2
لم يتبق أمامه سوى ساعات معدودة قبل أن يستقل الطائرة عائدا إلى البلد النفطي الذي يعمل فيه، فإجازته لا تتعدى اثنتين وسبعين ساعة يسلم نفسه بعدها في الموعد المحدد ويوقع في دفتر العائدين، وقد قضى معظمها مع زوجته في مشاوير لا تنتهي لتجهيز الشقة الجديدة التي كادت تبتلع كل مدخراته للزمن العصيب. استأذن في قضاء ليلة الخميس مع أصدقاء العمر الذين تعودوا على اللقاء منذ أوائل الشباب، بشرط أن يستأذن مبكرا للقيام بالمشاوير المتبقية في صباح اليوم التالي قبل رجوعه إلى مقر عمله، وعندما عبر الممر الشاحب الضوء ووقف أمام باب الكهف - كما سماه الأصدقاء - وضغط على جرس الباب تساءل عمن تراه يكون بالداخل من الأصحاب الذين تفرق معظمهم في البلاد وغاص بعضهم تحت الماء أو استطاع أن يطفو على سطحه ويتحدى ويصنع الأمجاد. هل سيجدهم يتحدثون كما هي العادة عن محنة الأدب وأزمة الثقافة والحرب الأهلية الخفية أو المعلنة بين الكتاب والشعراء، أم سيجرفهم التيار إلى فضائح الفساد والانفتاح وسماسرة العصر الذين لم تنج منهم سوق الأدب والفن التي ترتفع فيها أصوات الشطار ويغطي الصوت المرتفع على الأصوات الهامسة التي آثر أصحابها أن يلزموا كهوفهم ويعملوا في صمت أو يستسلموا للصمت اليائس المترفع عن فتح فمه بكلمة أو آهة واحدة؟ لا بد أنهم يجلسون الآن في البار أو في سجن المرايا كما كان يحب ضاحكا أن يسميه. بعضهم أمامه زجاجة كوكا كولا والبعض يرتشف من الكأس المشعة والمشتعلة في الزجاج وفي الأحشاء على مهل، والأنا المتضخمة أو المنسحقة تنظر إلى نفسها في بقية المرايا فتنتشي أو تتحسر على حسب الأحوال.
هلل الصديق وأخذه بالأحضان، ومن الباب أعلن للجميع مفاجأة حضوره، وخطا إلى الداخل على مهل وألقى نفسه على صدور الحاضرين. قبله البعض في شوق وسلم عليه البعض دون أن يعرفوه أو يسمعوا عنه، ولم يلبث الجميع أن انصرفوا عنه إلى الصديق الجليل الذي توسط الحلقة وبدأ يستأنف حديثه الذي يبدو أنه أسر الجميع داخل دائرته السحرية وأزال المرايا المعهودة من الوجود: تصوروا الدوخة والهم الأزلي ، كل يوم ومن صبيحة ربنا عليه أن يدبر مائتين وخمسين جنيها، مائتين وخمسين على أقل تقدير، وأين؟ في القصر العيني لا في المستشفيات الاستثمارية.
قال الروائي الذي بدأ يلمع نجمه: الاستثمار هو الغول الذي يقبض الآن على كل شيء.
قال الصديق الجليل وهو يمسح رأسه الثلجي بيده القوية: حتى الدم، تصوروا؟ يدوخ الرجل طول النهار بحثا عن أكياس البلازما المطلوبة، يقف في الطوابير أمام أبواب المؤسسة فيقولون له نفدت الحصة الموجودة وعليك بالسوق، وفي السوق إذا ساعده الحظ يشتري الكيس الواحد ب...
قاطعه زميل طويل القامة أبيض الوجه لم يكن قد رآه من قبل وتكهن أنه طبيب: الكيس لا يقل ثمنه عن خمسين جنيها وهو غير مضمون.
سأل صديق قديم وهو يتفرسه بعينين أرهقهما تحقيق المخطوطات: ألا يحصل عليها من بنوك الدم؟ قهقه الذي تصور أنه طبيب وقال: يجب أن تضيف: بنوك الدم الخاصة، السمسرة هنا أيضا على أشدها، والأهم أن الدم في الغالب ملوث، أو على الأقل لم يخضع للرقابة الواجبة والتحليلات الضرورية للتأكد من صلاحيته.
قال صديق شاعر معروف بسخريته اللاذعة وطفولته الرعناء التي لا يرحم لسانها: البركة في الخصخصة وفي الثراء الفاجر والفقر الأشد فجرا الذي جلبته علينا.
تساءل بصوته الهادئ الذي ألفوا وداعته وغباءه معا: هل تقصد أن الفقراء هم الذين يتطوعون اليوم بدمائهم؟
ضحك الشاعر قائلا: وليتهم كانوا أصحاء، لكنهم مضطرون لبيع دمائهم لكي يعيشوا، الدكتور معه حق.
অজানা পৃষ্ঠা