قاطعه بشارة : وتزوجت وأنجبت مهندسا وطبيبا ومعلمة ترجمة ولغات، ومشى أبي على الطريق حتى سقط يوما أمام المذبح وهو يتلو ويعظ المؤمنين، لكن دعنا مني ومن أحوالي، ماذا فعلت أنت بعد سفري وانقطاعنا عن بعضنا لثلاثة أو أربعة عقود؟ أظنك تركت شقتك الصغيرة الجميلة التي كنت أزورك فيها.
قال جورج بعد أن اشتكى مني كل الجيران، الحقيقة أنهم اشتكوا من الساحرة الراقدة في هذا الصندوق لأنها لا تتركهم يهنئون بالنوم، أما أنا فكما تعلم عني، وحيد لا أهش ولا أنش، شبح هائم هو الخجل الفطري والحياء المجسد.
سأل بشارة: طبعا طبعا، وانتقلت إلى شقة أخرى؟
قال جورج: نعم، إلى شقة أخرى أكبر، في هذه المنطقة نفسها، كان شقيقي يسكنها قبل أن ينتقل إلى شقة أكبر في عمارة حديثة، آه، ربنا يحميك ولا يريك، شقة هي الجحيم في الصيف وزمهرير جهنم في الشتاء، لم يكن دخلي يحتمل الاحتفاظ باللؤلؤة الجميلة التي كنت تزورني فيها، لا تتصور يا أخي حسرتي عليها حتى اليوم.
توقف بشارة فجأة أمام بوابة حديدية سوداء تحصر مع سور من السلك باحة فناء صغير يفضي إلى عمارتين في الداخل. قال وهو يشير إلى الناحية اليسرى من العمارة المواجهة التي تمت تعليتها حديثا: وهذه هي شرفة لؤلؤتك الجميلة التي كنت تطل منها على النيل وعلى جيرانك الذين أزعجتهم وأزعجوك.
قال جورج وهو يقف مترددا ومذهولا أمام البوابة: وماذا تنوي أن نفعل هنا؟ هل ما يزال أقاربك هنا؟
قال بشارة وهو يرمقه بنظرة من يعاتبه ولا يصدقه: تقصد من بقي حيا منهم؛ الأم ماتت بعد مرض طويل، والبنات تزوجن وتفرقن كل في ناحية لم يبق سوى عزمي وجنتك.
تساءل جورج قبل أن يفتح صديقه البوابة الثقيلة العتيقة التي تبدو كأنها منتزعة من بقايا أثر إسلامي أو مسيحي قديم: هل تقول جنتي؟!
ضحك بشارة ثم وضع يده على فمه وهمس له: نعم جنتك، هل نسيت اسمها أيضا؟ أم نسيت أنني أعددت مفاجأة لك، وأنك سترى الآن جنتك وجارتك القديمة وتعزف أيضا أمامها؟ •••
قال لنفسه وهما يقطعان أول خطواتهما عبر الفناء المسور الذي اصطفت قصارى الزرع الصغيرة والكبيرة على جانبيه: كلا لم أنس الاسم يا صديقي ولكنني لم أعرفه أبدا ولم أسأل عنه، ولماذا أسأل عنه وأنا أرتعش وأنتفض كلما رأيتها ورجني تيار صاعق من عينيها الناريتين، وكلما قابلتها بمحض الصدفة أثناء ذهابها إلى كليتها أو رجوعها منها، فجأة على منعطف طريق أو في دكان من الدكاكين المحيطة أو حين تقع عيني في تاكسي أو حافلة ركاب على وجهها الأسمر المستدير بوجنتيها البارزتين وأنفها المتكبر الشامخ وفمها المزموم في عزم وإصرار يعلوه خطان منسحبان من تحت الخدين إلى الذقن المدبب النحيل؛ تستمر الرعشة والنفضة عدة أيام، وتتجدد كلما واجهتها بحكم قدر شقي أو سعيد، لا أحد يعلم بما كنت أفعله لأسكن الاختلاج المتواصل وأهدئ من لفح الحمى، كنت أسرع إلى سجني الحبيب الخانق داخل لؤلؤتي الصغيرة فأخرج الكمان من الصندوق وأحضنها أعلى الصدر وأجري القوس على أوتارها بما يفيض عن القلب ويلهمه الهاتف والخاطر؛ بلحن يتلوى ويتوقد بالنار وينبعث منه الدخان والشرار، ولحن ينسكب ويجري في هدوء وأسى ورضا وتسليم كمركب غامض ينداح فوق سطح البحر الساكن في يوم مشرق. كنت أحيانا أتمكن من تسجيل اللحن قبل تدوينه على النوتة، وأحيانا أخرى أصرف النظر عن ذلك وأستصغر شأن الكتابة والتدوين للحن المتوثب الهادر بشلال الدمع والغضب الممتلئ كليل غابت عنه النجوم بظلمات اليأس وكوابيسه، لم يخطر ببالي مرة أن أتجرأ وأسألها عن اسمها وأعرفها أيضا بنفسي، كنت أكتفي بالنظر إليها في صمت وأختزن حزني وعجزي وحيرتي وارتباكي في قرار عميق، أو أقف في شرفتي المطلة على شريط من سطح النيل لأنتظر ساعات؛ خطاها التي يدق كعبها العالي بلاط الفناء كخطى مهرة عنيدة أو فرس حرون، وأنتظر ساعات وعيني معلقة بالنافذة التي أبصرتها مرة تطل منها بمحض الصدفة، جيل خائب نحن وقليل الحيلة، قيده الخجل الفطري وألجمته التقاليد وغللت يديه ورجليه ولسانه مواعظ الآباء والأجداد والتزام الحشمة والحكمة. أين نحن من أجيال تالية حطمت القيود والأغلال وانطلقت تنهب اللذات المشروعة والمحرمة بقوة وشراسة ووقاحة وتبجح بالحقوق التي نسيت كل الواجبات؟ - هل أفسدنا شعر المرحلة وأدبها وأغانيها العاطفية وقصصها الدامعة المفجعة، ما الذي أضاعنا بالتحديد وأضاعني أنا دونا عن كل من عرفت من الصحاب والزملاء والأصدقاء؟ مع ذلك فالخجول العاجز الخائب لا يؤمن جانبه على الدوام؛ فكم من مرة دفعني دافع لا يقهر على الوقوف في الشرفة والعزف على الكمان كأنني على مسرح وأمام جمهور متحمس. إن أنس لا أنس تلك الليلة التي وقفت فيها تحت نافذتها بالتحديد ورحت أعزف كالمجنون لحنا لأغنية من أغاني أم كلثوم ولحنا آخر إذا لم تخني الذاكرة - ربما كان هو ضوء القمر لبيتهوفن - تصورت نفسي أتقمص شخصية روميو وأسترسل في الأداء تحت النافذة والشرفة الملاصقة لها، وماذا كان جزائي؟ فتحت درفتا النافذة فجأة ثم أغلقتا في عنف ولم يسعفني الوقت ولا العزف لأعرف إن كان هو وجه الحبيبة أو وجها آخر، بعدها بلحظات فتح عنوة شباك آخر في طابق أسفل الطابق الذي تعيش فيه المحبوبة المستحيلة، انفجر في الظلام صوت غاضب عارم يسب ويلعن: ناس لا عندهم دم ولا ذوق! انسحبت بطبيعة الحال إلى الداخل ولم أكرر المحاولة أبدا، واختمرت في ذهني منذ تلك الليلة، وبعد أن وصلتني شكاوى الجيران مما سموه وجع الدماغ، فكرة الانتقال إلى مكان آخر يتسع لألحاني وأحزاني، ومسكن آخر يسمح لي بالمران والتدريب المستمر بعيدا عن كل الآذان بقدر الإمكان.
অজানা পৃষ্ঠা