طمأنتها وأنا أدعو الله أن يغفر كذبي: ربما يحضر اليوم ومعه الشهادة الكبيرة، خليك أنت في نفسك يا أمه وادعي له. - القلب دائما يدعو لكم أنت وإخوتك يا بنتي، وأخوك عبد الله، يا ترى يا بني أحوالك إيه؟ كنت أعلم أنه قاطعنا منذ سنين وأقسم ألا يعتب البيت منذ أن طرده أبي وقال له أمام القريب والبعيد: أنا بريء منك إلى يوم الدين. وسمعت من زوجي سالم الذي سمع من أصحابه على القهوة أن الله فتح عليه وحبب خلقه فيه واشتغل في المباني والسمسرة والشراء والبيع؛ لهذا قلت لها وأنا أستغفر الله أيضا من الكذب عليه وعليها: بخير يا أمه، وأحواله عال والفلوس تجري في يديه.
سألت في جزع: بعت لكم يا بنتي؟ - نعم يا أمي، كتب لسالم ويسلم عليك كثير السلام.
غامت في عينيها سحابة شك وعلى شفتيها ابتسامة وسألت: وأخوك الذي أخذوه في الجيش، أوحشني يا بنتي. - إجازاتهم قليلة يا أمه ومصيره يحضر ويأخذك في حضنه.
تطلعت في وجهي متشككة فأسرعت أقول: الجيش والبلد كلها واقفة في وجه الأعادي، ادعي له يرجع بالسلامة.
رفعت عينيها الضيقتين الكليلتين إلى السقف وتضرعت قائلة: ربنا ينجيه هو وأصحابه ويطمئن أهلهم عليهم، كان نفسي يا بنتي ...
انقضى الوقت إلى ما بعد المغرب في السؤال والجواب عن أخبار الحاضر والغائب وسيرة الأقارب والحبايب والجيران. مسحت وجهها وجسدها بالماء ونظفت الحجرة والسرير وقدمت لها جرعة الدواء التي رفضتها كما رفضت اللقمة التي جهزتها للعشاء ولم تشرب إلا شفطة من كوب العرقسوس، ساعدتها أن تصلب ظهرها على السرير وتوجه رأسها للقبلة لتؤدي صلاة التيمم وناولتها السبحة الطويلة التي تلمع حباتها السوداء الكهرمان. سكتت طويلا وغابت في النوم ثم صحت منه ونهج صدرها كالمجنون وانطلق لسانها بالشهادتين أكثر من مرة. أخفيت دموعي عنها مرات وحاولت أن أبدو طبيعية وأن أكلمها عن أولادي وعن الأيام والسنين التي ستجيء وستكون أحسن من الأيام والسنين التي ذهبت. شعرت أنها تستمع صامتة ولا تفكر في الرد علي. تمد أذنيها وتميل برأسها ورقبتها نحو السطح حينا وفي اتجاه النافذة حينا وكأنها تصغي لصوت تنتظره وتتوقع أن ينطلق بين لحظة وأخرى، وعندما غابت عني تماما وعرفت أنها دخلت في غيبوبة الاحتضار وطوقتها بذراعي وأسندت قلبها على قلبي رن صوته كالجرس الذهبي. فتحت عينيها ونظرت إلي كأنها تقول: ألم أقل لك؟ وأشرق فجر ابتسامة خاطفة وسعيدة على وجهها وفمها وهي تهمس: الديك أذن ...
اندفعت قائلة: هل أذبحه وأسويه بسرعة يا أمي؟
قطبت ملامح وجهها وتجعد جبينها ثم ما لبثت الابتسامة أن أشرقت على شفتيها كلمعة البرق عندما سمعت صيحته قبل أن تشهق شهقتها الأخيرة وتميل برأسها على صدري وأمر بأصابع كفي على عينيها وأغمض جفنيها لتنام في سلام، وعاود الديك صياحه من فوق السطوح وعلمني من يومها أن أبتسم وأفرح كلما سمعته وإن لم أعرف أبدا ماذا أرادت أمي أن تقول ولا أي وصية أوصتني بها على لسانه.
وها أنا الآن أصحو على صيحته من الكابوس الذي كان يبتلعني وأسمع ابنتي تهز كتفي وتهتف متعجبة: الفجر شقشق والظهر أذن وأنت نائمة؟ قومي يا شيخة قومي، الحاج عبد الهادي تكلم وعلى وصول، قومي اغسلي وجهك وافطري.
تشهدت في سري ورنت في سمعي صيحة الديك.
অজানা পৃষ্ঠা