33

আখির দুনিয়া

آخر الدنيا

জনগুলি

3

كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها وروميل في العلمين، والناس يتحدثون عن الحاج محمد هتلر وإشهار إسلامه، وبقدومه المتوقع ليخلصنا من الإنجليز. أما عالم الليل في مركزنا؛ فقد كان مشغولا بأمر آخر لا يمت بصلة إلى هتلر أو روميل. أيامها كان ثمة أمر عسكري قد صدر بترحيل المجرمين المشبوهين إلى معتقل الطور، ونشط كل مأمور مركز، ونشط كل عمدة، ونشط الحاقدون ومحترفو كتابة العرائض. وفي كل بضعة أيام يتكون فوج من المجرمين فعلا، والأبرياء الذين اغتنوا، والأبرياء الذين زج بهم نكاية وزورا، فوج يربط في سلاسل من حديد وكلابشات، ويرحل إلى الطور. أما مركزنا فقد رزقه الله بمأمور كان قريبا لأحد رجال السراي الذين تتحدث عنهم الصحف؛ ولهذا رأى أن يفسر الأمر العسكري بطريقته الخاصة. وبدلا من أن يتعب نفسه في عمليات الترحيل ومكاتباته واستماراته، كان يتولى ترحيل المشتبه في أمرهم ليس إلى الطور ولكن إلى العالم الآخر، وبطريقة بسيطة للغاية لا سلاسل فيها أو كلابشات. كان إذا أفلح في القبض على أحدهم وجيء به إلى المركز لا يدخله السجن، وإنما يبقيه معه في حجرته يحدثه ويؤانسه، ويقدم له الشاي والمزاج، ثم إذا هب الليل يدعوه إلى نزهة معه في «البوكسفورد». وهناك على حافة البحيرة أو أحد المصارف الكئيبة المؤدية إليها يوقف العربة، وينزل هو ويدعو ضيفه للنزول، وبعدة طلقات ينتهي من أمره، ثم يدفعه إلى البحيرة، ولتظهر جثته بعد هذا أو لا تظهر ، فلا أحد شاف ولا أحد درى! والحكومة أبدا غير حريصة على حياة المجرمين والمشتبه في أمرهم، ولا يمكن أن يثبت أي تحقيق يجري طرف مسئولية عليه أو على أحد.

وبعدد هائل من هذه - الفسح - التي أصبحت بعد هذا معروفة ومشهورة، استطاع المأمور الهمام أن يتخلص من عدد لا بأس به من المجرمين السابقين والحاليين والمشتبه في سوابقهم أو لوائحهم، حتى أصبحت سيرة المأمور كقاتل أكثر سريانا على الألسن من سيرة أي ابن ليل عتيد. وكان يصله ما يقوله الناس، وكان يضحك ضحكا يسمع من شباك مكتبه في المركز ويجلجل. ربما كان يجد هو الآخر لذة في الخروج على القانون تفوق لذة تطبيقه ... المهم أنه كان في أحاديثه الخاصة ومجالسه وبين مرءوسيه لا يكف عن ترديد أن كل ما حدث لا يعد شيئا، وأن الفسحة الحقيقية التي لن يهدأ حتى يحققها هي فسحته مع الغريب أبو محمد، عميد أولاد الليل في المركز بل في المديرية، وربما في كل وجه بحري. ولم يكن راضيا أبدا عن مجهود مباحث المركز وعساكره ومخبريه ... في كل يوم كان يعقد لهم طابور توبيخ وتأنيب وتقريع. والعجيب أنهم كانوا يقولون إنه في طوابيره تلك يستعمل ألفاظا لا يمكن أن يستعملها جامعو أعقاب السجائر، رغم أنه، كما يقولون أيضا، يستمد نفوذه من صلته بالسراي والملك عن طريق قريبه هذا ذي المنصب الكبير ... ورغم الألفاظ والطوابير والتوبيخ؛ فقد ظل الغريب مختفيا لا يقبض عليه، حتى حين وصل الأمر إلى حد التحدي السافر، وأصبح المأمور ينفق من ماله الخاص - وربما ليس بالضبط من ماله الخاص - ويرصد المكافآت، ويؤجر العيون، ويلعب من بعيد على شلبي الذي كان معروفا أنه ساعد الغريب الأيمن ويغريه - ويبدو أن هذا السلاح نجح؛ فقد فوجئ أهالي المركز ذات يوم بأن الغريب محبوس في المركز ينتظر مصيره المعلوم المحتوم، وأن القبض تم بالاتفاق مع شلبي، وأن شلبي قد قبض.

والمفاجأة التي لم يكن أي من أهل المركز وقراه يتوقعها هي تلك التي جاءت مع غروب الشمس، حين قالوا إن الغريب قد هرب في عز النهار، وإن الدنيا قامت وراءه ولم تقعد بعد، وإن وقعة من يخفيه، أو لا يبلغ عنه أسود من شعر رأسه.

تلك كانت المفاجأة التي لم يفق منها أحد في المركز أو قراه، والتي ظلت حديث الناس أياما، والتي أصبح موقف الناس بعدها كموقف المتفرجين على عسكر وحرامية، ولكنها لعبة خطرة يشاهدونها، ويتحدثون عنها في السر وبأصوات منخفضة. وينهر الجار جاره أو الصديق صديقه إذا رفع صوته وتحدث، مذكرا إياه بالمخبرين الذين أطلقهم المأمور يتجسسون ويعدون الأنفاس، ويتسلمون غبار الغريب.

حتى نحن - شلة الطلبة والتلامذة الذين كنا نسهر على حائط الكوبري الأسمنت الناعم في ذلك المساء - نتسامر ونتحدث عن المطاردة الخطرة ونحن مطمئنون تماما ألا مخبر بيننا أو بوليس. كنا نتحدث في خوف وهمس، ويستغرقنا الحديث تماما حتى ننسى أنفسنا ولا نصحو إلا على تحذير صادر من أحدنا يقول: إن لليل آذانا، وإن من المستحسن أن نسد أفواهنا ونسكت.

وكنا نصمت ويبدأ خوفنا يطغى، فالدنيا كلها كانت قد عرفت أن الغريب لم يبارح المركز أو قراه؛ زيادة في تحديه للمأمور، وأنه يستعمل الأذرة الصيفي بعيدانها الطويلة وتشابكها الذي يخفي الفيل لو أراد ... وكان حديثنا عن الغريب خطرا من الناحيتين؛ كنا نخاف المأمور وعيونه من ناحية، والغريب من ناحية أخرى؛ إذ من يضمن أننا إذا تحدثنا لن تفلت من أحدنا كلمة ... كلمة قد يشيد فيها بالغريب، فيغضب علينا المأمور ورجاله وآه من غضبهم! أو قد نشيد فيها بالمأمور، فيغضب علينا الغريب، وآه من غضبه هو الآخر وسكينه التي كانوا يقولون إنه يربطها حول سمانة رجله! ... بل أكثر من هذا كانت جلستنا نفسها نوعا من التهور، سننال عليه بالتأكيد علقا وتأنيبا؛ فأهلنا وأهل البلاد كلها يحيون في حالة رعب من اللحظة التي عرف فيها أن الغريب قد هرب، وأنه يختفي في حقول الأذرة، وأنه يظهر بالليل أحيانا ليغتصب الطعام والنقود ... وكان رعبهم هو الآخر مزدوجا. وكأن كلا منهم كان يتصور أن المأمور سيوجه إليه تهمة التستر على غريب، هكذا لله في لله، ودون حتى أن يراه. ولهذا كانت قرى مركزنا تشطب من المغرب، والبهائم تروح قبل ذهاب الشمس، وتصبح الحقول والشوارع صحراء ليلية جرداء، لا حياة فيها ولا حس، ليس فيها سوى دوريات رهيبة مسلحة ومصفحة، تجوب ظلام الليل وصحراءه؛ بحثا عن الذئب المختفي في مكان ما منه.

ولأن كل هذا كان يدور في خواطرنا بسرعة إذا صمتنا، فصمتنا كان لا يطول ... في الحال نجد أحدنا قد بدأ يتحدث والآخرين قد بدءوا يشاركونه. وإذا بالحديث يعود رغما عنا سيرته الأولى، ويعود كل منا يسأل الآخرين، بينما هو في الحقيقة يسأل نفسه: ماذا يفعل الواحد منهم لو لقيه الغريب، وهو في طريق عودته إلى بيته؟ وعاصفة خوف هي التي كانت تجتاحنا لدى إلقاء السؤال. خوف مبالغ فيه؛ إذ الواقع أن هاتفا خفيا في قرارة كل منا كان يتمنى لو حدث هذا، ولكن يتمنى ماذا؟ كان مليون هاتف آخر يتصايحون فورا في جوفه، ويقتلون ذلك الهاتف الخافت. وبسرعة تتحرك دوافع الجبن لتأخذ من الشجاعة كل سماتها وأرديتها، وتحتل المقام الأول. وتجعل من دوافع الشجاعة حيثيات تهور وجنون وقلة عقل ...!

وفي تلك الليلة حين تكاثر الخوف حتى فض سامرنا ومجلسنا، نفس الخوف الذي كان يبقيه ويمنعنا من الحركة، وقام البعض يتشبث بزملائه ويحتمي بهم ويطلب منهم أن يوصلوه. وقام آخرون يختارون أسلم الطرق وأقربها إلى البيوت. وحين قمت بدوري لم أكن أعرف ولا كان حتى باستطاعتي لو أردت أن أتخيل أن الصدف اختارتني ليلتها؛ ليخرج علي الغريب من بين عيدان الذرة، ويجفف الدماء من عروقي بمثل ما حدث ...!

4

অজানা পৃষ্ঠা