تقفين تحت سقف المثمن الرائع وتلمسين الأعمدة، وتنفلت من يدك الحفيدة جارية خلف فراشات صفراء وخضراء وزرقاء بلون «فيونكة» شعرها الملونة، تمسكين بيدها وتجرينها تحت الخيمة الرخامية وأكاد أسمعك تشرحين لها وتفسرين وأنت تمرين بيديك على النقوش العربية التي تتثنى خطوطها تارة كأمواج البحر وتتدلى تارة أخرى كأوراق الشجر وفروعه وتتكور وتمتلئ كعناقيد الكرم، لكن الطفلة تتابع الفراشة ولا تتابعك، ولو لاحقتها إلى الخلف فلربما رأتني مختبئا وراء شجرة ضخمة تتقافز منها وإليها العصافير التي تزقزق بجنون، ولو رأتني البنت الصغيرة لهتفت منادية «جدو» العجوز أو جرت نحوي ووقفت أمامي صامتة واضعة إصبعها في فمها، عندئذ تأتين أنت أيضا وتتعرفين علي أو أعرفك بنفسي - وليتني أستطيع أيضا أن أقول: اليوم حققت لي الأمنية التي تمنيتها من سنين وسنين؛ أن أراك أمامي ويخاطب لساني لسانك وتلمس يدي يدك قبل أن يغلق علي القبر إلى الأبد - لكنك تتناولين يد الصغيرة وتمضين أمامك متجهة إلى اليسار حيث تشير الأسهم إلى معالم دول أخرى غير المغرب الشقيق. أركن إلى أريكة عدة دقائق وعيني تتابعك أنت والصغيرة، ثم أنهض وأسير وراءك خشية أن أفقد أثرك، ألاحظ الصغيرة تشد ثوبك وتنبهك إلى شيء. تربتين على رأسها وضفيرتها المتدلية على ظهرها وتميلين معها إلى اليمين، ثم تدخلين معها مرحاض النساء حيث تغيبان لحظات قبل أن تخرجا منه وتتجها مباشرة إلى الأمام، وتضيع فرصة رؤية وجهك فلا أرى - من مكمني تحت ظل شجرة جزورين عظيمة الجذوع والفروع - سوى ظهرك المنحني قليلا تحت وطأة الحدبة التي تعلوه، وتواصلين السير إلى اليمين وتعبرين ساحة مسورة تضم بيوتا تراثية قديمة مصنوعة من الخشب وتفوح منها على البعد رائحة الماضي الطاهر المبلل بعرق البسطاء وتدفئها أنفاس سكانها من الرعاة والفلاحين والصيادين. تمرين على هذه البيوت وتقفين قليلا أمامها، ثم تعرجين على الأبراج الثلاثة المرتفعة كالأقماع الحجرية الهائلة التي تمتد منها وتكاد تخرق سحب السماء أعمدة عالية وشامخة كالحراب، لا بد أنك عرفت أنها رموز على الكويت قبل عهد النفط وبعده، وما أبعد الفرق بين ما قبله وما بعده. •••
وتتجولين مع الصغيرة داخل السور وتحت بوابات المدينة القديمة والحديثة، ويرجع بي الفكر إلى السنوات التي قضيتها في جوارك وبالقرب منك، أتذكرين فزعي إلى الشرفة كلما سمعت وقع كعب حذائك الصارم - كمهرة عنيدة شرسة - على أرض الفناء الذي يفصل البيت الذي أسكنه عن بيتك، أتذكر أيضا كيف كنت تنادين على أمك أو شقيقك أو تكلمينهما دون أن تكترثي بإلقاء نظرة على المحب الواقف في الشرفة يتسول لفتة منك.
هل فهمت أيامها من أكون وماذا أعمل؟ وهل عرفت من شقيقك - الذي دق جرس بابي مرة وجاء يبحث عن كرته التي سقطت في شرفتي واغتنمت تلك الفرصة وأهديته آخر كتبي وعلى غلافه صورتي ونبذة عني - هل عرفت منه أنني أعيش لأقرأ وأكتب وأضطر في بعض الأحيان أن أقرأ وأكتب لأعيش، كم كنت تمرين على نافذتي المفتوحة في النهار والليل وترينني ساهرا على لمبة مكتبي، وربما رأيت من بعيد رفوف الكتب التي تطوقني من كل الجهات، فهل سألت نفسك يوما من أكون؟ لم أكن مجرد كاتب قصص ومسرحيات ومقالات، ولم أكن مجرد رحالة بين البلاد والعصور والحضارات، ولا مجرد مترجم لشعراء وحكماء من الصين واليونان وبلاد الإنجليز والفرنسيين والجرمان، إنما كنت - ولك العذر لو كنت قد فهمت هذا وأدركه بصرك الحاد - حارس قبور يختنق في تراب الكتب وتراب أصحابها الأموات-الأحياء من مئات أو ألوف السنين. نعم كنت الحارس الأمين على قبور هؤلاء الأعزاء، أناجيهم بالنهار وأسامرهم بالليل وأفتح مدافنهم - أقصد كتبهم - وأتركهم يكلمونني ويضعون في يدي وقلبي تجاربهم ويواسونني وكثيرا ما يلعنونني ويعنفونني ويطردونني فأسترحمهم وأنا أقول: ليس لي سواكم، أنتم ملاذي في الحياة، وأملي بعد الموت أن تضموني إليكم ولا تضنوا علي بأن أكون عضوا صغيرا في ناديكم أو مجمعكم أو مدينتكم الفاضلة. هكذا كنت في تلك الأيام يا عزيزتي، وربما لهذا السبب تجاهلتني وأزريت بي ورفضتني عندما تقدمت لخطبتك - على استحياء ومن خلال بطاقة أرسلتها - و يا لخجلي من خجلي الفطري عندما أتذكر الآن ما فعلته قبل أربعين سنة! مع الرجل الطيب بواب عمارتكم فلم يأتني رد حتى هذه اللحظة التي أتعثر فيها وأنا أسير وراءك وأمني النفس بأن أرى وجهك وأناديك وأبادلك كلمة واحدة قبل أن أغيب في قبري إلى الأبد. •••
وتعرجين يمينا في اتجاه نماذج أخرى لمعالم مختلفة من بلاد شقيقة، تفتحين حقيبتك البنية الأنيقة وتناولين الحفيدة كيسا مطويا على سندوتش كبير، ثم تنتظرين قليلا وأنت تسندين ظهرك على إحدى الأرائك حتى تفرغ الصغيرة من وجبتها فتعطينها كيسا مملوءا بشرائح الشيبسي ثم كيسا آخر أخمن من بعيد من مخبئي في ظل شجرة وارفة ربما تكون شجرة كافور عتيقة؛ أنه يضم قطع الشيكولاتة والبونبوني الصغيرة، وتتجولان بين المعالم الدالة على إحدى دول الخليج، بين إبريق القهوة النحاسي الضخم ومعه مجموعة من الفناجين، وبئر دائرية واسعة جف منها الماء وامتلأت بالأوراق والأحجار والنفايات والفضلات، وساقية هائلة تقفين مع حفيدتك مبهورتين أمامها وتحاولين أن تشرحي وتفسري كما تدل على ذلك إشاراتك بالذراعين واليدين والأصابع. كل هذا وأنت تديرين ظهرك فلا أرى سوى انحناءة الحدبة في أعلاه، والشعر الفاحم الذي تخللته الشعرات البيض كأنها العروق الفضية في منجم حجري أسود، ولأني لا أرى وجهك فإنني أتصوره أمامي كما أشرق علي في ذلك اليوم البعيد وفي تلك اللحظة التي احتضنت الأزل والأبد وصارت بيت الخلود، أنت لا تتذكرين بالطبع تلك اللحظة ولا ذلك اليوم، وأنا لا أعيش إلا بهما وعليهما، ولا يواصل قلبي نبضه إلا بحرارتهما ودفئهما الذي لم يخب ساعة واحدة من حياتي، ولا فارقتني شعلتهما في أي مكان أو أي بلد عشت فيه أو عملت. دعيني أذكرك بذلك اليوم البعيد وتلك اللحظة الخالدة، دعيني أحك لك عما فعلا بي وما زالا يفعلان ريثما تستريحين مع حفيدتك في جلستكما على الأريكة حينا أو على السور الواطئ الذي يطوق البئر الواسع الجاف، وتقومان بعد فترة قصيرة وتتجولان في المكان المشبع برائحة الصحراء الشاسعة وعرق البدو الذين أحالوها إلى جنات وحدائق ومدن متدفقة بالحياة والعمل والجمال. تتابعكما عيناي من بعد قريب، وتقتفي أثركما وأنتما تمران على شواهد ونماذج ومعالم أخرى للبلاد التي تحاول أن توفق - منذ ظهور النفط - بين الأصيل والحديث، وتثبت أقدامها في الماضي العريق والحاضر المعاصر. أسمع صيحة تذمر تصبح بعد قليل شكوى استغاثة وأنين دعاء، وأراك تنحنين على الصغيرة ، تمسحين على شعر رأسها وضفيرتها وتربتين بحنان على ظهرها، لكن الاستغاثة والأنين يستمران فلا تجدين مناصا من حملها على كتفك حيث تريح رأسها وتطوق رقبتك بذراعيها، وتجلسين على طرف سور لا يرتفع أكثر من أشبار قليلة عن الأرض، وربما يكون حلقة دائرية تحيط بسور آخر مرتفع يوحي بأنه كان سور قلعة قديمة؛ إذ ينتهي بأبراج دقيقة موزعة على أطرافه المسنونة كالمثلثات الزاهية من كل نواحيه. نامت الصغيرة على كتفك، وها أنت تنقلينها إلى حجرك وتمرين بيدك الرحيمة على صدرها وتنحنين عليها بين لحظة وأخرى لتقبلي ثغرها ووجنتيها المحمرتين من حرارة الشمس، ومن مجلسي على الأريكة الخشبية تحت ظل الشجرة الضخمة أتابعكما بعيني اللتين تطلان في نفس الوقت على ذلك الأصيل البعيد وتلك اللحظة التي لم تزل تتوهج في داخلي كأنها نجمة الحقيقة التي لا تغيب.
كنت قد سكنت - قبل أيام قليلة ودون أن أدري - إلى جواركم، وشاء الفضول وحب الاستطلاع الخجول ذات أصيل أن أنظر من نافذة حجرة النوم الصغيرة لأستكشف على استحياء عالم الجيران الجديد. هل كانت مصادفة رتب القدر ضرورتها المحتومة؟ وكيف يتفق لقاء الأعين في لحظة واحدة قصيرة كأنها بداية تاريخ ونهايته، ومنطلق حياة ومنتهى مأساتها، وتلاقي فرحة طاغية مع غصص تعاسة وحسرة لا آخر لهما؟ كنت أنظر - صدفة ودون قصد - إلى الدور الأعلى في البيت المجاور والمواجه لي، وكنت أنت هناك - وبحكم الصدفة - تطلين من وراء الزجاج. حدث بسيط ومكرر يمكن أن يحدث للآلاف في آلاف الأيام من الماضي والحاضر والمستقبل. فما الذي جعلها لحظة خالدة في حياتي؟ ما الذي جرى لي حتى تصبح هي حاضري الأوحد المستمر منذ ذلك الأصيل، بل منذ تلك اللحظة العابرة كأنها ومضة شمعة أو نجمة بعيدة، ولمحة برق خاطف لم يكف أبدا عن اشتعاله وارتعاشه في سماء القلب؟ هل تصورت في تلك اللحظة التي رأيتك فيها من نافذة شرفتك العالية أنك ترسلين إلي ابتسامة أعذب من شعر العالم كله؟ وإذا كنت قد أخطأت ولم تكن الابتسامة سوى وهم توهمته ، فهل كانت رؤيتي لوجهك الطفولي المستدير من وراء الزجاج كافية لكي تحمل إلي مئات وعود الحب وعهود الوفاء، ومئات رسائل البهجة والسعادة؟ وكيف أفسر ما حدث وهو لم يدم سوى لحظة واحدة قدر لها أن تصبح بالنسبة لي بيت الأبدية؟ آه يا حبيبتي المفقودة إلى الأبد! كأنها كانت رؤيا في ليل مظلم، أو حلما مقدسا امتلأت كأسه بالبهجة والنشوة وفاضت حتى الحواف بسعادة غير أرضية ولا يستحقها واحد من أبناء الأرض الفانين، وها أنا بعد مرور أربعة عقود كأنها أربعة أغلال ثقيلة قيدتني في أسرها أسائل نفسي وأعاود السؤال بينما تتوهج تلك اللحظة في عمق أعماقي الباطنة كنجمة الحقيقة الساهرة المؤرقة على الدوام: هل كان حلم يقظة لم أصح منه حتى الآن؟ وابتسامتك التي لم تزل تأتيني مرتعشة عبر عواصف العمر وظلمات أيامه ولياليه، لماذا لا تنفك تنفذ في قلبي كسهم مشتعل يتوغل في صميم الدم واللحم والعظم دون أن يجرح أو يخدش، بل يظل يداوي ويواسي ويسكن ويطمئن؟
لتكن حلما أو رؤيا، شعاعا أو شمعة لم تخب كما خبت قبلها مئات شموع الماضي والحاضر، ألما أو أملا أو وهما محزنا أو مضحكا، لتكن ما شاءت لها الصدفة القدرية أن تكون، تلك كانت اللحظة التي خلدتها وخلدتك معها في باطني، في كل مكان أو بلد زرته أو عشت فيه وعملت، في كل خطوة مشيتها ورحت أتلفت بحثا عنك في كل الوجوه والعيون، في كل الطرق ومنعطفات الطرق وكل محطات الكون المتناهي اللا محدود. •••
أخذ يفرك عينيه محاولا أن يصحو من حلمه السعيد البعيد. مسح بكفه على رأسه ووجهه وأسنده على ذراعه وهو يرمق الجدة الحبيبة وحفيدتها في جلستهما على السور الجيري الأبيض بجانب البئر الجاف وقال لنفسه: لكأني رأيتها تجلس معي على هذه الأريكة، نعم تجلس بجواري وأواجه وجهها وعينيها وأقول لها وتقول لي. معجزة تمت في الحلم كهذه المعجزة التي تتراءى أمامي الآن، وماذا يقول اثنان يلتقيان بعد أربعين سنة لم ير فيها أحدهما الآخر إلا عرضا وبالصدفة؟ وهل أذكر الآن ما قلته للصامتة البعيدة عني وإن كانت جالسة إلى جواري على هذه الأريكة الحديدية ذاتها؟ قلت وقلت وقلت. رحت أشرح وأفسر وأستغفر وأندم وألعن قدر حياتي وكوكب النحس الذي ولدت فيه يوم قضي علي أن أولد، وأتكلم دون توقف عن طريقي المملوء بالعثرات وسيرة حياتي التي ضيعتها ولا أذكر أنني عشتها أو جربت فيها ساعة هناء حقيقي. رأيت بنفسك كيف كنت وحيدا منزويا معتكفا ممتثلا لقوة أكبر مني، قوة تلبستني وحرضتني على أن أعيش متوحدا في سجن القراءة والكتابة، بالطبع لم أكن مقطوعا من شجرة، لكن الشجرة بكل غصونها وفروعها لم تكلف نفسها بأن تلقي علي ظلالها، هكذا عشت على مرتب ضئيل بائس، تضاف إليه من هنا أو هناك عدة جنيهات ندر أن تزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة، وبعد أن أحببتك بجنون تقدمت إليك كشبح خائب لم يتوقف لحظة ليسأل نفسه كيف ومن أين؟ مع أني كنت قد جاوزت الثلاثين وحصلت على أعلى شهادة وبدأت أكتب وأكتب وأترجم وأشارك بقدر ما أستطيع، وماذا أفعل في طبيعة ورثتها وعجزت عن تغيير بذورها وأصولها الكامنة المستقرة في خلاياي؟ لم أجرؤ مرة واحدة من المرات - التي كنت أراك فيها صدفة على محطة «الباص» أو في طريق عودتك من كليتك - لم أجرؤ على التقدم إليك والكلام معك. ربما لم تحسي أبدا بالزلزال الذي كان يرجني ويهزني ويرسل كل توابعه لتنفضني وتضرب قلبي وعقلي بلا رحمة. مع أن أمك التي كنت أكلمها وأحس أن وجهها شبيه بوجه أمي قد ذكرت لي اسم كليتك، ولم تكن زيارتك والحديث معك ليكلفاني أكثر من فعل حازم لم تقو عليه عزيمتي التي يشحب وجهها كلما وقعت عيني عليك، وبعد أن تخرجت ذكرت لي الأم الطيبة أنك توظفت وحددت مقر عملك، لكن الحرج انتابني وخفت أن أوقعك في الحرج أمام زملائك وزميلاتك. نعم يا عزيزتي الغالية! تركت أفراس الفرص تمر من أمامي وتعبرني دون أن أمد يدي وأشدها من خصلات شعرها لتتوقف حتى أتسلق ظهرها وأمضي بها بلا تردد لكي نطرق أبوابك، لم أفعل شيئا من هذا، هل تغفرين اليوم وتسامحين؟ أم أنك لا تتذكرين شيئا عن ذلك الأورفيوس البائس والهائم في عالمه السفلي؟ وماذا يجدي الآن أن أحكي لك حياتي بعد أن عرفت بزواجك وتركت مسكني بجوارك وانتقلت من خزانة الكتب القومية التي كنت أعمل بها لأعمل بالجامعة ثم انتدبت للخرطوم وصنعاء؟ وأقدم استقالتي من عملي وبلدي وأذهب للعمل في الكويت، وأتزوج وأنجب بنتا وولدا والأولاد، كما تعلمين، هموم، وأذوق طعم السعادة الوهمية حين تقبض اليد على الريال والدينار والدولار، ما جدوى أن أحكي لك عن كل هذا وأنت لا تعرفين أنك أنت الحضور الحي في كل نبضة قلب يتلفت كل لحظة إلى تلك اللحظة التي اخترقت كياني كسيف أو سهم نوراني نفذ فيه على متن شعاع قاس ورحيم من عينيك؟
هز رأسه وعاد يفرك عينيه وهو يحاول أن يصحو من حلمه أو وهمه، وعنت منه لفتة إلى اليمين وإلى الأمام فوجد السور خاليا من كل أثر للجدة والحفيدة. خيل إليه أن اللحظة الزمنية تحولت إلى غراب أسود كبير من تلك الغربان التي كانت تحوم في سماء الحديقة وتنعق في سمعه: اصح أيها الرومانسي الخائب! قم يا «أورفيوس» البائس وابحث عن «أويريديكه» التي اختفت فجأة من عالمك السفلي! •••
كاد يجن جنونه عندما تأكد له أن الحفيدة والجدة قد غادرا المكان. أي شؤم هذا؟ هل كان من الضروري أن أغيب عن حاضري الوحيد وأغفو هيهات أرى فيها نفس الحلم الذي طالما تجلى في نومي وأحلام يقظتي ثم عبر كالريح التي مرت على العشب اليابس؟
جرى، بقدر ما أسعفته السن، نحو السور الذي كانا يجلسان عليه قبل قليل، تلفت حوله فلم يجد سوى الأشجار العالية الصامتة وبعض معالم إحدى الدول الخليجية إلى اليمين، العمودان الشامخان اللذان تتوسط كلا منهما كرة زجاجية ضخمة، مغطاة بقشور أشبه بقشور السمك، وتمرق منهما حربة فارعة تكاد تخرق السحاب. رجعت نظراته تفتش في المكان الذي يقف فيه. لا أحد يلوح في أفق البصر سوى عاشقين فقيرين من تلاميذ المدارس يجلسان متعانقين تحت مظلة خشبية، أخذ يجوب المكان ويدقق النظر في البئرين الجافين كأنما ينتظر أن يكونا مختبئين فيهما، وخرج من البوابة الهائلة التي يعلو إفريزها نسر عظيم فارد جناحيه وعلى صدره مركبان شراعيان فوق موضع القلب مباشرة، كانت الشمس قد مالت للمغيب وسكبت أشعتها الذهبية في كل مكان، وكان لا بد من الخروج من حديقة الصداقة والبحث في الحدائق الأخرى لبلاد أوروبية وآسيوية. فكر أن يمر أولا على تمثال الفلاحة القريب الذي طالما وقف هو نفسه مذهولا أمامه، وطالما أعجب بوقفتها الشامخة وابتسامتها الطيبة ونظرتها المتطلعة - تطلع أجدادها وجداتها - إلى البعيد والما وراء، وأسرع إلى هناك في الجانب الشرقي الأقصى من الحديقة وأخذ يذرع المكان جيئة وذهابا دون أن يجد أثرا للغائبين في غفلة منه. اتجه عبر شارع طويل مرصوف رصفا حديثا إلى قلب الحديقة الذي يحتله كازينو ترتفع فيه الأصوات الزاعقة على الدوام بالأغاني الهابطة، وسار يمينا إلى مبنى المراحيض مرجحا أن تكون الجدة قد أخذت الصغيرة إلى هناك، لكنه بعد انتظار قلق لبضع دقائق مضى يخترق مجموعة من المظلات البديعة التي اجتمع على أرائكها الحديدية خلق كثير؛ آباء وأبناء يأكلون أو يشربون الشاي أو يلعبون الورق أو يثرثرون ويتنادون ويهتفون بأطفالهم الذين انهمكوا في لعب الكرة غير بعيد منهم، فتش في كل مكان وتفرس في كل الأوجه. كان الجميع ينظرون إليه في أسى ورهبة، ويشيرون بعد مروره أمامهم إشارات يمتزج فيها الأسف مع الدهشة والاستغراب، وصمم على التخلص من كل ذلك الزحام بالتوجه إلى التلة العالية التي تحمل نماذج مصغرة من بعض معالم فرنسا وألمانيا وهولندا، وكان من عادته أن يلجأ إلى إحدى الأرائك الحديدية المصفوفة إلى جوار بعضها تحت تعريشة عنب كبيرة ووارفة، وقبل أن يتجه إلى أريكته المفضلة مال على عمود خيل إليه أنه لم ينتبه إليه في المرات السابقة، كان العمود مثبتا على حامل حديدي أشبه بقاعدة أعمدة الإنارة، وفوقه لوحة نحاسية صفراء مؤطرة ببرواز منمق ومزخرف بالحديد المشغول بتفصيلات أوراق شجر وحبات أعناب متكورة وممتلئة، وقف ليقرأ ما كتب عليه بخط جميل وباللغتين الفرنسية والعربية: «إن القاهرة - التي يمكن أن نسميها بلغتنا المدينة الظافرة - قد استطاعت أن تقهر الزمن الزائل والنسيان لتصبح ركيزة من ركائز التاريخ والثقافة.» لم يكد يتم قراءة العبارات من نص خطبة عمدة باريس بمناسبة توقيع اتفاقية الصداقة بينها وبين القاهرة حتى فوجئ بيد صغيرة تجذبه من سرواله. أطرق ببصره إلى الأرض فوجد الصغيرة ذات الضفيرة المتدلية من خلف رأسها والوجه الشاحب المائل إلى السمرة والفستان الرمادي الذي تعلوه سترة زرقاء غامقة بأزرار صفراء على الجانبين. قالت وهي تشير إلى اللوحة العالية: من فضلك يا عمو ... مال عليها منحنيا بظهره فاردا كفه للامساك بكفها الصغيرة وهو يقول: أمرك
অজানা পৃষ্ঠা