلق الأرض والسموات من العدم، ألا يمكنه أن يخلق من العسكري وزيرا؟ ثم لماذا لا يخلق منه وزيرا وهو دونا عن رفاقه يجيد القراءة والكتابة، ويرطن أحيانا بألفاظ إنجليزية، ويلتهم الصحف ويعرف كوريا، ويستطيع أن ينطق اسم همر شولد صحيحا.
وعبد العال من مدة كان معه تحقيق وسين وجيم؛ فقد اشترك مرة في ضبط واقعة، واستلم هو المضبوطات وأمضى بذلك. وبعد أيام جردت الأحراز فوجدوا حرزا ناقصا، وجاءوا بعبد العال وسألوه وأنكر، وألحوا في السؤال وأغلظوا وتلجلج. وشك فيه الضابط وهدده بالتفتيش. ورأى عبد العال من عينيه أنه ينوي حقا تفتيشه، وحينئذ مد يده في جيبه وأخرج منها الحرز المفقود.
وكان الحرز هو الدليل المادي في القضية؛ فقد كان شيكا مزورا، شيكا بمبلغ مائة ألف جنيه أتقن تزويره.
واستغرب الضابط، وفتح محضرا وراح يسأل. وتوقف عند السين التي تقول: لماذا احتفظت بالشيك المزور معك؟ لم يستطع عبد العال أن يدلي بسبب واضح.
وهمهم وغمغم، وقال كلاما فارغا كثيرا لم يقنع الضابط، ولم يقتنع به هو.
وفي آخر النهار عاد عبد العال من القسم منهوكا محطم القوى. عاد وقد خصم من مرتبه نصفه، ونقل من المباحث، وأنذر بالفصل.
عاد وهو حزين ساخط، ومع ذلك كانت في أعماقه طراوة رضا وسعادة؛ فلا أحد قد فطن إلى أنه كان قد احتفظ بالشيك المزور ليستخرج له صورة فوتوغرافية طبق الأصل، صورة كلفته كثيرا، ودفع فيها خمسة عشر قرشا.
ومضى اليوم، ومضت وراءه أيام، وذهب حزن عبد العال وسخطه، ولكن بقيت صورة الشيك المزور.
وللآن لا تزال أسعد لحظات عبد العال هي تلك التي يهرب فيها من زحمة الناس ويختلي بنفسه، ويطمئن إلى أن أحدا لا يلحظه أو يراه، ثم يخرج حافظة نقوده بعناية، ويستخرج من جيب مخصوص منها صورة الشيك، ويحس بالرعد في أذنيه والتنميل في أطرافه، وهو يرى شعار البنك والحروف المطبوعة، ثم وهو يقرأ الجملة الخالدة ويلمس عليها بأصابعه:
ادفعوا لحامل هذا مبلغ ألف جنيه مصري لا غير.
ويستمر يحدق في الشيك حتى تهجمع الزوابع التي في جوفه، ثم يطويه بعناية ويعيده إلى جيبه الخاص في المحفظة ويتنهد، وكأنما قد انتهى من اعتراف أو صلاة، ثم يعود هو في بطء إلى الناس وزحمتهم، يعود كما كان عسكريا طويلا وأسمر، وعلى ظهر يده اليمنى سمكة فمها مفتوح، وذيلها مشقوق، وعلى عينها نقطة.
الحالة الرابعة
انتهى العشاء وهب الدكتور مازن كي يقوم بنوبتجيته في الاستقبال. كان عشاء بيت الامتياز سخيفا في ذلك المساء كعادته كل مساء، كان مكونا من بطاطس مفروض أنها محمرة، ولم تكن لا محمرة ولا مسلوقة ولا شيء من هذا القبيل، إنما كتل لزجة متراصة من مادة البطاطس يفصلها زيت رخيص، ثم أرز باللبن، أو بطاطس باللبن، أو حجارة وحصى و«زلط» باللبن، كله ماشي، وكله لا يقيم أود مخلوق. كان العشاء محنة يضطر إليها الأطباء الذين لا يملكون سوى مرتباتهم، وحتى لا يملكونها كلها فجزء غير قليل منها يذهب إلى عائلاتهم التي رأت المر كي تنفق عليهم، وتجعلهم في نهاية الأمر أطباء «قد الدنيا». أما الدكتور مازن، فلم يكن يحفل بالعشاء أو بالغداء، أو حتى بطعام بيت الامتياز كله. كان أبوه أحد كبار الأطباء في وزارة الصحة، ومن صغره وهو يذهب إلى المدرسة في عربة ويعود في عربة. وحين كان في كلية الطب لم يره زملاؤه الطلبة أبدا إلا ثمة شيء جديد قد أضيف إليه، قد يكون جاكتة، وقد يكون في أحلك الأحوال منديل صدر جديد. وكان العمل بالنسبة للدكتور مازن شيئا مهما حقا. اليوم الذي يأخذ نوبتجيته فيه كان يسبقه إعداد أيما إعداد؛ فلا بد أن يتفق مع اثنين من زملائه «الغلابة» على أن يأتوه ليسلوه في وحدة نوبتجيته. ويختارهم مازن بعناية؛ فأحدهم لا بد يجيد رواية النكت ويخلق من التفاهة فكاهة، والآخر لا بد أن يكون عليما ببواطن الأمور يحدثه حديث العارف عن الأسرار الرهيبة التي تدور داخل جدران المستشفى، وعن الزملاء الأطباء وعلاقاتهم الخفية مع الممرضات والحكيمات، وعن الفضائح. ثم لا بد أيضا من إعداد للعشاء؛ فقبل الثامنة يرسل عبد الغني فراش بيت الامتياز إلى جروبي أو الإكسلسيور ومعه قائمة معدة ومنتقاة بعناية لعدد كبير من الساندويتشات. ثم لا بد آخر الأمر من إحضار عدد من المجلات المصورة الأمريكية والفرنسية، تحتوي على عدد من الوجوه والأجساد الجميلة يكفي للتفرج عليها ليلة بأكملها. كان لا بد من إعداد هذا كله في يوم النوبتجية؛ حتى لا يحس مازن بأي سأم أو ملل. ومع كل هذه الاحتياطات، ولو فرض ووقع المحال، وأحس بشيء من الملل والسأم، فهناك التليفون، وهناك ثلاث فتيات وامرأة متزوجة تملك أجمل صدر في جاردن سيتي، مستعدات أن يقضين معه الليلة في كلام ودردشة وفكاهات.
هبط الدكتور مازن إلى الممر الطويل، وكل شيء على أتم ما يرام؛ البالطو أبيض ونظيف ومكوي، والبنطلون الأبيض حده كحد السيف، والسماعة معلقة في صدره يلمع معدنها، والحمام الدافئ الذي أخذه بعد إغفاءة الظهر يخدر وجهه، ويجعل من خلاياه دوامات صغيرة تدور بها السعادة. كل شيء حتى شكله كان قد ألقى نظرة طويلة على نفسه في مرآة التسريحة الحكومية الحادة في بيت الامتياز، واطمأن - كعادته - إلى الصورة التي سيكون عليها حين يراه الناس. جسده طويل رياضي لا انبعاج فيه، وسنواته لم تتعد الخامسة والعشرين، ووجهه أبيض حليق ناعم جميل، والشعر موزع توزيعا أنيقا على رأسه. أربعة أخماسه تتموج إلى اليمين، والخمس الباقي يستكين إلى اليسار، ولا تنفر منها شعرة واحدة.
كان الممر طويلا قد حل الفساد في بعض مصابيحه، فانطفأت تنتظر الاستمارات ومصلحة المباني لاستبدالها، وكان النور يتسرب إلى الممر من الأقسام التي على يمينه وعلى يساره، فيضيء الممر بنور شاعري رقيق. وكان البالطو الأبيض يحف حفيفا خافتا كلما اصطدم بساقيه الطويلتين السائرتين، والكولونيا تدفع ببرودة ذات رائحة جميلة إلى ذقنه، وكان جيب البنطلون على صغره يضيق بباقي الورقة ذات العشرة الجنيهات، والدنيا في نظره لحن جميل كأنغام الكمان في رقصة شهرزاد.
وكان يلقي التحيات ذات اليمين وذات اليسار، تحيات المساء كان يلقيها من أنفه إلى تلميذات الأقسام الساهرات. وكان دقيقا في إلقاء تحياته؛ فهو يعرف أنه جميل وغني ومن عائلة، وأن التلميذات لا بد يحلمن به وبابتسامة منه، ولكنه أعرف الناس بالبيئة التي ينشأن فيها، ويقبلن منها إلى المستشفى تدفعهن الحاجة لأكل العيش والعمل، وإهدار سيرتهن على الألسنة والأفواه؛ ولهذا لم يفكر أبدا في مصاحبة إحداهن أو حتى في التحدث معها. كان حديثه مع الواحدة منهن لا يستغرق لحظات، وكله «حديث عمل» لا يزيد كلمة ولا ينقص كلمة، ولكنه لم يكن يحب أن يبدو متكبرا في نظر الناس، وكان عليه أن يحييهن، ولكنها لا بد أن تكون تحية مضبوطة لا تغري بالألفة، ولا تهبط بمستواه، ولا ترتفع بمستواهن.
مضى في الممر المظلم الحالم يلقي بتحيات المساء بإيماءاته، ويحس أن الناس كلهم لا بد في مثل دقته ونشاطه، وأن الوجود لا يستحق مليجراما واحدا من التعاسة، والحياة لو أخذت هكذا سهلة بسيطة بلا أحقاد أو تعقد لما أصبح للناس في الدنيا مشاكل.
ووصل إلى قسم الاستقبال. كان زبائنه كثيرين في تلك الليلة، وكانوا ينتظرونه لا بد من قبل أن تغرب الشمس. وعلى الرغم من كل شيء فالدكتور مازن كل يحب نوبة المساء. كانت بالنسبة إليه فترة مستحبة لا تتملكه فيها عصبية النهار، ولا يقاسي من كثرة المرضى الذي يقفون أمامه في طابور لا أول له ولا آخر، ويقبلون إلى المستشفى مع الفجر.
وتصاعدت الهمهمات من الجمع الصغير لمقدمه، ولم يكن قد تمعن فيهم، أو حتى ألقى إليهم تحية المساء. اكتفى بالتفاتة سريعة يعرف بها كم عددهم، وكان واضحا أنهم أكثر من العدد الذي وجده في النوبة السابقة، وأحس لهذا بنوع من الزهو. وحين وقف أكثرهم، وأفسحوا له الطريق، ودلف من بينهم تحفه التحيات والدعوات من الجانبين ملأه يقين بأهميته، ودون وعي أمسك بوق السماعة بأصابعه، وازداد إحساسا بضرورته، وشخط في التمورجية العجوز؛ فقد وجد مقبض الباب لا يلمع، وبقايا بصاق عالقة بالحائط، وأسرعت المرأة بأعوامها الخمسين تجري ويطرقع قبقابها على البلاط، وتزيل البقايا، وتلعن المرضى وقذارتهم.
ودخل الدكتور مازن إلى غرفة الكشف، وكعادته أمر التمورجية بالوقوف على الباب والحيلولة دون دخول أحد إلا لبناء على أمره وطلبه.
وانبعج الكرسي وهو يحتويه، وأمر بفنجان قهوة - سكر شوية - وأكد على التمورجية وتوعدها إذا لم تأت القهوة «سكر شوية»، ومضى يقلب صفحات مجلة «ومن» ويتوقف لدى كل صفحة.
وأخيرا جاء الفرج حين دق الجرس، وأشار للمرأة برأسه دون أن ينطق حرفا.
ودخلت الحالة الأولى تجأر. وقبل أن تنطق كان قد عرف كل شيء، وكتب في التذكرة حقنة تداوي المغص، كان يعرف أنها غير موجودة، وأنها نفدت من الأجزخانة، ولا زال طلبها من الوزارة جاريا، وكان يعرف عن ظهر قلب ألفاظ المحاورة التي سوف تدور بعد قليل بينه وبين المريض حين يعود إليه خالي الوفاض من الدواء، والتي يعلم أيضا أنها تنتهي في العادة بطرد المريض وإدخال آخر.
ودخلت الحالة الثانية والثالثة.
وكان لا يزال مستغرقا في المجلة يتحقق في صورة ممثلة فرنسية ترتدي «مايوه» مصنوعا من جلد رأس فهد، وبه ثقوب مكان العينين والفم، والثقوب تظهر أجزاء من جسدها، ويخفي الجلد أجزاء، وهو منفعل يحاول أن يشغل خياله ليجد ما وراء الجلد أو يخمنه، كان كذلك حتى دخلت الحالة الرابعة.
ولم يتنبه ولم يعد من الوديان التي كان يمرح فيها خياله، ثمة سؤال صغير مضى يشغله؛ ترى أهي حالة مغص أو تسمم؟ وكالعادة مضى يسأل دون أن يعنى بسماع الجواب: اسمك إيه؟ وعاوزة إيه؟ وبيوجعك إيه؟
ولم يعتدل إلا حين خبط عسكري كان واقفا أمام مكتبه، خبط قدميه في سلام عظيم، وقدم له أوراقا كثيرة يحتويها دبوس واحد.
ومر الدكتور مازن على الأوراق مرور الكرام؛ إشارات ومكاتبات مكتوبة بسماجة لا طريف فيها ولا جديد، ولم يقرأ منها ولا فهم حرفا.
وتطوع العسكري بالشرح، وقال إن الحالة التي يستصحبها امرأة مراقبة ليس لها منزل تراقب فيه؛ ولذلك تقضي الليل في القسم، وقد أبلغت الليلة أنها مريضة و...
ولم يدعه يكمل هذه السخافات. أشار إليه أن يصمت، وتطلع إلى المرأة بحب استطلاع حقيقي. لم يكن في حياته قد رأى امرأة مسجونة أو حتى مراقبة، وكان يعتقد أن الواحدة منهن لا بد مجرمة طويلة عريضة تفوح منها القوة، وينضج جلدها شراسة، ولها عين وقحة لا يطفئها الرصاص، وأخرى فيها دهاء الثعالب وسم الأفاعي.
ودهش! فأمامه وعلى الأرض المصنوعة من بلاط كانت تجلس المرأة وقد ضمت أجزاءها الناحلة، ووضعت رأسها بين ركبتيها، بينما راحت عيناها الخابيتان تطلان إليه في وهن القطة الجائعة المتعبة.
وأصيب بخيبة أمل؛ كانت المرأة دودة صغيرة قد التفت حول نفسها لا قوة فيها ولا جبروت، ولا شراسة فيها ولا غدر، ولا يصدر من عينيها إلا استسلام ذليل.
وهز الدكتور مازن كتفيه بعدم اكتراث، وقد فشل في إقناع نفسه بإجرام الدودة التي أمامه. وارتسم على شفتيه الاحتقار. وبنفس الاحتقار هز لها رأسه، وأشار لها بيده أن ترقد وهو يحس في قراره نفسه باشمئزاز مفاجئ.
وحدق برهة في جسدها الأصفر الشاحب، وفي بطنها الذي يتموج الجلد المشوه فوقه، وفي يديها الموضوعتين تحت رأسها، وقد أغلقت عينيها وكأنها في سبات عميق، وكثر اللعاب في فمه وهو يطيل تحديقه.
ولو كان في النهار لما حفل بالكشف عليها، ولكنه الليل ومزاجه المعتدل، وهكذا أخذ يستمع إلى أنفاسها، ويعد نبضات قلبها، وهو حريص كل الحرص على لم معطفه؛ حتى لا يلامسها أو يحف بثيابها.
وسألها في فتور وهو يأمرها بإدارة فمها بعيدا عنه: لماذا سجنوها؟
وكان وهو يسألها يعرف أنها ستنكر وتصر على براءتها، وعلى أنها مظلومة مضطهدة، كلهم مجرمون كذابون، يقتلون القتيل ويمشون في جنازته، ولكن المرأة قالت في هدوء، قالت في هدوء غريب: مسجونة بحشيش.
وخلع الدكتور مازن السماعة عن أذنه كمن لسعه معدنها، وعبر جسدها بنظرة واحدة، وتطلع إليها، ثم عاد إلى كشفه وهو مضطرب يكاد يخاف.
وقال لها: كحي!
فكحت. وانهجي! فنهجت. وصرخ فيها أن تتنفس بعمق ففعلت.
وانتهى الكشف.
وحين كانت الممرضة تصب فوق يده الكحول ليطهرها، مع أن يده لم تكن قد لامست المرأة، ولا علقت بملابسها، وكان يفرك يديه ضيقا بهؤلاء الناس الحمقى الذين لا يجدون إلا الإجرام وسيلة لقتل أنفسهم.
وقال لها في تشف وكأنه يعاقبها، ويحس بالارتياح وهو يعاقبها: إنت عيانة!
فقالت وهي ترتدي ملابسها وتتثاءب الكلمات: بإيه يا بيه؟
وضايقته الطريقة التي سألته بها. إن هؤلاء الناس لا يحسون. إن كلمة المرض كلمة مرعبة تبعث القشعريرة في الأوصال، فكيف بها تتلقاها دون أن تتحرك لها ساكن؟ ضايقته الطريقة فقال: إنت عندك سل.
قالها وهو مقدر أنها ستشعل النار في رماد تلك المرأة فتنتفض وتصرخ، وتتوب عن لهجتها المتثائبة، وتبكي وتلطم وجهها على الأقل، ولكنها أجابت وكأنها تحلم وتريد إغاظته: طب مانا عارفة.
وهم برش الكحول في وجهها وعينيها، ولكن هدوءها أعداه، وتراخت يده القابضة على الزجاجة، وتراخت معها أعصابه، وجلس على الكرسي، وأشعل سيجارة، وبدأ ينظر إلى المرأة من جديد. إنه بالتأكيد ليس أمام حالة أخرى ليكش فيها وترتعد خوفا وهلعا. إنه أمام مريضة من نوع جديد لا يفلح معها تهويشه، ثم إنها مريضة بالسل.
ومع أنه طبيب إلا أن خوفه من السل ومرضاه كان لا يقل عن خوف غيره من الناس. وقال لها في لهجة رقيقة نوعا: وعرفت ازاي؟
وبانت لها سنة صفراء تلمح في فمها وابتسمت، أجل ابتسمت، وجهها الأصفر كالكهرمان تداخلت فيه أجزاء وتقلصت أجزاء، وأفلح في رسم ابتسامة، وقالت إنه ليس أول طبيب يراها، والمرض له قصة؛ فهو قد داهمها في السجن في الأيام الأولى من سجنها.
وعبثت أصابعه بالسيجارة، وضغط عليها بعصبية، وكانت سحب الدخان قد حملها الهواء بعيدا، فبدت المرأة واقفة أمامه نصف مستندة إلى الحائط، وكلامها ينساب في هدوء غريب محير، وملامحها لا تنفعل لكلامها كأنما هي تتحدث عن كارثة أصابت إنسانة أخرى.
وتحت وقع حديثها المنخفض اللين ترعرعت رغبته في معرفة حكايتها. لم يكن هذا طبعه؛ فهو لم يتعود أبدا أن يأخذ ويعطي مع أحد من مرضاه، ولكنه لم يستطع المقاومة، ونسي نفسه والمرضى المنتظرين، وسألها في طفولة أن تحكي قصتها.
ولم تعتدل أو تتنحنح أو تصطنع التذكر، إنما وهي نائمة صاحية، والكلمات تجهضها شفتاها، فتخرج ميتة لا حرارة فيها ولا انفعال، مضت تقول: يا خويا ولا حكاية ولا حاجة ... أنا أصلي م الفيوم، وأوعى ألاقي نفسي شايلة الشاي مع أبويا في الموقف. ولما مات المرحوم بقيت أعمل أنا الشاي، وحبني جدع سواق، وحبلت، وسقطتني مرات أبويا. ولما ضاقت الفيوم في وشي جيت مصر. مصر أم الدنيا، هئ، هئ، هئ! جيت مع سواق، ومن سواق لسواق اتبدل على الموقف لحد ما اتلميت على واد نشال بقى ياخد علي فلوس، وعلمني الصنعة. أهه قلمك البالكر أهه، حسيت بحاجة؟ هئ، هيء! والنبي نفسي أبوس شفايفك الحلوين الحمر دول. يوه ما اطولشي عليك خدني الواد في قمته وتحبست مرة، وطلعت وراقبوني وتفتكر سكت؟ بقيت أنشل برضك، وتاجرت في الحشيش كمان، وبقيت أكسب ومعلمة قد الدنيا. وليا رجالة، ومشيت مع العسكري اللي كان بيراقبني ، واتمسكت أنا وهوه، وآدي أنت شايف أهي عيشة اللي يحب النبي يزق.
كانت تتكلم كمن يحلم، غير حافلة بمن يسمع كلامها أو مقيمة وزنا للطبيب وسماعته ومعطفه، ولا حتى ملقية بأي اعتناء إلى العسكري الواقف بجانبها منتصبا كماسورة العادم. وكما بدأت في هدوء انتهى كلامها في خفوت حتى سكتت.
وطوال الحكاية كان وجه الطبيب كشاشة العرض تتغير عليها الألوان وتتبدل. كان يسمع أشياء خطيرة تقال هكذا بسهولة، وكان وجهه يحمر ويصفر كالعذراء حين تمتد إليها يد جريئة، وتعبث بأقدس ممتلكاتها وقيمتها. وكانت المرأة تعترف بكل شيء دون حياء أو خجل كأنها أستاذة تحاضر في علم النفس.
ورغم كل ما اعتراه وأذهله، فقد كان عليه أن يقول شيئا يبدد به الانتظار الصامت الذي ساد الحجرة، فسألها وهو يقهقه ولا يدري لماذا يسأل، أو لماذا يقهقه: وانت، مالكيش أهل؟ مالكيش أهل؟
فقالت وهي تريح رأسها على الحائط: ليا. - إيه؟ - بنت.
وعاد يسأل وهو لا يدري لماذا يسأل: ليه ... إنت اجوزتني، ولا ...
فقاطعته وهي تسبل عينيها: وح تفرق إيه لما تكون بنت العسكري ولا المعلم. أهم الاتنين أزفت من بعض.
ومضى في أسئلته التي كان يلقيها من وراء عقله: والبنت فين دلوقت؟
ولمح أولى دلائل الحياة في بريق لمع من عينيها، وهي تقول: في المدرسة. - إيه؟ - بتروح المدرسة، وبتطلع الأولى ... دي بنت شاطرة قوي تعجبك. - وبتصرفي عليها منين؟ - ربك ما ينساش عبيده.
وسألها وقد انتابه بعض الضيق: ومودياها المدرسة ليه؟ إنت ناقصة؟
وازداد البريق في عينيها الخابيتين وهي تقول: عايزاها تطلع دكتورة.
وأعقبت إجابتها بسرب من الضحكات الخليعة الميتة.
وتمتم في سره: جتك نيلة.
وفي نفس الوقت عثر على السبب الذي من أجله كان يردد أسئلته التي بدت له سخيفة لا معنى لها، ولا ليس وراءها طائل. كان عقله حتى تلك اللحظة يضرب أخماسا في أسداد، ويفكر فيما يفعله من أجلها، فهو لا يستطيع إدخالها المستشفى؛ فليست هناك أسرة خالية، ولا يستطيع رفع الرقابة عنها؛ فليست له السلطة، وليس لها بيت.
وقلب الأوراق التي أمامه بيد غير مستقرة، وتمتم وكأنما يحدث نفسه: طب وح اعملك إيه بس؟
وفوجئ بصوتها الهادئ يخترق حيرته كاليد الجريئة العابثة، ويقول: لا تعمل لي ولا أعمل لك. اديني الأجازة وخلاص.
وحملق فيها وكأنه يرى شبحا من الأشباح. وبدا له كأن المرأة مارد سيبتلعه، وأحس بضيق، وتبدلت لهجته فجأة، وأظلمت ملامحه، وقال: طب اخرسي انت.
وأمسك بالقلم، وحركه في الهواء مرات قبل أن يكتب الجملة التي لا يملك غيرها:
حضرت وعمل لها اللازم، وتحتاج لإجازة من المراقبة قدرها عشرة أيام.
وخطت ناحيته متمايلة في ضعف، والتقطت البقية الباقية من سيجارته الثالثة التي كانت ترقد على الأرض، وأخذت نفسا ثم أخرجت دخانا كثيرا عاليا، ورنت منها ضحكة خافتة وهي تقول: مش برضه عشرة أيام يا دكتور؟
وكان أمامه رد واحد؛ أن يصفعها، ولكنه خجل؛ فليس هناك سبب واحد معقول يتيح له صفعها، وسكت، وقالت وهي تأتي على الأنفاس الأخيرة من السيجارة: والنبي لطلع فاطمة دكتورة حلوة زيك كده، والنبي.
وكادت تسترسل لولا النظرات النارية التي تفجرت من عينيه، فقالت: سبتك بعافية بقى.
وفي هدوء بطيء ذهبت إلى الركن، وأخذت منه صرة ملابسها، وخرجت منحنية على نفسها وبقايا السيجارة تحرق أصابعها الجافة، وذرات الدخان تشيعها.
وخبط العسكري الذي يحرسها قدميه في سلام صاخب، وأخذ الأوراق ومضى.
وجلس الدكتور مازن صامتا، وقد توقف تفكيره، وثمة غيظ يخنقه وإحساس بالخوف؛ خوف ميت بليد يزحف عليه من حيث لا يدري ولا يعلم. وتحسس بلا وعي سماعته وزرر البالطو، ثم خبط المكتب فجأة بقبضة يده حتى قفز قلمه وسقط على الأرض، وانقصفت سنه.
وجاءت التمورجية العجوز على الخبطة، ولم يكد يراها حتى انفجر وراح يعيد توبيخها لقذارة المقبض والبصاق العالق بالحائط. ولم يكتف بهذا، بل أقسم أنه سيكتب مذكرة للمدير لخصم ثلاثة أيام من مرتبها.
المحفظة
من الساعة الثامنة وسامي يجلس على ذلك الكرسي الصغير في ركن الحجرة، وأمامه المنضدة والكتب والواجبات والجداول، وأمامه فوق هاته جميعا المشكلة الكبيرة الضخمة التي كان قد حدد ليلتها بالذات ليحلها.
إنه لم يعد يستطيع، فليست هذه أول أو ثاني مرة. له شهر وهو يتفق مع صلاح وعبد المنعم على الذهاب إلى السينما، وفي كل مرة: غدا، أجل غدا. خلاص يا سامي، خلاص يا صلاح، الساعة تلاتة أمام شباك التذاكر، الساعة تلاتة. ثم يأتي الغد ولا يذهب. لا يستطيع الحصول على الشلن، ولا يستطيع حتى أن يري صديقيه وجهه ليبدي لهم عذره. وهذه المرة من أسبوع وهو يحاول. إن «المصروف» الذي يتناوله بين كل آن لا يكفي، والمطلوب خمسة قروش. قال لأبيه إنه يريد كراسة، وقال مرة ورق أشغال، ولم يحصل على ثمن لهذا أو لذاك. حاول مع أمه بلا فائدة. كلما ألحف عليها رفعت كفيها إلى السماء، وطلبت من الله أن «يسبك» ما معها من نقود على عينيها إن كان معها نقود.
ما هي حكاية هؤلاء الناس؟ إنه ما طلب منهم أبدا نقودا وأعطوه. دائما والله ما معنا. وأبوه، أبوه بطوله وعرضه وكرشه الودود وأصابعه الغليظة، أبوه كله لا يتورع عن القسم أمامه بأغلظ الأيمان أن ليس معه ولا «خردة». وهل هذا معقول؟ أمعقول أن أباه مفلس تماما كما يحاول أن يفهمه؟ أبدا! غير معقول بالمرة. إنه قادر على كل شيء، إنه يستطيع أن يفعل أي شيء، فقط لو أراد. أليس هو الذي أدخله المدرسة بعدما دخل الأولاد كلهم ورفضت أوراقه هو؟ أليس هو الذي أقسم يومها أن لا بد من دخوله في اليوم التالي، وغاب عن المنزل طيلة ما بعد الظهر، وأدخله في اليوم التالي؟ إنه يستطيع أن يفعل المستحيل. مرضت أخته، كانت أمه تقول إنها ستموت، وكانت تبكي، وكان سامي يبكي، وكان أبوه هو الوحيد الذي لم يبك، والذي قال إنها لن تموت، وهو الذي أخذها إلى الحكيم واشترى الدواء، ولم تمت سامية. أبوه هذا القادر على كل شيء قال له أمس وأول أمس واليوم أيضا إنه مفلس. حدثه سامي عن اتفاقاته السابقة مع صلاح وعبد المنعم واتفاقه ذاك، وضحك أبوه الطيب وقال: خليك لأول الشهر . وأكثر من الطلب وأكثر أبوه من القسم: والله ما معي يا بني. وهل هذا معقول؟ بيتهم كله إذن ليس فيه شلن؟ إنهم يضحكون عليه. إنهم يظنونه طفلا صغيرا من السهل خداعه. إنهم لا يعنيهم أبدا ذهابه إلى السينما ولا يقدرون قيمته؛ لأنهم لم يجربوها ولم يذهبوا إليها. إن المسألة بالنسبة إليهم ليست خطيرة. إنها ليست كمرض سامية. ويعتقدون أنه غر أبله يكفي أن يقسموا أمامه لكي يصدقهم؟!
لقد أحكم التدبير وكل لحظة معدة إعدادا دقيقا في رأسه. سيحصل على هذا الشلن بأسهل مما كانوا يتصورون. أيعتقد هؤلاء الناس أنه لا يعرف محفظة أبيه ومكانها وضخامتها وما تحتويه؟ أحسبوه مغفلا إلى هذا الحد؟
الساعة العاشرة. أبوه وأمه وإخوته كلهم نائمون في الحجرة الثانية. إنه لا يخاف من أحد سوى أبيه. أمه لا تستيقظ أبدا في الليل. أبوه هو الذي توقظه كل حركة مهما بلغت تفاهتها. عليه أن ينتظر قليلا حتى يطمئن إلى أنهم جميعا قد استغرقوا في النوم إلى آذانهم.
وأراد أن يقضي الوقت في حل مسألة الحساب الباقية من الواجب، ولم يستطع. كان «ثمن الشراء» يقفز أمامه ويصبح «ثمن البيع»، وكان يضع «العلامة العشرية» على يمين الرقم، فإذا بها تساهيه وتتسلل وتصبح على يساره. ونفض يده من المسألة، وراح يتأمل كالتائه محتويات الحجرة التي يذاكر فيها هو وأخته، والتي يأكلون فيها أيضا، ويستقبلون الضيوف، وتناله الصفعات أحيانا.
وانتبه إلى نفسه على صوت يأتي من الخارج، وأصاخ أذنيه. كان بيتهم كالقبر لا يسمع فيه خرير الماء القليل الذي يتسرب من الحنفية، وسرسعة الصراصير في المطبخ. وكان الحي بأكمله ساكنا سكونا أبديا لا يقطعه سوى ذلك الصوت؛ صوت وحيد متهدج كأنما يعزي الناس على خيبتهم.
وأدرك سامي بعدما تسمع قليلا أنه صوت المذيع يقول نشرة الأخبار.
ودق قلبه.
لقد حانت الساعة.
وغادر مكانه على أطراف أصابعه. واحتار أيطفئ نور الحجرة أم يبقيه؟ يبقيه. إنه خائف والنور يونسه. وتوقف في الصالة الصغيرة التي تفصل حجرتي شقتهم. أبوه يشخر، عظيم!
وتقدم من باب حجرة النوم وأدار «الأكرة». الباب يزيق كلما فتح. عليه إذن أن يفتحه ملي بملي. ها هو قد أصبح في الداخل. الظلام ثقيل، إنه لا يرى شيئا المرة. ماذا حدث لعينيه؟ شعاع واحد يتسرب من الباب الموارب. أبوه يشخر. أخته تقرض مثل الفأرة على أسنانها كعادتها حين تنام. إنه يرتعش. لماذا يدق قلبه هكذا؟ إذا لم يهدأ سيوقظ أباه بدقه الملعون. ولماذا كل هذا العرق؟ تقدم يا ولد! تقدم!
وتقدم سامي أكثر في منتهى الحذر. السرير الذي يرقد فيه والداه وأخته على يمينه، أخوه الصغير يرقد على «الملة» التي يشاركه فيها. الدولاب بعد خطوات قليلة على يساره. عليه أن يزحف بقدميه حتى لا يسهو ويصطدم بأخيه النائم ويصرخ وتكون الكارثة. كف عن الدق أيها القلب اللعين. شخر يا أبي شخر. ارفع من صوتك هذا الذي طالما أرق نومي.
وحدث أن توقف فجأة عن الشخير، وتوقف قلب سامي هو الآخر.
ولكن أباه عاد وجذب نفسا عميقا مصحوبا بشخير أعمق. نعم، هكذا، هكذا يا أبي أرجوك.
ملمس الدولاب الناعم كالحرير أصبح يحسه. ها هي قبضته المكسورة، عليه ليفتحه أن يمسك المقبض بقوة، ويرفع «الضلفة» إلى أعلى قليلا ثم يجذبها بسرعة، هكذا جرب أن يفتحها في النهار دون أن تحدث صوتا.
وفتح الدولاب.
وأصبحت الملابس المعلقة داخله في متناول يده. كان لديهم شماعتان، أمه قد أخذت شماعة بأكملها لملابسها وقاسمت أباه في الأخرى. ولم يكن عسيرا عليه أن يفرق بين الشماعتين؛ فملمس بدلة أبيه الخشنة واضح، والرائحة التي تنفثها البدلة واضحة أيضا، إنها رائحة أبيه، إنه يعرفها فطالما شمها وهو يعانقه، وطالما شمها في «جاكتته» القديمة التي يرتديها وهو يذاكر حتى لا يبرد.
بحث في أول جيب صادفه. ليس فيه سوى المنديل مكورا، وأشياء في قاعة تستقر كحبات الرمل، ولم يجد في الجيب الآخر شيئا.
وكان سامي يتوقع هذا؛ إذ ليس من المعقول أن يضع أبوه نقودا في جيوبه الخارجية. النقود في المحفظة، في الجيب الداخلي. ورغم هذا بحث - من قبيل الاحتياط - في الجيب الصغير الذي توضع فيه «الفكة». كان خاويا تماما. ليس هذا فقط، بل لم يجد له قاعا أبدا!
وأحس بشيء من الرهبة وهو يدخل يده في الجيب الداخلي. ودق قلبه بعنف حين عثرت أصابعه على المحفظة، وحين استخرجها من الجيب أحس بشيء داخل نفسه يشتمه ويلعنه، وأجفل، ولكن المحفظة كانت قد أصبحت في يده، وكانت ثقيلة سميكة، لها رائحة خاصة مقبضة.
وارتبك.
كانت الخطة التي وضعها منذ الأمس تنتهي بحصوله على المحفظة، ثم، ثم ماذا يفعل؟
وفي سرعة كان قد أدرك أنه من المستحسن أن يأخذها إلى الحجرة الأخرى، ويأخذ منها القروش الخمسة، يأخذها من «الفكة»، فأبوه قطعا يعرف عدد النقود الورق، أما «الفكة» فإنه لا يعرف عددها، ولن يلحظ غياب خمسة قروش منها.
وتسلل خارجا. وتقلبت أمه وغمغمت وهو يمرق بين ضلفتي الباب، ولكن الموقف كان قد دبغ أعصابه، فلم تعد تهزه أصوات أو غمغمات. وما كاد يصبح في الحجرة الأخرى حتى أغلق الباب وجر الكنبة ووضعها خلفه، وجهز حكاية يقولها لأبيه إذا صحا وضبطه محكما إغلاق الباب على تلك الصورة.
وجلس أخيرا على نفس الكرسي الذي دبر عليه الخطة، ووضع المحفظة أمامه. كانت شيئا ضخما كبيرا في حجم الكتاب المجلد وكأنها محفظة بنك، وكانت من النوع القديم الأجرب الكالح. وكان يعرف أن أباه يضع الفكة في جيبها الرئيسي الطويل، وفتحها بسرعة ومد يده داخلها ولم يجد شيئا. وقلبها وظل يرجها وسقط منه شيئان: نص فرنك ممسوخ معضوض لا بد أنه كان لازقا في طياتها. والشيء الآخر كان غريبا عجيبا؛ «زلطة» سوداء صغيرة مفلطحة شكلها لذيذ. ماذا يفعل أبوه بتلك الزلطة؟ ولماذا يحافظ عليها ويضعها هكذا في أعماق المحفظة؟ أفيها سر؟ وهل يتقي بها العفاريت؟ أو يستعين بها على جلب النقود إلى المحفظة؟
ولم يلبث أن ترك الزلطة وأمسك بالقرشين، قرشان؟ كل ما معه من فكة لا يتعدى «النص فرنك»، وليته نصف فرنك صالح للاستعمال، إنه يشك كثيرا من إمكان تداوله.
ما هذه المصائب؟ كل ما توقعه يصفي على قرشين؟!
وأخرج سامي كل ما في باقي جيوب المحفظة من أوراق، وتفحصها جميعا بنظرة واحدة سريعة. ولمح من خلال الكومة التي أصبحت أمامه عشرة قروش تكاد تزهق روحها من كثرة ما تراكم فوقها. وكان من المستحيل أن يصدق أنها كل ما في المحفظة من نقود. لا بد أن البقية يحتويها ظرف من تلك الظروف؛ إذ كثيرا ما رأى أباه يضع فيها الأوراق الخضراء والصفراء.
ومضى يفتح الظروف ويستخرج محتوياتها. كانت رغبته العارمة في العثور على الشلن هي التي تدفعه أول الأمر إلى فض المظاريف والبحث بينها، ولكن بعد لحظات غلبه حب الاستطلاع على أمره. كانت تلك أول مرة يتاح له فيها أن يطلع على مكنون محفظة أبيه، وعلى ما فيها من أوراق لا بد أنها مهمة جدا، لها أهمية غير عادية، وإلا لما احتفظ بها داخل تلك الحوصلة الجلدية. كثيرا ما رأى المحفظة وهي خارجة داخلة إلى جيب أبيه، وهي مفتوحة ومطوية، وهي في مكانها المعتاد، ثم وهي ترقد تحت «المخدة» أحيانا. كثيرا ما ألحت عليه الخواطر والهواجس تخمن ما تحتويه وتدفعه إليها دفعا، ومحتوياتها كلها أمامه الآن، فأية فرصة ذهبية جاءته من السماء!
لم يكن يفهم ما يقرؤه تماما، ولكنه كان مسرورا قلقا؛ ذلك النوع الغريب من القلق البهيج الذي يعتري الإنسان كلما أتيحت له معرفة سر من الأسرار بطريقة محرمة.
وجد خطابا من خاله، يتكلم فيه عن ميراث، وعن مبلغ، ويسلم فيه عليه. ترى لماذا لم يبلغه أبوه السلام؟ ثم ما تلك الأوراق الصدئة المهرية التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟ إن حبرها من نوع أسود قديم لم يره أبدا، وخطها حلو، وهذا الشيء المرسوم عليه مئذنة وقبة. قد صار زواج فاطمة بنت عبد الله، من تكون؟ أتكون أمه. لا بد ولا بد أن يكون إبراهيم منصور أباه. وهذه الورقة الحمراء؟ إدارة الغاز والكهرباء؟ نرجو عند الرد ذكر رقم 284، إيه ده؟ وإذا مش عارف إيه سنقطع التيار. ما هو ذلك التيار الذي سيقطعونه وبأي شيء سيقطعونه؟ وهذا الظرف المكتوب عليه «قطعة من كسوة الكعبة الشريفة، هدية من العبد الفقير إلى الله تعالى الحاج مبارك محمد حسن»، قطعة القماش السوداء هذه التي في الظرف من الكعبة؟! ياه! إن رائحتها صعبة، أمسك ذاك أم عنبر؟ هي السبب إذن في تلك الرائحة المقبضة التي تنبعث من المحفظة؟
وكان ممكنا أن يظل سامي مستغرقا في نشوة الاضطراب الخفي تلك، ولكنه وفي خضم ما كان فيه وعت أذنه صوت السلام والراديو يذيعه وختم به برامج السهرة.
وفي الحال عاد إلى نفسه مضعضع الحواس، وكأنما ضبط متلبسا، وأصبح همه في اللحظة التالية أن يعيد الأوراق كلها إلى ما كانت عليه بنفس ترتيبها ونظامها؛ حتى تبدو وكأن لم يمسسها بشر. وفي الحق كانت مهمة صعبة، ولكنها انتهت. وبقيت العشرة قروش راقدة أمامه على المنضدة منطوية على نفسها كالخرقة البالية. لم يرجعها إلى المحفظة، وكذلك لم يدسها في جيبه. وكان عليه أن يقرر أمرا من الاثنين، ولم يكن القرار سهلا. إذا أخذها لا بد ستنكشف السرقة، وإذا تركها فقد آخر أمل في الوفاء بالميعاد والذهاب إلى السينما.
والعجيب أنه لم يفكر في واحد من الأمرين، كان قد أفاق من النشوة التي أتخم بها حب استطلاعه، وامتلأت نفسه بالحنق الشديد. كيف لا يعثر إلا على عشرة قروش مهرأة، ونص فرنك ماسح معضوض؟ هذا الأب الضخم الطيب الذي يصنع المعجزات ولا يقف أمام مقدرته شيء، كيف لا يكون معه سوى مبلغ تافه كذلك؟
هذه خديعة هذا ضحك من نوع آخر عليه. لماذا لم يعمل حسابه؟ لماذا لم يكن في المحفظة مبلغ كبير كما توقع؟ أين صرف النقود؟ أين الماهية؟
وامتدت يده الغاضبة ودست العشرة القروش في جيبه. سوف يذهب إلى السينما بخمسة ويصرف الخمسة الأخرى. يأكل «بغاشة» و«جيلاتي» كما يأكل كل الأولاد، وليكن بعد ذلك ما يكون. وهو ما له؟ وما ذنبه إذا كانوا يرسلونه إلى المدرسة ولا يعطونه نقودا؟ وإذا سألهم ضحكوا عليه وأقسموا أن ليس معهم، وإذا فتشهم لم يجد سوى ورقة صغيرة بالية.
وحتى وهو في طريقه إلى حجرة النوم ليعيد المحفظة إلى الجيب الداخلي، كانت خطواته لا تزال تحفل بالاستنكار والغضب. وحين فتح الباب وجد كل شيء كما كان؛ أبوه يشخر وأخته تقرض أسنانها والظلام مخيم.
ولم يأخذ حذره هذه المرة ويقفل الباب وراءه؛ إذ لم يعد يهمه وهو في قمة الغيظ ما يحدث. ودلف وراءه من الباب المفتوح شعاع باهت من النور أضاء الحجرة قليلا وسقط على وجه أبيه.
وألقى عليه سامي نظرة وكأنما ليصب عليه جام غضبه، ولكنه تسمر في مكانه، وظل يحدق فيه كالأبله. كانت رأس أبيه منزلقة من فوق «المخدة»، ومثنية على كتفه، وكانت عارية وقد سقطت عنها الطاقية التي يرتديها وهو نائم، وكان شعره خفيفا مشوشا تلمع من تحت صلعته، وكان فكه مدلى وفمه مفتوحا، والشخير يتصاعد منه في غير انتظام. وسامي دائما كان يرى أباه في النهار ضاحكا أو مبتئسا، راضيا أو ساخطا، ولكن ملامحه على أية حال كانت دائما فيها قوة وصحة وحياة تجعل أباه يبدو كالأسد الأليف الذي يوحي مرآه بالثقة، ولحظتها ورأسه منزلقة، وفمه مفتوح، وشعره مهدل مشوش، وملامحه متراخية مستسلمة، لحظتها رآه طيبا جدا، وغلبانا جدا. ليس هذا فقط، بل إن محفظته الكبيرة الضخمة ليس فيها كلها سوى قروش عشرة، وزلطة، ونص فرنك.
ظل سامي واقفا في مكانه يحدق في أبيه وكأنه يراه لأول مرة. كان من كثرة ما تعود رؤيته قد ألفه، وألف أن ينظر إليه كأبيه، وإذا به الآن يراه وكأنه ليس أباه، وكأنه قد أصبح إنسانا مستقلا عنه، رجلا آخر، غريبا، طيبا، غلبانا، منفصلا عنه تماما، له جسد ورأس وساق قد انكشف عنها ثوبه، وبدت ضامرة مليئة بالشعر.
وأحس بألم حاد ينتشر في نفسه، وشيء يريد خنقه، ثم أحس برغبة عارمة في البكاء، ثم أحس أنه يود أن يلقي كل ما بنفسه، ويندفع إلى الرجل الغلبان أمامه يعانقه ويضمه بشدة ويقبله، ويقبل فمه المفتوح الطيب ذاك، وذقنه النابتة الخشنة، وعيونه المغلقة في استسلام.
ولم يكف أبوه طوال الوقت عن الشخير. يستريح وجهه لحظة، ثم تخرج الأصوات من أنفه وفمه. أصوات ممدودة غلبانة هي الأخرى، تكاد تقسم وتقول: والله ما معي ولا أمتلك.
لم يضحك عليه أبوه إذن ويخدعه، وهو ليس كما ظن سامي قادرا على كل شيء. إنه نائم، مستسلم، وطيب، ولم يكن يخدعه.
وتململ الأب واضطرب شخيره.
وتحرك سامي والأحزان تملؤه، وأغلق الباب، وأخرج القروش العشرة من جيبه ودسها بغير حماس في المحفظة، ثم أسقطها في الجيب الذي كانت فيه.
وبعدما أطفأ النور في الحجرة الأخرى رقد بجوار أخيه على «الملة».
وكان يحب تلك الفترة التي يرقد فيها وينتظر النوم؛ إذ كان يحلم فيها بالقلم الأحمر الذي رآه في المكتبة والخمسين من خمسين في الإنجليزي، أو يفكر في الحيلة الجديدة التي عليه أن يبتكرها ليحصل على قرش في الصباح.
ولكن أفكاره طوال الوقت لم تغادر الرجل الراقد غير بعيد عنه فوق السرير، وثمة إحساس كبير يملؤه، وكأنه كان يستند إلى جدار، وإذا بالجدار ينهار من خلفه ويتركه مستندا إلى الفراغ.
وكلما استعاد مشهد ملامحه ومحفظته أحس وهواتف خفية تنبثق في صدره وتهيب به أن يفعل شيئا. لا بد أن يملأ محفظته بالنقود، بمئات الجنيهات، لا بد أن يجلب له كنزا، لا بد أن يشتغل، يعمل أي شيء، وعلى الأقل يقبض عشرة جنيهات في الشهر يعطيها لأبيه قائلا: خذ ولا تزعل. قم وانهض وغط ساقك، واستعد ملامح الأسد. قم يا أبي، ثم أنا لم أعد طفلا. أنا والله رجل، رجل كبير يا أبي، لا تخف علي، سأحميك ولن أطلب منك نقودا، ولن أحتال عليك لأحصل على القروش، وحياتك يا أبي لن أفعل هذا.
وتقلب أخوه وزأم كمن يحلم، ثم علا صوته، وغمغم. عاوز أشرب، هه، عاوز أشرب.
وكثيرا ما يسمع أخاه يغمغم ويطلب الماء في الليل، فيظل ساكنا على مضض، ولا يتحرك حتى توقظ الضجة أباه فيقوم ويسقيه.
ولكنه ما كاد يسمعه هذه المرة حتى هدهد عليه، وهو يقول: حاضر.
ثم قام في حماس زائد، وملأ له الكوب، وعاد به وحده في الظلام.
وقبل أن يغلق عينيه اعتدل كمن تذكر شيئا، ومد يديه وراح يحبك الغطاء حول أخيه، كما يفعل أبوه تماما، وتأكد أن قدميه ملفوفتان في «البطانية»، ورأسه معدول فوق المخدة.
ثم أخذه في حضنه.
ونام.
الناس
كان في بلدنا «طرفة»، لم تكن كبيرة ولا عالية أو ذات سيقان وفروع، كانت ضئيلة الحجم، قصيرة قميئة ورقها كورق العبل رفيع وأسطواني، ولونها أخضر قاتم، ولا تعرف ربيعا أو خريفا؛ فهي تورق على الدوام، ولا تعرف ضعفا ولا قوة، فهي لا تنمو ولا تصغر، ولم يزد حجمها أو ينقص طوال أجيال.
ولا يدري أحد كيف نبتت تلك الشجرة في بلدنا؛ إذ إن شجر الطرف نادر الوجود في الأرض الطمي، فهو لا ينمو إلا في مناطق المستنقعات. وكذلك لا يدري أحد لماذا اختارت ناحيتنا بالذات.
كل ما نعلمه أن أهل بلدنا اعتقدوا فيها، ونظرا لواحدانيتها حف بها نوع من التقديس، وآمن الناس أن لا بد وراء وجودها سر باتع وكبير.
ومنذ أجيال وأهل بلدنا لا يتبركون بها فقط، ولكنهم يستخدمونها كدواء لأمراض العيون. ما من كائن وجعته عينه إلا ووصف له أحدهم ورق الطرفة. تذهب بعد الفجر إلى الشجرة وتنظر إلى أن يهبط الندى، ثم تأخذ عدة عقل من أوراقها وتكسرها، فيسيل منها لزج تقطر في العين الموجوعة منه قطرتان لا ثالث لهما. وبإذن واحد أحد يحل الشفاء.
وأغرب ما في الأمر أن الشفاء كان يحل فعلا. صحيح أنه في أحيان كثيرة لم يكن يحل الشفاء. أحيانا كان يتضاعف المرض، وأحيانا نادرة كان يحل العمى أو العور، ولكن الناس لم يكونوا يعزون بالفشل إلى ورق الطرفة بقدر ما يعزونه إلى نجاسة المريض مثلا أو أحد من أهله، أو أن المرض قد زاد واستمكن، أو أنك لا بد قد أخطأت ولم تنتظر حتى يهبط الندى.
ووعينا نحن فوجدنا شجرة الطرفة من معالم بلدنا الأزلية تحف بها القداسة وتكتنفها الأسرار، فكنا نخاف منها ونرهبها، ونتخيلها بقامتها القصيرة وورقها الرفيع المسنون كعجوز شمطاء تقطع الطريق إلى الترعة، أو كأنها خالتنا أم الغول.
وشببنا فوجدنا اعتقاد أهل بلدنا فيها لا يتزلزل أو يصيبه وهن. غزا الطب الريف، وافتتحت في البنادر عيادات رمد ومستشفيات، وهم مصرون على تلك الشجرة فخورون بها، يحمدون الله على وجودها في بلدنا دون سواها، ويكنون لها أعمق التقدير، حتى ليكاد الواحد منهم يقرأ الفاتحة إذا ما مر عليها.
والعجيب أن الاعتقاد فيها كان شاملا. الكل يؤمن بها؛ الكبير والصغير، والفقير وصاحب القرشين، بل امتد هذا الإيمان إلى ما جاورنا من قرى، وأصبح من المناظر المألوفة في بلدنا أن ترى أناسا جالسين بعد الفجر حول شجرة الطرفة، ينتظرون في صمت وفي رهبة هبوط الندى.
وأصبحنا تلامذة وتعلمنا، وعرفنا التاريخ والجغرافيا والهندسة والطب وقانون الغازات لبويل.
وبدأنا نكفر بشجرة الطرفة.
وكان أكثرنا حماسا ابن الصراف الطالب بكلية الزراعة الذي لم يكفه الكفر والإلحاد بالطرفة، بل راح يضيق بأهل بلدنا أنفسهم سخافتهم وعقولهم الجامدة الضيقة التي تحجرت على الإيمان بشجرة لا حول لها ولا قوة.
ثم أصبحنا كلنا نجاهر بهذا الكفر، وما لبث ضيقنا وسخطنا أن تحول إلى حركة ودعوة، وجاء اليوم الذي أعلنا فيه الجهاد، وقسمنا أنفسنا؛ فريق يخطب في المساجد ويقول: يا أهالي الطرفة تعمى كل ذي عينين. وفريق يلف على الناس والمصاطب ويقول: يا إخواننا، الحكومة فتحت مستشفيات عليكم بها ودعوا الطرفة. وفريق وقف بجوار الشجرة يستقبل كل من جاء ويشرح له، ويحاول أن يثنيه عن عزمه. وكان الناس ينظرون إلينا ونحن نفتح أفواهنا ونخرج منها كلاما سريعا كثيرا، ويهزون رءوسهم ويقولون لبعضهم البعض: كلام حلو يا أخي، كلام مضبوط.
واعتبرنا أن المسألة قد انتهت، وأن عيون الناس قد سلمت على أيدينا، وأننا نستحق على مجهوداتنا تماثيل شكر وآيات تكريم، ولكننا بعد مضي أيام اكتشفنا أن الناس لم تكف عن استعمال أوراق الطرفة، ولا حتى اختفى الجالسون تحت الشجرة ينتظرون هبوط الندى.
وقلنا إلى الجهاد من جديد.
وظللنا أياما كثيرة نكلم الناس ونناقشهم ونضرب لهم الأمثال فيهزون رءوسهم ويوافقون، بل يغالي بعضهم في لوم نفسه ويقول: لا مؤاخذة يا فندي انت وهو، أصلنا جهلة والجاهل أعمى، والعتب على النظر.
ولا نتركهم حتى يبدو عليهم الاقتناع الصادق الأكيد ... وما إن يمرض منهم مريض حتى تكون أوراق الطرفة هي أول دواء يوصف وأول ما يستعمل.
وظللنا أعواما كثيرة نحاول ونيئس، ونيئس ونفشل. وكالعادة لم يستمر جهادنا كثيرا، فما لبثنا أن نفضنا أيدينا من الأمر، وقد بدا أن ليس ثمة قوة تستطيع زلزلة إيمان الناس بالطرفة.
ولكن ابن الصراف، وكان نحيفا عصبيا عنيدا، وإن كان قد أصابه اليأس كما أصابنا إلا أنه لم يسلم بالهزيمة، وظل الأمر يشغل باله ويكاد لا يفكر في غيره.
وذات يوم عنت له فكرة، فأخذ أوراقا من الطرفة وذهب إلى أستاذ في كليته، وحكى له الحكاية، وطلب منه تحليل الأوراق.
وفوجئنا حين أثبت التحليل أن في الورق نسبة من كبريتات النحاس التي تصنع منها القطرة.
وأشعنا الخبر في البلدة، أشعناه ونحن نصفق ونهلل وكأننا اكتشفنا كنزا كان مجهولا. وقلنا للناس: لا ضير عليكم من استعمال الطرفة؛ ففي أوراقها قطرة.
وهز الناس رءوسهم بلا حماس وغمغموا: جالكو كلامنا؟
كل ما حدث أنه حين مرت أعوام كثيرة، وعدنا إلى بلدنا موظفين وخبراء ومحترمين، وجدنا أن شجرة الطرفة لم يعد لها ذلك التقديس القديم، وأنها هزيلة شاحبة لم يعد حولها منتظرون ولا تخيف كما تخيف أم الغول.
ووجدنا الناس قد كفوا عن استعمال أوراقها في علاج العيون، وحين كنا نسألهم عن السبب ونحن مذهولون، كانوا يهزون رءوسهم ويقولون: سيبك يا شيخ، القطرة برضك أنضف.
الوجه الآخر
كان الواحد منا إذا عثر على «نص فرنك» وهو صغير طار من الفرحة، وحين كبرنا أصبح ما يفرحنا أن نعثر على إنسان، أو كلمة طيبة!
والحركة كما يقولون بركة، وأن تقص شعرك كل مرة عند نفس الحلاق شيء ممل حقا. ولم أكن أستقر عند أحدهم، ولم أكن أطمع أن أدخل صالونا ذات صدفة فأجد صاحبه إنسانا كالأسطى زكي. كان كل همي إذا دخلت عند الحلاق أن أعد نفسي لعملية التعذيب القادمة. وقص الشعر عملية تعذيب يؤديها الإنسان كالواجب الثقيل المفروض؛ إذ ما معنى أن يجلس الواحد نصف ساعة أو أكثر، ورأسه مثني على وضع معين، وعروق رقبته متصلبة تكاد تنقطع، وكل هذا ليقص شعره بضعة ملمترات، أو ليبدو وجهه أكثر وسامة؟!
كان الأسطى زكي الذي أسلمته رأسي رجلا غريبا؛ فصوته رفيع كأصوات النساء، ووجهه أحمر كوجوه الأتراك، وهو قصير سريع الحركة كمخلوقات والت ديزني، وفي عينيه ذكاء. والأعجب من هذا سيجار توسكانيلي لا يغادر فمه مطفأ ولا مشتعلا، وكأنما ولد به. إذا أشعله يفعل هذا بثلاثة عيدان كبريت، ويكتم الدخان المتصاعد منه أنفاسي؛ دخان ثقيل قابض كأنه مصنوع من ذرات رصاص. وإذا انطفأ تركه بين شفتيه، وكلما نطق يتلاعب السيجار إلى أسفل وأعلى، وكأنما أصبح جزءا من تقاطيعه. وكان أكثر شعر رأسه أبيض منكوشا كشعر المذهولين، وهناك وجوه لا تحس بملامحها، وكنت تحس أن في وجهه أنفا. ولم يكن يرتدي البالطو الذي تعود الحلاقون ارتداءه. كان يرتدي قميصا وبنطلونا. القميص من قماش لا يستعمل للقمصان، ذو خطوط غامقة كثيرة وليس له ياقة، ومفتوح عند العنق يظهر بقعة من صدره فيها شعر كثيف أبيض. والبنطلون حائر في وسطه لا يعرف على أي جزء من كرشه المقوس الأملس يستقر. وهو كالمكوك لا يهدأ. في نفس الوقت الذي يقص فيه شعري كان مشتبكا في ثلاث مناقشات مع زملاء ثلاثة له؛ واحد دخل معه قافية حول البامية والقرون، والآخر يحدثه عن طريقة مبتكرة لعلاج المرارة، والثالث يضحك معه على الاثنين. وينثني فجأة ويهمس في أذني بتعليق أو كلمة ترحيب، ويسألني إن كنت في حاجة لجريدة. ولا ينتظر جوابي ويرتفع صوته باحثا عن «الاثنين»، ولا يجدها ويشتم الصبي، ويجد أن «آخر ساعة» قد طارت، ويعود إلي بالأهرام وعلى وجهه ابتسامة خجولة آسفة تكاد من برودتها تطفئ «ولعة سيجارة».
والمقص بين إصبعيه لا يكف عن الطقطقة به لحظة، وكأنه حاو يقوم باستعراض أمام الناس ويريهم معجزة.
ويبدو أنه كان مشهورا واسمه تتقاذفه الأفواه كالكرة الشراب، والداخل والخارج والزبون والزميل والجميع يعاملونه كما لو كان لعبة طيبة لطيفة مهما سخرت منها فلن تعقب، واللعبة تغري باللعب، وهكذا لم يكن أحد يدعه على حال، ولم يكن يبدو عليه الضيق بأمثال تلك المداعبات، بل لعله كان مسرورا. كنت الوحيد المغيظ؛ فرقبتي هي المثنية، والعبث كله على حساب رأسي وأعصابي، والرجل كان باديا أنه تعدى الخمسين ولا يستطيع الإنسان أن ينهره بسهولة.
وبلغ بي الضيق منتهاه، ومن كثرة ضيقي أمرت الصبي الواقف ينش علي الذباب أن يكف؛ فأن يحس الإنسان بالعذاب لأنه يقضي نصف ساعة وهو جالس أمر قد يحتمل، أما أن يقضي صبي صغير في العاشرة من عمره اليوم بطوله واقفا في مكانه لا يتحرك، ولا يفعل سوى نش الذباب عن وجه الزبائن وكأنه آلة، فأمر لا يحتمل.
والظاهر أن الأسطى زكي لم ينتبه إلى أني السبب في توقف النش؛ فقد نهر الصبي وأمره بمضاعفة جهوده في طرد الذباب. ولم يكن هناك إلا ذبابتان؛ واحدة لا تتحرك من فوق المرآة، والأخرى تحوم حولنا. إذا نفث الأسطى زكي دخانه فرت، وإذا كف عادت.
وانتهزت الفرصة، وانفجرت أطلب من الصبي أن يكف، وأقول للأسطى زكي: هذا تعذيب وقلة إنسانية ... (إلخ، إلخ).
وابتسم ردا على غيظي وقال: أمال، أمال، ينش، لازم!
وعدت أردد ما قلته، وعاد يقول وهو حائر بين الضحك والابتسام: أبدا، أبدا، إلا دي، دا لازم يقف كده، لازم كده. - ليه؟ - أمال، أمال، عشان يتعلم، ينش ويتعلم، لازم كده. لازم يقف هنا عشان يشوفني وأنا بشتغل ويتعلم، إلا دي.
وإلى حد ما كاد رأيه يقنعني، ولكن الصبي على أي الحالات كان يتعذب، ورد على قولي بقوله: آه عذاب، معاك عذاب، إنما أصول الكار، يتعلم ازاي أمال؟ سيدنا أيوب كان صياد، وسيدنا عيسى كان نجار، أنا اتعلمت كده. كلنا كده، أصول، الواحد لازم يكون له صنعة يأكل منها عيش، إلا دي. اللقمة اللي من غير تعب فكرك يبقى لها طعم، إلا دي، كارنا كده، مش بالساهل، ح يتعلم ازاي ؟ إلا كده، نش يا ولد نش، نش يا جنس كلب، نش إلا دي.
فقلت وأنا لا أزال ممتعضا: طيب ينش ينش، لكن ضروري الشتيمة يعني؟
فأغرق في الضحك وقال: ضروري، ضروري قوي، يتعلم ازاي إلا بالشتيمة؟ دا جاي هنا غصب عنه، فكرك هو عايز يتعلم الحلاقة؟ إلا دي، أبدا، دا عايز يجري ويتنطط زي التلامذة، يتعلم ازاي إلا إذا خاف؟ يخاف يتعلم، وهي دي شتيمة؟ أنا وأنا قده كان أبويا الله يرحمه يتلعن في تربته ألف مرة في اليوم. كنت أزعل، أنا ما اغلطشي، وكده اتعلمت، هي دي شتيمة؟ إحنا كلامنا كده. أصل لا مؤاخذة الصنعة الباردة كلامها بارد، كلامنا كده. ح نعمل إيه؟ يا واد حوش الدبانة دي، الله، أنت عايزها تدخل بقي؟ يعني لازم أوسخ يعني، إلا دي.
وفطنت وهو في منتصف كلامه إلى شيء؛ فهو لم يكن قد سألني رأيي في الطريقة التي أفضلها لقص الشعر، وعادة الحلاق أن يأخذ رأي الزبون. هو لم يكن يلمح رأسي أمامه، حتى انهال عليه قصا وتوضيبا دون أن يحفل بسؤالي، فقاطعته ولا يزال غيظي لم يتبدد: تسمح؟ والله أنا عايز التدريجة.
فقاطعني هو قائلا: عارف، عارف، سيادتك بتحب تكون متوسطة، مش كده؟ إلا دي.
ودهشت قليلا وقلت: إيش عرفك؟
فقال وهو يرفع عينيه عن رأسي ويعتدل، وقد فتحت يده المقص وأخذ يطقطق على الفاضي، والمشط في اليد الأخرى، والسيجار في منتصف المسافة: عرفت ازاي ازاي؟ أنا بعرف كده، المسألة نظر، نظرة واحدة للزبون أعرف هو عايز إيه، إلا دي، نظرة واحدة. عرفت ازاي؟ كده؟ بالفلهوة، أمال الواحد بقاله أربعين سنة في الكار ده ازاي؟ بنلعب، إلا دي.
ثم عاد إلى العمل، وقصر قامته القصيرة، وركز انتباهه على نقطة لا بد كانت استراتيجية جدا من رقبتي، وراح يعمل فيها بطرف المقص بكل دقة وحنكة، وعينه مزرورة، ونار السيجار قد اقتربت جدا من أذني، حتى لتكاد تلسعها، وأكمل من خلال فمه المضموم: النبي عليه الصلاة والسلام قال: اعمل لدنياك. واعمل يعني اعملوا مش تهزروا، لازم الواحد يتفهم الناس، شفت ازاي؟ أهو حضرتك مش متزوج مثلا، لا مؤاخذة أنا بس يعني حبيت أوري سيادتك، ح تقولي ليه؟ كده بالفلهوة، ح تقولي عرفتها ازاي؟ أقول لك ما اعرفشي. كل واحد بيبان عليه، المتزوج بيبان عليه، والعازب يبان عليه، وكذلك الفقير.
وانقلب سخطي عليه إلى سخرية، ونحن لا نترك فرصة للتنكيت إلا انتهزناها، فقلت: إيه، إنت بتقرا لي قفايا ولا إيه؟
ولم يضحك، وحسبت السبب أن النكتة لم تعجبه؛ لأني أنا شخصيا حين أعدت النظر فيها وجدتها نص نص، حسبت هذا لولا أنه قال: بالظبط، بالضبط كده، أهي دي الفلهوة بقى.
وخربت بيته في سري، وتركت عملية الحلاقة كلية، والتفت إلى هذا المخلوق القصير ذي الوجه الأحمر، إن لحسته قد زادت عن حدها كثيرا، وقلت له وأنا أهز رأسي كمن يهزه إلى مخرف كبير: يعني سيادتك بقى بتقرا القفوات؟
فقال: لا، مش قوي كده، يعني إلا دي، هي القفوات لا مؤاخذة فناجين ولا كوتشينة، الحكاية بالويم يعني.
فسألته ضاحكا: هيه، طيب، وإيه تاني في قفايا؟
فابتسم في تواضع وقال: يو هوه، حاجات كتير. مثلا يعني سيادتك مثلا عليك أعصابك، يعني لا مؤاخذة عصبي شوية، ومع كده ابن حلال يتكتم.
وخربت بيته مرة أخرى في سري؛ فقد كان ما قال صحيحا بعض الشيء.
وهنا التفت للصبي وقال: المراية يا ولد.
وحين عاد الولد بالمرآة تناولها منه بعد أن شتمه لتلكئه، ومسحها أولا بالفوطة، ثم أمسكها في وضع يسمح لي بأن أرى قفاي. وحركها وهو يقول: شوف سيادتك بقى، تعجبك التدريجة، كويسة؟ كويس كده؟
كان يقول هذا بصوت جاد وملامح متأملة، وهو يتطلع إلى رقبتي، ويرقب نتيجة عمله، كما لو يتأمل الفنان لوحة انتهى منها.
ورحت بدوري أحدق في المرآة، وأحاول أن أستشف ما في رقبتي من شذوذ أو بروز يكون قد أوحى للأسطى زكي بما قاله، ولكني لم أجد شيئا، وعبرت له عما يجول بخاطري، فابتسم ابتسامة الحاوي العجوز، وقال وهو يضبط المرآة التي خلفي: بص سيادتك، بص كويس، شايف إيه؟ رقبة مش كده؟ وشعر، الناس بتسميهم قفا، أنا بسميهم وش، أنا عندي القفا وش بس من الناحية التانية، بني آدم زي السكين بوشين، فليه نسمي الناحية دي وش والناحية دي قفا؟ هنا وش وهنا وش.
وسكت فجأة وسهم وهامت عيناه، ثم نطق بصوت مضموم خيل إلي أنه يخرج من سيجاره الأسود: أما حتة وزن!
ورأيت طرف المرآة يطالعني بجزء من الحتة، كان نصف امرأة ماشية في الشارع طويلة سمراء وممتلئة ملتهبة، وكما هام فجأة عاد فجأة، وكان أول ما فعله أن شتم الصبي وأمره بنش الذباب، وكان الصبي ينش فعلا ولا حاجة به إلى أمر أو سباب، ثم استطرد: ليه ما ينفعش وش؟ أنا وجهات نظري كده، أنا بشوف ده وأشوف ده، طول النهار وشي في قفا الزبون، بشوف فيه كل حاجة كأنه وش.
وكان يتحدث طوال الوقت بصوت سريع منخفض وكأنه يخاف أن يسمعه أحد غيري، ولكنه خفض صوته أكثر على حين بغتة وهمس في أذني: وبيني وبينك الوش الوراني ده أحسن من القدماني.
ولم أستطع أن أعلق أو أسأل أو أوقفه لحظة. كان كاللعبة التي ملئ زمبلكها وانطلقت تتحرك، وأصبح لا يمكن وقفها حتى تفرغ شحنتها، واستمر يقول بصوته الخافت المتلصص الحافل بالحماس وكأنه نبي يبشر برسالته في السر: القدماني دهه حتى باظ، بقى بترينة ما عدش ينفع، اتعلم الحركات، بقى يمثل وباظ، الواحد يبقى قلبه شايل الهم ووشه بيضحك، ويبقى وشه بيقول لأ وهو من داخليته بيقول أهين، إلا دي. شوف يا أستاذ، على قد ما تقدر قول على الوش القدماني دهه، دهه، الله يلعنه، لا مؤاخذة ما أقصدكش، باردون. الرك كله على القفا، هو الوش المظبوط، النضيف قفاه نضيف، والعيان قفاه عيان، والغني قفاه ملظلظ، هو ده الوش اللي بحق وحقيق، هنا هه. كل حاجة هنا هه!
وقاطعه صوت جاءنا من بعيد، كان صوت زميل له يسأله عن البودرة، وحين هب الأسطى زكي من استغراقه في الكلام معي، ورآه زميله وهو في موقفه ذاك الضاحك، وقال وهو يخاطبني: أظن قاعد يقولك عن القفا يا بيه. دا أصله دوشجي، خلي بالك منه، دا اسمه الأسطى قفا.
وامتلأ الصالون بالضحك والقرقعات، واحمر وجه الأسطى زكي قليلا، وبدا عليه حزن سريع، ولكنه التفت لزميله وقال: قفا قفا يا سي أنور، إلا دي، قفاك يملا حله، قفاك يملا حله.
ومرة أخرى دوى الضحك وانصرفت عنه الأنظار، فانقض على أذني من جديد. ويبدو أننا لا نتأثر بمعنى الكلام فقط، ولكن أيضا بالطريقة التي يقال بها. وأول الأمر كان زكي يضحك ويصبغ الهزل كلامه، ثم بدأ يتكلم وكأنما ليذهلني بما يقول. ثم تطرقت إلى صورته رزانة ووقار، وبعد أن كنت أسمع له ساخرا تطرقت الرزانة إلى سمعي أنا الآخر وبدأت أنصت: بيضحكوا، والله بيضحكوا على أرواحهم، داحنا في نومة والله، دول بيضحكوا على بعض. الراجل يبقى مزوق من قدام وقفاه زي الطين، يبقى ده لا مؤاخذة راجل مش نضيف، وعايز يقول للناس إنه نضيف، بيضحك على الناس، كل الناس بتضحك على الناس، تعرف سيادتك بيقولوا علي ملحوس ليه؟ عشان وشي زي قفايا، تسمح؟
وخلع رأس الكرسي بسرعة وطلى وجهي بالرغوة، وسن الموسى، ووضع السيجار جانبا بناء على طلبي، وبينما الموسى يعمل ويزحف فوق ذقني بخفة ومهارة، مضى هو يقول: أهو احنا كده يا ولاد العرب، ثم تعالى هنا، تعرف إن الناس ليهم طبايع غريبة، قلت لي ازاي؟ كل واحد يخلي وشه القدماني مختلف عن الباقيين، وكل واحد عايز وشه الوراني يخليه على قد ما يقدر زي الباقيين. ده يربي شنب قد كده، وده يخليه دوجلاس صغير، وده دوجلاس كبير وده يدوبك خط، وده يقول والنبي تخلي القصة طويلة، وده يقول خليها إنجليزي وحياتك. كل واحد عايز وش لوحده. إنما تيجي للقفا، اللي رقبته قصيرة يقول خلي التدريجة عالية، واللي طويلة يقول خليها واطية. ليه؟ علشان ما يبقاش مختلف عن بقية الناس، عشان يبقى طبيعي. اتأمل يا أستاذ في أحوال الخلق، التلميذ ولا مؤاخذة عايز يبقى وشه زي وش البيه، والصنايعي عايز يبقى وشه زي وش التلامذة، والفلاح عايز يبقى زي الأفندي، وكلهم عايزين قفواتهم تبقى زي بعض. بص للزباين والناس اللي ماشيين في الشارع. بص لهم كويس تلاقي لهم مليون وش وقفا واحد بس، قفا واحد بس.
حكمته! ربنا حط في كل واحد عقل وقال له امشي، قوم شوف، إلا دي. يقولوا علي ملحوس، يقولوا حلاق، يقولوا اللي يقولوه، إنما والله العظيم تلاتة بالله العظيم الناس بتضحك على نفسها، كل واحد بيضحك على نفسه، وكلهم ليهم قفا واحد. قول لي يا أستاذ، بذمتك قول لي، ما دام قفاهم واحد ليه عايزين وجوههم مختلفين؟
فسألته وأنا في تفكير عميق: تفتكر ليه؟
فهز كتفيه وقال: والله ما اعرف، كله مش داخل مخي. أنا يا عم كلهم عندي واحد وحياتك. ما فيش حد أزيد من التاني. كلهم عندي قفوات. نش يا ولد نش، نش جك وجع ينشك.
وكان قد انتهى من ذقني وأعمل يده وأصابعه في شعري وسواه، ومضى يداعب الشعرات القليلة الناشزة ويحاول إخمادها.
وقلت وأنا أغادر الكرسي: يا أسطى زكي. - نعم.
نعم. - نفسي تقول لي إيه اللي طلعت بيه من ده كله؟
ولم يجبني. كان قد لاحظ بضع شعرات في رقبتي أخطأتها ماكينته، فرجاني أن أعود إلى الجلوس، وانطلق بخطواته الكثيرة السريعة وهو يدفع هذا ويشاكس ذاك، وعاد ومعه ماكينة صغيرة.
وما إن بدأ يعمل حتى نتشت الماكينة الشعر بدل أن تقطعه، وسبب لي هذا ألما، فقلت: أخ. ما كدت أقولها حتى أغرق في الضحك، ضحك خاطف قصير، والتفت أرى ما يضحكه ولم أجد شيئا، وسألته فقال وهو ينفض الشعر عن ملابسي: بضحك ليه؟ أصلي هف علي الضحك، ما هي حاجة تضحك. أنت مش بتسألني طلعت بإيه من الحكاية دي كلها؟
ولا حاجة وشرفك عندي، ولا حاجة. كل اللي طلعت بيه إن المكنة دي بقالها خمس سنين بتنتش، وحلقت بيها لييجي عشرة آلاف واحد، وكل زبون كان لما توجعه النتشة يقول أخ، كلهم زي أنت ما قلت. نعيما ! شرفتنا، ما أعطلكش. نش يا ولد نش!
داووود
لم يناقش أحد الفتوى التي تطوعت بها «الداية»، وكيف يناقشها أحد؟ العائلة كلها تلهفت شهورا واستعدت للحدث الضخم أيما استعداد. الأب ما كاد يرى المولود الجديد، حتى أحس وكأن قلبه قد اختفى - برضاه - من صدره، وأصبح له صراخ وأنين، وانتفض حياة جديدة لفتها الداية في اللفائف، وكان ابنه الأول. والأم، أم الولد ظلت تئن وتتلوى وهي حامل، وتلعن الحمل و«سنينه»، وتصرخ صراخ المستغيث من الحمل بالميلاد ساعة الميلاد، ولكن ما كادت تنفصل عنها «حتة اللحمة»، وتراها في لونها الأبيض المشرب بحمرة، وتكشف لها الداية عورتها، فتبلغ قمة السعادة بالولد، ثم يصرخ هذا الولد ويستغيث، وتعطيه ثديها، وتحس بنغمشة حبيبة تسري في جسدها، والولد النونو العفريت يطبق بشفتيه الصغيرتين اللذيذتين على لحمها، ويمتص منها اللبن في مهارة ودهاء، وكأنه تعلم الرضاعة خفية وهو لا يزال في بطنها. ما كاد هذا كله يحدث حتى انقلب الصراخ والألم إلى محبة دافقة مفاجئة تغمر كيانها كلما مص الولد ثديها، أو أخذته في حضنها، أو رفض اللفائف بساقه الملظلظة القصيرة التي لا تكاد تتعدى إصبع اليد.
أجل، كيف يجرؤ أحد على مناقشة الداية في فتواها، وقد دخلت تصيح على الأم بعد أن مضى على ولادتها يوم. وما كادت تجلس وتخرج علبة السجائر، وتشعل سيجارة، وتأخذ نفسا، وتبتلعه وتنفثه، حتى قالت: بس أنا خايفة عليكي يا أم سمير (إذ كانت قطعة اللحم قد تحولت في يوم وليلة إلى سمير).
وأحست الأم بنغمشة حبيبة من نوع آخر تسري في نفسها، نغمشة فرح وإحساس بالمسئولية، تماما كتلك التي أحستها يوم أن اكتشفت لأول مرة وهي لا تزال بنتا أنها أصبحت أنثى؛ ولهذا قالت في صوت واهن لم يكفها وهنه، ولكنها أضافت إليه وهنا آخر دائما تتصنعه الوالدات: كفى الله الشر يا أختي، ليه؟
فأجابت الداية وهي تنفخ نفس الدخان في ولعة السيجارة، فتحمر الولعة كما يفعل عتاة المدخنين الرجال: بقى تبقي اسم النبي حارسك والدة، وتخلي القطة قاعدة معاكي في بيت؟ إنت مش عارفة ادلعدي يا اختي إنها ولدت هيه رخره؟ - ولدت؟! - أي والنبي يا أختي، لقيتها راقدة، اسم النبي اسم النبي حارسك في وش العدو. - والنبي آدي حد علمي.
وأنا يا ختي داخلة من الباب، وألقاها راقدة رقدة الندامة في سبت الغسيل بتاعكو، لأ يا ختي، لازم تشوفولكم طريقة. إنت عايزة ولادها البعيدة، البعيدة عن البيت وصحابه، تكبسك؟ - يا نهار اسود! طيب ادلعدي يا ختي يا تفسريش. - دي مجربة من أيام حوا وآدم يا أم سمير (وكأنها بسلامتها هي التي أشرفت على وضع أمنا حواء). الله يعافيها بالعافية بقى بنت أخت ألفت هانم عملتها، وبعيد بعيد عن البيت وصحابه جرالها اللي ما يجرى لعدو ولا لحبيب.
تم هذا الحديث في الصباح، وفي الظهر جاء الأب من الخارج، وقد قام بكل الإجراءات الواجبة التي يتخذها الوالد في أمثال هذه الحالات، فاقترض مبلغا محترما فك به ضائقته باسم الكارثة التي حدثت، وقام بإبلاغ الخبر إلى كل الأهل والأصدقاء. وكاد يوقف الناس في الشارع ويخبرهم أنه رزق والحمد لله بمولود ذكر، وكذلك حصل على إجازة من عمله استطاع بها أن ينهي بعض المشاغل التي تراكمت عليه، وما كاد يضع قدمه في الحجرة حتى فوجئ بيا سيدي أولاد القطة لا يمكن تقعد في البيت، لماذا يا ستي؟ الداية قالت كيت وكيت. يا ستي كله تخريف في تخريف. أنا مالي! لا بد من إبعاد أولاد القطة حالا. يا ستي ماليش دعوة، أنا كوم وهم كوم يا انا يا هم. حاضر يا ستي أمري إلى الله.
وقبل أن يختفي الأب لتنفيذ المهمة عن له أن يحيي القادم الجديد، فاقترب منه وأخذ يزغزغه بإصبعه الكبير الخشن، ويقول وهو يلعب حواجبه ويقوم بأنفه وفمه وعينيه بحركات بهلوانية: سما الله عليكي، سما الله عليكي. زقزق زقزق. سما الله عليها. توتو توتو توتو. عوعو عوعو.
وكانت الأم تراقبه في ضيق وكأنه ينتزع منها شيئا يخصها، ولكن ماذا تقول؟ هو الأب على كل حال. ولكنها حين وجدت أن ابنها بدلا من أن يضحك أو يبتسم فتح فمه الصغير وضم ساعديه، وانبعث منه صراخ لا ينبعث عن بالغين، دفعت يد الأب في عنف، وضمت الولد إليها، وأخرجت «حلمتها» بحركة تلقائية، وفرضتها على فم الصغير فرضا، وهي تقول: امشي يا بعبع، تعالى يا حبيبي، تعالى يا ضنايا، تعالى يا حتة من كبدة قلب أمك يا خويا.
ولدهشة الأب سكت الولد قليل الأدب، بل اندفع يتلوى جذلا كالدودة الصغيرة، وهو يمص الثدي بصوت مسموع.
وخرج الأب من الحجرة كالبعبع المكسور الخاطر. •••
وبحث عن القطة كثيرا؛ إذ لم يكن يدري أين سبت الغسيل، بل هو بصراحة لم يكن يدري في أعقاب ذلك الميلاد وجهه من قفاه. وكان لا يمكن أن يجدها لولا المواء الخافت الذي جاء فدله على السبت والقطة. ووجد الماكرة راقدة في تلافيف المربس، ووقف يراقبها من عل. كانت نائمة على جنبها، تكاد تبدو بلونها البني المطعم بالأسود كفستان مكور من فساتين امرأته، وكانت تصنع برقدتها قوسا يكسوه من الداخل شعر بطنها الأبيض النظيف، ويحفل التجويف الذي يصنعه القوس بثلاث قطط صغار. كانوا صغارا جدا، حلوين وكأنهم لعب أطفال مصنوعة من قطط حية.
وكان من الممكن ألا يقف الأب هكذا طويلا يراقب القطة وأولادها، ولكنه لم يدر السر الذي جعله يقف جامدا هكذا يراقب هذه الكتلة الحية المكومة في جانب من السبت. كان أولاد القطة يتناوبون الرضاعة ولا يكفون عن الحركة. ويدفع الواحد منهم الآخر برأس مغمض ليأخذ نوبتجيته على الثدي الصغير، حتى إذا ما اكتشف أن أخاه قد شطب عليه انتقل إلى ثدي آخر، وأعمل فيه فمه الأحمر الدقيق.
وكانت الأم متكئة على ما يجاورها من ملابس تراقب الأولاد بعيون وسنانة نصف مفتوحة، وشواربها مهدلة على جانبي فمها غبطة، وكان يبدو أنها في قمة السعادة. وكانت أحيانا تبقى على وضعها ذاك، وأحيانا تنقل رأسها فقط دون جذعها وتدفنه بين أولادها، فيصبح وكأنه قطة رابعة هو الآخر، وأحيانا تلعقهم بلسانها النظيف، وأحيانا تدفع الواحد منهم عن ثديها في رفق لتعطي الفرصة لآخر.
كان الرجل واقفا فوق رأسها في وضع لا تراه فيه، واقفا وقد ذهب عنه التحفز الذي جاء به، وتراخت ذاكرته وذكرياته، وتعددت ألوان القطة في عينيه وتاهت. لم تكن القطة هكذا يوم جاءت. كانت شاحبة عجفاء يوم جاءت! لقد استيقظوا يومها فوجدوا في المطبخ كارثة. كانت امرأته قد أبقت حلة الطبيخ مكشوفة بعد أن غلتها حتى لا تحمض، وإذا بهم يفاجئون بحدثين خطيرين؛ اختفاء قطع اللحم التي كانت في الحلة كلها، ومواء قطة في الشقة.
ويومها أمسكت امرأته فردة القبقاب وظلت مدة طويلة تحكم النيشان، ثم قذفت بالفردة. ولولا أن القطة تحركت في الوقت المناسب لكانت قد أصبحت في ذمة التاريخ، ذي الذمة الواسعة. وظلت بعد هذا تتحرك وتزوغ بطريقة لولبية من كل الفرد والمداسات وقطع الأخشاب والزجاجات وأيدي المقشات، وأثبتت بهذا أن القطط ليس لها سبعة أرواح، وإنما لها روح واحدة طويلة مصنوعة من مطاط يلين، ولكنه لا ينقطع.
والمثل يقول: ما محبة إلا بعد عداوة. وهكذا وحين لم تفلح الزوجة في إصابة القطة أو إجلائها عن الشقة التي وجدت فيها كل تلك الكمية من اللحم، سلمت أمرها لله، واتخذت الاحتياطات اللازمة لتأمين الطعام. ثم ما لبثت أن أدركت أن صراصير المنزل تتناقص باستمرار، وأن الفأر المرعب الذي كان يطلع ويبصبص لها بذنبه قد اختفى. وحينئذ أدركت أن لون القطة جميل وشعرها ناعم، وإذا شبعت أصبحت لطيفة مؤدبة بنت حلال دمها زي الشربات. وحينئذ، وحينئذ فقط أنعمت عليها الزوجة باسمها، وصارت معها مثل اللبن على العسل. أنيسة عيب، أنيسة اطلعي برة، أنيسة عمى في عينيك، بل إنها أحيانا كانت تشكو لها متاعبها وتأخذ رأيها في كثير من المشاكل. والحقيقة أن أنيسة أثبتت في كثير من الأحيان أن لها نظرا بعيدا، على الأقل أبعد من نظر الزوج.
والذي حدث أن أنيسة شحمت ولحمت وصارت حلوة على مر الأيام، ولا بد أن جودة طعامهم كانت هي السبب، ومع مقدم الدفء والربيع بدأت أنيسة تكثر من حك نفسها في الزوج، وأحيانا في الزوجة، وتكثر من الأزيز والسرحان، ثم جاء اليوم الذي بدأت فيه تموء مواء غريبا عجيبا يكاد ينطق ويقول: داوود، داوود.
إن الرجل يذكر هذه الآونة تماما؛ فامرأته هي الأخرى لم يرها أجمل ولا أروع مما رآها في تلك الأيام. كانت خدودها الشاحبة قد أصبح فيها خوخ وتفاح، وعيونها امتلأت بأشياء وأشياء، وهي كلها قد حدث فيها حادث غيرها وحلاها، وجعل منها سنيورة جديدة في نظره، ولكن العجيب أنه بالقدر الذي احلوت به ملامحها فسدت طباعها؛ المشاحنات أصبحت لا تنقطع، وثمة غيرة جديدة طرأت عليها لم يكن يدري من أين جاءت، وكان يأتيها المرض الشهري قبل ذلك وهو لا يكاد يحس به، فإذا به أصبح لا يجيئها إلا وهي راقدة تتلوى وتتأوه. فإذا أفاقت من المرض ظلت تذكره، وإذا غاب عنها ذكره اختلقت شجارا، وخاصمته وتبغددت وهي تصالحه، وأكثرت من شروط الصلح، ثم حكاية وجع ظهرها الذي كان لا يلازمها إلا في أوقات معينة، ولا يحلو لها الشكوى منه إلا في الليل، في عز الليل وهو نائم، تظل تشكو بصوت مسموع، وتتباكى من الألم حتى يستيقظ، فإذا تناوم جذبت من فوقه الغطاء لتسند به ظهرها الموجوع.
بالضبط إنه يذكر تلك الأيام التي بدأ فيها مواء القطة وعواؤها؛ إذ طالما صحا من نومه على داووود وهي تجلجل في سكون الليل، وكانت امرأته تصحو هي الأخرى إذا لم تكن صاحية، ويتأملان النداء، ويلعنانه كثيرا، ثم يناقشانه في خجل، ويتفقان على أنها لعوب تجأر في طلب الذكر، ويدلفان أخيرا إلى سجال أكثر إمتاعا يهيجه العواء الأنثوي الذي لا ينقطع.
وما أكثر ما جره العواء من متاعب؛ إذ استجاب له لسوء الحظ أكثر من ذكر. وكانوا - لسوء الحظ أيضا - كثيرا ما يقبلون في وقت واحد وتقوم المعارك؛ معارك حادة لا رحمة فيها ولا هوادة، كثيرا ما أفسدت ضجتها النقاش الآخر الذي كان يدور بين الرجل وامرأته.
والأدهى من ذلك أن المعركة وصلت ذات يوم إلى الحجرة التي ينامان فيها، ووصلت في لحظة حاسمة من لحظات النقاش. وكف الزوج عن الجدل في الحال، وراح يشخط ويهدر في القطة وصاحبيها. واكتفى بالشخط من بعيد لبعيد؛ فالقطان كانا غريبين لم يرهما قبل ذلك، وفي عيونهما شر مستطير، وكان الواحد منهما يزعق في الآخر فيقابل الآخر زعيقه بزمجرة لا تقل عنها قسوة؛ يعني حالة يستحسن فيها الابتعاد قدر الطاقة عن أرض المعركة. وكانت أنيسة واقفة ترقب العراك بعينين فيهما تهافت وحور. وكلما آذنت المعركة بالانتهاء ارتفع صوتها الأخنف: داووود، داوووود. وتستعر نيران المعركة من جديد. والغريب أنها كانت مثل المعارك التي تنشب بين المصريين. كل قط واقف بعيدا عن الآخر يرعد فيه، ويلعن سنسفيل أجداده، ويحاول إخافته وإرساء الرعب في قلبه ليتراجع فيظفر هو دون إراقة قطرة دم، والطيب أحسن! ولكن حدث أن تطور أحدهما على الآخر. وهذا الذي تطور كان يبدو أصغر من الآخر سنا، فاقترب من العجوز وقذفه بصرخة مرعبة، ولم يتراجع العجوز، وكأنما أدرك بحكمته أن المسألة تهويش لا أكثر ولا أقل. وحينئذ فقد صغير السن والخبرة أعصابه، ورفع كفه الأمامية وأهوى بها على وجه غريمه هكذا بسرعة متهورة غاضبة. وما كان من العجوز إلا أن كف عن الصراخ في الحال، وحدق في ضاربه برهة، ثم ألقى عليه نظرة احتقار هائلة، واستدار في عظمة نمر وغادر الحجرة، وكاد يصفق الباب خلفه.
وتحركت أنيسة، واقتربت من المنتصر، وحكت كتفها في كتفه قائلة بصوت خافت آثم: داووود. وغمغم القط في وقار الفائز كأنما يقول لها: صبرك بالله يا ولية أما ألقط نفسي.
وكان الزوج في وحدته البعيدة مع امرأته، كلما شهد معركة كتلك يحمد الله على أن امرأته إنسانة تزوجها بالحلال وعلى سنة الله ورسوله، وحجزها لنفسه بقسيمة، وليست قطة كان عليه الفوز بها أن يصارع الذكور الآخرين، ويموت قلبه من الرعب في كل مرة، وقد تناله صفعات الجيل الجديد.
ومع كر الأيام جاء اليوم الذي عاد فيه السلام إلى البيت، فانقطعت أرجل الذكور، وانقطع مواء أنيسة، وانقطع الوجع الظهري والخلافات المزعومة، وكذلك انقطع المرض الشهري وحملت زوجته.
وابتسم الرجل والتاريخ يوقفه عند تلك الأيام، لعله اعتقد لحظتها أن أنيسة وداوودها كانا السبب في سمير، أو على الأقل عجلا بقدومه؛ فبعدما انتفخ بطن أنيسة، وبدأت زوجته تتوحم، وتطلب النادر، ثم وضعت أنيسة أربع قطط جميلة احتكرت امرأته تفريقها على أقاربها، ثم بدأت أنيسة تعوي مرة أخرى، وانتفخ بطنها وها هي ذي تلد للمرة الثانية، وتجيء هذه المرة قبل ولادة سمير بأيام.
وفي النهاية كان لا بد أن يمد يده ويتناول القطط الصغار وينفذ المهمة.
وحدث فعلا أن مدها، ولكنه جذبها بسرعة وقد أصابته لسعة طويلة حادة فوق ظهر يده تفجر على أثرها الدم. وبهت الرجل كمن طعن. ونظر إلى أنيسة نظرة المروع المستنكر. كان هذا آخر ما يتوقعه منها بها أليفة أنيسة.
وما إن مرت الصدمة حتى امتلأ قلبه بغضب جامع، وكأنما استنكر على القطة أن تخدعه بذلك الهدوء المزيف ثم تنشب أظافرها فيه. وأنشب عينيه فيها وكلهما غضب، وكان في عينيه خوف أيضا؛ فأنيسة كانت قد انتفضت واقفة ووقفت كل شعرة في فروتها، وانتصبت شواربها المتهدلة، واكتسى وجهها تعبيرا بشعا مخيفا.
وليس هذا كل شيء؛ فأفظع ما في الأمر كانت عيونها، أجل عيونها؛ فقد خيل إليه أن وجهها يحفل لا بزوج من العينين المتنمرتين الواسعتي الحدقات، وإنما بعشرات من العيون كلها مفتوحة على آخرها، وكلها تبرق وتلمع وتتلمظ ولا تبشر بأي خير.
وأسقط في يده.
كانت القطط الصغيرة قد اندست بطريقة ما تحت بطن أمها، وكفت عن الرضاعة، وانكمشت على نفسها وكأنها استشعرت الخطر. وكان الوصول إليه دون تلك الأم المخيفة ذات الآلاف فن المخالب والعيون والأسنان.
ولم ينشب الرجل عينيه فيها طويلا، لا عن فروغ بال، وإنما عن خوف. إن التحفز ولو كان من قطة يخيف. خوف حقيقي أصابه من العينين. هاتان البليتان الصغيرتان الخضراوان كانتا قد التهبتا، وانطلقت منهما شعاعات لا ترى، وإنما ترسل الرعدة في أشجع الرجال.
دلدل الرجل ناظريه ولم يملك إلا أن يبتسم؛ فقد واتته - دون أن يدري - صورة أنيسة الحائرة على نفسها الطرية كالخرقة المبتلة وهي تجأر في استغاثة خنفاء قائلة: داووود، داوووود. أجل شتان بينها ساعتذاك وبينها الآن!
واستأنف الهجوم، ولكنه ما لبث أن تراجع حالا؛ إذ ما كادت تراه يقترب حتى قالت: نو! ولم تك ناوا عادية أبدا. خيل إليه أن جسمها كله قد استحال إلى صفارة إنذار أطلقت ناوا حادة راجفة حامية تقشعر لهولها الأبدان. وفي نفس الوقت اندفع إلى وجهها سيال لافح من الانفعالات أخرج حمما من عينيها، وكهرب شواربها، وأبرز أسنانها فبدا فمها كفوهة حية ضخمة من نوع الكوبرا.
ودق قلب الرجل.
دق مرات من الخوف.
ومرات أخرى حين تذكر أن عليه ألا يخاف.
وجمد قلبه.
واشمعنى هوه يعني؟
إن له حنجرة هو الآخر.
وأطلق من حنجرته صوتا عاليا.
امشي!
وزأرت أنيسة.
واختلطت ناو ناو وامشي. هو يشخط وهي تزأر وكلاهما ثابت في مكانه لا يريم.
وأعمل الرجل عقله.
وهكذا جاءت المقشة، ومدها على قدر ما استطاع ودفعها في وجه أنيسة. وتراجعت القطة إلى الوراء، وهي تزأر زئيرا متصلا ترتعش له طبلة أذن الأصم.
ولكنها لم تغادر السبت أبدا.
وكان لا بد مما ليس منه بد، ورفع الرجل المقشة وأهوى بها. وقفزت أنيسة جانبا فلم تصبها الضربة، ولكنها انقضت على رأس المقشة، وضبعت فيها بأظافرها. وما كاد يحاول إعادة الكرة حتى كانت أسبق منه، وحتى بادرته قافزة ناحيته صارخة صرخة متوحشة لا تمت أبدا إلى أنيسة، ولا إلى القطط أجمعين.
وبلا وعي قفز هو الآخر متراجعا، قفز بشكل لا يمت إليه ولا إلى الجنس البشري كله؛ إذ في قفزتين اثنتين كان قد عبر الصالة، وفتح باب الحجرة التي ترقد فيها زوجته، واستقر بجوار فراشها يلهث. - خير كفى الله الشر؟
وكان لها كل الحق؛ فقميصه مفتوح، وعرقه يسيل، ونظراته زائغة، والشحوب قد غمر وجهه.
وحاول أن يرد، ولكنه كف عن المحاولة؛ إذ ماذا يقول؟
كل ما قاله كان: «ولا حاجة». قالها وهو يعود خارجا باحتراس شديد، ويتفقد الصالة ليطمئن، ويطمئن؛ فأنيسة كانت قد عادت إلى السبت ، وأمسكت بواحد من أولادها بين أنيابها.
آه! تريد بلا ريب أن تحمل أولادها وتهاجر إلى مخبأ آخر، ولكن حيلك يا ست أنيسة.
كانت المقشة في مكان بعيد عن خط النار، فتناولها من جديد، ولجأ إلى الحيلة، فرفعها وأهوى بها، وحين قفزت أنيسة بعيدا عن السبت مد المقشة وظل يجذبه وهي واقفة في مكانها تصرخ، حتى أصبح في متناول يده. وحينئذ تناول القطط الثلاثة واحتواهم بين كفيه.
وكان يتوقع مثلا أن تقفز عليه وتشبعه خربشة وعضا، أو تنهش وجهه وتدمي عينيه، وكان قد جهز نفسه لكل ذلك.
ولكنها ظلت واقفة في مكانها بنفس تحفزها تصرخ وتنكمش على نفسها وتنقبض، وتكاد لا تدري ماذا تفعل.
ووقف الرجل أيضا لا يدري ماذا يفعل.
كان خائفا أن يتحرك فتتحرك وتنقض.
وتحرك ببطء أول الأمر.
ولم تغادر أنيسة مكانها حتى حين وصل إلى الباب وخرج.
ماذا حدث؟
ألا تدري الغبية أنه قد أخذ أولادها؟
أم أنها خافت؟
أو هي تدافع عنهم فقط إذا كانوا في حوزتها تحسهم بشعراتها، وتلمسهم بلسانها، حتى إذا ما صاروا في حوزة الغير أصبحت المسألة أعقد من أن تستطيع حلها؟
وهل هي تستطيع الدفاع فقط ولكنها لا تستطيع الأخذ عنوة أو الاغتصاب؟
وهل الدفاع هو الغريزة الأصيلة، والاغتصاب هو التفكير الشاذ الذي يحتاج إلى تدبير وتفكير وغدر؟
قد تكون أسئلة مثل تلك قد دارت في عقل الرجل وهو يغادر البيت، وقد لا تكون قد خطرت له بالمرة. في تلك الأثناء كان يستمتع بلذة الانتصار فقط. وحين لاحت له مشكلة التخلص من القطط وهو سكران بخمرة النصر ومغرور، وجد حلها أمرا سهلا؛ فما عليه سوى إلقائهم في أية حارة.
وأسكت الانتصار غروره، وحين هدأ قليلا، وأذهب عنه خمر الغرور بعض الجوع للثقة في نفسه، جاءته الإنسانية. وقرر أن يهبهم لبعض جيرانه. قد تكون حلول مثل تلك قد دارت في عقل الرجل وهو يغادر المنزل. ••• - خلاص يا ستي ولا تحملي هم.
ولم يفت الزوجة وهي تبتسم له شاكرة أن تتأوه وتشكو من الألم والوهن.
ولم يفته وهو يروي لها تفاصيل المعركة أن يبالغ قليلا أول الأمر، ولما لم يجد لدى الزوجة مانعا ساق فيها وفتح باب المبالغة على مصراعيه.
وظنا أن المتاعب قد انتهت عند هذا الحد.
ولكنهما قضيا أتعس ليلة.
جدران البيت ظلت تردد نداء واحدا لا ينقطع: ناو، ناو، ناو.
كان الصوت غاضبا أول الأمر، قصيرا رفيعا كالسكين الحادة حين تقطع في الجسد.
وكلما امتد الظلام والسكون كان الصوت هو الآخر يمتد ويطول: ناو، ناو، ناو.
ولم يعد الرجل يحتمل. اقتحم الصالة خارجا ورمى أنيسة التي كانت تروح وتجيء ولا تكف عن النونوة لحظة. رماها بفردة الحذاء، ولم تحاول هي أن تتجنب القذيفة، فأصابتها وأوقعتها، وقامت واستأنفت غدوها ورواحها ولم تسكت، بل أضيفت إلى الناو نغمة جعلتها تبدو أكثر حزنا ووقعها يبدو أكثر مرارة، كما لو كانت السكين التي تقطع في الجسد قد تلمت حافتها، فأصبح صوتها بطيئا قاسيا له أزيز وأنين.
وبدأ الصوت يتغير ويتبدل، ويصيح آي. آي منفردة، وآي متصلة طويلة تكاد تنطق مخارجها وتتجسد حروفها. آهات حقيقية كأنها متصاعدة من صدر آدمي ممزق.
ولم يكن في استطاعة الرجل أن يفعل شيئا. الحذاء ورماها به، وصوته قد بح من الكش فيها ومطاردتها. كان عليه فقط أن يستلقي على الكنبة، ويستمع إلى امتعاضات امرأته وتعليقاتها على نباح القطة.
وقالت له الزوجة بغتة في الظلام: أبو سمير. - ما لك؟! - أنا خايفة. - ليه يا ستي؟ - القطة دي بتبكي زي البني آدمين.
فقال ليفحمها: شورتك.
فأجابت: أمال يعني عايز الولد يموت؟ عايزني أنكبس؟ آه يا ميلة بختي!
وانطلقت تئن وتتوجع، ثم سكتت طويلا حتى خيل إليه أنها نامت، ولكنها قالت فجأة: أبو سمير. - ما لك؟ - تروح تجيب لها أولادها.
فأجاب الرجل في غيظ: إنت عايزة الولد يموت؟ ثم أجيبهم ازاي دلوقتي؟
وحل سكون آخر ختمته الزوجة بمفاجأة؛ إذ راحت تنهنه وتبكي. وأصبحت القطة تئن في الخارج وتعوي، وهي تبكي وتستجيب وتعدد. •••
وفي الصباح كان العواء قد خبا، ووجدوها ملفوفة على نفسها في الصالة نائمة على البلاط الرطب. وقدموا لها الطعام فلم تتحرك لها شعرة، واشتروا لها نصف رطل من اللبن لأول مرة فلم تعره أنيسة أي التفات. بقيت مغلقة عينيها لا ترى ولا تحس، تزوم وتئز وتحيا في سكوت ذاهل آخر.
ومضت أيام.
تحركت أنيسة وطلبت الطعام بنفسها، وعادت تصطاد الصراصير وتغتالهم، ثم بدأت صداقة غريبة بينها وبين الرضيع. لا يدري أحد كيف اكتشفته؛ فقط لاحظت الأم أنها تفضل النوم بجواره في الليل، فإذا أصبح الصباح داعبته. أحيانا تضع بوزها فوق قدمه، وأحيانا تفتح فمها وتكاد تقضم إصبعه الكبير (كده وكده)، ثم تقوس ظهرها، وتلعب ذيلها، وتحك شعرها في وجهه. وكان الرضيع يصرخ أول الأمر ويستغيث، وكانت الأم تصرخ هي الأخرى مخافة أن يقتل هذا العبث (بطريقة ما) ابنها، ولكن الرضيع وأمه أدركا أخيرا أن الأمر لا يتعدى حدود المداعبات البريئة.
ولم يستمر الوضع هكذا؛ فقد مرض الطفل، وحاولت الداية علاجه. والداية لا تكتفي بتوليد الأطفال، وإنما هي تعالجهم بعد مولدهم وترعاهم، وتطاهرهم حين يكبرون، ثم تخطب لهم وتزوجهم إذا شبوا، وأحيانا هي التي «تلتمهم»، وتغلق عيونهم إذا واتاهم الأجل المحتوم. حاولت الداية علاجه، ولم ينفع علاجها، وزادت شدة المرض. وفي طابور الأمهات المنتظرات أمام شباك التذاكر في مستشفى «رعاية الطفل» مات الطفل.
وانقلبت الشقة إلى مأتم، وجاء المعزون أقارب وأصدقاء وعمات وخالات وأشكالا وألوانا، ولبست الأم السواد وتعصبت بمنديل.
وجلس الأب بعد أن فرت من عينيه بعض الدموع، جلس في وقار يتلقى التعازي ويحكي قصة المرض والوفاة ألف مرة، ويستمع إلى: الدنيا على دي الحال، وشد حيلك، وقالوا يا جحا عد موج البحر، قال الجيات أكثر من الرايحات، ويا أخي أنت شباب شم نفسك وهات لنا عشرة.
وخرب المرض بيت الرجل، وجاء المعزون فقضوا على ما تبقى فيه من بن وسكر وملاليم.
وبعد أن انصرف الجميع جاء الزوج ليرقد بجوار زوجته على السرير وقد انتهى عهد الكنبة، وبكت الزوجة وشهقت من أجل هذا المجيء. وحين جاءت أنيسة كالعادة تتلصص لترقد بجوار الطفل تشبثت بها الأم، وظلت تعوي وتبكي وتتساقط دموعها على أنيسة التي أخذت هي الأخرى تنونو نونوات خافتات.
وهدهد الزوج، وغالت الأم، ثم كفت. ودار حديث؛ الأم تقول إن ابنها مات من الكبسة؛ فقد مكث أولاد أنيسة يوما بطوله بعد الميلاد تمت أثناءه عملية الكبس وطار الولد. والأب يقول أبدا، السبب مستشفيات الحكومة والإهمال. لو كان عندنا فلوس كنا رحنا لحكيم متخصص في الأطفال، السبب الفقر، الله يلعن أبو الفقر.
وجادلت الزوجة وبكت، وحينئذ قال الزوج: قسمة ونصيب هو المكتوب، الأعمار بيد الله.
وغالت الأم وجادلت، فقال الأب وقد تروحن: هو الحي الباقي، هو المعز المذل القادر، الأطفال لهم الجنة، ونحن لنا الجحيم. أجسامنا قد صنعت من المعاصي. لنا النار والعذاب ولهم الجنات والخلد. ليتنا متنا ونحن أطفال! ليتنا متنا وكنا ترابا!
وفي الصباح كان الأب جوعان، ولو كان الود وده لأكل، ولكن الأم رفضت أن تلمس الطعام حين ألح عليها، ولم يتناول هو الآخر الإفطار؛ إذ لا يصح أن يبدو أقل منها حزنا.
وحين عاد في الظهر كانت تبكي، وفي العصر تثاءبت ونامت، وفي المغرب كان عندها صداع. •••
ومرت أيام وأكلت الأم، ولكن الحياة لم تعد كما كانت. ظل البيت يسوده الوجوم، وتهب عليه نوبات نواح ذكرى الولد في الحديث العابر.
وكان الشتاء قد مضى، وبدأ الدفء يحل، وفوجئ الأب ذات ليلة بصوت أنيسة يلعلع في ظلام الشقة: داووود، داووود.
واستمر العواء أياما.
وبعد وفاة الولد كانت الأم تشكو من الصداع الذي ينتابها بين الحين والحين.
ثم بدأ الصداع يزحف إلى أسفل ويصيب الرقبة وفقرات الصدر، وما كادت الزوجة تمد يدها ذات ليلة وتجذب الغطاء من فوقه لتسند به الظهر الذي بدأ الوجع ينتابه، حتى تنبه الرجل تماما وصحا ولم ينم.
وهكذا لم تستمر مطالبات الزوجة بالفستان الحرير للصيف طويلا، ولا المناكفات أو المهاترات؛ إذ سرعان ما جاء اليوم الذي عاد فيه الهدوء إلى البيت، فانقطعت أرجل الذكور، وانقطع عواء أنيسة، وانقطع الوجع الظهري والمطالبات التي لا تنتهي.
وكذلك انقطع المرض الشهري.
مارش الغروب
كانت الصاجات تخرج صاخبة زاعقة، وعلى دفعات كهدير الديك الرومي، وكنت تستطيع أن تسمعها من بعيد، حتى إذا ما وصلت إلى كوبري شبرا البلد عثرت على مصدرها؛ على بائع العرقسوس.
كان الرجل مسنا كمعظم بائعي العرقسوس، ويرتدي زيهم التقليدي؛ فوطة حمراء قديمة نظيفة لفها حول وسطه، وفانلة بمبة بأكمام، ولا شيء غير هذا يستر الجسد خلا السروال الطويل الذي يترك الساقين عاريتين.
وكان للبائع لحية طويلة، ولكنه لم يكن سنيا، كان واضحا أنه يطلق لحيته كنوع من عياقة الكبار، أو لإحاطة نفسه برهبة مصطنعة، أو على أقل تقدير ليوفر ثمن حلاقتها كل يوم كل يوم.
كان واقفا في وسط الكوبري تماما وهو وإبريقه يكادان يسدان الطريق؛ فالإبريق كان ضخما قديما، وكأنه هو الآخر عجوز مقعد كتب على البائع أن يحمله فوق صدره مدى الحياة، وكانت له بوز رفيعة ممتدة وملتوية عند آخرها، وكأنها يد العجوز التي عوجها الشلل حين تمتد لتستجدي.
وكانت يدا الرجل مدلاتين خلفه، ويده اليمنى لا تكف عن دق الصاجات، ويخرج صوتها له ضجة وصراخ. وكان يدق على دفعات كل دفعة دقتين متتاليتين، ثم يصمت برهة، ويعود على الدق، ويقول: «يا منعنش!» وكان ينطق منعنش بلهجة لا نعنشة فيها ولا حماس؛ فالدنيا كانت شتاء، والشمس غابت من هنيهة، والكون يعبق بذلك الجو المريض الذي يتبع مغرب الشمس، ويسبق حلول الظلام. وكان الناس يمضون فوق الكوبري صامتين مسرعين. في إسراعهم كآبة يوم يموت، وبرودة شتاء.
كان الناس يمضون ولا أحد يلتفت إلى البائع أو تسترعيه دقاته؛ فالدنيا شتاء، ومن يشرب عرقسوسا في الشتاء؟! من يفكر حتى في فتح فمه أو التلكؤ لأخذ شفطة؟!
ورغم هذا استمرت الصاجات تعمل وتهدر بزعيقها المتوالي، وكلما حدق البائع في الكون، ورأى الناس يختفون من حوله، ويتسربون وكأنما تبتلعهم مخابئ سرية، وكلما رأى الجرح المدمم الذي أحدثته الشمس الغائبة في السماء حين اخترقها إلى عالم الظلام، كلما رأى هذا قصرت المسافة بين الدقات، وأصبح صوتها أعلى وأكثر حدة، وانطلقت حنجرته تعضد الدقات، وتقول يا منعنش، تقولها حنجرتها متقلصة مثنية على نفسها، وكأنما انحنت تستخلص «منعنش» وهي عاصية في قاع حنجرته لا تريد أن تخرج؛ فالإبريق كان لا يزال راقدا فوق صدره كالمصيبة الثقيلة، ولا يزال ممتلئا، وكل ما باعه منذ الصباح كان لم يتعد بضعة قراريط لا توقد مصباحا ولا تغمس لقمة.
والدقائق تمضي بسرعة، والوقت يتسرب تسرب الناس كأنما أصابه البرد هو الآخر.
وتدق الصاجات عالية صاخبة هستيرية تريد أن تتحدى وتستوقف الأسماع، والظلام يتكاثر وتصبح له دنيا كبيرة، وبرد السماء يطبق على الأرض، والناس يصغرون ويصغرون، وكل شيء تصبغه رمادية زرقاء ويبرد ويصبح لا حياة فيه. وتزأر الحنجرة يا منعنش، وتخرج منعنش حادة تكمل صخب الدقات، وبين كل آن وآن يقول: يا كريم سترك. ويمد الكاف وكأنه يصنع منها حبلا رفيعا يمده فوق الكوبري ليوقف الناس، ويتبعها بسترك مقتضبة خارجة من الصدر، وكأنما يسترضي الناس بعد هديره ويصالحهم بها.
والناس رائحة غادية، ميتانة، سقعانة، ناشفة، وجوههم شاحبة فيها غضون، وعيونهم ذابلة فيها شتاء، ولا يريد أحد - رغم وجوده في وسط الكوبري - أن يلقي عليه نظرة.
وأطلق الرجل يا منعنش، وأتبعها بيا كريم سترك، أطلقهما عاليتين صاخبتين مدويتين كاستغاثات أخيرة لسفينة تغرق.
وأيضا لم يلتفت أحد.
والوقت يمضي، والمارة يقلون، والسماء تزداد إطباقا على الأرض، وعالم الظلام يكبر ويكبر، والجرح الذي في السماء يلتئم وتذهب حمرته وشفقه، والناس يتحولون من كائنات إلى أشباح.
وبدأت دقات الصاجات تنخفض، ولم يعد الرجل يقول يا منعنش، كان فقط يردد يا كريم سترك. وكان يقول يا كريم متضرعا، يقولها لكل شيء حوله؛ للأرض والسماء وعربات النقل والكارو، وحتى لصاحب الغرزة الجالس هو الآخر يرتعش ويستعد للرحيل.
وكان ما في صوته من ضراعة ينتقل إلى نحاس الصاجات، فتخرج الدقات متتابعة نغم، وعلى دفعات، ولكن فيها بحة، وكأنه يريد أن يرجو الناس فقط أن ينظروا إليه، فقط ينظرون إليه ولا يشترون. لماذا يزورون عنه ويشيحون بوجوههم يتهربون وكأنهم يفرون من واجب ثقيل؟ ماذا عليهم لو فقط يلتفتون؟
ولم تفلح الدقات ولا أفلح النداء في جلب نظرة.
وهنا كست وجه العجوز تكشيرة طيبة فيها يأس، وتهدل حاجباه فوق عينيه في عتاب صامت، وكانت يداه لا تزالان مدلاتين خلفه، ولكن الدقات همدت حدتها وتباعدت، وأصبحت كدقات قلب المشرف على الموت؛ تسكت طويلا ثم تبرق فجأة وكأنها تقاوم الفناء. وبين الحين والحين يلقي الرجل نظرة على القراريط التي باعها وآلاف القراريط التي لم يبعها، ثم يتمتم من بين شفتين ترتجفان بالبرد: يا كريم سترك.
وظل الرجل واقفا هكذا وكأنما ينتظر شيئا ما؛ معجزة تحدث وتفرغ الإبريق وتملأ جيبه. ثم خفت القدم، وخطا الكوبري عله يرزق، ولم يرزق، ووقف على جانب يحدق في الأرض والسماء والأضواء البعيدة والقريبة، ولا شيء يحدث ولا معجزة تهبط.
وهبط عليه يأس كامل، فارتفع حاجباه المتهدلان، ومضت التكشيرة إلى غير رجعة، وانبسطت ملامحه، وبدأت الدقات المتباعدة تتقارب وتتآلف، ولكنها اتخذت طابعا غريبا، فلم يكن لها ضجة الهدير المتتالي الذي يشبه صراخ الأوزة المذعورة. تآلفت الدقات وصنعت نغمة أخرى، نغمة خافتة راقصة حزينة. ظل الرجل يدق بيديه دون وعي، وتخرج النغمة دون وعي أيضا، وتخرج هامسة تتستر بالظلام ولا أحد يسمعها، حتى فطن الرجل إلى ما تحدثه أصابعه، فأنصت برهة وابتسم، ورفع حاجبيه وكأنما أعجبته النغمة وجاءته على الوجع فأوغل فيها، ومضى يضبطها ويحسنها وهو الخبير بدق الصاجات، حتى استحالت إلى همسات فيها بحة تخلع القلب وترهف الأنفاس. وأطربته النغمة إلى الدرجة التي راح يهز رأسه هزات خفيفة وقورة على وقعها، ثم ما لبث الاهتزاز أن وصل إلى شعيرات ذقنه، فأخذت تتأود وتتراقص.
وقف طويلا يرمق الناس والدنيا بلا مبالاة تامة، ويده اليمنى تهمس بالنحاس إلى النحاس، والطرب قد وصل إلى الإبريق وبوزه، فأخذ يرتعش هو الآخر ويتمايل، ولا أحد يسمع سواه، وهو منتش؛ لأن أحدا لا يسمع سواه، ولا أحد يلتفت إليه، والنغم يخرج حنونا دامعا حلوا في سكون المساء.
ظل واقفا إلى أن أحاله الظلام المتكاثر إلى شبح من الأشباح.
ثم بدأ الرجل يتحرك مروحا في اتجاه شبرا البلد.
تحرك بطيئا يائسا مثنيا إلى الوراء، ويداه خلفه، والصاجات تدق وهو يتحرك على وقع نغمتها الهامسة. كل خطوة بهمسة؛ همسة موجوعة ثكلى. وكل خطوة بدقة؛ دقة ناعمة فيها شجن. ويذوب شبحه في الليل حتى يختفي تماما، ولا تعود الأذن تسمع سوى همس النحاس إلى النحاس، وهو ينخفض ويشف وينخفض.
والدنيا كبيرة كبيرة، والظلام كثير كثير.
ليلة صيف
العشاء ولى، والتبن بارد وكومته عالية، والدنيا ليل؛ ليل مفضض؛ فهناك قمر عليه سحابات كمناديل الحبايب البيض تعافيه بالعافية، وتمضي وبلدتنا راقدة، قريبة منا، كقنفذ له أشواك وأحزان وأشجار. وكنا نحن جالسين نتحدث - لا نفعل كالكبار ونخوض في متاعب النهار - كنا نتحدث عن أنفسنا. كنا قد بدأنا نحس بشيء جارف عارم يتدفق في أجسامنا ويغيرها، ونحس بالتغيير يحدث كل يوم، وكان ذلك يسعدنا ويدهشنا، ونردد ونحن فرحانين: إحنا بلغنا.
كنا لا نخوض في حديث المتاعب مع كثرة متاعبنا في النهار، كنا نشقى كالرجال تماما، بل في العادة أكثر من الرجال؛ فالكبار دائما كسالى يعشقون الظل ويتركون لنا الشمس، يرجوننا أحيانا وأحيانا أخرى يأمرون، ونحن في كلتا الحالتين سعداء؛ فالعمل رجولة ونحن ظامئون إلى الرجولة، وأن نكلف به معناه أننا قد أصبحنا كبارا يعتمد علينا وأننا شباب، وأن لنا غدا لا بد قريبا نتزوج فيه ونخش، ويكون لنا زفة وليلة حنة. كنا نعمل طوال اليوم كالنحل النشيط، ونأكل كثيرا، نأكل كل ما نعثر عليه في الغيط أو في البيت، وأمهاتنا سعيدات يدركن بغريزتهن أننا نكبر، وأننا في الطريق إلى النضج، فيدسسن لنا قطع الجبن والبيض واللحم من وراء آبائنا وإخوتنا وكأننا بط يزغطنه أو أوز. وكانت أجسامنا تستجيب وتشتعل، وتنفض عنها صفرة طفولة طالت، وشحوب السنين العجاف وما فيها من قصر، وتنمو؛ تنمو بسرع وكأنما تعوض في أيام كل ما فاتها من سنين، وكانت وجوهنا هي الأخرى تتغير، وتستدير، وتأخذ لون الأرض الخصبة ذات الطمي، وتمتلئ سيقاننا، وتبرز حناجرنا، وتغلظ منا الأصوات.
كنا جالسين فوق كومة التبن نغمغم ونحكي ونتحدث، والليل يقشعر بأصواتنا وبما فيها من رجولة وافدة جديدة، وأجسامنا تنتفض بقوى لا تجعلنا نستقر، ولا تجعلنا نحلم كما يفعل الصغار، أو نكبتها في حكمة كما يكبت الكبار.
كنا نجلس، وفي الحقيقة لم نكن نجلس، كنا ندفن أنفسنا في كومة التبن وكأنما نود أن تلمسنا الدنيا ونلمسها، ويضغط التبن علينا فنستعذب ضغطاته.
وكنا نتحدث، كنا نفرغ تلك الحمى المتأججة في كلامنا، وكنا نختار مجلسنا بعيدا عن البلدة، وبعيدا عن الناس، وكأننا نحس بما يدور في خلدنا، ونعتبره شيئا قبيحا لا يصح، فنختار للخوض فيه مكانا بعيدا.
ولم يكن حديثنا مرتبا ولا منمقا، كان يبدأ دون أن نعرف، ونستمر فيه ساعات ونحن لا ندري عن أي شيء نحكي. كنا نتكلم والليل وحده يسمعنا، بل لولاه ما تكلمنا. كنا نحب أن يشهد الليل حديثنا، بل نكاد ونحن نتكلم نوجه إليه حديثنا. ونحب الليل؛ نحبه وكأننا نرى في سواده وهدوئه وحنانه امرأة جميلة ذات نسمات ودم خفيف وسمرة أبنوسية تهيج كامن أعماقنا. ونكره النهار؛ نكرهه وكأنه رجل خشن غليظ القلب والقول لا يرحمنا ولا يسمح لألسنتنا أن تدور.
كان الحديث يبدأ بالطول، كل منا يحاول أن يثبت للآخر أنه أطول منه. وتقوم بيننا المراهنات، ويدعي الخاسر أن في أعلى فخده ورما وألما ويريه للباقين، فيطمنه الباقون؛ فالورم معناه طول جديد وعليه ألا يحزن. ثم ندلف إلى الأحلام ونتفنن في رواية كيف حدثت، ثم نقارن بين الأصوات، ويمد كل منا يده ويتحسس حنجرته ويرى مقدار ما حدث فيها من بروز.
ثم يحوم الحديث حول النساء. وكانت نساء بلدنا كبيوتها سودا لا أرداف لهن ولا صدور أو شرفات. كن كالرجال أو هن أقرب. كانت نساء البيوت البيضاء هن من يملأن علينا الحديث. وفي القرى بيوت سوداء كثيرة، وقليل من البيوت لها طلاء أبيض. ولا بد في كل بيت أبيض امرأة حلوة سهلة، وإلا لماذا خلقت دون النساء حلوة؟
وكان التبن يضج بحديثنا، ونهيج أحيانا ونقذف بعضنا بأحفنته ونثير العواصف، وينطلق منا من يعوي كالذئاب ويقول: روحوا يا ولاد!
ويخرسه الباقون لئلا يعثر علينا أحد، ونحن لا نريد أن يطردنا من مجلسنا خفير أو كبير؛ إذ إننا نتفرق بعدها إلى بيوتنا، ويرقد الواحد منا فوق ظهر فرن، أو في «بحراية»، ويكظم وحدته وحيرته وضيقه بالعفاريت التي تكهرب جسده وتحرمه النوم. هنا فقط - ونحن جماعة - يخيل إلينا أن العفاريت تسكن، وأننا حين نتحدث نرتاح، والحديث عذب حلو يا هوه، نريده ونطلبه وليس لنا سواه.
وما كان لجماعتنا قيمة بغير محمد. كان أكبر منا وحائرا مثلنا، ولكنه كان أكثر منا خبرة. كان قد خرج من بلدنا وذهب إلى البندر، ويعمل فيه، وله قصص ومغامرات. وكانت له بالنساء معرفة، وما من أحد فينا كان قد اطلع على النساء. كنا نراهن من بعيد ونخشاهن، ونتمناهن ويتملكنا خجل قاتل إذا انفردنا بهن. وكان محمد عزاءنا؛ يقص علينا مغامراته بالتفاصيل ونرتشف ما يقوله رشفا. وكنا نحبه، ونحب شاربه الخفيف الحديث، وكان في استطاعته أن يربي شعره؛ فآباؤنا كانت تجتث شعورنا أولا بأول ولا حق لنا بعد نمرة تلاتة. وكان لمحمد «قصة» صفراء يطليها أحيانا بالفازلين الذي يشحته من ناظر المحطة، وإن لم يجد فبالزبدة، وكانت بقية رأسه قصيرة الشعر. وكان يحلو له أن يلبس الطاقية الصوف ويرجعها إلى الخلف، فتظهر «قصته» ناعمة لامعة مسبسبة، ويحسب الرائي أن شعره كله لا بد ناعم لامع مسبسب. وكان بشفته العليا شق يجعل الإنسان يعتقد أنه شرس ويكرهه، ولكنه لم يكن شرسا. كان يضحك كثيرا، ولا يغضب منا، ويطير وراءنا إذا ضحكنا عليه. وكان قمحيا لم تسوده شمس الغيطان. كان يزرع، وذهب إلى البندر مرة، وما إن تذوق عيشه وطعميته حتى أقسم ألا يعود إلى المحراث أبدا. وكان يخيل إلينا ونحن جالسون معه أنه ليس من بلدنا، وأنه واحد من سكان المدينة المتنورين اللئام الناصحين الذين نرهبهم ونخشى أذاهم.
وكان جريئا. كنا نخاف الحرام جدا، ولكنه طمأننا، وعلمنا كيف نملأ حجورنا بالتراب وندخل به منازلنا، ثم نرمي التراب ونملأ حجورنا بالغلة أو الأذرة أو القطن، ونخرج فلا يشك فينا أحد.
وكان هو الذي يتولى بيع ما نجلبه، ويختصر من الثمن برضانا، ونشتري بالباقي حلاوة طحينية ويوسف أفندي وعصي خيزران نتقمع بها في الأسواق.
في تلك الليلة جلسنا، حفنة من أولاد بلدنا أرجلهم خشنة مشققة لا يزال يطمسها طين جاف، وملابسهم مهرأة، ووجوههم لا تكاد تعرف فيها الشعر الأصفر من الشعر الأسود من سمرة الجلد، وروائح العشاء تتصاعد من أفواههم؛ بصل ومش وفلفل مخلل وسردين وكرات، والهدوء تام من حولنا، والقمح يغمرنا من كل جانب؛ قمح واقف تموج به الغيطان، ويتلون بحركة الريح وشعاعات القمر كما يتلون حرام من القطيفة البنية، وقمح محصود ومكوم في أكوام صغيرة متباعدة لها صفوف كصفوف مصلين راكعين في العراء يطلبون الرحمة، وقمح يدرس، وقمح مدروس ومدرى، وأكوام تبن وقصلية، ونورج واقف كجمل بارك وعليه «شبرية» عروس، ورائحة المحصول الجديد تملأ الجو وتختلط برائحة التراب بلله الندى، ورائحة عشائنا وعرقنا الذي كان قد أصابه التحول هو الآخر، وأصبحت له نكهة ذكرية خاصة.
وفي مثل تلك الليالي يحلو حديث محمد. كان صوته لا يتأرجح مثل أصواتنا، كانت رنة الرجولة فيه قد استقرت، وكانت طريقته في الرواية توقف الشعر، وبلاد كثيرة يحدثنا عنها؛ بلاد قريبة رآها بعضنا، وبلاد بعيدة ما رأيناها، ولا نعتقد أن محمد هو الآخر رآها. بلاد لها أسماء غريبة ترن في آذاننا رنينا، ولها في خواطرنا ألوان وأشكال وأفندية وسكك حديد.
كنا نبقي حديث محمد للآخر. نستهلك أولا كل ما يمكننا قوله عن بلدنا ونسائها، ونعيد ما قلناه، ويقص كل منا كيف نظرت له فلانة وكيف وقف يتبصص على علانة.
ثم نحلي بحديث محمد.
وعرفنا في تلك الليلة من بدايات حديثه أنه يود أن يحكي قصة المرأة العرباوية التي عرفها في السوق، فقاطعناه وصنعنا ضجة؛ كان قد بدأ يغالطنا ويحكي لنا أشياء رواها من قبل. وكنا نريد شيئا لم نسمعه؛ إذ لم تعد تنطلي علينا مراوغاته. وكان محمد أحيانا يروغ ويحرن ونتذلل إليه ونستحلفه ونعده بالقمح والذرة والبيض ، ولكنه في ليال كان يحرن تماما ولا ندري لسكوته سببا.
وقال لنا محمد وعيونه تبرق: اسمعوا يا ولاد!
قلنا: إيه؟
قال: أقول لكم على حاجة حصلت لي بس اوعوا تجيبوا سيرة لحد.
قلنا: مش ح نجيب سيرة لحد.
قال: تحلفوا على الربعة الشريفة؟
قلنا: وحياة الربعة الشريفة.
قال: والبخاري؟
ولم نكن نعرف ما هو البخاري، كان لا ريب شيئا أعتى من المصحف.
فقلنا: وحياة البخاري.
قال: واللي يرجع في كلامه؟
قلنا: يبقى مرة.
قال: مرة وبس؟
قلنا: وابن ستين في سبعين.
قال: وحياة الشمسة الحرة؟
قلنا: وحياة الشمسة الحرة.
قال: كنت مرة رايح المنصورة في طلب.
قلنا: أنت كداب، أنت عمرك رحت المنصورة؟
قال: وحياة المصحف الشريف رحت.
وصدقنا ولم نملك أنفسنا ووحوحنا. الحكاية ستحدث في المنصورة؟ والمنصورة كانت لا تبعد عن بلدنا كثيرا. كان القليل منا هو الذي رآها وهو صغير، وكلنا سمعنا عنها، وكلها أسماع محمومة براقة تغشي وتذهل.
وكانت في نظرنا لا بد شيئا كبيرا كالجنة، وفيها خواجات لا يحصى لهم عدد، وبنات كاللبن الحليب، ونساء أفرنج لهن ملايات لف حريرية تلمع وتلعلط، وقصب براقعهن لا بد صغير دقيق مثل عقلة الإصبع، وأنوفهن لا بد كحبة الفول، وأجسامهن لا بد مصنوعة من لحم طري وليس فيها عظام، وإنما هي كالملبن تجذبه فينجذب معك، وتلحسه فيسيل لعابك من حلاوته، والرجال هناك طريون لا يشبعون نساءهم، والنساء يمضغن اللبان فيطرقع في أفواههن الحلوة الضيقة، ويطلبن الرجال؛ رجال مثلنا فلاحون خناشير كفحول الجاموس.
وقلنا لمحمد مبهورين: وبعدين؟
ومضى محمد يحكي. قال إنه نزل من القطار وقضى طلبه، وبقيت لديه ساعات على موعد القطار التالي، فاشترى رغيفا خاصا، وأكله ومضى يتفسح في شارع المحطة. وكان الشارع ممتلئا ببيوت كبيرة لها بلكونات، وكانت الدنيا في العصر الضيق، وكانت البلكونات ممتلئة بالستات؛ ستات لو وزعن على رجال بلدنا لناب كل واحد طورة وفردة خربة. ومر ببلكونة كانت واحدة واقفة فيها ترتدي «روبا» أحمر.
واستخرجنا أنفسنا من التبن وسألناه: ما هو الروب الأحمر؟ فقال إنه شيء كالعباءة. وتشككنا في صحة كلامه؛ فقد كنا نسمع له كالقضاة نتأرجح بين التصديق والتكذيب. كنا نخاف دائما أن يكون ما يقوله مجرد حكاية يخترعها ليضحك بها علينا؛ ولهذا كان الشك يغلبنا ونرجح في الغالب كفة الاتهام.
ومضى محمد يروي ويقول إنه مر من تحت البلكونة فابتسمت له المرأة.
وتلاصقنا حوله وارتجفنا.
وظن أنها تبتسم لواحد غيره، ولكن الشارع كان خاليا من الرجال، وليس هناك أحد غيره. ونظر إليها فعادت تبتسم.
وأمسكنا بجلبابه وتشبثنا نستأنيه ولم نعد نصدق أو نكذب. كنا نود أن نسمع، وقلنا له: حاسب. إوعى تسيب حاجة.
فقال: مش ح أسيب حاجة. هي ابتسمت تاني يا ولاد وأنا قلبي دق وجنوني طارت، وقلت في سري دي فرصة جتلك من السما يا واد.
عملت إني مش واخد بالي وبصيت لها تاني فضحكت، فقلت في سري ما ينفعش إلا واحد زبيب.
وسألناه: اشمعنى الزبيب يعني؟
قال: يعني كونياك يا ولاد.
قلنا: وإيه الكونياك؟
قال: خمرة.
وخفنا. محمد يشرب الخمرة؟ النسوان معلهشي، إنما الخمرة أعوذ بالله! المقصود تغتفر لمحمد. - وبعدين يا محمد؟ - مشيت، لقيت واحد خواجة فاتح. قلت يا خواجة. قال نعم. قلت اديني زبيب زحلاوي والمزة خيار.
قلنا: إيه المزة دي يا محمد؟
قال: خيار.
وخفنا أن نعيد السؤال. كنا نستعجل ما بعد ذلك وما هو أهم. - شربت الزبيب يا ولاد دمي غلي وطلعت الخمرة على قلبي بقى زي الحديد. قول أجل الاطمئنان رقعت واحد تاني ورجعت على شارع المحطة.
وسألناه: وفت تاني؟
قال: فت.
قلنا: ضحكت لك؟
قال: ضحكت ضحكة ترد الروح يا ولاد. مرة حلوة زي الكمترى ولابسة ... كانت لابسة إيه يا محمد؟ لابسة قبقاب مشغول وجسمها باين كله من الروب وبتضحك. بصيت لها وضحكت. ضحكت تاني.
قلنا: اشمعنى ضحكت لك تاني يا محمد؟
قال: يا ولاد كنت لابس الحتة الزفرة، وكان عندي طاقية وبر جمل وجزمة لميع وكوفية حرير على كتفي، وشباب في عز نعنعة شبابه. غمزت لها بعيني فراحت داخلة جوة، وطلعت لابسة روب تاني؛ روب سواكبيس أخضر. رحت وجيت من قدام البيت، فشاورت لي وقالت بإيدها اطلع. أطلع يا ولاد؟
فقلنا بعزم ما فينا: إطلع يا محمد.
فقال: طلعت والواحد متاخد. إني غريب وده بيت وداخل على حرمة. افرض حد مسكني ولا حاجة أقول إيه؟ افرض لها أهل. المقصود لولا الاتنين الزبيب يا رجالة لما كانوا يقطعوا رقبتي ما كنت أعتب بيتها أبدا.
وسألنا: ودخلت؟
فقال: صبركم عليا شوية. ضربت الجرس يا ولاد.
قلنا: ضربته ازاي؟
قال: الجرس كان له زر.
قلنا: والأجراس بأزرار؟
قال: أيوه يا فلاحين اتمدنوا الأجراس بأزرار. فتحت لي الباب وقالت اتفضل. وطلع صوتها يا ولاد زي السكر المعقود زي حب النعناع.
وقلنا: ودخلت، ادخل.
قال: الله! ما تحكوا أنتم أحسن. ح تسكتوا ولا لا.
قلنا: ح نسكت.
قال: وقفت على الباب خايف. سندت على الباب، وقالت لي ما تخافش جوزي مسافر. قلت يا واد هي موتة ولا اتنين. قلت لروحي: تدخل يا وله؟
قلنا له: ادخل يا محمد يخرب بيتك.
قال: دخلت وقعدت في أوضة الجلوس. كراسي مدهبة يا ولاد. ومرايات بنور الحيطان ولعاليب وشخاليل في كل ركن من الأركان. وبعد شوية بصيت لقيتها داخلة عليا بفستان كحلي بياكل من جسمها أكل. وكانت جايبة معاها إزازة وكاسين. قالت لي: اسمك إيه يا شاطر؟ قلت لها: خدامك محمد. قالت: دانت سيدي، تسلم لشبابك. تحب تقعد على الكرسي يا سي محمد ولا تخليها على البساط أحمدي.
قلنا: اقعد على الكرسي يا عبيط.
قال: لا، قلت أنا مش واخد على قعدة الكراسي يمكن أدوخ. وقلت لها: اسم الكريمة إيه؟ قالت لي: فيفي. قلت لها: وأنت فيفي صحيح. قالت لي: أنت بتشرب يا سي محمد؟ قلت: أشرب تاني يا ولاد؟
قلنا: اشرب يا أخي.
قال: وقعدنا نشرب يا ولاد. واحد في التاني في التالت أنا اتخدرت والأوضة لفت بي. قالت لي: إنت اتاخدت؟ قلت: أبدا. قالت: أجبلك حاجة تفوقك؟ فانكسفت أقول هاتي.
قلنا: يا خايب تنكسف ليه؟ وجابت لك؟
قال: جابت لي ؟ دانا بصيت لقيتها داخلة عليا بصينية أكل.
قلنا: فيها إيه؟
قال: ديك رومي يا ولاد محشي من جوه حمام، وبطاطس ولحمة ضاني.
قلنا: يخرب بيتك يا محمد. وأكلت؟
قال: أنا بقيت داري عن روحي. أهو فضلت تطعمني.
قلنا: مش عيب؟
قال: عيب إيه يا ولاد؟ ما عيب إلا العيب. أني كنت بقيت ألسطة قوي وعلى الآخر. فمديت إيدي عليها.
قلنا: من غير ما تغسل؟
قال: يا باي! غسلت. انتو ح تطهقوني.
ورجوناه ألا يطهق، وما كان في حاجة إلى رجاء، كان يبدو هو الآخر منسجما لا يستطيع أن يوقفه شيء. ومضى يقول مديت إيدي عليها يا ولاد تقولوش عجمية.
قلنا: وشها كان أبيض؟
قال: أبيض من القطن المندوف.
قلنا: وشعرها كان ازاي يا وله؟ كان أسود؟
قال: ومحصل لغاية ركبتها.
قلنا: قول والنبي قول بس اوعى تفوت حاجة.
قال: كان جسمها ناعم نعومية يا ولاد، أنعم من بذر الخروع. قلت لها أنا في عرضك، أنا خلاص. قالت: طيب تعالى. وخدتني على السرير، ونزلت الناموسية؛ ناموسية بمبي والنبي. ومدت إيدها طفت النور.
قلنا: حاسب على مهلك قوي.
قال: وبعدين لقيت الناموسية بتبرق يا ولاد. أنا قلت القيامة قامت، أتريها ولعت نور تاني في الناموسية. واتبن كان في سقفها لمض صغيرة حمرا وخضرا وزرقا وصفرا. وبصيت لقيتها قدامي يا ولاد حاجة تهبل؛ حتة منها لون والتانية لون، كأنها جنية.
قلنا: وبعدين؟
قال: وبس يا ولاد، وشفت معاها ليلة ولا ألف ليلة.
فعدنا نقول: أبدا ما ينفعشي. وبعدين في عرضك؟ وبعدين؟
قال: ولا قبلين.
قلنا: يا أخي ما تقول، يا أخي ارحم، وحياة رحمة أبوك وبعدين؟
وجاد علينا بالقليل، ولم يشف غليلنا أبدا. وتركنا ولعة كالنار الموقدة. وبدلا من أن يهدئنا حديثه زادنا اشتعالا. وقال واحد منا: سيبوكو منه يا ولاد. ده مش كله فتش.
وقال آخر: طيب تحلف إن ده حصل.
وأقسم محمد، وازددنا ثورة ولم نصدق.
وأقسم بتربة أمه. وقلنا: كداب أنت بتضحك علينا.
فقال: أبدا، والله هذا ما حصل.
قلنا : كداب.
قال: يا ولاد أنا عمري ما كدبت عليكم.
قلنا: أنت كداب.
قال: إنتم أحرار.
فقلنا: يعني لو رحنا المنصورة تودينا البيت؟
قال: أوديكم. - تودينا؟ - أوديكم.
وانتفض واحد وقال: ما تيجي نروح المنصورة يا ولاد.
وهللنا. قال كل واحد كلمة، وصدرت عنا أصوات، وتعانق أكثرنا. كانت عقولنا كالقاعة الضخمة الفارغة أقل الأصوات يحدث فيها أعظم الرنين. وهجنا هياجا شديدا، حتى اتنين منا أمسكا بمحمد، واحد من رأسه، والآخر من ساقيه، وظلا يؤرجحانه بينهما حتى ألقياه على التبن. وصرخ واحد وقال: يا رازق الفرخة وديكها.
ثم اندفع إلى النورج يجره ويدور به فوق «رمية» القمح المعدة للدراس. والنورج ثقيل جدا لا تكاد تستطيع البهيمة سحبه.
وقال واحد: ولاد، ولاد، اسمعوا يا ولاد، ولاد اسمعوا يا ولاد.
وظل يصرخ حتى سمعنا، فقال: تيجوا نروح المنصورة؟
وعاد الهياج بحماس أكثر، وتعالت سحب التبن فملأ عيوننا وأجسامنا وعفرنا ترابه.
وكنا قد غادرنا الكومة، وأصبحنا في وسط الجرن، وكل منا مشغول بشيء أو مشتبك مع الثاني في مصارعة، والشاطر من يوقع الآخر.
وقال محمد: تيجوا نلعب يا ولاد ضربونا لما عمونا.
وهجنا من جديد، ووجدنا أنفسنا نزعق ونقول: عايزين نروح المنصورة.
ووجدنا لها نغمة فعدنا نغنيها: عايزين نروح المنصورة.
وتصاعد صوت يقول: الدنيا ليل يا ولاد.
ورددنا عليه جميعا: عايزين نروح المنصورة.
وهرش واحد وقال: حدانا عزيق بكرة.
فقلنا: يا محني ديل العصفورة، عايزين نروح المنصورة. •••
وأفقنا لأنفسنا فوجدنا أننا قد قطعنا شوطا كبيرا. كنا قد غادرنا بلدنا وحدودها وغيطانها، وأصبحنا نمش في طريق زراعي يقطع زمامات بلدة أخرى. ولحظتها فقط بدأنا نعي أننا مقدمون على شيء، وأننا ذاهبون فعلا إلى المنصورة. وكان سبب يقظتنا أننا شممنا رائحة الأرض الغريبة. في بلدنا كنا نحس بالألفة لكل شيء، ونتصرف بحرية ولا نخاف. كل نخلة كنا نعرفها، ولا بد طلعناها وأكلنا منها بلحا، وجمعنا من تحتها رطبا. كل غيط طرقناه ورأيناه في طفولتنا وصبانا. كل بيت نعرفه ونعرف أهله كما نعرف أهلنا. والشجرة أي شجرة نعرف فروعها بالفرع الواحد. وكل منا يستطيع وهو مغمض العينين أن يفرق بين تراب بلدنا وأي تراب آخر. ولم نفق إلا لإحساسنا أننا قد غادرنا أرضنا وأصبحنا في بلاد الناس.
وانتابنا خوف حقيقي حين أيقن كل منا أن الدنيا ظلام، وأنه يسلك طريقا لا يعرف له نهاية، وأنه لم يعد في بلده، ولا يستطيع أي منا أن يصرح بما يدور في خاطره. كانت جماعتنا تتحرك وكانت لها رهبة، وكأنها أصبحت عملاقا كبيرا له عشرات الأذرع والأيدي والرءوس، حتى بدا ما يفكر كل منا فيه صغيرا تافها يخيفه هو وحده، وأصبح هم كل منا حينئذ أن يلتصق بالآخرين أكثر، حتى يذوب خوفه ويختفي في جسد ذلك العملاق الكبير. وبعد أن كنا متناثرين على الطريق تقاربنا وتشابهت خطانا، بل وتشابكت أيدينا، وتولانا وجوم وسكوت، ونحن نستغرب من سيرنا المندفع الذي لا يتحكم فيه عقل ولا يتوقف. كان في صدورنا هدير لا يرحم، والمنصورة تجذبنا، كلمة ولكنها أصبحت تعني بالنسبة إلينا شيئا كالحياة أو أغلى من الحياة، تيار عارم كان ينبع من صدورنا ويقودنا ويدفعنا رغما عنا.
ولم يعد يسمع سوى وقع خطواتنا على الطريق؛ وقع هامس خافت كأننا قافلة جمال؛ فقد كنا حفاة، ومن كان يرتدي في قدمه شيئا خلعه ووضعه تحت إبطه، وكنا نلهث، ووجوهنا تلمع، وغبار قليل يثور، والليل من حولنا كبير أكبر من أي شيء في الدنيا، وأسود ومخيف ومليء بالهمهمات والأسرار، والزرع كثير محيط كالبحر المالح الذي ليس له بر، والنبات واقف ميت تحركه النسمات فيتحرك معها حركة ميتة بطيئة، وأصوات سواق تأتي من بعيد كأصوات النائحات النادبات في الجنائز حزينة على الزرع الميت، وطلقات بنادق متباعدة لا يعرف من ضاربها وأين ضربها وإلى من تصوب، وديكة تصيح قبل الأوان، ونباح كلاب يأتي من بلاد مجهولة، وهواء واسع يحف بأرض واسعة، فتهمهم الأرض وتقشعر الرياح، وهمسات الظلام تنبثق في أماكن غير مرئية؛ همسات خفية لئيمة لا تنقطع كأنها تصدر عن حيتان هائلة لا ترى تسبح في بحر الظلام وتتقلب.
ومد واحد يده وزغزغ الذي في جانبه، وانزعج الآخر انزعاجا عظيما، وقفز في الهواء وصرخ، وضحكنا. لم نضحك ضحكا عاديا، متنا من الضحك. ورحنا نزغزغ بعضنا ونموت، وتتقطع أنفاسنا من الشهقات.
وقال واحد لمحمد وهو يلكزه: ورجليها يا محمد، زي رجلينا كده؟
فقال محمد: هي رجليكو دي رجلين، دي قحوفة نخل.
وعاد السائل يسأل: أمال رجليها ازاي؟
فقال محمد: زي الجمار. - زي رجلين صفية الغازية يا وله؟ - صفية مين يا حمار؟ دي ولا تيجي في ضافر رجلها الصغير. - وبطنها يا محمد، داقة عليها سمكة؟ - سمكة إيه يا جدع؟ إيه شغل الفلح ده؟ - أمال داقة إيه؟ - ولا حاجة، هي دي بطن يندق عليها؟ دي زي العجين يا وله. - وكانت حاطة أحمر وأبيض يا محمد. - والله ما خدتش بالي. - ما خدتش بالك ازاي؟ ودي حاجة تتنسي؟ - كانت حاطة. - وبتتكلم بندراوي ولا فلاحي يا محمد؟ - بندراوي مكشكش يا وله.
وهصنا، وطرنا وراء بعضنا، واختفينا من بعض في الأذرة الصيفي، وقد أصبحت المرأة شديدة الوضوح في ذهن كل منا؛ حلوة، تماما كما يريدها الواحد منا؛ ملموسة، وكأنها أمامه، وكأنه قضى معها ليالي كثيرة.
ومضينا ونحن نتدافع ونتجاذب ونسرع، وضحكنا، وتحدثنا، وقهقهنا ونحن نستمع إلى تخميناتنا عن المسافة الباقية على المنصورة؛ واحد يقول ألف ألف متر، وآخر يقول أربع محطات. وتشبعت بنا التخمينات.
وتنبهنا فجأة؛ فلم نجد محمد بيننا.
وكأنما اندكت سكين في قلب كل منا. ودون أن نتعقل أو نتشاور انطلقنا نجري في كل اتجاه لنمسك به. كان قد زال عنا كل شك في صدقه، وتأصل ما قاله في مخيلة كل منا، وحفرت تفاصيله في عقولنا حفرا، وأصبحت المرأة ذات الروب الأحمر والإزازة ليست مجرد امرأة أخرى من اللاتي تعود محمد أن يحكي عنهن، أصبحت امرأة كل منا، يكفي أن يصل إلى المنصورة ويريه محمد بيتها ذا البلكونة الحديدية، ونطلع واحدا وراء الآخر حتى تموت من السعادة وتسر، ويمكن تعطي كلا منا جنيها؛ فالواحد منا ولد، ولد عترة لا يعادله أولاد المنصورة كلها وشربين، وإذا بالخنزير يساهينا ويهرب.
كنا ونحن نجري نصدر الأوامر لبعضنا؛ روح أنت ناحية التابوت، دور تاني بر السكة الحديد، اطلع أنت على الكوبري. وبهذا تفرقنا في شبكة واسعة لا يستطيع كائن من كان أن يهرب منها. وكان الواحد منا لا يملك منع نفسه من التفكير: ماذا لو لم نجد محمد؟ هل نعود إلى بلدنا بأيد وراء وأيد من أمام؟ وكانت إجابتنا جميعا: أن لا، لا، لن نعود. يكفي أن نصل فقط إلى المنصورة؛ إذ لا بد أن نعثر هناك على بغيتنا، لا بد أننا واجدون عشرات من نساء إفرنج بملايات لف، نساء كاللبن يؤكلن أكلا، نساء حلوين يا وله، أحلى من العسل النحل والقشطة. وسمعنا صرخة تأتي من بعيد: أهه يا ولاد، محمد أهه يا ولاد، لقيته.
وكالريح المندفعة العاتية اتجهنا إلى الصرخة، ووجدنا محمد قد دفع صاحب الصوت دفعة وجري، وجرينا وراءه وتبلور كل ما نطلبه من الله في الإمساك به، ولم يكن عسيرا أن نقبض عليه، ولم يسكت. مضى يتفلفص ويضربنا، وكانت ضرباته غريبة جامدة قوية كضربات الرجال، وتفادينا الضربات، وتحملنا إلى أن كتفناه وأحطناه كما تحيط جماعة نمل صغيرة بكسرة خبز، وحاول المقاومة وفشل، وحاول وفشل، وأحس أننا أقوى منه فاستسلم. وخلع واحد جلبابه وربطنا به ذراعيه. وقال بلهجة وقحة جافة: إنتم عايزين إيه دلوقت؟
قلنا: عايزين تورينا بيت المرة.
فقال: مش موريكم.
قلنا: غصب عنك ح تورينا.
قال: بالعافية؟
قلنا: بالعافية.
قال: ح أوريكم يا نسوان.
قلنا: إبقى ورينا.
قال: بالعافية يعني؟
قلنا: بالعافية ياللا.
وعترس في الأرض فجررناه بالقوة، ومشى معنا والغيظ يخنقه، ثم تمتم وقال: المنصورة بعيدة يا ولاد وح نتوه.
قلنا: ملكشي دعوة.
قال: ذنبكم على جنبكم.
قلنا: على جنبنا.
ومشينا صامتين وقد تكهرب الجو، ولكن الصمت لم يدم طويلا. تكلمنا وقلنا نغني. ولم نكن نحفظ أية أغنيات؛ البنات وحدهن هن من يحفظن الأغاني، ولهن في هذا باع ومقدرة، كنا لا نحفظ إلا مطلع موال: أقوم من النوم أقول يا رب عدلها. غناه واحد ، فخرج صوته قبيحا فأسكتناه، ومضى كل منا يغنيه كما يحلو له.
وهللنا مرة هللولة كبيرة، وتضارينا وتعانقنا وعفرنا بعضنا بعضا بالتراب، وخلع واحد جلبابه ورماه، ثم عاد وارتداه، وتبادلنا حدف الطوب؛ فقد بدت في الأفق أضواء صغيرة منتشرة كعيون الجراد حين تلمع في النور.
كانت أضواء المنصورة.
كانت المسافة بيننا وبين الأضواء تبدو قصيرة جدا، مشوار صغير ونصبح في قلب المنصورة، ولكنا ظللنا نجري ونرغم محمد على الجري حتى لهثنا. وبدأنا نمشي، ومشينا حتى لم يعد في استطاعتنا المشي، ومع هذا لم تقترب الأضواء إلا مسافة قليلة، وكأننا كلما اقتربنا غارت في الظلام وابتعدت.
وقال محمد: يا ولاد نرجع.
فأنفجر فيه: اخرس.
وقلنا: مدوا يا جماعة الوقت اتأخر.
واستجمعنا كل ما تبقى لنا من عافية وواصلنا المسير.
وفجأة لعلعت في الظلام قهقهة عالية، والتفتنا فوجدنا محمد هو الذي يضحك. ولما رآنا قد استدرنا إليه مضى يفتعل الضحك افتعالا، وينثني ويقوم ويضحك وهو يقول الجملة التي نقولها في بلدنا كثيرا حين يفلح واحد في خداع الآخرين وسبك الكذب عليهم، ويتطوع آخر الأمر بكشف نفسه: هيه، ضحكت عليكم، هيه، يا هبل ضحكت عليكم.
فسألناه: ضحكت علينا ازاي؟
قال: وانتوا صدقتوا؟
قلنا: إيه؟
قال: داني كنت بضحك عليكم؟ - تضحك علينا ازاي؟ - علشان أنتوا هبل. - يعني مش شفت المرة في المنصورة. - ولا عمري رحت المنصورة. - أنت كداب. - والنبي يا ولاد عمري ما شفت المنصورة بعيني. - أنت ابن ... - أنتوا اللي عبطا.
وهل علينا صمت ثقيل، رحنا في أثنائه نتلفت إلى أضواء المنصورة، وقد أصبحت قريبة نكاد نمد أيدينا فنقطفها، والحق أننا ما كنا نرى فيها أضواء ومدينة؛ كانت المنصورة كلها قد استحالت في نظرنا إلى امرأة مثل العجمية، تطل من بلكونة، ولها روب ولها ابتسامة، وتدعونا. ومضينا نتلفت إلى الأضواء، ونعود إلى محمد لنجده واقفا مائعا يصطنع الضحك ويسخر منا.
وقال واحد: دا بيضحك علينا يا ولاد. هو مش عايز يورينا المرة. دا بيضحك علينا يا ولاد، هو مش عايزنا نروح.
وتنبهنا. صحيح أنه يضحك علينا، وشخط محمد وقال: بضحك عليكو إيه يا حلاليف؟
فصرخنا فيه نلعنه ونقسم أننا لن نتركه حتى يرينا بيت المرأة. فعاد يقهقه ويتهمنا بالعبط وإنا مهابيل. وعدنا نقسم أننا لن ندعه يخدعنا ويحتفظ لنفسه بالمرأة من دوننا. وأمرناه أن يواصل المسير. ورفض أن يسير. فجررناه. فرفع ساقه ورفص واحدا منا في بطنه وهاج فينا. وانفجرنا وجمعنا كل ما فينا من غيظ وانقضضنا عليه وأوقعناه، واندفعنا نكيل له الصفعات واللكمات، وراح يضرب بالروسية وينطحنا ويدفعنا بسيقانه، وتكاثرنا عليه حتى ربطنا ساقيه معا بقميص، وجرى واحد إلى الخليج، وأحضر ملء يديه طينا وطلى به وجه محمد، وملأ فمه وبصق عليه. وحاول محمد أن يصرخ فكتمنا أنفاسه وسكت، وخفنا أن يموت، فرخرخنا أيدينا وتنفس، وقال واحد: نجره إلى الغيط ونكويه بالنار.
فقلنا كلنا: نكويه.
وجررناه إلى الغيط، وبحثنا عن كبريت ولم نجد، فقلنا: نصنع شرارة بزناد من الزلط.
وبحثنا عن الزلط، وعثرنا عليه فوق السكة الحديد، وقلنا: يلزمنا مسمار أو حديدة.
وهمنا نبحث عن حديدة ولم نجد إلا صفيحة. وبرك واحد على صدره، وأجرى الصفيحة على ساقه، وقال: ح تقول على بيت المرة فين ولا نموتك؟
ولم يعترف، فأخذنا ننشب أظافرنا في جسده ونقرضه ونعضه، ونطلب منه أن يدلنا على البيت.
وأدركنا آخر الأمر أن لا فائدة، وأنه كذاب.
فجننا أكثر، وانهلنا عليه ضربا من جديد، وحز ماسك الصفيحة في ساقه وقال له: طب قول أنا مرة.
ولعن محمد آباءنا جميعا ورفسنا.
وقال واحد: لا ينفع إلا الكي.
ورحنا نتبادل الزناد والزلط، ونحاول أن نحدث الشرر، وفي كل منا جزء صغير معجب بمحمد؛ لأنه لم يقل إنه امرأة، وجزء كبير حانق على اللئيم الذي خدعنا.
وحدثت الشرارة واحمرت قطعة القطن وهللنا، ونفخنا فيها، واشتعلت النار وملأتنا دهشة؛ فقد كان لونها شاحبا جدا. ونفخنا فيها وشحب لونها أكثر وأكثر. وعدنا ننفخ بلا فائدة.
وتبينا أن النار ليست وحدها الشاحبة، كان كل شيء يشحب ويصفر، ثم بدأت النار والأشياء من حولنا تبيض، ثم صفر شيء في آذاننا كالاستغاثة، وأدركنا مروعين أن حادثا جللا قد وقع، ومضى كل منا ينظر في وجوه الآخرين ويستعجب ويفيق. كانت وجوهنا معفرة كلها خدوش، وأجسادنا يكسوها التراب، وذباب؛ ذباب كثير لزج لا يهدأ، ولا يكف عن الطنين.
ومن أين جاءنا ذلك الألم؟ وماذا يقول أهلنا؟ سيضربوننا بالتأكيد ويشنقوننا، وآه من شتائمهم! كلها ألفاظ حامية تجرحنا وتصيب رجولتنا الصغيرة الحساسة في الصميم. كان على بعضنا أن يقوم في الفجر، وكان لا بد من تعليق توابيت وتتريب زرائب. وكنا لم ننم، لم ننم أبدا وعيوننا حمر، هل مرضت؟ وهه طلعت الشمس أيضا في بلدنا، وأشكالنا ما لها فيها ذهول وإجرام وتوبة؟ ما لها فيها «قشف» و«قوب»، وحفر غائرة، وحب شباب، ونقاط سود؟ لماذا نحس الآن فقط أننا غلابة فقراء، وأن بيوتنا ليس فيها سوى صيحات كلاب وجعير آباء وأمهات ودخان المواقد الخانق؟
وروعنا، ونسينا كل شيء ومضينا نتحسس أجسامنا وملابسنا، ونرى مدى ما أصابها من تمزيق، ونرى أنفسنا في وضوح بشع شديد نخاف معه أن نرى أنفسنا.
وكان محمد راقدا؛ جلبابه ممزق، وجسده ممدد كالخرقة البالية والذباب يعف عليه بكثرة، والجروح تشوه جلده، ودماء متجمدة فوق أنفه وعلى جانب فمه، وتملأ الشق الذي في شفته، نائما مستسلما كالذبيحة الفاطسة، كالمرأة بعد ليلة حافلة.
وفككنا عنه الأربطة بلا حماس، وتألم وأحسسنا بألمه يحز في قلوبنا ويجرحها.
ووجدنا أنفسنا بعد حين هائمين على وجوهنا - عائدين إلى بلدنا من نفس الطريق - تدفعنا قوة قاهرة، عائدين نعرج ونتساند ونئن ونفكر في النهار؛ النهار الذي داهمنا بغتة، وخلق أمامنا الأرض، وحملنا بهموم الدنيا؛ النهار الحار الجاف الخشن الذي كنا نراه رؤى العين منتصبا أمامنا كرجل عملاق قامته أعلى من قامة الشمس، ولا رحمة في قلبه ولا خرقة فوق جسده، وفي يده هراوة ضخمة، منتصبا هكذا ينتظرنا ويتوعدنا وتقدح عيناه بالشرر، ونحن متجهون إليه خائفون خاشعون عالمون تماما أننا لن ننفد من يده.
أليس كذلك
لن يضيرك أن تعرف اسمي. حقا اسمي ه. ك. تيمو شلاي!
هندي أي نعم، من الهند. أرجو عفوك! اسمي متعب، لكنه هندي مائة في المائة. متعب؟! تيمو يعني شيء كالجوهرة. نعم شيء كالجوهرة. هذا الترام ذاهب إلى الأهرام؟! حسن، حسن جدا. نفس الطريق؟ وتجيد الإنجليزية؟! حسن، حسن جدا جدا. أستطيع أن أعبر عن نفسي الآن. لا، لست ذاهبا لمشاهدة الأهرام. أنا لم أشاهدها لا هي ولا المتحف، وليس لدي وقت لمشاهدتها.
غريب هذا الكلام؟ كل الأجانب يأتون فقط من أجل رؤية الأشياء القديمة هذه؟ أتظن أن مصر القديمة هي التي أغرتني بالمجيء إلى مصر؟ أبدا! أتعلم شيئا؟ أنا جئت لأرى مصر الموجودة. مصر التي في الشارع، وليست تلك الموضوعة خلف ألواح الزجاج.
أنا أعرف مصر، نحن في الهند نسمع عنها كثيرا، ولكنكم اليوم حديث العالم. ألا تعرف هذا؟ كل العالم إيجيبت إيجيبت. أتعلم أين أنا ذاهب الآن؟ أنا ذاهب لوداع صديق. أتدري من؟ فتاة. فتاة كباريه! أرجوك لا تسئ فهمي. نحن أصدقاء جدا، وأنا سأرحل غدا. جئت لأقول لها وداعا، فقط لأقول لها وداعا. أتعلم أين رأيتها؟ في نفس الكباريه الذي أنا ذاهب إليه الآن. أرجو عفوك، أنا رجل صريح، وأحب الناس أن يتحدثوا معي بصراحة، بصراحة. لقد حدث في شيء ما منذ أن وضعت قدمي في بلدكم. أتعلم ما اسمها، اسم الفتاة؟ باهيا. اسم جميل، أليس كذلك؟ يا له من اسم! باهيا! مجرد نطقه يملأ صدرك بالراحة. عرفتها من ثلاثة أيام. أنا هنا من أسبوع. تصور سوء حظي، فقط من أسبوع. كنت داخلا الكباريه لأتفرج. كنت أريد أن أرى كل مكان فيه ناس في مصر، وأنا غادرت بلدي لأتفرج على الناس. في الهند أنا عضو في البرلمان، أجل عضو في البرلمان، ولكني هنا لست إلا متفرجا فقط. أيدهشك أني عضو في البرلمان وأنا صغير السن هكذا؟ ولكني لست صغير السن. هل أبدو حقا في العشرين؟ كما ترى، أنا قصير ولا لحية لي ولا شارب، ولكن أتعلم أني في السابعة والثلاثين؟ سأبلغها في أكتوبر، 19 أكتوبر، ولي ولد - ابني - يبدو إذا مشيت بجواره أكبر مني سنا. اسمه لال، لال تيمو شلاي. لال يعني صغيرا. ابني هو تيمو شلاي الصغير، وأنا شلاي الكبير. أفهمت؟ ومع ذلك فتيمو شلاي الكبير أصغر من تيمو شلاي الصغير. نهرو؟
ومن في الهند لا يحب نهرو؟ بيني وبينك بعضهم لا يحبه، ولكني أحبه. أنا مثله اشتراكي، اشتراكي على طريقتنا.
أنا مثلا علمت نفسي. إن أبي لم يعلمني، وأنا أعلم لال تيمو شلاي ابني، ومع هذا يقول عني أحيانا إني يميني متطرف، أكثر يمينية من أتلى، وأحتفظ بها سرا. أحيانا يكون على حق. أرجو عفوك. أنا أتكلم كثيرا؟ أأنا ثرثار؟ ولكن أتعلم شيئا؟ أنا أحب أن أتكلم كثيرا، وأحب أن يكلمني الناس كثيرا؛ إذ بالكلام نصبح أصدقاء، وبهذه الطريقة نجحت في مصادقة عدد كبير منكم. هذه الفتاة ذهبت إلى الكباريه، وجلست على مائدة. الكباريه قريب من الهرم، وأنت تعرف فتيات الكباريهات.
إنهن مثل الكباريهات متشابهات في كل أنحاء العالم. وجدت فتاة قريبة من مائدتي. وطبعا تعرف فتيات الكباريهات؛ عملهن أن يجلسن مع الرواد مقابل مشروب؛ مشروب دائما باهظ الثمن. دائما أنت مضطر للدفع، وثمن مشروب كهذا كثير علي؛ فأنا وإن كنت عضوا في البرلمان الهندي، وهو مركز مهم كان ذا صبغة رسمية، إلا أني لست غنيا. أنا رجل فقير، ومع هذا فالناس يحبونني جدا في حيدر آباد. حيدر آباد هي ولايتي. لا بد أن تأتي يوما وتلقي نظرة على الهند، وترى حيدر آباد. ولا بد أن تتصل بي حين تأتي. لا بد! أنا كما ترى عضو في البرلمان؛ يعني أشغل مركزا رسميا، وأستطيع أن أريك أشياء لن تراها وحدك. أنا متأكد أنك ستحب بلدي. هناك نحن نحاول أن نبني؛ ولهذا فليست لدينا خلافات كثيرة. إذا اختلف الناس قل لهم ابنوا شيئا، وحينئذ لا بد أن يتفقوا. أتعلم شيئا؟ يجب أن يتزاور الناس لا ليعرفوا بلاد غيرهم فقط، ولكن ليعرفوا بلادهم هم. هنا أحس بالهند أكثر، وحين تأتي أنت ستحس بمصر أكثر، ترامكم بطيء مثل ترامنا، ولكنه سيسرع، سنسرع به أكثر ، أليس كذلك؟ وحتى هذا الجو الحار يجعلني أحس كأني في بيتي. أتعلم ما حدث؟ أنا سعيد جدا بالقدوم إلى هنا. أتعرف لماذا؟ لقد وجدت كل شيء هنا يستيقظ وينمو، حتى نيلكم يفيق ويحاول أن يختزن ماءه المبعثر. أتعلم لماذا نحن فقراء؟ لأننا نائمون. ابني يقول هذا عن هذا يمينية، ولكنها حقيقة. في بلدي حيث عملت فلاحا لفترة طويلة كنت أحب جدا أن أرى الزرع؛ الزرع الصغير الأخضر، وسيقانه النامية تدفع عن نفسها التربة، وتبدو فوق سطح الأرض. أحب جدا أن أرى العجل الصغير وهو لا يستطيع الوقوف على سيقانه ساعة ولادته، ثم حين يستطيع بعد هذا الوقوف والجري، ثم وهو يكبر ويكثر شحمه. وأنا أحب أن أرى الشمس وهي تشرق. لا بد أن منظر الشمس وهي تشرق في مصر رائع. أتعلم ما هو أجمل شيء في الدنيا؟ الحياة. أتعلم ما هي الحياة؟ النمو.
أرجو عفوك! لقد استرسلت. كنت أود جدا كما أخبرتك أن أتحدث مع الفتاة، ولم يكن معي من النقود ما يكفي إلا للضروريات. أحيانا تحس بحاجتك لمحادثة إنسان ما. ألا تحس ذلك أحيانا؟ ولم يكن معي من النقود، فأشرت لها وابتسمت، فجاءت وهي تبتسم. أتعلم شيئا؟ إنكم شعب ألوف. منذ أربعة أيام كنت ماشيا في الشارع ومعي سيجارة غير مشتعلة، ولم يكن معي كبريت، وأنا أدخن كثيرا كما ترى. وكلما قالت لي زوجتي هذا أدخن أكثر.
أنت تعرف عناد، زوجتي بنت عمي، تزوجنا ونحن لم نبلغ العشرين، وكنت أيامها لا أدخن. وبالمناسبة لم تعجبني سجائركم المصرية رغم شهرتها العالمية. مسألة مزاج. أليس كذلك؟ هل تعتقد أن التدخين يسبب السرطان حقيقة؟ من ناحيتي لا أعتقد هذا. أتعلم شيئا؟ يبدو أن كلامي أكثر من اللازم حقا. كنت أقول إني كنت فجأة ماشيا في الشارع ومعي سيجارة غير مشتعلة.
وفجأة، أتعلم ما حدث؟ وجدت شخصا يتوقف أمامي ويخرج من جيبه علبة كبريت ويشعل السيجارة. تصور! دون أن أسأله! إن هذا لا يحدث في أي بلد من بلاد العالم. أتعلم شيئا؟ إنكم أول شعب أراه يحب أن يعطي حتى ولو لم يأخذ. كل الناس تعطي وتأخذ. أنتم دائما على استعداد للعطاء، هذه هي قمة الإنسانية. هذا هو ما كنت أبحث عنه طول عمري. ما ديني؟ أتعلم شيئا؟ في كل مكان يسألونني ما ديني. حين كنت صغيرا كنت أعبد البقرة، ولكنني الآن أعبد الصداقة. أتعلم شيئا؟ ولي صلواتي أيضا. أنا أحس وأنا أتحدث معك أن بذور صداقتنا تنبت. ذاك ما أعنيه. عبادتي أن أزرع بذور الصداقة وأنميها.
أنا أحس الآن أني أصلي! اكسب صديقا تخسر عدوا! أليس كذلك؟ تعلم شيئا؟ لقد أعجبني الرجل الذي أشعل سيجارتي وتكلمت معه. كان يعرف فقط نعم ولا بالإنجليزية؛ «ييس» و«نو» فقط. وكان رائعا؛ رائعا أن تراه وهو يحاول أن يرحب بي ويبثني عواطفه بجمل إنجليزية مكونة فقط من نعم ولا، ولكنه ينطقها بطريقة تجعل للكلمتين آلاف المعاني، وتناولت معه الغداء. دعاني.
أتريد نصيحة؟ لا ترفض الدعوة أبدا. كل دعوة تقبلها لا بد ستخرج منها بأصدقاء. أتعلم شيئا؟ إن سكان العالم أكثر من العداوات التي فيه. هذه حقيقة أقسم لك. أكلت يومها طعاما مصريا حقيقيا. أجل طماطية. أوه! نعم نعم طامية. لا لا. طعمية. نعم نعم. لقد قضوا معي وقتا طويلا يلقنونني كيف أنطقها. وكان غداء جميلا، تصور! أحببت جدا بيت الرجل وأولاده، مصريون سمر صغار لا تملك إلا أن تحبهم. وزوجته وشبحها يظهر ويختفي من بعيد، وخجلها الشرقي يمنعها من الجلوس معنا، وهي تنادي على زوجها بصوت خافت حتى لا أنتبه أنها تطلب شيئا أو أنهم ينقصهم شيء. وضحكات الرجل، أتعرف؟ ضحككم عجيب يغري بالضحك كرائحة الشواء التي تغري بالتهام الطعام. وتصور! رأيت الرجل وهو يعمل. وهو يعمل رفا، إبرته صغيرة هكذا، ولكنه يعمل بها في حذق شديد، كم كان هذا كله رائعا! أتعلم شيئا؟ لقد جئت مصر لأتفرج على شعبها، وأراه حين أصبح حديث العالم، ولكني اكتشفت شيئا آخر. انظر ما حدث. تأتي لترى شيئا، وإذا بك تجد شيئا آخر. جئت أتفرج عليه فإذا بي أحبه. كم كنت غبيا! قضيت أربعة أسابيع بعد انتهاء المؤتمر في كلام فارغ. كنت أتفرج على بلاد لا تهمني في شيء. كان يجب أن آتي إلى هنا مباشرة، هنا قلب العالم. هل أبالغ؟ أنا لا أبالغ. هنا قلب العالم. أتعلم ما سوف أقوله حين أعود إلى الهند؟ سأقول الحقيقة. أتعرف ما هي الحقيقة؟ أنني غبي. كان يجب أن آتي إلى هنا مباشرة، وليس هذا كل شيء، قابلت كونستابل - أنت تعرف؟ - كونستابل الذي إذا رقي يصبح ضابطا. من اللحظة الأولى صرنا أصدقاء عظاما، أعطاني صورته، انظر! أين ذهبت؟ ها هي ذي، يبدو كالهنود؟ آه! كنت أقول هذا، أتعلم شيئا؟ كان ينطق الإنجليزية مثلي. هل لاحظت أني أنطق ال «ال» وال «دي» في فرقعة مكتومة؟ كل الهنود ينطقون الإنجليزية هكذا، ينطقونها بلكنة أردية، كانوا يقولون لي هذا في وارسو، أجل! وارسو في بولندا، أجل بولندا. كنت هناك في مؤتمر لدراسة مشاكل الشباب. أنا وإن كنت لا أعتبر نفسي شابا إلا أنني مهتم جدا بدراسة مشاكل الشباب. أتعلم لماذا؟ لأني أهتم دائما باليوم الذي سيجيء. والشباب هم الأيام الآتية. تعرف شيئا آخر؟ لقد وجدت أن مشاكل الشباب في وارسو هي نفس مشاكلهم في دلهي! قابلني هناك شاب صغير يناقشني في الموقف العالمي تماما كما يناقشني لال تيمو شلاي ابني. نفس المنطق ونفس الحجج، ولكنه طبعا لم يقل إني يميني متطرف. سأكتب كتابا عن انطباعاتي حين أعود، أجل! كتابا من حوالي 300 صفحة من الحجم المتوسط وغلافه بالألوان. عفوك! صديقي الكونستابل لقد أعجبت به جدا. أتعرف أنه دعاني لزيارة قريته؟ إنها قريبة جدا من القاهرة، تأخذ الأتوبيس الأصفر وبعد 15 دقيقة تكون هناك. لقد ذهلت. أتعلم شيئا؟ لم أكن أتوقع هذا فتصور! لكأنني عدت إلى قريتي تاتورا في حيدر آباد. أعجب شيء أني اكتشفت أن فقركم يشبه فقرنا تمام، تصور الوقت الذي أضعته أتفرج على بلاد لا أعرفها.
أنا هنا لا أتفرج، أنا أتغير، أتغير كل دقيقة. أنتم تستيقظون والحوادث تجري بسرعة. كل دقيقة يحدث شيء . أن تصبح بلادنا بلادنا ليس بالأمر السهل يا صديقي، ليس بالأمر السهل. تصور تأميم القناة. كنت وأنا بعيد أرى أنها خطوة كبيرة لا يحتملها الموقف في العالم، ولا يحتملها شعبكم نفسه، ولكن انظر ما حدث. حين أصبحت هنا بينكم تغير رأيي. وتصور! فتاة كباريه التي حدثتك عنها تكلمت معها في تأميم القناة، نعم تكلمت معها. أعجب شيء وجدتها متتبعة كل ما يحدث. أنتم شعب رائع! تصور اسمها باهيا، قلت هذا من قبل. يبدو أني أكرر نفسي، هذه كارثة. فتاة سمراء طويلة واسعة العيون، حواجبها مزججة كما تفعل نساؤنا في الهند. تكلمت معها كثيرا. أنت تعرف أني أحب أن أتكلم مع الناس كثيرا. وتصور! لقد حسبتني أيضا في العشرين. كل من يراني يحسبني في العشرين، ولست أدري لماذا. كانت تتكلم معي بالإنجليزية، ولكنها كانت تخطئ باستمرار. سألتها كيف تعلمتها؟ أنا لا أخجل من توجيه الأسئلة، أنت تعلم. أن تدعي الجهل خير من أن تدعي العلم، أليس كذلك؟ سألتها كيف تعلمتها؟ أتعرف شيئا؟ لقد اكتشفت أننا تعلمنا الإنجليزية من نفس المصدر. تصور أين أنا وأين هي وتعلمناها من نفس المصدر. هي من البحارة والضباط الإنجليز في الإسكندرية، وأنا من عملي في الجيش الإنجليزي في الهند. اشتغلت معهم طوال الحرب. كانوا يدفعون جيدا، ولكن العمل كان شاقا. تصور هذا. الإنجليز علموا المصريين والهنود الإنجليزية، أرادوا هزيمتنا بتعليمنا لغتهم، فاستعملنا لغتهم في التفاهم بيننا. أليس هذا أروع؟ أوتعرف شيئا آخر؟ لقد تحدثت معها في مشاكلها؛ فأنا كما ترى مهتم بمشاكل الشباب، وهي لا تزال شابة. ومن ليلتها أصبحنا أصدقاء كبارا. وبيني وبينك باهيا هذه جريئة جدا، سألتني أسئلة كثيرة حتى خجلت أنا الرجل. تصور أنا خجلت. كانت تبدو شريرة جدا، أي إنسان يراها لا بد يخاف. أنا خفت، ولكن أتعلم شيئا؟ قلبها كان من الداخل أبيض مثل الساري الأبيض. أخ، يا لي من ثرثار! تصور أنا بدأت أتكلم معك لأقول لك أغرب ما حدث لي مع باهيا، ولكني طول الوقت كنت أتحدث في أشياء أخرى. إنه أغرب ما حدث لي في مصر كلها، وإذا بي أشط وأنسى. إنه شيء مذهل يا صديقي لن تصدقه، ولكنه حدث، حدث لي مع باهيا. أتعلم لماذا قبلت الجلوس معي دون أن أطلب لها المشروب الباهظ؟ حدث الأمر هكذا؛ حين اقتربت مني قلت لها يا فتاتي الطيبة أنا لست سائحا. أنا رجل فقير وأود أن أتحدث معك قليلا. هل أستطيع أن أفعل هذا دون أن أطلب لك شيئا؟ قالت مستحيل، أنت تعرف أن هذا ضروري. قلت لها إني أحب أن أتكلم معك. أنا هندي من الهند وجئت أزور مصر، وأحب جدا أن أعرف الناس وأتحدث معهم، ولكن ليس معي إلا ما يكفي السفر. صحيح أنا عضو في البرلمان، ولكني رجل فقير. هل هذه جريمة؟
وانظر ما حدث. قالت: أنت هندي؟
قلت: نعم.
قالت: كيف حالك؟
وسلمت علي، فسألتها: لم هذا الترحيب المفاجئ؟
فقالت: لأني أحب الهنود. أتعلم لماذا؟ لأنهم يقفون بجوارنا ضد الإنجليز. أرأيت هذا؟
سألتني: إذا حاربنا الإنجليز هل تحارب معنا؟
قلت لها: يا فتاتي الطيبة، أنا مستعد أن أفقد رأسي من أجلك. ليس من أجلك أنت بالذات، ولكن من أجل شعبك.
طبعا ليس من أجلها بالذات؛ فأنت تعرف أني رجل متزوج ولي ابن يبدو أكبر مني سنا.
قالت: صحيح تحارب معنا؟ قل الحقيقة، تحارب معنا؟
قلت: إنني وشعبي كله مستعدون أن نفنى ونحن ندافع عنك؛ أقصد ليس عنك أنت بالذات، وإنما عن شعبك.
وكنت أقولها وأنا مؤمن بما أقول إيمانا عميقا، ولكن انظر ما حدث. هللت فرحا وتحمست جدا. وأنا أحب الناس إذا تحمسوا؛ إنهم لا يكذبون حينئذ. هكذا كان يقول أبي. تحمست جدا، وشدت على يدي بقوة جعلتني أهتز كلي. أنت ترى أنا صغير جدا، ومن السهل أن أهتز. شدت على يدي، وقالت: إجبشيان هند سوا سوا.
أتعرف شيئا؟ لم أكن أعرف معنى سوا سوا، ولكني أحسستها؛ لأن قلبي ارتعش وهي تنطقها. أجل بشرفي دق قلبي هكذا دب دب كاللحظة التي يرى فيها العريس عروسه. انفعلت جدا، تصور! الشرق شرقنا، الأرض الواسعة ذات الشمس والفقراء الطيبين الأقوياء بلادنا العزيزة. الصيحة وصلت الكباريه، وباهيا الطويلة السمراء الواسعة العيون ذات الأسئلة الجريئة والوجه الشرير، باهيا تأثرت جدا، أيد سمراء من الخارج ومن الداخل بيضاء بيضاء. وتصور! أتدرك هذا؟ حين فقط تصافحنا بأيدينا صار لنا عشرون إصبعا. نعم عشرون إصبعا متزاحمة، إصبع أسمر بجوار إصبع أسمر. الطويلة ذات الوجه الشرير باهيا، أتعلم شيئا؟ لقد كدت أفقد وعيي من الفرحة. وقلت لها: انظري هنا يا فتاتي الطيبة، أنا لست من رواد الكباريهات، أنا رجل متزوج ولي ابن يبدو إذا مشيت بجواره أكبر مني سنا، وأشغل مركزا رسميا في بلادي، ولكن سوف أتشرف حقيقة إذا قبلت صداقتي.
وكنت أعنيها أجل تشرفني. أتعلم شيئا؟ من لحظتها صرنا أصدقاء. أتعلم شيئا آخر؟ لقد ظللت أردد لها اسمي خمس دقائق دون أن تلتقط منه حرفا. نعم اسمي، أرجو ألا تكون نسيته. لا، ليس كيمورانجو، لا، تيمو، تيمو شلاي، ه. ك. تيمو شلاي. أنت تعلم؟ لقد أخبرتك تيمو يعني شيئا كالجوهرة. اسم متعب، أليس كذلك؟ ولكنه هندي مائة في المائة.
المستحيل
حدثت الضجة المعهودة خارج الحجرة، وتعالت أصوات وضحكات وتشنجت حنجرة، ثم دخل المجنون ومعه مرافقوه.
وأن يرى الإنسان مجنونا في الشارع مرة شيء قد يكون مثيرا، أما أن يكون عمله هو الكشف على المجانين وإدخالهم مستشفى الأمراض العقلية، فشيء يجعله يفقد حب استطلاعه، ويصبح الأمر بالنسبة إليه مسرحية مكررة لا جديد فيها ولا طريف.
ولهذا فحين دخل المجنون الجديد لم ألق إليه بالا كثيرا. كنت قد تعودت رؤيتهم ومعاملتهم، ولم يعد جنونهم أو شذوذهم يزعجني أو يثير عجبي. وكان المريض الجديد هو الآخر داخلا مواصلا كلاما لا يعلم سوى الله متى بدأ: اسمك إيه؟
ودون أن يغير طريقة كلامه أو النغمة التي يتكلم، مضى يقول: يسرقوني ليه؟ أنا عملت فيهم إيه؟ اسمي محمد شحاتة علي، والمجرم صالح الشهاوي نتش مني أربع صفايح سمنة. ورحت أجيب الإيجار من السكان، فزعوا عليه بالسكاكين عايزين يدوني نكلة في الشهر إيجار الشقة. هو أنا شحات؟ أنا راجل صاحب عمارات ثلاثة في شبرا السمك وأربعة في أبو الريش و...
ونظرت إليه.
السحنة واحدة لا تكاد تتغير؛ سحنة ضامرة وأشداق مشفوطة وذقن لا بد نابتة وشعرها نام بجنون هو الآخر، تكاد الشعرة تلتوي عند نهايتها وتنقض على جارتها وتعضها، وملابس مهما اختلف لولها مهرأة وممزقة ومربوطة أحيانا بحبال.
لم يكن أكثر ولا أقل من مجرد مجنون فقير آخر.
وكل من كنت أراهم كانوا مجانين فقراء. وكم هو عسير على النفس أن ترى غيرك مجنونا، أن ترى الإنسان ذلك الكائن الحي الذكي الذي تشير له فيفهمك، وتقول النكتة فيضحك، وتصادقه فيحبك، ويؤمن فيضحي بحياته في سبيل إيمانه، وتريه الشيء فيتعلم؛ أن ترى ذلك الإنسان وقد تحول إلى كتلة بشعة من اللحم والملابس الممزقة والتصرفات الشاذة والصرخات، كتلة لا تعي ولا تحس ولا تستجيب ولا تملك حتى أن تسقي نفسها الماء!
كان العسكري الذي يصاحبه قد وقف على يمينه، وقريبه الذي جاء معه بجانبه وعلى يساره، والمجنون بينهما قصير أقصر منهما، وشعره أسود وأكرت ومهوش، والمجنون وملامحه شائخة، ولكن ليس في رأسه شعرة بيضاء واحدة. وكان حافيا ومع هذا يرتدي طربوشا قديما لا زر له ولا هيكل.
ومنذ أن دخل ووقف لم يغير وضعه أبدا؛ فيداه مضمومتان أمامه إحداهما قابضة على الأخرى تكاد تخنقها، ورأسه ينظر إلى الأرض بزاوية، وعيناه مصوبتان إلى قدميه، وكان باديا أنه لا يرى حتى قدميه، وإنما يخترق ببصره الأرض الواقف عليها وما وراء الأرض، ويهيم في شيء بعيد مجهول. وكذلك لم يتوقف عن الكلام، وكان يبدو أنه لا ينوي التوقف أبدا، وصوته يخرج لا حماس فيه ولا حرارة، ولا يرفعه ولا يخفضه مهما تغير ما يقول كأنه شريط مسجل لا يتوقف دورانه، وإذا سئل لا ينتظر ليعرف السؤال، ولكنه يواصل كلامه، ويخرج عن الموضوع الذي يتكلم فيه قليلا ليجيب، ثم يعود بسرعة إلى شريطه المسجل الذي لا يتوقف، وحين عدت أستمع إليه كان يقول: يمضوني على عقد البيع أونطة؟ كنت اتهبلت أنا عشان أبيع تلات عمارات بتلاتة صاغ ونص فرنك شركة؟ أطلب منهم الأجرة يضربوني ويدوني نكلة، والبواب عايز ألف جنيه في الشهر، وشركة الميه ليها عداد.
مرة أخرى حديث عن العمارات والثروات الموهومة التي كون الناس أجمعين عصابات لاغتصابها.
وأعدت السؤال: بتقول اسمك إيه؟
ومرة أخرى سكت، ونظر إلي نظرة لامعة فيها بريق مخيف، ثم عاد يكمل حديثه ذا النغمة الواحدة، وكأنما كان سكوته خللا أصاب الشريط للحظة ثم عاد إلى الدوران.
وكانت نظرات الجنون في عيون المرضى تخيفني أول الأمر؛ إذ فيها ذلك الوميض المفاجئ المريع، وكأن عقولهم تحترق داخل رءوسهم، وعيونهم تنفث شرر الحريق. نظرات تجعل الإنسان يخاف من الجنون. ونادرا ما يخاف الإنسان من إنسان، ولكن نظرة واحدة من تلك النظرات كفيلة بأن تجعله يخاف. وأفظع خوف هو خوف الإنسان من الإنسان. وأول الأمر أعاملهم مثل غيري من الناس باحتراس الخائف؛ ولهذا كانوا دائما يرتكبون حماقات، فيحاول أحدهم أن يعضني مثلا، أو يبصق على وجوه الواقفين حوله، أو تنتابه لوثة ويهم بإلقاء نفسه من الشرفة. وكان هذا يزيد من احتراسي وخوفي؛ فقد كنت أحس على الدوام أني أمام آلة خطرة لا ضابط لها ولا رابط، كالبندقية المعبأة التي قد تنطلق من نفسها في أية لحظة وتقتل، وبمضي الوقت رأيت منهم مئات، وبمضي الوقت ألفت تلك النظرات، والألفة تزيل الخوف، وحارس الأسد لا يخاف من الأسد. وهكذا فقدت حيطتي وأصبحت أعاملهم وكأني لا أعامل مجانين؛ فأفك عنهم القيود، وأعطي الواحد سيجارة، وأدعه يشعلها بنفسه ويدخنها، ولا أضحك من غرابة ما يقول، وأعجب شيء أنه ما من أحد منهم عاملته بألفة وحاول إيذائي. وأيقنت آخر الأمر أن النظرات النارية التي يطلقها المجنون من عينيه وتخيف ليست في الحقيقة سوى نظرات خائف، نظرات رعب من العالم والناس يبلغ حد الجنون. إنه يؤذي غيره لخوفه من أن يؤذيه غيره، ويتوحش لاعتقاده أن الناس قد تحولوا إلى وحوش. والواقع أننا كثيرا ما نتحول إلى وحوش. إننا إذا رأينا شذوذا في تصرفات إنسان لا نغفر له، ونعامله بقسوة، وكأنا نعاقبه على شذوذه؛ وبهذا تصبح تصرفاتنا شاذة في نظره، ويزيد حينئذ شذوذه. وقد يكون الأمر في مبدئه حبة فنصنع منها قبة. ويكون التصرف الشاذ بسيطا فنقلبه إلى جنون مطبق، ونصف المجانين مجانين لأنهم مرضى، والنصف الآخر لأننا أرغمناهم على الجنون.
ولم أكن في حاجة إلى فحص كثير لكي أدرك أن الرجل الواقف أمامي تنطبق عليه كما تقول اللائحة، أحكام المادة كذا من قانون الأمراض العقلية.
ولكن كان لا بد من بضعة أسئلة أخرى تعذبني وأنا ألقيها وأسمع الإجابة عنها؛ فالإنسان منا إذا وقع نظره على عين أعور أو أعمى أو ساق مبتورة اقشعر وأحس بألم ممزوج بالخجل، وكف عن النظر، فما بالك حين يحادث الإنسان شخصا ذا عاهات متعددة ليس باستطاعته أن يرى أو يسمع أو يفكر، وإذا كان من المؤلم أن تقول للمشلول اجر، فمن المؤلم أكثر أن تسأل فاقد العقل وتطلب منه أن يجيبك ويفكر، ومع هذا كان لا بد أن أسأله، فقلت له كالعادة: عارف النهاردة إيه؟
وبنفس الهمهمة المستمرة التي لا تنقطع مضى يقول: شافوني داخل مسكوا في خناقي، النهاردة أول الشهر وبقى لهم ثلاثة أشهر ما دفعوش الإيجار، والمحضر ساكن في البيت والثلاث عمارات يتباعوا والبيع لازم يحصل النهاردة.
وهززت رأسي لا أدري ما أقوله، والرجل ذو الطربوش المزعزع فوق رأسه واللحم الجاف الشاحب الظاهر من خرقه يتحدث عن العمارات وبيعها، وقريبه واقف ينظر بمرارة وقلق وتحت إبطه لفة لا بد فيها طعام رفض المريض أكله، ووراء وجودهما أمامي لا بد قصة؛ قصة طويلة حافلة؛ فأن يجن واحد في العائلة مأساة، وإذا كانت العائلة فقيرة فالمأساة أفظع؛ إذ لا بد قبل أن تعترف السلطات بصحة الخلل الذي طرأ على قوى الشخص العقلية، أن يرتكب حادثة أو أكثر، ويحاول قتل نفسه على الأقل مرة، ويصبح وجوده «خطرا على أرواح الأهالي وممتلكاتهم». بعد هذا وليس بأي حال قبله، يصبح في استطاعة أهله أن يقدموا بلاغا إلى القسم والقسم يتحرى، وبعد أن يتم التحري يرسل عسكري، ويعود الأهل إذا كانوا محظوظين آخر النهار إلى الحارة أو الزقاق ومعهم عسكري، ويؤخذ المريض إلى القسم عنوة ويضرب زفة. وهناك يفتح محضر وسين وجيم، ثم يرسل المريض بخطاب وفضيحة إلى مفتش الصحة. وإذا كان حظ المريض من نار ظهر الخلل واضحا أمام مفتش الصحة، فإذا اقتنع بمرضه أحاله إلى القسم مرة أخرى، وإلى أن تأتي عربة المستشفى يوضع المريض في السجن على انفراد، ومكتفا لا يستطيع حراكا، ولا تأتي العربة في العادة إلا بعد يوم أو يومين أو إذا آن الأوان، وإذا جاءت ظلت ترفعه وتهبده، والتومرجية في المستشفى يرفعونه ويهبدونه، حتى تصعد البقية الباقية من عقله إلى بارئها.
لا بد أن يحدث كل هذا قبل أن يصبح من حق المريض بعقله أن يستلقي فوق سرير المستشفى الكالح.
ولا بد أن كل هذا قد جرى ويجري لمحمد شحاتة علي الواقف يتحدث أمامي حديث خالي البال عن العمارات وأصحابها.
وإذا كان الفقر في حد ذاته يهد كرامة الإنسان وآدميته، فما بالك إذا جن الفقير؟
قلت له لأسهل الأمر عليه: لأ يا عم محمد النهاردة الأربع، ويبقى بكرة إيه؟
ودون أن يغير طريقته قال: إن شاء الله بكرة السبت، بكرة سوق السبت أبيعهم في السوق بالمزاد العلني، واللي ما يشتري يتفرج، والفرجة بقرش واللي حاضر.
وكنت أعتقد قبلا أن الجنون حالة كالموت يتساوى فيها الناس إذا فقدوا عقولهم، ويصبح كل مجنون نسخة من الآخر، وإذا بي أجد أن الأمر غير هذا بالمرة؛ فهم ليسوا قطيعا واحدا من فاقدي العقول؛ كل منهم كائن مستقل بذاته وقصته ومسلكه الغريب الخاص به، حتى الكلام لكل طريقته المعينة التي لا يحيد عنها، والدائرة التي يدور حولها كلامه لها نصف قطرها الخاص به، والذي قد يكون عمارة، وقد يكون عصابة، وقد يكون غضبه من أهل أو حبيب.
كانت حالة الرجل واضحة، وكان ممكنا أن أكتفي بالأسئلة القليلة التي وجهتها وأملأ خانات الاستمارة، وأنتهي من «الحالة»، ولكننا أحيانا تخطر لنا خواطر، فتقودنا إلى اكتشاف آفاق لم نكن نستطيع الوصول إليها بالتدبير والتمعن والتفكير، والخاطر الذي خطر لي لم يكن من قبيل الصدفة؛ إذ لم أكن أنظر إلى المريض على أنه مجرد «حالة» أخرى، كانت مشكلة العقل البشري تحيرني وتجبرني على التفكير. هذا العقل، هذا الجهاز المذهل الكامن في تجويف الرأس المزدحم بالأفكار والحوادث والغرائز والمشاعر والذكريات، هذا الساحر الصغير القادر على أن يحيل الحجر إلى ماس، والخاطر إلى اختراع، والغريزة الدنيا إلى غريزة سامية عليا، تلك البوصلة الرائعة في دقتها التي تحدد الشرف، وتقيس المعقول، وتربط ألف فكرة بألف فكرة، وتخرج بنتيجة وتصنع من النتائج أحكاما وقوانين، هذه المعجزة التي تحل أعقد الطلاسم، وتتذكر أدق التفاصيل، وتحس وتفرق بين الأحاسيس، هذه المساحة المتناهية الصغر التي تخلق، وتضع الخطط العميقة، وتبتكر ملايين الكلمات والتعبيرات، وتحوي كل هذا وتحفظه، هذا العقل الذي يحتوي الدنيا كلها بما عليها ولا يضيق؛ ترى ماذا يحدث له حين يختل وتشب فيه النار؟ ما هو الأصيل الذي يبقى، وماذا فيه يستحيل إلى دخان؟ وعم محمد شحاتة علي الواقف أمامي لم يغير وقفته، ترى ماذا طار من عقله؟ وماذا لا يزال كامنا مقدسا في أخاديد تفكيره؟!
والمسألة نسبية لا ضابط لها ولا رابط؛ فقد لا يكون بعضهم يعرف اليوم الذي هو فيه، ولكنه يرفض أن تتعرى أجزاء جسمه، وقد لا يعرف اسمه، ولكنه يخنقك إذا شتمته.
وكنت أحب ذلك الحوار الذي يدور بيني وبين المريض، فإذا كان الإنسان العادي له عقل بالغ التعقيد، فالمجنون بسيط، والمشكلة التي تحيره واحدة، ويقول ما يريده على الفور وبصراحة، وتستطيع أن تقرأ تفكيره بسهولة، وتعرف ما احترق في عقله وما لا يزال سليما.
وسألته: إيه اللي مضايقك يا عم محمد؟
وكان لا يزال على نفس وضعه، لم يرفع بصره مرة، وينظر حوله وسيال حديثه مستمر، وكأنه يتحدث إلى كائنات أخرى لا نراها ولا تتبرم بحديثه، يتحدث وكأن لا زمان هناك ولا مكان، ولا يهمه إن كان هناك زمان أو إنسان أو مكان، والبقية الباقية في رأسه تطحن الكلمات والجمل، فتخرج كالدقيق الناعم المستمر لا انفعال فيها ولا إدراك. وحين سألته كان لا يزال ماضيا في قوله: سلطوا علي نسوانهم بالشباشب هانوني، تعبوني قوي. سكان متعبين، وبيدفعوا في الشقة نكلة إيجار قديم، ولازم أبيع العمارات حالا قبل ما يهدوهم، الجدع ده سلط علي مراته قلعتني الهدوم في الليل وسرقت المحفظة.
وتدخل قريبه الذي كان واقفا: ما تصدقوش والله العظيم ما حد عمل فيه حاجة.
وتطلعت إليه؛ سحنة ضامرة أخرى، ولحية نامية، وملابس مهلهلة لا تكاد تفترق عن ملابس المجنون، حتى كدت أسأله هو الآخر عن اسمه واليوم الذي نحن فيه، وربما لو كنت سألته لما كان قد عرف. وتلك ظاهرة غريبة؛ فلا بد أن يكون مع المجنون قريب، ولا بد بطريقة أو بأخرى أن يخرم المريض على أقربائه ويتهمهم أي اتهام، والأغرب من هذا أن القريب لا بد يدافع عن نفسه بحرارة، وكأن الاتهام صادر عن عاقل، أو كأنه صحيح.
وأشرت للقريب أن يسكت، ولكنه لم يفعل، بل مضى يدلل ويروي على مسامعي كل ما قام به المريض من أفعال خارقة، وكأنما ليثبت لي أنه حقا مجنون وكلامه فارغ، وبينما هو يتكلم بحرارة كان المريض يقول: كلهم حرامية ما تصدقوش دول كدابين. بيقول كده عشان يوديني في داهية، وياخد هو حق العمارات. قال لي امضي على بياض عايز ينهبني. دول على ذمتي تلات عمارات يسووا 150 قرش، وأبيعهم بنص فرنك؟ حرام أنا يتيم.
وقاطعته وسألته: إنت عارف ده مين؟
ودون أن ينظر إليه استمر: يتيم، أمي ماتت السنة اللي فاتت وده حرامي ابن حرامية.
وكادت تفر دمعة من عين قريبه وهو يقول: أنا حرامي يا محمد؟ الله يسامحك يا محمد يا ابن أمي وأبويا، تقول عليا حرامي يا محمد وأنا أخوك؟!
وسألت المريض: عارف بلدكو اسمها إيه يا عم محمد؟ - عايزين ياكلونا بالحيا. بلدنا بلد الفقر والعنطزة هناك ع الترعة، وعندها محطة وسبيل. والعمارات 4 في باب الحديد و3 في ستنا نفيسة، وعقد البيع جاهز على الإمضا، ومش ممكن أقل من خمسة صاغ الواحدة.
وسألته: إنت متجوز يا عم؟
واستمر: ويجيني المشتري لحد عندي. كتفوني امبارح وحطوني في شوال، وقالوا تجوز أمك يا تتنازل عن العمارات.
وتدخل قريبه: عيب كله إلا أمك يا محمد.
ثم التفت إلي وأكمل: ده مجوز ومخلف رجالة وسيبينه كده، وأنا اللي بصرف عليه وحياة الحسين.
وعدت أسأله: لك أولاد، صحيح يا عم محمد؟
واستمر يهمهم: أتنازل ازاي؟ ما اتنازلش. أنا مليش أولاد، أنا ليا عمارات بس، ولازم أبيع النهاردة وأقبض التلاتة صاغ كاش!
وأخرجت الاستمارة من درج المكتب استعدادا لملئها.
وفي العادة كنت إذا وصلت إلى هذا الحد وتأكدت من المرض، تنتابني موجة من اليأس، فأهاود المريض على عقله، وأمزح معه، وأحدثه بأي كلام قد يخطر لي على بال، وكأني أعتذر له سرا؛ لأني سأثبت في الاستمارة حالا أنه مجنون.
ومع عم محمد أيضا قلت: إنت عايز تبيع العمارات، صحيح؟
فأجاب على طريقته: منهم لله عايز أبيعهم كلك على بعضك بيعة وشروة بالوقة، وأنا أصلي ...
قلت: تبيعهم للعسكري ده؟
فاستمر: وأنا أصلي أبيع ... - تبيعهم لأخوك أحسن؟ - وأنا أصلي أبيع ... - ولا تبيعهم ليا وتكرمني؟ - وأنا أصلي أبيع ... - أقول لك يا شيخ ... بيعهم للإنجليز واخلص. - وأنا أصلي أبيع، لا الإنجليز، لا إنجليز، ما إنجليز من رابع المستحيل.
وفوجئت برفضه، فسألته وأنا أستغرب: ليه اشمعنى الإنجليز لأ؟
وعاد الشريط يدور: لأ لأ كده الله الله الله ع الجد أبيع لربنا حتى والكمبيالات جاهزة، والمستندات تحت الطلب، واللي ما يشتري يتفرج، والإنجليز لأ.
التمرين الأول
كان عجيبا هذا الإحساس المفاجئ الذي أصاب طلبة «ثالثة رابع»، وجعلهم يستمرون في أداء التمرينات الرياضية بعد انتهاء الحصة، وأيضا أثناء الفسحة التي بين الحصتين، ثم يأخذون خمس دقائق أخرى من الحصة التالية.
كان هذا عجيبا؛ إذ طوال أيام الدراسة كانت أمنية كل منهم أن يصحو من نومه، فيجد المدرسة قد نسفها طوربيد أو ابتلعها بركان.
كانوا، كغيرهم من الطلبة، يكرهون المدرسة كرها لا يعرفون له سببا، ويبدأ ذلك الكره مع بدء كل يوم، بل قبل أن يبدأ اليوم؛ فالطالب لا يستيقظ من نومه إلا مقروصا أو معضوضا أو مطروحا أرضا، ثم يدفع إلى المدرسة دفعا، ودائما في وداعه شيء؛ دعوة عليه، شتمة، أو فردة شبشب. وينسل إلى الشارع، ويظل يجري ويجري ملتصقا بعامود ترام أو مهرولا فوق رصيف، والشتاء بارد والصبح أبرد؛ أبرد من الحصص الإضافية، والرعب يملأ قلبه مخافة أن يصل متأخرا ويجد باب المدرسة مغلقا، ويضيع اليوم، ويقيد غائبا ويروح في داهية.
وما يكاد يصل إلى المدرسة ويجدها قد امتلأت بالأشباح المقرورة من أمثاله التي تبحث عن الشمس؛ فالشمس ليست مثلهم تلميذة في مدرسة. إنها لا تصحو ولا تضيء صباح الشتاء إلا في العاشرة أو ما بعدها. ما يكاد يصل وما تكاد المدرسة تفتح ذراعيها، وتضم تلك المجموعة الضخمة من الفتيان، وما تكاد جدرانها تهب من رفادها الطويل الوحيد، وتشارك الطلبة مرحهم، وتردد لهم أصوات زعيقهم وضحكاتهم، ويتلمظ حصى الفناء منتشيا وهو يستقبل الأقدام الصغيرة الشابة ويلثمها وقد طال شوقه إليها. وما تكاد الأشجار تهفهف بأوراقها وتشقشق سعيدة بجري الطلبة حولها وجذب شعورها وأغصانها، ولا تتألم حتى حين يحفرون أسماءهم عليها، ما يكاد الطلبة يحسون أنهم كائنات حية لها أماني ورغبات وأحلام وأحاديث، ما يكاد هذا يحدث حتى يدق الجرس؛ تتم. تتم. تتم.
وفي الحال تهمد الحركة وتخرس الألسنة وتتجمد الرغبات؛ إذ ما يكاد الجرس يدق حتى يغلق الباب؛ باب لا بد ضخم متين كأبواب السجون. وما يكاد الباب يغلق حتى يفطن الطلبة إلى وجود السور؛ سور لا بد عال هو الآخر، ومزود بالأسلاك الشائكة إن أمكن.
ومع دقة أخرى من الجرس يزحفون صوب مكان الطابور مطأطئي الرءوس، وقد تضاءلت أمانيهم وانكمشت، وأصبح الواحد منهم مجرد تختة أو دواية أو قلم بسط رخيص عليه أن يكتب ويكتب ولا ينقصف سنه أبدا.
تلك التمتمات الثلاث تعني أن اليوم الدراسي قد ابتدأ، وويلهم من اليوم الدراسي حين يبتدئ! حتى الجرس الذي يبدأ به اليوم جرس كالح قديم عليه صدأ أزرق، وله بلبلة أضخم من حجمه واقفة في وسطه كما تقف اللقمة في الزور، حتى صوت الدقات يخرج وفيه من الأنين أضعاف ما فيه من رنين، أنين يعلوه الصدأ هو الآخر؛ صدأ أزرق كالح كئيب.
حتى الفراش الذي يدق الجرس لا بد أن يكون عجوزا خطير الملامح، ولا بد أن يكون له شارب كث يخيف، ولا بد أنه يحس أنه نابليون زمانه أو إسرافيل عصره وأوانه، ولا بد له ساعة أخطر من أية ساعة في الدنيا هي التي تحرك عقاربها المدرسة كلها؛ ولهذا لا بد لها من مخلاة سوداء صغيرة يضعها فيها مبالغة في الحرص عليها، ولا بد أن تجده واقفا تحت الجرس ينتظر ممسكا بالساعة محدقا فيها، حريصا عليها في يده كل الحرص، وكأنها قنبلة زمنية إذا حركها ستنفجر. وقبل أن يحين الحين يقبض على سلسلة الجرس؛ سلسلة لا بد قديمة أو موصولة بدوبارة، ثم تأتي اللحظة فيجذب السلسلة، يجذبها بتؤدة وتقل وكأنه يفرغ الحكمة العليا في تمتماته الثلاث.
وأول ما يسمع بعد الجرس من الأصوات هو: اخرس. بطل كلام.
وبهذا الأمر تقطع كل صلة للطلبة بأنفسهم ويخرسون، ويبدأ المدرسون الذين يفتشون على الطابور في الكلام، ويخرج كلامهم طازجا على الصبح ومنتقى بعناية، بحيث لا تندس بينه أبدا كلمة حلوة، يفرغون فيه كل ضيقهم باليوم الذي أصبحوا فيه مدرسين، وبالمهنة الصعبة التي اختاروها لأكل العيش، وينتقمون من مشاكل الكادر والأمس وشتائم الحماة ومرض الطفل وارتفاع أسعار الصوف.
ثم يظهر الناظر.
يطل على الطابور الصامت بوجه لا صباح فيه ولا خير، يحدق في الطلبة فيموت الطلبة، وفي المدرسين فينكمش المدرسون، وفي الصمت فيقشعر الصمت.
ولا بد أن تكون لدى الناظر مفاجأة لا بد لها من مقدمة شتائم طويلة، ثم حديث عن النظام مثلا، وكيف أنك لكي تدخل الجنة، إذا أردت دخول الجنة، فعليك أن تبدأ السير في الطابور بالساق اليمنى، وأن تسير اثنين اثنين، وكيف أنه لكي تحل مسألة الجبر لا بد أن ترتب ملابسك بنفسك في دولابك الخاص ، وكأن لدى كل طالب ملابسه الخاصة، بل دولابه الخاص.
أو يتحدث عن الطالب الذي ضبط وهو يسرق البيض من المطعم، وأحيانا لا يكتفي بالحديث، فيخرج الطالب نفسه ليريه للجميع، ويجعل منه أمثولة وعبرة.
أو ينبه تنبيها صارما قاطعا أن كل من لم يدفع المصاريف عليه بمغادرة الطابور؛ ومن ثم المدرسة كلها في الحال.
ووجهه طوال حديث الصباح جامد عابس. والطلبة واقفون الدقائق الطوال كالخشب الخائفة المسندة لا يعرفون سببا لذلك الرعب المفاجئ، ولا سرا للعبوس الشديد في وجه الناظر، هل مات له قريب؟ غير معقول هذا؛ فهو كل يوم عابس، وليس معقولا أن يموت له كل يوم قريب، عسى أن يموت له كل يوم قريب!
ثم يدور الطابور إلى اليمين أخيرا وإلى اليسار، وكل يبتلع ريقه ويتحسس رقبته ويتنفس الصعداء؛ فقد نفذ هذه المرة ولم يكن الطالب الذي سرق البيض، ولم يخطئ ويبدأ المشي بالساق اليسرى، ولكن تراه كيف ينفذ في المرات القادمة؟
ومن خلال ممرات كئيبة طويلة متشابهة يدلفون إلى الفصول؛ فصول مكررة حيطانها طويلة هيفاء عالية، ولونها تصر الوزارة على اختياره حشمة لينظر الناظر إليه ويرسي في قلبه الوقار.
وما تكاد الحياة تدب في الفصل، وتتحرك التخت والمقاعد، ويذهب عنها الروماتيزم الذي يصيب مفاصلها كل ليل، حتى يقبل المدرس فجأة، لا بد أن يقبل المدرس فجأة - وكأنه ضابط مباحث في طريقه إلى ضبط واقعة - لعله يسعد ويحس بالسلطة حين يحدث ظهوره المفاجئ سكوتا مفاجئا، يقبل ولا ينفرج وجهه مخافة أن تضيع الهيبة. - قيام!
وإذا بالفصل كله يتلكأ ويقوم، ولا يدري لماذا يقوم.
ويحدق المدرس طويلا في تلاميذه وكأنهم يحرزون مواد ممنوعة وهو يفتشهم بعينيه تفتيشا دقيقا. فإذا عثر على الهفوة كان بها، وإلا فإنه يقول: جلوس!
يقولها قرفانا وكأنه يمن عليهم بفضل من عنده.
وتتوالى الحصص ويتوالى المدرسون، وكل منهم كالجهاز المعبأ الذي يفرغ شحنته بمقدار؛ إذ هو الآخر ليس أكثر من موظف حكومة له عمل يؤديه ثم يمضي. وكل ما يسمعه الطلبة أوامر تترى، وأشياء غريبة تخرق أسماعهم، وتتفجر كالصواريخ في عقولهم. سمع يا ولد ما قاله الكميت في وصف ناقته. اذكر ثلاثين شرطا من شروط الصلح في معاهدة واق الواق، وإذا نسيت شرطا فبعصاية، ما اسم البلاد التي تزرع الشوفان (والمدرس نفسه لا يعرف ما هو الشوفان)؟ تخيل أنك على خط عرض 23، وتريد أن تسافر إلى خط طول 85 بطريق البر، فأي الطرق تسلك؟ أعرب «أبيت اللعن»، ما هي حالة الطوارئ التي يصح فيها رفع المستثنى بإلا؟ تكلم على لسان طائرة تريد أن تفاخر السيارة وتتيه عليها، فماذا تقول؟
ومع توالي الحصص وتنوع الدروس تتنوع الشتائم، وتتنوع كذلك لغتها؛ فهناك شتائم فرنسية رقيقة، وشتائم نحوية فصحى، وشتائم كيميائية مركبة ومخلوطة، وأقل ما فيها: نزل إيدك يا ولد، وشك في الحيط يا أحمق، اطلع بره يا صعلوك، التفت يا لوح، حل المسألة يا أغبى خلق الله. وأحيانا يفيض الكيل ولا يعود ثمة بد من المواجهة السافرة، فتنطلق الكلمات: ما تنحرق إنت وهوه. اتنيل يا شيخ. اتلهي. إنتم تنفعوا إنتم؟ إنتم بلاوي. إنتم رمم. إنتم جايين هنا ليه. إنتم ما لكم ومال المدارس؟ روحوا لموا سبارس.
حتى الكراريس، كانت هي الأخرى تشاطر الناظر والمدرسين وجلدتها مملوءة بالأوامر والنواهي. لا تبلع الطعام. لا تمضغ. لا تستنشق الهواء. لا تمش. لا تجلس. لا تتحدث. عليك بالحلم. عليك بالطاعة. عليك بإمساك نفسك ساعة الغضب.
ورغم هذا النظام الصارم، ورغم أن المدرسة كانت على حد قول الناظر تمشي كالساعة، ونسبة الحضور أعلى النسب، وأحذية الطلبة كلها تلمع، والحوش الواسع خال تماما من الأوراق.
ورغم أن الأولاد - على حد قول أولياء الأمور - كانوا لا يلعبون، ويذاكرون؛ إذ هم واقفون لهم بالمرصاد. ما تكاد المدرسة تتركهم حتى يتسلمهم الأولياء، والويل للتلميذ إذا تأخر بره، أو لم يقض الساعات منكبا على كتبه يتلو ويذاكر. رغم هذا إلا أن الطلبة كانوا لا ينجحون، ويفشلون بالمئات والعشرات، ويقابلون الدراسة باستهتار، وينامون في الحصص، وإن واتاهم الأرق أقاموا حفلات ترفيه، وتبادلوا القرصات والزغدات والضرب على القفا، وكتابة الخطابات المملوءة بالشتائم، وتكوين العصابات، وشرب السجائر، وسب المدرسين، ومزاولة العادات في السر والعلن.
وكان الطلبة أيضا ورغم كل شيء يتساءلون هم الآخرون: لماذا يرسبون؟ ولماذا يكرهون المدرسة؟ ولماذا يعاكسون المدرسين؟ ولماذا يقضون أتعس الأوقات مع أنهم يسمعون الناس تقول إن أحلى أيام العمر هي الدراسة؟
كان الناظر والمدرسون يحاولون تفسير الأمر، ويقولون إنهم طلبة هذه الأيام ومساخرهم وتفاهتهم.
وكان أولياء الأمور يقولون: هي حكمة الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب. وكان الطلبة يقولون: بل هو الحظ، بضربة حظ تنجح، وبضربة أخرى تفشل، يا رب كثير من الحظ يا رب، كثر من الحظ.
وذات يوم أتيح لطلبة ثالثة رابع أن يمروا بتجربة.
كان مدرس الرياضة البدنية عملاقا ضخما رهيبا، كتفه تهد الجبل وزنده في حجم الفخذ، وقبضته تحيل الرءوس إلى جماجم، ولم يكن في حصته مكان للترفيه أو العبث؛ فقد كان طلبة ثالثة رابع كغيرهم من الفصول يخافونه، ويخافون إذا عن لواحد منهم أن يعبث في حصته ألا يرسله كالعادة إلى المشرف أو يخرجه من الفصل مثلا، وإنما يتولى العقاب بنفسه، وقد يتولاه بقبضته، والكف عن العبث بالتأكيد أسلم نتيجة من عقاب يتولاه مدرس الألعاب بقبضته.
كان يأتي، وقبل أن يدخل الفصل يكون الفصل واقفا كله، وبإشارة منه يخرج الطلبة عن الأدراج، وبإشارة أخرى يصطفون ويهبطون السلالم دون أن ينبس أحد ببنت شفة، وفي سكون تام يخلعون الجاكتات، ثم يتسلمهم العملاق بتمريناته؛ ثني مد، رفع، ضم، افتح صدرك، شد وسطك، اخبط الأرض بدماغك، وشك فدق، عايز الجزمة تطلع شرار.
وهكذا إلى نهاية الحصة، حتى تتدلى الألسنة من الأفواه وتتجمع الرغاوي، وتتشقق الحلوق وتتقطع الأنفاس، ولا يجرؤ واحد أن يقول آه أو لا.
عقل سليم جسم سليم، هكذا كان يقول. رياضة يعني رياضة. عايزين رجالة مش حريم. دلع مش عايز دلع. كلمة واحدة أقطم رقبتك. بص قدامك. لم نفسك. تخشب. التمرين الأول ابتدي.
وكان الطلبة حين تنتهي الحصة يقضون بقية اليوم في ترميم أنفسهم والتماس النقاهة، ويقضون بقية الأسبوع في تمن أن ينسف الطوربيد مدرستهم على الأقل قبل حلول حصة الألعاب التالية.
وفوجئ الطلبة ذات يوم بخبر نقل مدرس الألعاب ومجيء مدرس جديد. ولم يتحمس الطلبة للخبر؛ فكل المدرسين كانوا لديهم سواء. كلهم رجال كبار حكماء معصومون من الخطأ وأذكياء جدا، ومتعلمون بغزارة، وبعيدون عنهم تماما هم الصغار الحمقى الجهلاء الذين تكمن فيهم كل العيوب، والذين لا يفعلون سوى ارتكاب الأخطاء تلو الأخطاء.
وجاءت حصة الرياضة البدنية.
ودخل الحصة شاب لا لحية له ولا شارب، ولا يرتدي رباط عنق، وإنما وضع ياقة القميص فوق الجاكتة وفتح صدره. وعادة المدرسين أن تكون الياقة منطبقة على العنق وعلى رباط العنق تمام الانطباق.
وغادروا الفصل، وهبطوا السلالم، وخلعوا الجاكتات، ووقفوا كما كانوا يقفون، وراحوا يؤدون التمرين الأول كما كانوا يؤدونه أيام المدرس السابق.
غير أنه لم تكد تمضي دقيقة واحدة حتى طلب منهم المدرس أن يتوقفوا. وفعلوا هذا مستغربين، وقال المدرس: اسمعوا يا جماعة، أنا أحب الصراحة وانتم واضح من حركاتكم إن ما عندكوش أي حماس للعب. فبصراحة مين فيكم يحب يلعب؟ اللي عايز يلعب يرفع إيده.
لم يكن المدرس نفسه يعلم ماذا دعاه لإلقاء هذا السؤال، لعله خاطر عن له، لعله لم يقصد.
ورفع الطلبة كلهم أيديهم مخافة أن تكون خدعة مقصودا بها كشف الذين لا يريدون؛ فمدرس الفرنساوي عودهم أن يبتسم للواحد منهم ويعطيه الزيرو.
وفوجئوا بالمدرس ينقبض وجهه ويقول: أنا لا أحب الكذب أبدا، وغير معقول أن كلكم عايزين تلعبوا. أنا أحب العلاقة بيننا يكون أساسها الصدق. اللي عايز يلعب من فضلكم يرفع إيده.
بدا الأمر جدا لا هزل فيه، إن المدرس يريد حقيقة أن يعرف رأيهم، وكان هذا غريبا؛ فهم لم يعتادوا أبدا أن يؤخذ رأيهم في شيء. إنهم منذ ولدوا وثمة قوى تدفعهم دفعا لا يعرفون إلى أين، ولا يسألهم أحد ماذا يحبون أو ماذا يكرهون. كل الناس تقول: هذا لمصلحتهم، ولا أحد يخطر له أن يسألهم عن رأيهم في مصلحتهم.
ونظر الطلبة بعضهم إلى بعض، وتولاهم شيء غير قليل من الاستهتار، ماذا يحدث؟ لقد سألهم رأيهم، فلماذا لا يقولون الحقيقة؟
وأنزل الطلبة كلهم أيديهم، كلهم ما عدا واحدا أو اثنين من هؤلاء الطلبة، الذين يقضون العمر خائفين من العقاب ومن احتمالاته، ولكنهم وجدوا الكل لا يريدون، أنزلوا أيديهم هم الآخرون خوفا من العقاب الطلبة لهم هذه المرة.
وعادت الابتسامة إلى وجه المدرس وقال: برافو! أهو كده، أنا أحب الصراحة.
برافو! لا بد أن ذلك المدرس مجنون أو به هفة. قال الطلبة هذا لأنفسهم وهم يحسون بفرحة غامرة وعيونهم تكاد تدمع. والحقيقة أن فرحتهم كان لها سبب آخر، كانوا وهم يتبادلون النظرات وينزلون أيديهم يرتعشون من الخوف؛ فقد كان كل منهم يعبر عن رغبته، وكان يحس أنه يرتكب إثما عظيما، فإذا بالمسألة لا جريمة فيها، وإذا بالارتباك يزول، وإذا بالفرح يعصف بهم؛ فقد استطاعوا آخر الأمر أن يقولوا شيئا، يقولوا لا ولا يشنقون، فلا بد أن المدرس مجنون ولا بد أن به لوثة.
وسكت المدرس قليلا، ثم عاد يقول: غريبة! إجماع رهيب على كره الرياضة. ليه؟ أمال بقية العلوم بتكرهوها ازاي؟
وتطوع أكثر من طالب بالإجابة والتفسير. وكانوا يتحدثون بنبرات لا اضطراب فيها ولا وجل. كانت ثمة ثقة قد ملأت صدورهم، وأحسوا ربما لأول مرة أنهم آدميون لهم الحق في الكلام.
واندفع ثلاثة طلبة أو أربعة يطلبون اللعب، كان ما يدفعهم في الحقيقة هو حماسهم للمدرس الشاب ذي الابتسامة، وليس رغبة في مزاولة اللعب.
وقال المدرس لبقية الطلبة وهو يضحك: افرنقعوا.
وهلل الطلبة وكأنهم أفرج عنهم بعد طول سجن. ودون وعي راحوا يضحكون ويتعانقون ويتضاربون، وانسحبت أقلية ضئيلة إلى المظلة، ورقدت على الدكك قائلة: وآدي نومة!
وجرى طالب وراء آخر وشنكله.
ووقفت الأغلبية وقد ارتدت ستراتها تتبادل اللكمات الخفيفة، وتتفرج على المدرس وهو يؤدي التمرين الأول مع المجموعة الصغيرة التي أرادت اللعب.
وقفوا يتفرجون بكل استهتار، يضحكون على المدرس وعلى الأخطاء التي يقع فيها زملاؤهم ويدردشون.
كانوا يحسون بانتعاش وكأنهم يشمون أيدروكسيد أمونيوم حديث التحضير، أن يحس الإنسان أنه ليس مرغما، أن يكون في وسعه ألا يفعل، أن يصبح في استطاعته أن يختار؛ أشياء ما كانت تخطر لهم على بال.
وحين كانوا يصعدون السلالم بعد انتهاء الحصة، كانوا لا يزالون غير مصدقين أن ما حدث كان حقيقة، وأنهم استطاعوا ولو لمرة واحدة في العمر أن ينقذوا من حصة الألعاب.
ومضى اليوم ولا حديث لهم إلا عن المدرس الظريف الشاب، الذي أصابته لوثة أنقذتهم من الرياضة والأشغال الشاقة.
وطوال الأسبوع ظل كل منهم في شغف حلول حصة الألعاب التالية ليعفى من الألعاب.
وجاءت الحصة، وجاء المدرس حليقا مبتسما، وياقته مفتوحة أيضا. وقبل بدء التمرين الأول أكثر من ابتساماته، وقال: هيه يا جماعة، اللي عاوز يلعب يرفع صباعه.
ورفعت أقلية ضئيلة أصابعها، بينما وقفت الأغلبية في أماكنها لا ترفع أيديها ولا تتحرك، وكل منهم يريد أن يعرف ما سوف يفعله الآخرون.
ولما طال الوقوف قال طالب لآخر، وهو يدفع عنه يده التي قد امتدت تهوشه: أنا ح العب يا عم.
وسرت همهمة. تعالت، ثم تبلورت في رأي: وإيه يعني؟ نلعب، وإذا ما عجبناش نبطل لعب. هو مش قال كده؟
وهكذا ارتفعت أصابع الأغلبية.
وما كادت تمضي دقيقة حتى تثاءب واحد وقال: أنا تعبت، كفاية بأه.
وانسحب، ولكنه لم يذهب بعيدا، بل وقف يتفرج، وحين وجد أن أحدا لم يتبعه تردد برهة، وتثاءب مرة أخرى ثم عاد إلى مكانه.
ولم ينسحب بعده أحد، بل كلما أحس أحدهم أن في استطاعته أن يتوقف إذا أراد، كلما أحس بهذا ازداد حماسة وشعر بطاقات هائلة تنفجر من جسده.
وبلغ التنافس أشده.
وتعالت أصوات تهيب بالمدرس أن ينتقل إلى تمرين أعنف.
وانتهت الحصة، ودق الجرس والحماس لا يفتر.
وتأخرت ثالثة رابع عشر دقائق في الحوش بعد الحصة.
ووقف الناظر في ذلك اليوم يلعن ويزمجر ويوبخ، ويتساءل مغيظا عن سر ذلك الحماس المفاجئ للرياضة البدنية.
অজানা পৃষ্ঠা