Al-Manar: An Introduction to Qur'anic Sciences and Principles of Exegesis
المنار في علوم القرآن مع مدخل في أصول التفسير ومصادره
প্রকাশক
موسسة الرسالة
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى
প্রকাশনার বছর
١٤٢١ هـ - ٢٠٠٠ م
প্রকাশনার স্থান
بيروت
জনগুলি
تقديم الكتاب
بسم الله الرّحمن الرّحيم إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، حمل الرّسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدّين.
وبعد: فقد سخّر ربّ العالمين بكتابه المبين، خاتمة الكتب السّماويّة سبيل حفظه، والاعتناء به، ونشره وتفسيره ونقله وتعليمه، والغوص على أسراره، والعمل بأحكامه، والتخلّق بآدابه مما لم يعهد التّاريخ لغيره مثل هذه العناية والرعاية.
وقد نمت في خدمة القرآن الكريم علوم كثيرة، واتّسعت دوحة علوم القرآن في ظلاله، فلم تدع شاردة أو واردة لها صلة بخدمته أو بيان بعض ما يتعلّق به إلّا أحاطت بها ... من وحيه وكيفيّة نزوله، وحفظه وحفّاظه، وجمعه وتدوينه، وشكله وإعجامه، ورسم كلمه، وترتيب آياته وسوره، ومعرفة مكيّه ومدنيّه، وأسباب نزوله، وما كان منه في قرّ شتاء، أو قيظ صيف، في سلم أو حرب، وليل أو نهار ... بما يدهش العقول، حتّى عدّوا حروفه، وبيّنوا قرّاءه وقراءاته، ووجوه إعجازه ... وغير هذا ممّا يطول عدّه وبيانه ...
وقد كثرت المصنّفات في علوم القرآن- قديما وحديثا- وتفاوتت مناهجها وحجومها، وتنوّعت أبحاثها، وكثرت مسائلها، وتعدّدت الأقوال فيها، حتّى بدت كالرّياض النّضرة، يجوب فيها نزيلها، فيحار بين زهورها وورودها، وجمال ألوانها.
وكان من أحدث ما اطّلعت عليه من تلك الرّياض أصول كتاب «المنار في علوم القرآن» الطّبعة الثّانية للأخ الأستاذ الدكتور محمد علي الحسن، حفظه الله فكان بعض
1 / 5
باقات منسّقة من ورود وأزاهير تلك الرّياض، وثمرات يانعة من أشجارها، اجتهد فيه المؤلف أن يتّخذ أحوج ما يحتاج إليه الطالب في دراسته، ليحيط بما لا غنى له عنه لمعرفة دستور خاتمة الرّسالات ومنهجها، فيحسن فهمه والانتفاع به، ويوفّق إلى صدق تطبيقه، والعمل بأحكامه وآدابه.
وقد ضمّ الكتاب باقات متنوعة من تلك الغياض الوارفة، كلّ باقة تمثل فصلا، وكلّ وردة منها ينتظم رصف وريقاتها بحثا، فكان اختيارا شاملا، لم يدع للمطّلع عليه منبتا دون جذور، فقد أخذ بيده إلى أصوله ومراجعه ليكون البيان سبيله إلى التراث العظيم، يقف على مكنوناته ويغوص على درره، ويتخيّر من كنوزه، فجمع هذا الكتاب بين أصالة البحث وحداثته، بأمانة العزو، وحسن العرض والمناقشة والترجيح، بعبارة جزلة وأسلوب سهل، وتلخيص محكم، وتفصيل مرتّب، يساعد القارئ على حسن الفهم والاستيعاب.
جزى الله المؤلف خير الجزاء
الأستاذ الدكتور محمد عجاج الخطيب رئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الإمارات العربية المتحدة وعميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالشارقة حاليا
1 / 6
تمهيد
نقصد بعلوم القرآن- كفنّ مدوّن- المباحث التي تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله وإعجازه، وجمعه وترتيبه، وناسخه ومنسوخه، وقراءاته ونحو ذلك من الموضوعات التي كانت معروفة للصحابة وإن لم تكن مدونة مكتوبة إنما مسلكهم في تحصيلها الفهم السديد، أو تذوق بيان القرآن وإعجازه، كل هذا كان سليقة وذكاء في القريحة وبتوجيه وبإرشاد من رسولهم الكريم ﵇.
ثم جاء التابعون وبقيت العلوم تؤخذ بالرواية والتلقين لا بالكتابة والتدوين، حتى كانت بداية التدوين لجزء من علوم القرآن، فقام أمثال سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج ليدونوا لنا الروايات التفسيرية المروية عن الصحابة وكبار التابعين، وبذلك كانت أول حركة لتدوين علوم التفسير، ثم جاء الفراء المتوفى سنة ٢٠٧ هـ فدوّن كتابه معاني القرآن، ويحيى بن سلام ومحمد بن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ هـ وقد دوّن في مقدمة تفسيره أبحاثا في علوم القرآن كبحث الأحرف السبعة، وتوالت بعده كتب التفسير بالمأثور والمعقول والجمع بينها.
هذا ما يتعلق بعلوم التفسير أما ما يطلق عليه علوم القرآن، فلم يتناول أحد تدوين هذا العلم ككلّ بل شرحوا أبعاضه وأجزاءه، فعلي ابن المديني شيخ الإمام البخاري (المتوفى في سنة ٢٣٤ هـ) كتب في أسباب نزول القرآن، وأبو عبيد بن سلّام (المتوفى سنة ٢٢٤ هـ) كتب الناسخ والمنسوخ، ومن كتّاب علوم القرآن في القرن الرابع الهجري، أبو بكر السّجستاني الذي ألّف في غريب القرآن، وفي القرن الخامس علي بن سعيد الحوفي الذي ألّف في إعراب القرآن. وفي السادس كتب السهيلي في مبهمات القرآن، ثم انهالت التآليف في كلّ فنّ، كالقراءات، وأسباب النزول، والإعجاز، والأمثال، والقرآن وحججه وجدله.
ويرى الشيخ الزرقاني أن أول عهد لظهور هذا الاصطلاح هو القرن الرابع الهجري إذ كتب علي بن إبراهيم بن سعيد الشهير بالحوفي المتوفى سنة ٤٣٠ هـ كتابه
1 / 7
«البرهان في علوم القرآن»،- وهو بالطبع غير كتاب الزركشي- والموجود منه حاليا خمسة عشر جزءا، ويبدو من طريقته أنه كتاب تفسير، وإن تعرض من خلال تفسيره إلى شذرات في علوم القرآن، التي يظنّ أنه قد تعرض لها بإسهاب في المقدّمة المفقودة من تفسيره مع الأجزاء الخمسة عشر الأولى، ولم يبق بأيدينا إلّا النصف الآخر من الكتاب.
وفي القرن السادس كتب ابن الجوزي كتابه «فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن» الذي وصفه السيوطي (بأنه لم يقرأ مثله ولا قريبا منه)، وهو موجود في دار الكتب المصرية وهو كتاب صغير الحجم، فيه مباحث بسيطة كعدّ كلمات القرآن وحروفه، والكتاب قد حققه محمد إبراهيم سليم ونشرته مكتبة السباعي بالرياض.
وأرجح أن الذي وصفه لنا السيوطي ما زال مفقودا.
وفي القرن السابع ألف علم الدين السخاوي المتوفى سنة ٦٤١ هـ كتابه «جمال القراء» وقد حققه زميلنا عبد الكريم الزبيدي ونشر في بيروت.
وجاء القرن الثامن فكان كتاب «البرهان في علوم القرآن» للإمام الزركشي ت «٧٩٤ هـ» وهو من خير كتب علوم القرآن، وكتابه يقع في أربعة مجلدات، وتلاه في القرن الثامن محمد بن سليمان الكافيجي المتوفى سنة ٨٧٣ هـ غير أن كتابه كما قال السيوطي: (لم يشف غليلا، ولم يهد إلى المقصود سبيلا). وتلاه جلال الدين البلقيني، وكتابه «مواقع العلوم من مواقع النجوم» وقد ضمنه السيوطي المتوفى ٩١١ هـ في كتابه «التحبير في علوم التفسير». وألف كتابه القيم «الإتقان في علوم القرآن» الذي يعتبر عمدة في بابه.
بين البرهان والإتقان في علوم القرآن
: هذان كتابان من خير الكتب وأوسعها في علوم القرآن، أما البرهان للزركشي فهو السابق للإتقان. وهذا الكتاب يتناول الموضوعات تناولا موسعا شافيا وافيا.
وأفاد منه السيوطي كثيرا، وقد استوفى جميع أبوابه وأنواعه ولكنه أوجزها وأضاف إليها أنواعا أخرى وجعلها ثمانين نوعا. وكتابه يعوزه التحقيق الذي يقوم به
1 / 8
حاليا قسم التفسير بجامعة الأزهر، وقد أشرف الأستاذ الدكتور إبراهيم خليفة رئيس القسم على رسالة في تحقيق جزء منه، وهو مزمع على إكماله إن شاء الله.
وأخيرا فإن كتب علوم القرآن في هذا العصر كثيرة جدا فلا تخلو كلية من كليات الشريعة وأصول الدين من كتاب يؤلفه مدرسو المادة منفردين أو مجتمعين، وأشهر الكتب «مناهل العرفان في علوم القرآن» للشيخ الزرقاني وهو أوسع هذه الكتب انتشارا مع ما فيه من إعواز إلى التمحيص في كثير من القضايا، ومن هذه الكتب وأكملها قيمة «كتاب البيان في علوم القرآن» للشيخ عبد الوهاب غزلان ولكنه قاصر على بعض الأبحاث كجمع القرآن الذي نال عنايته.
ومن أقدم كتب علوم القرآن في بلاد الشام ما ألفه الشيخ د. صبحي الصالح «مباحث في علوم القرآن»، كما ألف الأستاذ الدكتور عدنان زرزور كتابه القيم «علوم القرآن».
كما كتب الدكتور إبراهيم خليفة كتابه «منّة المنان في علوم القرآن» و«الوحي» وما زال يكتب في هذا المجال.
1 / 9
الفصل الأول القرآن الكريم
المبحث الأول: معناه.
المبحث الثاني: أسماؤه.
المبحث الثالث: لغة القرآن.
المبحث الرابع: إعجاز القرآن.
المبحث الخامس: الترجمة.
المبحث السادس: القصة في القرآن.
1 / 11
المبحث الأول تعريف القرآن لغة وشرعا
١ - المعنى اللغوي:
أ- يرى بعض علماء اللغة أن كلمة (القرآن) هي مصدر على وزن (فعلان) كالغفران والرجحان والشكران، فهو مهموز اللام من قرأ يقرأ قراءة وقرآنا، بمعنى تلا يتلو تلاوة، ثم نقل في عرف الشرع من هذا المعنى وجعل علما على مقروء معين، وهو من باب تسمية المفعول بالمصدر، وقد ورد بهذا المعنى في قوله تعالى:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ١٦ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ١٧ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: ١٦ - ١٨].
وقد روى الشيخان ﵄ في سبب نزولها ما يفيد هذا المعنى، عن ابن عباس أنه قال: «كان رسول الله ﷺ يعالج من التنزيل شدّة، فكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن ينفلت منه، يريد أن يحفظه فأنزل الله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ..
الآية».
فكان النبي ﷺ بعد ذلك إذا أتاه جبريل ﵇ أطرق، وفي لفظ «استمع» فإذا ذهب قرأه كما وعده الله (١). فهذا الأثر عن ابن عباس يدل بجلاء ووضوح على المعنى المذكور.
وقد روعي في تسميته قرآنا كونه متلوّا بالألسن، كما روعي في تسميته كتابا كونه مدونا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه (٢).
_________
(١) صحيح البخاري. كتاب بدء الوحي. باب كيف كان بدء الوحي ح (٥)، ومسلم في صحيحه.
كتاب الصلاة، باب الاستماع للقراءة ١/ ٣٣٠، ح (٤٤٨) (١٤٨).
(٢) النبأ العظيم. لمحمد عبد الله دراز، ص ١٢، دار القلم- الكويت.
1 / 13
ب- وذهب الشافعي ورجح قوله السيوطي إلى أن (القرآن) علم غير مشتق فهو اسم لكتاب الله مثل سائر الكتب السماوية (١).
٢ - المعنى الشرعي:
لقد عرّف علماء الأصول والكلام القرآن بتعريفات كثيرة، وأحسن هذه التعاريف وأقومها قول القائل إنّ القرآن (هو كلام الله المعجز المنزّل على محمد ﷺ المنقول تواترا والمتعبد به تلاوة).
فكلام الله المعجز، قد أخرج كلام غير الله، فهو ليس بكلام إنس ولا جنّ ولا ملائكة ولا نبيّ أو رسول، فلا يدخل فيه الحديث القدسيّ ولا الحديث النبويّ.
وخرج بقيد- المنزّل على النبي محمد ﷺ الكتب المنزلة على الرسل من قبله كصحف إبراهيم، والتوراة المنزّلة على موسى، والإنجيل المنزّل على عيسى ﵈.
أما القيد- المنقول تواترا- فقد أخرج به كلّ ما قيل إنه قرآن ولم يتواتر، مثل القراءات الشاذة غير المتواترة فإنها رويت على أنها من القرآن إلّا أن نقلها آحادا قد جعلها غير معتبرة، فلا يعتبر من القرآن قراءة ابن مسعود: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات (٢)، فقد زاد (متتابعات)، ولا قراءته كذلك: (وآتيتم إحداهنّ قنطارا «من ذهب» فلا تأخذوا منه شيئا) بزيادة (من ذهب) (٣)، أو قراءة ابن عباس: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربّكم «في مواسم الحجّ») (٤) بزيادة (في مواسم الحج) ولا
_________
(١) الإتقان في علوم القرآن، ١/ ٥١.
(٢) النظر الإتقان في علوم القرآن، تحت عنوان: القراءات، وكذلك كتب التفسير في سورة المائدة آية ٨٩.
(٣) انظر تفسير ابن كثير لسورة النساء، الآية ٢٠، ١/ ٤٦٧.
(٤) انظر الإتقان. تحت بحث القراءات، ١/ ٨٣، وانظر الآية ١٩٨ من سورة البقرة.
1 / 14
قراءة من قرأ (والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما) (١) بدل أيديهما، فما زيد أو بدّل في هذه القراءات وأمثالها لا يصحّ اعتبارها قرآنا حتى ولا حديثا نبويا لأنّها نسبت إلى قارئها فلا يعدو اعتبارها أكثر من أنها تفسير أو رأي للمثبت لها.
أما القيد الأخير- المتعبد به تلاوة- فقد خرج به الحديث القدسي فإنه وإن كان منسوبا إلى الله إلّا أنه غير متعبد بتلاوته كما سنبينه بعد.
_________
(١) الدر المصون ٢/ ٥٢٣.
1 / 15
المبحث الثاني أسماء القرآن
صنف أحد العلماء في أسمائه جزءا وذكر نيفا وتسعين اسما وذكر بعضهم أقل من ذلك، قال القاضي أبو المعالي ﵀: اعلم أن الله تعالى سمّى القرآن بخمسة وخمسين اسما، وقد ذكر صاحبا البرهان والإتقان وجوها للتسمية ومعانيها، أما الطبري فقد اكتفى بذكر أشهرها مبينا معانيها، من هذه الأسماء:
١ - سماه الله تعالى كتابا فقال: حم ١ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجاثية: ١ - ٢].
والكتاب مصدر كتب يكتب كتابة، وأصلها الجمع، وسمّيت الكتابة لجمعها الحروف فاشتق الكتاب لذلك، لأنه يجمع أنواعا من القصص والأحكام والأخبار على أوجه مخصوصة.
٢ - وسماه ذكرا فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩].
وذلك لما فيه من المواعظ والتحذير وأخبار الأمم الماضية، والذكر أيضا يأتي بمعنى الشّرف والفخر لمن آمن بالقرآن وصدّق بآياته، ومنه قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف: ٤٤]، أي: شرف لك ولقومك ٣ - وسمّاه فرقانا فقال:
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: ١].
وذلك لأنه يفرّق بين الحقّ والباطل، والمؤمن والمنافق، والمسلم والكافر، وقيل: لأنه مفروق بعضه عن بعض في النّزول (١).
أما ابن عباس فكان يقول: الفرقان المخرج.
وقال آخرون: الفرقان هو الفرق بين الشيئين والفصل بينهما، وقد يكون ذلك بقضاء واستفتاء وإظهار حجّة وغير ذلك من المعاني المفرقة بين المحق والمبطل،
_________
(١) مناهل العرفان ١/ ٨.
1 / 16
والقرآن إنما سمي فرقانا لفصله بحجّته وأدلته وحدوده وفرائضه وسائر معاني حكمه بين المحق والمبطل، وفرقانه بينهما تبصرة المحق وتخذيله المبطل حكما وقضاء (١).
٤ - وسماه التنزيل: وقد وردت بذلك آيات كثيرة: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ١٩٢ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: ١٩٢ - ١٩٣].
وغيرها من الآيات، والتنزيل مصدر سمي به الكلام المنزل من عند الله على رسوله، وتسميته بذلك من قبيل تسمية المفعول بالمصدر، وهو من الأسماء الشائعة على ألسنة العلماء حيث يقولون: ورد في التنزيل، ويعنون القرآن.
٥ - وأسماء أخرى، بل صفات كثيرة، منها (مبارك) كما ورد في قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ ... [ص: ٢٩].
و(الحكيم) كما في قوله تعالى: يس ١ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: ١ - ٢].
و(المجيد) كما في قوله: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: ١].
وغيرها من الأسماء والصفات ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتابي البرهان والإتقان في علوم القرآن.
الفرق بين القرآن والحديث القدسي:
قد ينسب الحديث تارة إلى النبي ﷺ فيقال: حديث النبي ﷺ، وقد ينسب إلى القدس فيقال: الحديث القدسي (٢)، والحديث كما عرّفه العلماء: هو ما نقل عن النبيّ ﷺ من قول أو فعل أو تقرير، فالأقوال التي تصدر عن النبيّ تعتبر من الأحاديث النبوية، فإذا ما نسبت إلى الله ﷿ سمّاها العلماء أحاديث قدسية، وذلك كقول النبي ﷺ فيما يرويه عن ربّه ﷿ أنه قال:
_________
(١) التبيان في علوم القرآن ص ١٢٢.
(٢) أقدم الكتب في هذا الموضوع مشكاة الأنوار فيما يروى عن الله لمحيي الدين بن العربي والجامع الكبير، للسيوطي، وكذلك الجامع الصغير، وكتاب الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية لعبد الرءوف المناوي، وكتاب أدب الأحاديث القدسية لأحمد الشرباصي.
1 / 17
«يا عبادي: إنّي حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا.
يا عبادي: كلّكم ضالّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.
يا عبادي: كلّكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم.
يا عبادي: كلكم عار إلّا من كسوته، فاستكسوني أكسكم.
يا عبادي: إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم.
يا عبادي: إنكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إيّاها فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا نفسه» رواه مسلم (١).
ومثل قول النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه: «أنا عند ظن عبدي بي، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه» (٢).
والمتأمل في نصوص الأحاديث القدسيّة، يلاحظ وحدة الأسلوب بينها وبين الأحاديث النبويّة، فكلها قد وقع بلفظ النبيّ ﷺ، سواء أكان الحديث نبويّا أم قدسيّا فكلاهما في مرتبة واحدة، وإن كان الحديث القدسيّ منسوبا إلى الذات العلية (٣).
وأن هذه النسبة أيضا لا تجعله في مرتبة القرآن، بل إن بينهما فروقا نوجزها فيما يلي:
١ - أن القرآن الكريم- لفظا ومعنى- من الله ﷿، أما الحديث القدسيّ فهو كالحديث النبويّ، حتى أجاز العلماء روايته بالمعنى، بخلاف القرآن، لأن روايته بالمعنى تحريف وتبديل له.
_________
(١) صحيح مسلم. كتاب البر والصلة والآداب. باب تحريم الظلم ٣/ ١٩٩٤ ح (٢٥٧٧) (٥٥).
(٢) صحيح البخاري. كتاب التوحيد. باب قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح: ١٥] ح (٧٥٠٥)، صحيح مسلم كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها ٣/ ٢١٠٢ ح (٢٦٧٥) (١)، سنن الترمذي. كتاب الدعوات ٥/ ٥٨١ ح (٣٦٠٣).
(٣) يطلق بعض العلماء على الأحاديث القدسية الأحاديث الإلهية أو الربانية والكل معزوّ إلى الله أو إلى الربّ ﷿.
1 / 18
٢ - ولأن القرآن بلفظه ومعناه من الله فقد وقع به التحدي والإعجاز، أما الحديث القدسيّ فلم يقع به التحدي، فهو في ذلك كالحديث النبويّ سواء بسواء.
٣ - أن القرآن متعبد بتلاوته فتالي القرآن مثاب على تلاوته عموما، وتلاوته في الصلاة ركن من أركانها فلا تتم الصلاة بغيره: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: ٢٠].
وهذا بخلاف الحديث القدسي فإنه كالحديث النبويّ لو قرئ في الصلاة بطلت.
٤ - كلّ آي القرآن الكريم- آية آية- متواترة، والأحاديث القدسيّة كالأحاديث النبويّة فيها القطعيّ الثبوت (١) وأكثرها ظنيّ في ثبوته.
بعد كلّ هذا لا يخطرنّ على بالك، أو يدور في خلدك أن الحديث القدسي كالقرآن الكريم؛ لقول الراوي: قال ﷺ فيما يرويه عن ربه، أو روى الرسول عن ربه ﷿، فإن هذه الشبهة مردودة وباطلة، وما قول النبي ﷺ هذا إلّا ضرب من ضروب الأساليب العربية الشائعة الذائعة المستعملة في لسان العرب حين يقولون:
كقول الشاعر في قصيدته كذا وكذا، ثم لا يذكرون بيت الشعر لفظا بل يوردون معانيه من غير مراعاة لحرفية الألفاظ ولا الأوزان والقوافي الشعرية، بل إن في القرآن الكريم خير شاهد على ما نقول، فقد قصّ الله ﷿ قصص الأنبياء وجدالهم مع قومهم، ولم يذكر عين ألفاظهم التي استعملوها، بل ذكر مضامينها ومعانيها، مصورا لنا مواقفهم بأفصح الألفاظ وأنصح البيان، قال تعالى في سورة نوح ﵇:
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهارًا ٥ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِرارًا ٦ وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبارًا ٧ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهارًا ٨ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرارًا ٩ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّارًا ١٠ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارًا [نوح: ٥ - ١١].
_________
(١) من الأحاديث القدسية المتواترة: «من أذهبت حبيبته فصبر. واحتسب لم أرض له ثوابا إلا الجنة». رواه أربعة عشر صحابيا. نظم المتناثر في الحديث المتواتر ص ٧٧ لمحمد بن جعفر الكتاني.
1 / 19
فهل هذه الألفاظ القرآنية هي الألفاظ عينها التي قالها نوح ﵇؟ أم هي مضمون ومعنى ما قاله وقالوه ...؟ وهل حين قصّ الله عن غيره من الرسل قصصا هي ألفاظهم عينها؟.
اللهم لا لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: ٤].
لقد حكى الله تعالى عن موسى وفرعون وغيرهما مضمون كلامهم بألفاظ غير ألفاظهم، وأسلوب غير أسلوبهم ونسب ذلك لهم (١).
_________
(١) النبأ العظيم، ص ١٦.
1 / 20
المبحث الثالث لغة القرآن
إن الترابط بين القرآن واللغة ترابط شديد الصّلة، بل ارتباط الصّفة بالموصوف التي لا تنفك عنه بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: ١٩٦]. فلا غرو إذا قلنا: إن التهجم على اللغة العربية هو تهجم على القرآن، والنيل من اللغة هو نيل من القرآن، والمحاولات والمعاول التي تهدم لغتنا إنما هي معاول هدم لقرآننا وكياننا كلّه.
وقد طالعنا طالع سوء من المحدثين يزعم «أن القرآن قد حوى في آياته ألفاظا أعجمية، فهو أعجمي مزيج من لغات شتى ...».
هذا الزعم والادعاء في واقعه ليس بجديد، بل هو دعوى قديمة دحضها القرآن الكريم، واصفا إياها بأنها منطق الذين يلحدن في القرآن، فملحدوا اليوم هم ببغاوات لملحدي الأمس، لذا كان لزاما على من يحمل في جعبته سهاما أن يرميهم بسهمه، وأن يرد كيدهم إلى نحورهم، وسنحاول بعون الله تعالى أن نعرض لهذه القضية القديمة الحديثة في آن واحد، وأن نرد عليهم بأدلة قاطعة، وبراهين ساطعة، وأن نبين زيف هذه الأفكار الغاشمة وأن نتناول فيه جانبا من الجوانب التي تعنينا في علوم القرآن تاركين الجوانب الأخرى لمن هو أهل لها.
هذا الجانب يتناول قضية احتواء القرآن لألفاظ معرّبة عن أصول أعجمية، وهي قضية استحوذت على علمائنا الأقدمين والمحدثين على حدّ سواء، وكانت مثار اهتمامهم، فتعددت فيها الآراء وتضاربت فيها المذاهب ما بين مثبت وناف، والمثبتون قد اختلفوا في حصر هذه الكلمات بين مكثر ومقلّ، فقد حصرها الإمام الغزالي في كلمتين أو ثلاث، وحصرها تاج الدين السبكي بسبعة وعشرين لفظا ونظمها شعرا، وزادها الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني أربعة وعشرين لفظا ونظمها شعرا أيضا، كما زادها الإمام السيوطي بضعة وستين لفظا فتمت أكثر من مائة لفظ (١).
_________
(١) انظر الإتقان في علوم القرآن والمتوكلي ومقدمة تفسير ابن جرير ص ٣.
1 / 21
وسنرى فيما بعد القول الحقّ في حقيقة هذا الحصر الادعائي.
وقبل أن نخوض في مذاهب العلماء في وقوع المعرب في القرآن، هاك بعض هذه الألفاظ:
سئل ابن عباس عن قوله تعالى:
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر: ٥١] قال: هو بالعربية الأسد، وبالفارسية جاد، وبالقبطية أريا، وبالحبشية قسورة، وحين سئل ابن عباس عن معنى قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء: ٢] قال: حوبا بلغة الحبشة، وبالعربية إثما.
وعن ابن مسعود أنه فسر لفظ ناشئة في قوله تعالى من سورة المزمل: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: ٦] قال: الناشئة هي بالحبشية، وبالعربية قيام
الليل، وبما روي عن مجاهد أنه فسر القسط في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء: ١٣٥] قال: إن القسط بالرومية وبالعربية العدل.
وقد أورد السيوطي ما في القرآن عن بعض الألسن، فمما ورد بلسان الحبشة، الأرائك بمعنى السّرر، وأوّاه: المؤمن بمعنى الرحيم، وطوبى اسم للجنة.
وبلسان العبرية: مرقوم بمعنى مكتوب، وراعنا وهي كلمة سبّ عند اليهود.
وبلسان الروم: فصرهنّ، أي: قطعهن، وطفقا، أي: قصدا، والفردوس بمعنى البستان.
وبلسان الفرس: سجيل عن مجاهد: سجيل أولها حجارة وآخرها طين، وسرادق بمعنى الدهليز، والسندس بمعنى دقيق الديباج.
وبالنبطية: بأيدي سفرة، أي: بأيدي القراء.
وبالسريانية: أسفار بمعنى الكتب، وكلمة شهر ذكر بعض أهل اللغة أنها سريانية كذلك (١).
وبعد: فهذه كلمات وألفاظ قرآنية قلّت أو كثرت جرى فيها خلاف في ثلاثة آراء نسوقها إليك مع المناقشة والترجيح في نهاية المطاف.
_________
(١) تفسير ابن جرير ص ٦ - ٧.
1 / 22
الفريق الأول: وعلى رأسهم الإمام الشافعي الذي شدد النكير على القائلين إن في هذا القرآن غير لغة العرب فأخذ يقيم الحجة بأن القرآن كله عربي، لقوله تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: ٢]. وقوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: ٣]. وقوله: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ١٩٢ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ١٩٣ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ١٩٤ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: ١٩٢ - ١٩٥].
يقول الشافعي في رسالته:
ومن جماع علم كتاب الله العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب ..
فالواجب على العالمين ألا يقولوا إلا من حيث علموا، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به، وأقرب إلى السلامة له إن شاء الله.
فقال قائل منهم: إن في القرآن عربيا وأعجميا، والقرآن يدل على أن ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، ووجد قائل هذا القول من قبل ذلك منه تقليدا له، وتركا للمسألة عن حجّته ومسألة غيره ممن خالفه، وبالتقليد أغفل من أغفل منهم، والله يغفر لنا ولهم، ولعلّ من قال: إن في القرآن غير لسان العرب وقبل ذلك منه، ذهب إلى أن من القرآن خاصّا يجهل بعضه بعض العرب، ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبيّ، ولكنه لا يذهب منه شيء، على عامتها حتى يكون موجودا فيها من يعرفه، والعلم به عند العرب، كالعلم بالسّنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلا جمع السّنن فلم يذهب منها شيء، فإذا جمع علم عامّة أهل العلم بها أتى على السّنن، وإذا فرق علم كل واحد منهم، ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره (١).
وأما الطبري فقد قال: إن الذي قالوه من ذلك غير خارج من معنى ما قلنا، من أجل أنهم لم يقولوا: هذه الأحرف وما أشبهها لم تكن للعرب كلاما، ولا كان ذاك
_________
(١) الرسالة للشافعي، تحقيق أحمد شاكر. ص ٤١ - ٤٣.
1 / 23
لها منطقا قبل نزول القرآن، ولا كانت بها العرب عارفة قبل مجيء الفرقان، فيكون ذلك قولا لقولنا خلافا، وإنما قال بعضهم: حرف كذا بلسان الحبشة معناه كذا، وحرف كذا بلسان العجم معناه كذا. ولم نستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنى واحد، فكيف بجنسين منها؟ كما قد وجدنا اتفاق كثير منه فيما قد علمناه من الألسن المختلفة، وذلك كالدرهم، والدينار والدواة، والقلم والقرطاس، وغير ذلك مما يتعب إحصاؤه ويملّ تعداده، لذا كرهنا إطالة الكتابة بذكره، مما اتفقت فيه الفارسية والعربية باللفظ والمعنى، ولعلّ ذلك كذلك في سائر الألسن التي نجهل منطقها ولا نعرف كلامها.
فلو أن قائلا قال- فيما ذكرنا من الأشياء التي عددنا وأخبرنا اتفاقه في اللفظ والمعنى بالفارسية والعربية وما أشبه ذلك، مما سكتنا عن ذكره-: كلّه فارسي لا عربي، أو ذلك كلّه عربي لا فارسي، أو قال: بعضه عربي وبعضه فارسي، أو قال:
كان مخرج أصله من عند العرب، فوقع إلى العجم فنطقوا به، أو قال: كان مخرج أصله من عند الفرس فوقع إلى العرب فأعربته، كان مستجهلا، لأن العرب ليست بأولى أن تقول: كان مخرج أصل ذلك منها إلى العجم. ولا العجم بأحق أن تقول:
كان مخرج أصل ذلك منها إلى العرب، إذا كان استعمال ذلك بلفظ واحد ومعنى واحد موجودا في الجنسين .. ثم قال: وهذا المعنى الذي قلناه في ذلك هو معنى قول من قال: في القرآن من كل لسان، عندنا بمعنى: أن فيه من كلّ لسان اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرهم من الأمم التي تنطق به نظير ما وضعنا من القول فيما مضى، وذلك أنه غير جائز أن يتوهّم على ذي فطرة صحيحة، مقرّ بكتاب الله، ممن قرأ القرآن وعرف حدود الله، أن يعتقد أنّ بعض القرآن فارسيّ لا عربيّ، وبعضه حبشيّ لا عربيّ بعد ما أخبر الله تعالى أنه جعله قرآنا عربيا (١).
وقد ذهب فخر الدين الرازيّ المفسّر، والعالم اللغويّ ابن فارس إلى هذا الرأي وأطال الاستشهاد على صحة هذا القول، ومما قاله: «لو كان في القرآن الكريم من
_________
(١) جامع البيان ص ١/ ٧ - ٨.
1 / 24
غير لغة العرب شيء لتوهّم متوهّم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان مثله، لأنه أتى بلغات لا يعرفونها (١).
هذه أدلة الإمام الشافعي ومن معه، ويجدر بالذكر أن هذا الفريق وإن كان يقول: إن جميع ألفاظ القرآن عربية إلا أنه لا ينكر موافقة لسان العرب للسان العجم كما يقول الشافعي، ولا ينكر إذا كان اللفظ قيل تعلما أو نطق به موضوعا، أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليلا من لسان العرب، كما يتفق القليل من ألسنة الأعاجم المتباينة في أكثر كلامها مع تنائي ديارها، واختلاف لسانها، وبعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه (٢).
ويمثل أبو عبيد على ذلك بالمثال التطبيقي فيقول: «وقد يوافق اللفظ اللفظ ويفارقه ومعناهما واحد، أحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو غيرها، فمن ذلك الإستبرق بالعربية، وهو الغليظ من الديباج، وهو استبره بالفارسية» ثم ختم أبو عبيد كلامه بقوله: «من زعم أن في القرآن لسانا سوى العربية فقد أعظم القول» (٣).
يقول أبو بكر الباقلاني: القرآن عربي لا عجمة فيه، فكل كلمة في القرآن استعملها أهل لغة أخرى فيكون أصلها عربيا إنما غيّرها غيرهم تغييرا ما، كما غيّر العبرانيون فقالوا: للإله، لاهوت، وللناسك: ناسوت.
أما الفريق الثاني فهو فريق المتساهلين، الذين حكموا بأن القرآن شامل لجميع لغات العالم في زمنهم، استنادا لقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨] فالآية حسب زعمهم شاملة وعامّة، لذا قالوا: إن القرآن فيه من كلّ لهجة عربية بل باللغات الشائعة في زمن نزوله ... كالفارسية والرومية والعبرية، لذا فقد تساهلوا وتوسعوا في الألفاظ الوافدة التي استعملها القرآن الكريم ظنّا منهم أنها مزية من مزاياه في عدم التفريط بشموليته لسائر اللهجات واللغات. قال الثعلبي: إنه ليس لغة في الدنيا إلا وهي في القرآن.
_________
(١) انظر الصاحبي لابن فارس ص ٤٦، والإتقان ١٧٨.
(٢) الرسالة للإمام الشافعي ص ٤٤ - ٤٥.
(٣) الصاحبي ص ٤٣ - ٤٤.
1 / 25
ويرى أن وقوع هذه الألفاظ في القرآن إنما يدل على حكمة احتوائه لعلوم الأولين والآخرين، ومن ضمن ذلك إحاطته بجميع اللغات والألسن.
مما تقدم يتبين لنا أن هناك خلافا بين الفريقين، هو خلاف حقيقيّ شكليّ، وعلي الرغم من وضوح حقيقة الخلاف إلا أبا عبيد القاسم بن سلّام قد صبغ الخلاف وفاقا.
(قال أبو عبيد القاسم بن سلام: (إنّ القرآن كلّه عربيّ، وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم في أحرف كثيرة من غير لسان العرب مثل: سجّيل ومشكاة واليم والطور وأباريق وإستبرق وغير ذلك، فهؤلاء أعلم بالتأويل من أبي عبيدة، ولكنهم ذهبوا إلى مذهب، وذهب هذا إلى غيره، وكلاهما مصيب إن شاء الله تعالى، وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل، فقال أولئك على الأصل ثم لفظت به العرب بألسنتها، فعرّبته فصار عربيا بتعريبها إياه، فهي عربية في هذه الحال أعجمية الأصل) (١).
وعلق الشيخ الزفزاف فقال: (وهذا الرأي الذي ذكره أبو عبيد، إنما أراد به أن يجعل الخلاف بين الفريقين السابقين لفظيا. والذي يظهر لي أنه ليس كذلك، لأن الإمام الشافعي ومن معه لم يكونوا يجهلون أن العرب إذا تكملت اللفظ الأعجمي يصبح عربيا، ولكنهم كانوا يرون أن القطع بأن هذه الألفاظ أعجمية الأصل لا سبيل إليه. كما يفهم ذلك من القرآن وكما يفهم من كلام القاضي أبي بكر الباقلاني، وهم يرون غلق هذا الباب) (٢).
ثم استدل هذا الفريق أولا: بالآية القرآنية وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: ٤].
ووجه الدلالة في الآية أنّ كلّ رسول مرسل إلى قومه، فيتحدّث بلسانهم والنبيّ ﷺ مرسل إلى كلّ الأمم فلا بد أن يكون في الكتاب المبعوث إليهم من لسان كلّ قوم إن كان أصله بلغة قومه هو.
_________
(١) المعرب للجواليقي ص ٥٣.
(٢) القرآن والحديث للشيخ الزفزاف.
1 / 26