قال محاولا تهدئته: يبدو أن الإخلاص أصبح ذنبا يستحق أشد العقاب.
انفجر في غيظ ملتهب: المصيبة أنه مثقف ثوري، لو كان من إياهم.
قال ليخفي رعشة الخجل التي غمرته بقشعريرة برد مفاجئة: وربما كان السجن هو أهون عقاب. أمن على كلامه وهو يلعن زحام المرور في آخر الليل: منذ أن عرفته وهو لا يخرج من السجن إلا ليرجع إليه، وكلما سمعت الشرطة عن مؤامرة على نظام الحكم أو قبضت على تنظيم جديد كان في طليعة المقبوض عليهم، كم حذرته بغير فائدة.
سأل في حذر: حتى بعد السقوط والانهيار الفظيع؟
رد بضحكة مترجرجة في صدره كالنشيج: حتى صورة ماركس لم يرفعها من مكانها في صالة بيته. في آخر زيارة له قبل أن يحدث ما حدث لابنه قلت له: يا أخي ماذا يعجبك في هذه اللحية الفظيعة والعيون المخيفة التي يطق منها شرار الغضب والاستبداد؟ أتريد أن نتركها هنا حتى يسقط البيت على رأسك أنت وابنك؟ ألا تصدق أنه سقط إلى الأبد هو ومذهبه اللعين؟ ضحك كطفل عجوز عنيد: وهل سمعت عن نبي سقط تحت الأنقاض؟ ما بقيت الأرض وبقي الفقراء فلن يسقط نبي الأرض والفقراء.
قال في أسف يخالطه رنة الإعجاب والإشفاق: أراهن على أنه لم يرفعها حتى بعد العقاب الذي حل به.
قال الصديق بعد أن اجتاز إشارة المرور التي طالت وقفته أمامها: وأي عقاب؟ لقد باع كل ما وراءه وقدامه. حتى الأثاث والكتب والفرش الذي ينام عليه والسجاد الذي تبقى من أيام الزواج والذهب الذي تركته زوجته بعد وفاتها باعه قبل ذلك للإنفاق على تعليم ابنه الوحيد. حتى البيت القديم الذي ورثه عن أبيه لم يتردد عن بيعه لمواجهة المحنة الأخيرة، وبالطبع بأبخس الأسعار لأخس التجار. حاول أن يستبدل المعاش فقالوا: المعاش هزيل ومدة الخدمة لا تسمح. وحاول أن يقترض سلفة من البنك الذي يقبضه منه فطالبوه بضمانات مستحيلة، لم يجد أمامه إلا الأصدقاء الذين جاع وعذب معهم في السجن، ولكن أين هم الأصدقاء؟ هل تظن أن كلمة الصداقة تحتفظ اليوم بأي معنى؟
قال وهو يتأمل وجهه ويبتسم: أظن طبعا ما دمت موجودا يحمد الله.
قال بغير أن تنقشع سحابة الغضب التي تظلل ملامحه القوية: وماذا أفعل أنا وعشرات مثلي أمام هذه المصيبة؟ يعلم الله أنني لم أبخل بأي شيء. حتى آخر قرش جاءني من المحصول أعطيته له، وهو كل ما أملكه من الدنيا غير المعاش الذي تعلم مدى تفاهته.
قال له وهو يغتصب ضحكة تهشمت على فمه: وهل كنت أبقى في الإعارة لولا علمي بحقارته؟
অজানা পৃষ্ঠা