القصص القرآني - ياسر برهامي
القصص القرآني - ياسر برهامي
জনগুলি
الزهد في الدنيا
(فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني)، وهذا يدل على مدى انتشار الدعوة، فقد بدأت تدخل في نطاق جلساء الملك، وبدأت تدخل في الطبقة المترفة التي لها شأنها ووزنها، سمع جليس للملك كان قد أصابه العمى، ككل البشر معرضون في فقرهم وغناهم لأنواع البلايا والمحن والأمراض وغيرها، فأتاه بهدايا كثيرة؛ لأنه يظن أن الأمور كلها عندهم كما هي عند الملك بالمال، فالهدايا هي الغاية المقصودة، والجوائز والأموال هي كل غرض الإنسان، فظن أن هذا الغلام كذلك، وهو يسمع إشاعات فقط، فهو يظن أن الغلام يشفي فيقول له: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، وهذا الرجل مريض بأمراض عدة أخطرها مرض القنوط، وأنه يظن أن الشفاء من غير الله، وهذا شرك بالله ﷿، ومريض بمرض الإعجاب بالمال واستعظامه، فقال: ما ههنا لك أجمع، فهو يعده شيئًا كبيرًا، وهو تافه جدًا عند المؤمنين.
وقوله: (كله) إشعار بأنه فعلًا معجب بالمال جدًا، وأن المال هو كل شيء في حياته، فلم يلتفت الغلام إلى ذلك المال، ولم يقل له: كيف تعرض علي مالًا؟ ولا فكر حتى في أن ينقل كلامه، وإنما قال معالجًا المرض الأشد الأخطر مرض الشرك بالله (إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى، فإن شئت آمنت بالله ودعوت الله لك فشفاك)، وهذا كلام عظيم، يدل على احتقار الدنيا حيث لم يذمها، قال بعض أهل الكلام في تهذيب النفوس: إن الزهد في الدنيا، نفض اليدين من الدنيا ضبطًا أو طلبًا، وإسكات اللسان عنها ذمًا أو مدحًا، والسلامة منها طلبًا أو تركًا.
ومعنى نفض اليدين من الدنيا ضبطًا أي: بخلًا، وقولهم: طلبًا أي: حرصًا وطلبًا لها.
وإسكات اللسان عنها ذمًا أو مدحًا؛ لأن أمرها حقير جدًا، فلا تستحق الذم فضلًا عن المدح، فكونه يذمها فيه دليل على أنها لا زالت عظيمة عنده، ويريد أن يعوض نفسه بمذمتها، فلما تأتي لرجل وتواسيه على أمر ذهب عنه من حطام الدنيا، يدل على أن أمرها عظيم في قلبك وقلبه، أما لو كانت صغيرة جدًا فلم تنشغل بها؟ فلا يوجد أحد يواسي رجلًا من أجل دجاجة ماتت عليه؛ وذلك لأن أمرها هين، والنبي ﷺ يقول: (لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)، ولكن هي في القلوب، ولذلك فنحن دومًا نذمها؛ لأنها كبيرة في قلوبنا، ولو أنها صغرت في أنفسنا ما انشغلنا بذمها.
ولذلك النبي ﷺ مر بجدي أسك -أي: صغير الأذنين- ميت فقال: (من يود أن يكون له هذا بدرهم؟ فقالوا: يا رسول الله! لو كان حيًا كان عيبًا فيه أنه أسك، فكيف وهو ميت؟! ما نود أنه لنا بشيء، فقال: إن الدنيا أهون على الله من هذا عليكم).
وإنما ينشغل الإنسان بمذمة الدنيا إذا كانت كبيرة في قلبه، وبمدحها إذا كانت أكبر وأشد والعياذ بالله، فالرجل يرى أن الهدايا كثيرة جدًا، والغلام لم يلتفت لها أصلًا لا بالذم ولا بالمدح، ولم يتكلم بكلمة عنها، وأهملها إلى نهاية القصة، ولم يذكرها لا بخير ولا بشر.
1 / 17