الرسالة الخامسة عشرة
أول يوليو
أصيبت سيدة مسنة محبوبة في البلدة بمرض عضال، اشتد حتى قطع الطبيب من شفائها الرجاء، ورغبت السيدة إلى شارلوت أن تقضي معها دقائقها الأخيرة؛ وعلى ذلك ذهبت إليها، وإنني لواثق كل الوثوق بقدرتها على أن تمنح السلوى والعزاء للمريضة، وقد جربت هذا بنفسي حين كنت منحرف المزاج.
صحبت شارلوت في الأسبوع الفائت إلى قسيس كنسية القديس، في قرية بين الجبال تبعد عن هنا نحو ثلاثة أميال، وكانت أخته صوفيا معنا، فوصلنا هناك حوالي الساعة الرابعة، ودخلنا الفناء الذي تظلله شجرتا جوز، فرأينا الشيخ النبيل جالسا على مقعد أمام الباب، ولم يكد يرى شارلوت حتى نسي شيخوخته وهراوته، فخف مسرعا للقائها، ولكنها كانت أسرع منه فأقعدته ثانية، وجلست إلى جانبه، ثم قدمت له احترامات أبيها، وأخذت تقبل صبيا صغيرا بادنا يحبه الشيخ كل الحب. آه أيها الصديق، لو رأيتها وشهدت عنايتها بذلك الشيخ الواهي، وهي ترفع من صوتها لتسمعه على صممه؛ إذ تقص عليه نبأ كثير من الهانئين قضوا في شرخ شبابهم، ثم تمتدح له حمامات كولستادت، وتحبذ عزمه على تجربة مياهها في الصيف القابل، وتؤكد له في نفس الوقت أن صحته تحسنت كثيرا مذ رأته لآخر مرة. وقضيت تلك الفترة في تحديث السيدة زوجته، وهي تقل عنه بضع سنوات، وكانت تلوح على أسارير الشيخ علامات السرور، وبينا كنت أعجب بجمال شجرتي الجوز اللتين نتفيأ ظلهما الظليل، بدأ يشرح لنا بتطويل تاريخهما، فقال: «أما الأولى فلست على علم تام بأصلها، فالبعض يقول إن قسيسا ما زرعها، ويقول البعض الآخر إن خليفة ذلك القسيس هو الزارع. وأما الثانية التي في هذا الركن فعمرها يساوي تماما عمر زوجتي؛ أي إنها ستبلغ الخمسين في أكتوبر القادم؛ فقد غرسها أبوها في الصباح، وولدت له زوجتي في المساء، وهو سلفي مباشرة في هذا المكان. أما شغفه بالشجرة فلا يوصف، وإنني وايم الحق لأحبها أيضا، فتحتها وجدت امرأتي لأول مرة وطئت قدماي هذا المكان، جالسة على كتلة من الخشب تخيط بعض الثياب، وكنت في ذلك الحين - أي منذ سبع وعشرين سنة - معلما فقيرا.» وهنا سألته شارلوت عن فتاته فردريكا، فقال إنها ذهبت إلى المراعي مع هرسمث؛ لتشهد عملية تجفيف البرسيم، ثم عاد يكمل حديثه، فقص علينا استمالته سلفه وتحببه إلى ابنته، وكيف أنه عين نائبا له ثم خليفة بعد موته، ولم يتم قصته حتى دخلت فتاته يصحبها هرسمث الذي حيا شارلوت تحية مشتاق ودود. أما الفتاة فسمراء اللون، دمثة الأخلاق، رشيقة الحركات، ترضي الزوج الريفي كل الرضى. أما هرسمث فلم يخف تقربه منها وإعجابه بها، سيد حسن البزة، حلو المنظر، قليل الكلام، يقرب طبعه من الجمود. وحاولت شارلوت مرارا اجتذابه إلى حلبة الحديث فلم تنجح، وساءني منه ذلك؛ لأنني شعرت أن صمته لم يكن عن عجز أو خمول في الذهن، بل عن جمود في الحس وجفاف في الطبع، وقد برهنت الحوادث سريعا على صحة رأيي، فبينا كنا نتمشى جاذبت الحديث فردريكا، فتغيرت سريعا سحنته العابسة بطبيعتها وتجهم وجهه، حتى إن شارلوت جذبت ردني تلفتني بلطف إلى ذلك. إنما يؤلمني في أعماق قلبي أن أرى الرجال يناوئ بعضهم بعضا، خصوصا في زهرة الشباب، وصدر السعادة، فينهبون هذه الأيام القصيرة العمر، أيام الشمس والنور، في منافسات باطلة، ولا يشعرون بخطئهم إلا وقد سبق السيف العذل.
وأثر في هذا تأثيرا كبيرا، حتى لم أعد أتحمل السكون، فانتهزت فرصة الحديث على طعام المساء عن هناء الحياة وشقائها، لأذم الخلق السيئ والطبع النكد، فقلت: «من القضايا الشائعة أن أيام السعادة أقل من أيام الشقاء، على أنه يخيل إلي أن هذه الشكوى لا أساس لها؛ فإننا إذا تمتعنا بما أسبغ الله علينا من نعم، سالكين في ذلك سبيل الرضى والقناعة، كانت هذه الرقة في الطبع، والجلد على المشاق، خير ممهد لطريق الحياة الوعر، وأكبر باعث على احتمال آلامها التي لا مناص منها ولا مهرب.» فقالت زوجة القسيس: «ولكننا لا نستطيع دائما أن نسيطر على طباعنا، وجل السبب يرجع إلى فطرة الإنسان نفسه، وإذا اعتل الجسم تبعه العقل.» فأجبتها: «حسن يا سيدتي، فلنعتبر هذا الطبع أو المزاج نوعا من المرض، ولننقب عن علاجه.» فقالت شارلوت: «هذا هو عين الصواب، وإنني لأرى القسم الأكبر من العلاج متوقفا علينا أنفسنا، وعن نفسي فإنه إذا طرأ علي ما يعكر مزاجي، اندفعت أتمشى في الحديقة، فأغني طرفا من الأناشيد المنعشة، وبهذه الوسائل الفعالة يعاودني هدوئي وسكينتي.» فقلت: «هذا ما أعني تماما، إن الجهومة تقارن بالكسل والقعود؛ فهي دون ريب ضرب من الخمول، والإنسان بطبيعته خامل متوان. ولكنا إذا انتصرنا على هذه العادة السيئة، تقدمنا بسرور، شاعرين برضى خفي عن جهادنا هذا.»
وكانت فردريكا كلها آذان صاغية، وقال هرسمث معترضا: «ولكن سيطرتنا على أنفسنا ضعيفة، وأضعف منها كبحنا لعواطفنا وأميالنا.» فأجبت: «بأن تلك العادة السيئة موضوع بحثنا الآن، شيء يرغب كل امرئ في التملص منه، وإننا لا نقدر قوانا إلا بعد تجربتها، فإن المريض يستشير الأطباء ويصدع، دون اعتراض، بتناول التافه من القوت، والكريه من الدواء ليسترد قوته وصحته.»
ورأيت أن الشيخ يحني رأسه ليسمع حديثنا، فرفعت من صوتي موجها إليه الحديث: «إنه وإن كان نقد الواعظين على المنبر، وذمهم لكل رذيلة عظيما، إلا أنني واثق كل الوثوق أنه لم يقم قائم فيندد بالحقد والضغينة.» فأجاب: «هذا موضوع يعنى به من يعظ في المدن فقط، فإن بيئة القرى لا تفهمه، على أننا لا نهمل إدخاله إلى هنا حينا بعد حين، ولو من أجل امرأتي ونائب الأمير.» وأضحكنا تهكمه هذا ضحكا طويلا شاركنا فيه، ففاجأته نوبة سعال دام زمنا ما.
ثم جدد هرسمث الموضوع ثانية، فقال: «أراك يا سيدي تبالغ في اعتبار الجهومة رذيلة.» فأجبت: «كلا، فإن ما يضر بنا وبالغير يستحق اسم الرذيلة، ألا يكفينا شقاء أن نعجز عن إسعاد بعضنا بعضا دون أن يحاول كل منا أن يحرم الآخر من ذلك السرور الضئيل، الذي إذا ترك لنا فقد نستطيع التمتع به؟ أرني الرجل الذي يستمرئ العبوسة ثم يخفيها عن الناس، الذي يحمل عبأها كله على كاهله وحده، دون أن يعكر سلام من حوله، إن هذه العبوسة تنشأ عن شعور بالقصور والنقص، وطمع يترادف مع الحسد، يغذوها غرور باطل وأبهة كاذبة؛ فإننا لا نحتمل أن نرى غيرنا سعيدا دون أن يكون لنا في تلك السعادة نصيب.» وألفت شارلوت الحماس الذي كان يلهب كلماتي، فنظرت إلي باسمة، وسقطت دمعة كبيرة من عين فردريكا شجعتني على الاستمرار، «بل إنني لأدعو لهم بالحرمان من السرور، أولئك القساة يستبدون بالقلوب الرقيقة فيسلبونها سعادتها وهناءها الذي خلق لها وخلقت له، فليس ثمة من هدية مهما عظمت أو عطف مهما كبر يستطيع أن يعوض الهناء والراحة اللذين أفسدهما الحسد والظلم.»
وهاجت عواطفي، وتمثلت أمامي ذكريات الماضي المؤلمة، وامتلأت عيناي بالدموع : «في كل يوم يجب أن نسأل أنفسنا: ماذا نصنع لننفع أصدقاءنا؟ فلا نحاول فقط ألا نقلق من راحتهم، بل نجتهد أن نزيد في هنائهم باشتراكنا معهم فيه؛ لأنه إذا ما عصفت بالنفس العواصف الشديدة، أو أحرق الفؤاد الحزن المر، فليس في مقدرنا أن نمنحهم مسحة من السلوى، وحين ينشب المرض القتال مخالبه في البائس المسكين، الذي فتح له القبر دون الأوان، حين يتمدد متهالكا ضنى، يرفع عينيه المظلمتين إلى السماء، وعرق الموت البارد يرفض من جبينه؛ هناك تقف أمامه كمجرم قد اتهم نفسه وحكم عليها، فيتجلى لك جرمك، ولكن ... سبق السيف العذل، فأنت تعلم أن قد فات الوقت، وعجزت عن العون، بل أنت تحس من أعماق نفسك أن كل عطاياك وحسناتك لا تجدي الآن، فلا هي برادة الحياة، ولا واهبة بعض العزاء الوقتي للنفس الراحلة.» وذكرت وأنا أنطق بالكلمات الأخيرة مشهدا كهذا كنت حاضره، فأثر في نفسي بكل قواه، فتناولت المنديل أكفكف العبرات، وانسحبت فجأة، فلم أفق إلا على صوت شارلوت يستحثني للرواح.
آه ما أعذب لومها لي في الطريق! فقد أخذت تبين لي أن ذلك الحماس، والتأثر العميق الذي يهزني حين أدخل في جدال لا يلائمني، بل يضر بي. ثم طلبت إلي برفق أن أخفف من تلك الحدة التي تأكل جسمي وتقصر أيامي.
অজানা পৃষ্ঠা