فقال البطريرك: «إن ميخائيل اسمي وكنت لا أزال أسقفا، وأشهد أن مارية القبطية وهبت الفتاة تلك القرية. وأما منقريوس، فإنه قسيس طاء النمل وهو مقيم هناك حتى الساعة.»
فقال ابن طولون: «نكتفي بشهادتك.» والتفت إلى زكريا، وقال: «هل فرغت من حديثك يا أسمر؟»
قال: «كلا يا سيدي؟ لا أزال في أول الحديث، فهل أتمه؟»
وكان ابن طولون قد توسم الصدق في لهجته فقال له: «أتمه.»
قال: «ولرغبة مارية في رعاية هذه الفتاة وهبتني لها، وأمرتني أن أبقى في خدمتها حتى تشب وتتزوج، فأطعتها ولازمت البنت من طفولتها، ولا أزال إلى الآن، وسأبقى ما دمت حيا. فنشأت البنت في كنف تربية حسنة غرستها فيها والدتها - رحمها الله - فإنها كانت تقية طيبة العنصر. فنشأت ابنتها مثلها تحب الصلاة والعبادة، وفيها ميل إلى البر والإحسان، وبلغت هذه السن ولم تعلم بما في هذه الأسطوانة؛ لأن أباها كان يبالغ في إخفائها عنها وأنا صابر عليه؛ لعله يرعوي. فرأيته بعد أن ماتت زوجته أم دميانة قد عكف على التسري واقتناء الجواري وتعاطي المسكر والانغماس في القصف واللهو، والبنت تكره ذلك فيه وهو لا يلتفت إليها. وأخيرا أراد أن يزوجها بشاب على شاكلته هو هذا الواقف أمامكم - وأشار إلى إسطفانوس - تقربا لأبيه مع أن أباه تبرأ منه، فتواطأ مع إسطفانوس على إخفاء أمر الوصية والتمتع بالأموال، وكلاهما سكير فاسق.»
فلما وصل إلى ذلك تنفس الصعداء ليستريح، ثم تحول إلى سعيد فأمسكه بيده، وأتم حديثه قائلا: «وأما الفتاة فعرفت هذا الشهم ولا أزيدكم تعريفا بمناقبه، وكان مقيما عند جارهم أبي الحسن البغدادي وتواعدا على الاقتران، وكان هو يعمل في حفر العين بالمغافر. فعلم إسطفانوس بذلك وخاف إذا نجح سعيد في حفر العين أن يعظم في عيني الأمير ويأخذ دميانة، فكاد له كيدا لا يرتكبه أعظم الأشرار. أوصى بعض رجاله بأن يضع قصرية الجير في المكان الذي يعلمه الأمير حتى حدث ما حدث من إجفال جواده ووقوعه، وظن يومئذ مولاي أن ذلك من تقصير سعيد، فأمر بضربه وسجنه، ثم أطلق سراحه لأجل بناء الجامع. ولعل الأمير يذكر أني ذكرت له اسم سعيد وأنه أقدر من يبني الجامع على ما يريده مولاي.»
فهز ابن طولون رأسه موافقا.
فعاد زكريا إلى الكلام قائلا: «وبعد أن أوقعوا سعيدا في الفخ أرادوا إكراه الفتاة على الزواج بإسطفانوس، ولم يطعني ضميري على ذلك - وأنا عالم بالحقيقة - ففررت بها فخبأتها في حلوان وذهبت وأخذت هذه الأسطوانة لأطالب بحق الفتاة، ولما رجعت إلى حلوان رأيت الفتاة قد أخذها البجة سبية، فرأيت أن أوسط أبانا البطريرك في استنجاد ملك النوبة على البجة، فسرت إليه في دير أبي مقار، فأعطاني هذا الكتاب وفي ذيله توصية بي لملك البجة. فحملتها وكان يتعقبني جاسوس أرسله هذا المعلم في أثري - كما قال - وأنا لا أدري، ولما وصلت إلى الأهرام جاء برجاله للقبض علي، فلما تحققت وقوعي في قبضتهم أخفيت الأسطوانة والكتب في مدخل الأهرام، وقبضوا علي وسجنوني، ثم احتلت على الخروج بوساطة مولاي سعيد المهندس؛ لآتي بالكيس، فعثرت على مولاتي دميانة ومعها هذا النوبي (وأشار إلى سمعان) وهو الذي جاء بها من بلاد البجة. وعلم هؤلاء بخروجي فاحتالوا ليأخذوا الأسطوانة فلم يفلحوا ، وأرادوا الشر فعاد عليهم. وأنا لا أرب لي في كل ما تقدم إلا القيام بالمهمة التي عهدت بها إلى السيدة مارية، فقد تعهدت أن أخدم هذه الفتاة وأرعى مصلحتها، وقد بذلت جهدي في ذلك والأمر لمولانا.»
قال ذلك وتراجع ووقف والجميع سكوت كأن على رءوسهم الطير، ينتظرون ما يصدر من الحكم، فإذا ابن طولون يقول: «إن حديثك يا أسمر مع طوله لا يمل، لقد كشفت عن خفايا كثيرة.» والتفت إلى مرقس وإسطفانوس وقال: «هل لديكما ما تدفعان به عن نفسيكما؟»
وكان مرقس مطرقا يكاد يذوب خجلا، وقد ارتج عليه أما إسطفانوس فعظم عليه السكوت، فقال: «إن التهمة التي وجهها إلي هذا النوبي لا دليل على صحتها، وكيف يتأتى لي أن أدس قصرية الجير؟»
অজানা পৃষ্ঠা