البرهان في وجوه البيان
البرهان في وجوه البيان
তদারক
د. حفني محمد شرف (أستاذ البلاغة، والنقد الأدبي المساعد - كلية دار العلوم، جامعة القاهرة)
প্রকাশক
مكتبة الشباب (القاهرة)
প্রকাশনার স্থান
مطبعة الرسالة
জনগুলি
البرهان في وجوه البيان
تأليف/
أبي الحسين إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب
تحقيق/
حفني محمد شريف
مكتبة الشباب
1 / 48
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر برحمتك
إن أولى ما افتتح به اللبيب كتابه، وابتدأ به الأديب خطابه، ما افتتح الله ﷿ به القرآن، وجعله آخر دعوى أهل الإيمان، والحمد لله شكرًا، واعترافًا بمنته، وصلى الله على محمد وعترته، والأوصياء من ذريته.
أما بعد فإنك كنت ذكرت لي وقوفك على كتاب الجاحظ الذي سماه كتاب البيان والتبيين، وإنك وجدته إنما ذكر فيه أخبارًا منتخلة وخطبًا منتخبة، ولم يأت فيه وظائف البيان، ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان، فكان عند ما وقفت عليه، غير مستحق لهذا الاسم الذي نسب إليه، وسألتني أن أذكر جملًا من أقسام البيان آتية على أكثر أصوله، محبطة بجماهير فصوله، يعرف بها المبتدى معانيه، ويستغنى بهذا الناظر فيه، وأن أختصر ذلك لئلا يطول به الكتاب، فقد قيل: إن الإطالة، أكثر أسباب الملالة، فتثاقلت عن إجابتك إلى ما سألت لما
1 / 49
حذرت منه الحكماء، ونهت عنه العلماء، من التعرض لوضع الكتب، إذ كانت نتائج اللب، وكان المتجاسر على تأليفها إنما يبدي صفحة عقله، ويبين عن مقدار علمه أو جهله، ثم رأيت حق الصديق عند العلماء فوق حق الشقيق، ووجدتهم يجعلون الإخوان من عدد الزمان، فقال سيدنا ﵇ المرء كثير بأخيه، وسئل بعضهم، قيل له: أيما أحب إليك أخوك أم صديقك؟ قال: إنما أحب أخي إذا كان صديقًا. وقال بعضهم: الإخاء الصادق أقرب من النسب الشابك. وقال بعض الفلاسفة: الأصدقاء نفس واحدة في أجساد متفرقة، وقال مولانا ﵇: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الشجاع إلا عند الحرب، ولا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا يعرف الصديق إلا عند الحاجة إليه، فلما تذكرت ذلك وتدبرته، تحملت لك تأليف ما أحببته ورسمته، على علم مني بأن كتابي لابد أن يقع في يد أحد رجلين: إما عاقل يعلم أن الصواب قدصي، والحق إرادتي، وأن نية الرجل أولى به من عمله فيتغمد سهوًا إن وقع من، ويغتفر زللا صدر عني، ويعود بفضل حلمه على زللي، ويصلح بعلمه خطئي، فقد وجب ذلك عليه لي، لاعترافي قبل اقترافي، وإقراري بالتقصير الذي ركب في جبلة مثلي، وإما جاهر أحب الأشياء إليه عيب ذوي الأدب، والتسرع إلى تهجينهم، وذكر مساوئهم، وذلك لمنافرته إياهم، وبعد شكله من أشكالهم، ومن أراد عيبًا وجده، ومن فحص عن عثرة لم
1 / 50
يعدمها، وكان يقال: من حسد إنسانًا اغتابه، ومن قصر عن شيء عابه، ولذلك قيل: من جهل شيئًا عاداه، وقال مولانا ﵇: عداوة الجاهل للعلم على قدر انتفاعه به، قال الشاعر.
(وأطوع ما علِمت بظهر غيْب ... إلى ذكر العيوب ذَوُو العيوب)
فمن كانت هذه حاله كان اللبيب حقيقًا بترك الحفل به، وترك الاكتراث له.
وقد ذكرت في كتابي هذا جملًا من أقسام البيان، وفقرا من آداب حكماء أهل هذا اللسان؛ لم نسق المتقدمين إليها، ولكني شرحت في بعض قولي ما أجملوه، واختصرت في بعض ذلك ما أطالوه، وأوضحت في كثير منه ما أوعروه، وجمعت في مواضع منه ما فرقوه، ليخف بالاختصار حفظه، ويقرب بالجمع والإيضاح فهمه. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
وأما بعد: فإن الله ﷿ خلق الإنسان وفضله على سائر الحيوان، ونطق بذلك القرآن فقال عز من قائل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾ وإنما فضله على سائر جنسه بالعقل الذي به فرق بين الخير
1 / 51
والشر، والنفع والضر، وأدرك به علم ما غاب عنه وبعد منه. والدليل على أن الله ﷿ إنما فضل الإنسان بالعقل دون غيره أنه لم يخاطب إلا من صح عقله، واعتدل تمييزه، ولا جعل الثواب والعقاب إلا لهم، ووضع التكليف عن غيرهم من الأطفال الذين لم يكمل تمييزهم والمجانين الفاقدين لعقولهم والعقل حجة الله سبحانه على خلقه، والدليل لهم إلى معرفته، والسبيل إلى نبل رحمته، وقد أتت الرواية بأن الله ﷿ لما خلق العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب؛ أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب وأثيب، وبك آخذ وبك أعطي. وروي عن أبي عبد الله ﵇ أنه قال لهشام: يا هشام إن لله سبحانه حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل، وأما الباطنة بالعقل؛ وعنه ﵇ أنه قال "حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل. ولولا العقل الذي بان به ذو التمييز من ذي الجهل لما كان بين الإنسان وبين سائر الحيوان فرق في تولد ولا نمو، ولا حركة ولا هدو، ولاأكل ولا شرب، لأن سائر البهائم شركاؤه في ذلك، فبالعقل إذًا تنال الفضيلة وهو عند الله جل وعز أقرب وسيلة.
1 / 52
[والعقل] ينقسم قسمين: موهوب ومكسوب، فالموهوب ما جعله الله في جبلة خلقه، وهو الذي ذكره في كتابه حيث يقول: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ وقد فضل الله ﷿ في هذه الموهبة بعض خلقه على بعض على مقدار علمه فيهم، كما فضل بعضهم على بعض في سائر أخلاقهم وأفعالهم، وقال: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ وإنما فعل الله ذلك للمصلحة لهم، ونحن نبين وجه الصلاح في ذلك فيما يستأنف من كتابنا هذا إذا صرنا إليه.
والمكسوب ما أفاده الإنسان بالتجربة والعمر، والأدب والنظر، وهو الذي ندب الله ﷿ إليه فقال: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ وجعل من أعطاه العقل الغريزي فأهمله، وترك شحذه بالأدب والتفكير والتمييز والتدبر، كالأنعام، وعرفنا أن مصيرهم [عز من قائل] فقال: ﴿وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا
1 / 53
مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، إلا أن العقل الموهوب أصل والمكسوب فرع، والأشياء بأصولها، فإذا صح الأصل صح الفرع، وإذا فسد فسد، وقد شبه بعض القدماء العقل الغريزي بالبدن، وشبه المكتسب بالغذاء، فكما أن الغذاء لا يستحيل إلا بالأبدان المحيلة له، ولا ينفع إلا بحصوله فيها، فكذلك العقل المستفاد بالأدب لا يتم إلا بالعقل الغريزي، فكما أن البدن إذا عدم الغذاء لم يكن له بقاء، فكذلك العقل الغريزي إذا عدم الأدب، فإذا صح العقل الموهوب كان بمنزلة البدن الصحيح الذي يستمرئ الغذاء، وينتفع به، وإذا فسد كان بمنزلة البدن المريض الذي لا يشتهي الغذاء، وإن حمل إليه منه ما لا يدعوه طبعه إليه كان زائدًا في مرضه، واستحال الداء الذي هو غالب، ولذلك، قيل: إن الأدب يذهب عن العقل السكر ويزيد الأحمق سكرًا، وقال الله ﷿: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ فأحمد الناس (عند الله ﷿ وعند الحكماء أصحهم عقلًا، وأكثرهم علمًا وأدبًا، وقد قال الله ﷿: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ﴾. وقال: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
1 / 54
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ وقال: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ وأخبر بعاقبة من أهمل نفسه وضيع عقله ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ فمن لم يتفكر قلبه، وينظر بعقله لم ينتفع بهذا الجوهر الشريف الذي وهبه الله ﷿ له، وإلى التفكر ندب الله عباده، وبالاعتبار أمرهم فقال ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وقال: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ وقال: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ وقال: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾ وقال: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ وروي: فكرة ساعة خبر من عبادة سنة، وروي عن الصادق ﵇ في كلام له: ولكل شيء دليل، ودليل العقل الفكر، ودليل الفكر الصمت؛ [فبالفكر] والاعتبار، يتقي الزلل والعثار، وبالتجارب تعرف العواقب، وتدفع النوائب؛ فإذا تفكر الإنسان وقدر ونظر واعتبر وقاس ما يدله عليه فكره بما جربه هو ومن قبله تبين له ما يريد أن يتبينه، وظهر له معناه وحقيقته" وقد ذكر الله ﷿ البيان فمدحه، وامتدح بأنه علمه عباده
1 / 55
فقال: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾، وجعل كتابه تبيانًا لكل شيء [وجعله قرآنًا]، وجعل رسله مبينين لخلصه فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ وقال: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ وقال: ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ﴾.
ذكر وجوه البيان
البيان على أربعة أوجه. فمنه بيان الأشياء بذواتها، وإن لم تبن بلغاتها؛ ومنه البيان الذي يحصل في القلب عند إعمال الفكر واللب، ومنه البيان باللسان [ومنه البيان بالكتاب] الذي يبلغ من بعد وغاب.
فالأشياء تتبين للناظر المتوسط، والعاقل المتبين بذواتها، وبعجيب تركيب الله فيها، وآثار صنعته في ظاهرها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾، وقال: ﴿وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، ولذلك قال بعضهم: قل للأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإن أجابتك حوارًا، وإلا أجابتك اعتبارًا، فهي وإن كانت صامتة في أنفسها، فهي ناطقة بظواهر أحوالها، وعلى هذا النحو استنطقت العرب الربع، وخاطبت الطلل، ونطقت عنه بالجواب، على سبيل الاستعارة في الخطاب؛ وقال الله ﷿ في هذا المعنى:
1 / 56
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾
وقال الشاعر:
(يا ربع بسرة بالجناب تكلم ... وأبن لنا خبرا ولا تستعجم)
(مالى رأيتك بعد أهلك موحشا ... خلقا كحوض الباقر المهدم)
فاستنطق ما لا ينطق بلسانه [لأنه أحواله مظهرة لبيانه]، وقال آخر فأجاب عن صامت غير مجيب لما ظهر من حاله للقلوب:
(فأجهشت للتوباد حين رأيته ... وهلل للرحمن حين رآني)
فقلت له: (أين الذين عهدتهم ... حواليك في عيش وخير زمان؟ !)
فقال: (مضوا واستودعوني ديارهم ... ومن ذا الذي يبقى على الحدثان).
وإنما تعتبر هذه الأشياء لمن اعتبر بها، وتتبين لمن طلب البيان منها، ولذلك جعل الله ﷿ الآية فيها لمن توسم وتفكر، وعقل وتذكر، فقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾
1 / 57
و﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فهذا وجه بيان الأشياء بذواتها لمن اعتبرها وطلب البيان منها، فإذا حصل هذا البيان للمتفكر صارعا لما بمعاني الأشياء، وكان ما يعتقد من ذلك بيانًا ثانيًا غير ذلك البيان، وخص باسم الاعتقاد، ولما كان ما يعتقده الإنسان من هذا البيان، ويحصل في نفسه منه غير متعد له إلى غيره وكان الله ﷿ قد أراد أن يتمم منه فضيلة الإنسان خلق له اللسان، وأنطقه بالبيان، فخبر به عما في نفسه من الحكمة التي أفادها، والمعرفة التي اكتسبها، فصار ذلك بيانًا ثالثًا أوضح مما تقدمه، وأعم نفعًا لأن الإنسان يشترك فيه مع غيره، والذي قبله إنما ينفرد به وحده، إلا أن البيانين الأولين بالطبع، فهما لا يتغيران وهذا البيان والبيان الآتي بعده بالوضع فهما يتغيران بتغير اللغات، ويتباينان بتباين الاصطلاحات. ألا ترى أن الشمس واحدة في ذاتها، وكذلك هي في اعتقاد العربي والعجمي، فإذا صرت إلى اسمها وجدته في كل لسان من الألسن بخلاف ما هو في غيره، وكذلك الكتاب، فإن الصور والحروف تتغير فيه بتغير لغات أصحابه، وإن كانت الأشياء غير متغيرة بتغير الألسن المترجمة عنها.
ولشرف البيان وفضيلة اللسان قال أمير المؤمنين ﵇: المرء مخبوء تحت لسانه [فإذا تكلم ظهر] وهذا من أشرف الكلام وأحسنه، وأكثره معنى وأخصره، لأنك لا تعرف الرجل حق معرفته إلا إذا خاطبته وسمعت منطقه، ولذلك قال بعضهم. وقد سئل في كم تعرف الرجل؟ قال: إن سكت ففي يوم، وإن نطق ففي ساعة. وقال بعض الحكماء: إن
1 / 58
الله سبحانه أعلى درجة اللسان على سائر الجوارج فأنطقه بتوحيده، وقال الشاعر:
(وهذا اللسان بريد الفؤاد ... يدل الرجال على عقله)
وقال آخر:
(وكائن ترى من معجب لك صامت ... زيادته أو نقصه في التكلم)
فاللسان ترجمان اللب، وبريد القلب، والمبين عن الاعتقاد بالصحة أو الفساد، كما قال الشاعر:
(إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا)
وفيه الجمال، كما قال الله ﷿: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ وكما قال النبي ﷺ وقد سأله العباس فقال: فيم الجمال يا رسول الله؟ فقال: في اللسان، إلا أنه لما كان النقض للناس شاملًا، والجهل في أكثرهم فاشيًا، وكان كثير منهم يسرع إلى القول في غير موضعه، ويعجب بما ليس بمعجب من منطقه، احتاطت العلماء على الدهماء بأن أمورهم بالصمت، ومدحوه عندهم، وأعلموهم بأن الخطأ في السكوت أيسر من الخطأ في القول، وقالوا: عثرة اللسان لا تستقال.
وقال الشاعر:
(وجر اللسان كجرح اليد)
1 / 59
وقال آخر:
(يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل)
وعرفوهم أن الفائدة في الصمت لصاحبه، والفائدة في النطق لغيره، وقال بعضهم وقد سئل عن لزومه للصمت فقال: أسكت لأسلم، وأنصت لأعلم، وقيل: الصمت حكمة وقليل فاعله، وقال أمير المؤمنين ﵇: من كثر كلامه كثر سقطه، وقال النبي ﷺ وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم؟ ! وقال بعض الفلاسفة لرجل سمعه يكثر الكلام: أيا هذا أتصف أذنيك هم لسانك، فإنما جعل لك أذنان ولسان واحد لتسمع أكثر مما تتكلم، وقال الشاعر.
(وفي الصمت ستر للغبي، وإنما ... صحيفة أب المرء أن يتكلما)
وكل هذا إنما أرادوا به حجز اللسان عن الكلام فيما لا يعلمون، والتسرع إلى إطلاق ما لا يحصلون، وكما أن الصمت في أوقاته، وعند الاستغناء عنه حسن، فإن الكلام في أوقاته وعند الحاجة إليه أحسن، وقد روى عن مولانا على بن الحسين ﵇ قول، انتظم معنى ما أرادته
1 / 60
العلماء في النطق بأخصر قول وأشبه بكلام أمثاله ﵇ فقال: السكوت عمالا لا يعنيك أمثل من الكلام فيه، والكلام فيما يعنيك خير من السكوت [عنه]، وحسب الأديب أن يستشعر هذا القول، فإنه يهجم به على محاسن الأمرين إن شاء الله، وقد يصمت الإنسان ويستعمل الكتمان لمخافة، أو رقبة أو بإسرار عداوة، أو بغضة، فيظهر في لحظاته وحركاته ما يبين عن ضميره، ويبدى مكنونه مثل ما يظهر الدمع عند فقد الأحبة، ومن تغير النظر عند معاينة أهل العداوة، ولذلك قال الشاعر:
(إذا لقيناهم نمت عيونهم ... والعين تظهر ما في القلب أو تصف)
وقال آخر:
(إذا ما حضرنا والرقيب بمجلس ... ترانا سكوتا والهوى يتكلم)
وهذا من بيان الأشياء بذواتها، وهو من الباب الأول
ثم إن الله ﷿ لما علم أن بيان الأشياء مقصور على الشاهد دون الغائب، وعلى الحاضر دون الغابر، وأراد تعالى أن يعم بالنفع في البيان جميع أصناف العباد، وسائر آفاق البلاد، وأن يساوي فيه بين الماضين من خلقه والآتين، والأولين والآخرين؛ ألهم عبادة تصوير كلامهم بحروف اصطلحوا عليها، فخلدوا بذلك علومهم لمن بعدهم، وعبروا به عن ألفاظهم، ونالوا ما بعد عنهم، وكملت بذلك نعمة الله عليهم
1 / 61
وبلغوا الغاية التي قصدها ﷿ في إفهامهم، وإيجاب الحجة عليهم، ولولا الكتاب الذي قيد على الناس أخبار الماضين لم تجب حجة الأنبياء على من أتى بعدهم، ولا كان النقل يصح عنهم، ولذلك صارت الأمم التي ليس لها كتاب قليلة العلوم والآداب، وقد امتدح الله ﷿ تعلم الكتاب في كتابه، [ومن احتجاجه على الناس به] وبين احتجاجه على الناس به، فقال: ﴿اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَا وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ وقال: ﴿أَوَلَمْ تَاتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى﴾ وقال: ﴿اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
وكل هذه الأقسام التي ذكرناها من البيان لا تخلو من أن تكون ظاهرة جلية، أو باطنة خفية، وذلك لما دبره الله ﷿ في هذا من الحكمة والدلالة، لأنه جعل بعض خلائقه محتاجًا إلى البعض، فالظاهر محتاج إلى الباطن، لأنه معنى له، والباطن محتاج إلى الظاهر لأنه دليل عليه، فكذلك سائر مصنوعات الله ﷿ محتاج بعضها إلى بعض ليعلم الإنسان أنه ليس يستغنى شيء بنفسه، ويقوم بذاته غير الله ﷿، وكل ما سواه فإنما هو بغيره، ولو جعل الله ﵎ الأشياء كلها ظاهرة لتساوي الناس في العلم، ولم يتفاضلوا فيه، وفي تساوى الناس - حتى لا يكون فيهم [رؤساء] متبعون، وأتباع مطيعون - بوارهم؛ وقد قيل: لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا
1 / 62
وعلى ما قلناه دبّرهم - سبحانه -، فقال في كتابه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ﴾ إلى آخر الآيات، فجعل علم آدم بما أظهره له وأخفاه عن ملائكته دليلًا على فضله ورياسته، وأنه المستحق من بينهم ما أفضى به إليه من خلافته، لأن من حكمه ألا يسوي بين العالم وغيره، ولو سوى بين الملائكة وبينه في علم ما علمه إياه لم يكن هناك تفاضل يوجب له المنزلة التي جعلها له، ولو جعل - تقدست أسماؤه - الأسماء كلها خفية لم يكن إلى علم شيء سبيل، ولتساوى الناس في الجهل [لكنه] بحكمته ومتقن صنعه جعل بعضها ظاهرًا مستغنيًا بظهره عن طلبه، وبعضها باطنًا يحتاج إلى إظهاره والفحص عنه، وجعل الظاهر دليلًا على الباطن وسلمًا إليه، ولم يقنع من عباده بعلم الظاهر من الأشياء التي يعرفوا معانيه، وباطن تأويله، وذم من اقتصر على علم ظاهر الأمور دون بواطنها، وفي العلم عنهم فقال: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ وشبه من حمل التوراة حمل حفظ لظاهرها من غير تدبر لمعانيها بالحمار، فقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ وقال في ذم قوم: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ﴾ وقال: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَاوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ وقال الرسول ﷺ "نية المؤمن خير من عمله" والنية باطنة، والعمل ظاهر، ولذلك لم يقنع بعلم الباطن،
1 / 63
والعمل به دون الظاهر فقال: (إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وأعلمنا أن بالظاهر تقوم الحجة فقال: ﴿قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ﴾، وقال رسول الله ﷺ "الإيمان عقد بالقلب، وقول باللسان وعمل بالأركان"، وقال "ليس الدين بالتجلي ولا بتمني ولكنه ما وقر في النفوس، وصدقته الأعمال" وذلك لأن النية مغيبة عنا، وليس يعلمها إلا الله ﷿ وصاحبها، وإنما يستدل عليها بالقول والعمل، ألا ترى أن الإنسان إنما تعرف حكمته الباطنة بما يظهر لنا من صحة قوله وإتقان عمله، وبين في العقل أنه لما كان الظاهر سببًا إلى الباطن، وعلة لنيله والوصول إليه وجب أن يكون معلقًا به، وغير منفصل عنه، وأن يكون ما يدرك من فضيلة العلم منسوبًا إليهما لاشتراكهما في إيضاحه، فإن لعلة بالمعلول تدرك، والمعلول بالعلة يوجد، وأن لا يكون الأمر كما ظن قوم أرذلوا علم الظاهر وتركوا العمل به، وهم مع ذلك مقرون بأنه لا يصلون إلى علم الباطن، والإيضاح عن حقيقته إلا به، فجعلوا ما لا تدرك الحاجة إلا به غير محتاج إليه، وهذا هو المحال البين، ولو كان الأمر كما ظنوا لبطلت حقوق الناس، وتعطلت تجاراتهم، وفسدت معاملاتهم، وسقطت أخبارهم، لأنهم إنما يعملون في جميع ذلك على الظاهر دون الباطن، ووضوح هذا يغني عن الإطالة فيه.
1 / 64
باب
البيان الأول وهو الاعتبار
قد قلنا: إن الأشياء تبين بذواتها لمن تبين، وتعبر بمعانيها لمن اعتبر، وإن بعض بيانها ظاهر، وبعضه باطن، ونحن نذكر ذلك ونشرحه فنقول: إن الظاهر من ذلك ما أدرك بالحس كتبيننا حرارة النار، وبرودة الثلج على الملاقاة لهما، أو ما أدرك بنظره العقل التي تتساوى العقول فيها مثل تبيننا أن الزوج خلاف الفرد، وأن الكل أكثر من الجزء والباطن ما غاب عن الحس، واختلفت العقول في إ ثباته، فالظاهر مستغن بظهوره عن الاستدلال عليه والاجتماع عليه لأنه لا خلاف له، والباطن هو المحتاج إلى أن يستدل عليه بضروب الاستدلال، ويعتبر بوجوه المقاييس والأشكال. والطريق إلى علم باطن الأشياء في ذواتها والوقوف على أحكامها ومعانيها من جهتين هما: القياس، والخبر، وحجتنا في القياس (أن الله ﷿ قال: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾ وذلك الأمثال التي جاءت في كتابه كمثل كذا وكذا في مواضع كثيرة، وذلك كله تشبيه وقياس. وأيضًا فقد قاس) في كتابه فقال لمن حرم وحلل وهو جاحد للرسل الذي يأتون بالتحليل والتحريم: ﴿أَمْ كُنتُمْ
1 / 65
شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا﴾ وقال: ﴿قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ فلما لم يمكنهم أن يدعوا أن الله سبحانه شافههم بذلك، وكان في قولهم واعتقادهم إبطال الرسل الذين يؤدون عن الله ﷿ أمره، تبين لهم أن الذي شرعوه لأنفسهم ضلال وبهتان من غير حجة ولا سلطان، فقال لهم بعد أن تبين ذلك لهم: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ ومن الحديث ما حدثه زبيد، الأيامي يرفعه قال: قال رسول الله ﷺ "كل قوم على بينة من أمرهم ومفلحة عند أنفسهم يردون على من سواهم" والحق في ذلك يعرف بالمقايسة عند ذوي الألباب وأما الخبر فحجتنا فيه من الكتاب قول الله ﷿: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾، ﴿فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ ولم يكن ليأمر بمسألتهم إذا لم يعلم، إلا وأخبارهم تفيدنا علمًا وتزيل عنا شكًا.
ومن الأثر قول رسول الله ﷺ: "نضّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فأداها" وقوله: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب"، ولم يأمر بذلك إلا وإبلاغ الشاهد الغائب يوجب الحجة، واستماع الغائب من الشاهد يكسب علمًا وفائدة.
1 / 66
ذكر القياس
والقياس في اللغة التمثيل، والتشبيه، وهما يقعان بين الأشياء في بعض معانيها لا في سائرها، لأنه ليس يجوز أن يشبه شيء شيئًا في جميع صفاته فيكون غ يره، والتشبيه في الأشياء لا يخلو من أن يكون تشبيهًا في حد أو وصف، أو اسم، فالشبه في الحد هو الذي يحكم لشبهه بمثل حكمه إذا وجد فيه فيكون ذلك قياسًا صادقًا وبرهانًا واضحًا، والشبه في الوصف هو الذي يحكم لشبهه به فيكون في بعض الأشياء صادقًا، وفي بعضها يكون كاذبًا.
والشبه في الاسم غير محكوم فيه بشيء إلا أن يكون الاسم مشتقًا من وصف؛ ونحن نمثل ذلك فنقول: إن حلول الحركة في المتحرك لما كانت حدًا له، وجب أن يكون كل ما حلت فيه الحركة متحركًا، وهذا حق لا نطعن فيه. فأما السواد الذي هو من أوصاف الحبشي فليس حيث وجدناه حكمنا لحامله بأنه حبشي، ومتى قلنا ذلك كنا مبطلين، ولكنا إذا قلنا: إن بعض من يوصف بالسواد حبشي صدقنا، وأما زيد الذي هو من الأسماء فليس بموجب أن يكون بينه وبين غيره ممن اتفق هذا الاسم له مماثلة ولا مشابهة إلا أن يكون الاسم مشتقًا من وصف فيلحق الوصف ما شاركه من ذلك الاشتقاق ما يلحقه، مثل الأبيض الذي يسمى به كل (ما كان البياض فيه) لأنه مشتق منه. والاشتباه في الأسماء لا يوافق بين معانيها إذا اختلفت ذواتها، فإن الهوى الواقع على هوى
1 / 67