وأنفق الملك ما شاء أن ينفق من الوقت غائبا عن نفسه وشاهدا لها، يحس في قوة لذة مؤلمة أو ألما لذيذا، قد فني في شهرزاد وفنيت فيه شهرزاد، فعرف الحب حين يبلغ أشد أطواره عنفا، وعرف الحب حين يبلغ أعظم أطواره رقة ولينا ولطفا. يجد ذلك كله في نفسه، ولكنه لا يحسن تصوره ولا تصويره ولا وصفه ولا التعبير عنه. إنما امتزجت نفسه بنفس حبيبته، فأصبحا حبا خالصا يسبح بهما زورق غريب في بحيرة غريبة وفي عالم ليس إلى تصوره ولا إلى تصويره من سبيل. عالم كان يقرأ عنه في الكتب حين كان المتصوفة يعرضون ما يعرضون من تلك الأطوار الغريبة التي لم يكن يتصورها ولم يكن يصدق أن إنسانا يستطيع أن يبلغها. أتكون شهرزاد هاديته إلى التصوف ومرشدته إلى الحقائق العليا وإلى عالم المعرفة الذي تطمح إليه نفس الإنسان طموحا غامضا وتشقى لأنها لا تبلغ منه ما تريد!
ومهما يكن من شيء، فقد أخذ الملك يثوب إلى نفسه قليلا قليلا، ويجد في هذا ألما ممضا، ويحس كأنه يدفع إلى عالم لا عهد له به، وكأن نفسه قد أصبحت غريبة في هذا الجسم الذي ترد إليه، وكأنه قد ارتقى في الجو إلى أبعد ما يمكن أن يرتقي، ثم أهبط فجأة إلى الأرض، فكاد يختنق من سرعة الهبوط، وكادت نياط قلبه أن تتقطع من شدة ما حبس عنه الهواء.
وأخذ الملك يحس كأن شهرزاد إلى جانبه تجد مثل ما يجد، وتألم مثل ما يألم، ويعاودها الشقاء كما يعاوده الشقاء، ثم ينظر فإذا هو إلى جانب شهرزاد قد وضع يده في يدها ينظر إليها دهشا وتنظر إليه دهشة، والزورق يسبح بهما دائما في الماء والضوء والموسيقى والغناء. هنالك يسمع الملك صوت نفسه وهو يسأل شهرزاد وكأنه يأتي من بعيد: «أين نحن؟! ماذا نسمع؟! وماذا نرى؟! ألا تنبئينني آخر الأمر من أنت وماذا تريدين؟!» ثم يسمع ضحك شهرزاد ساخرا ساحرا وصوتها مداعبا ملاعبا وهو يقول: «لقد رجعت إلي مولاي ورجعت إليك بعد غيبة طويلة.»
انظر! هذه شهرزاد تتحدث إلى شهريار في زورق من زوارق القصر على تلك البحيرة التي أشرف عليها القصر يوما ما، ومد إليها وما زال يمد إليها يدا كأنه يريد أن يهوي إليها أو أن يأخذ منها شيئا. «انظر يا مولاي! أترى إلى هذه الأسراب من الزوارق تزينها الغصون الخضر والورق النضر والزهر البهيج! إنها تسبح فيها كما يسبح هذا الزورق، وفيها أزواج من الفتيات والفتيان قد نعموا كما نعمنا وألموا كما ألمنا، وهم يعودون إلى حياتهم الهامدة الجامدة الراكدة كما نعود إليها، وفي نفوسهم مثل ما في نفوسنا من الحزن، وفي قلوبهم مثل ما في قلوبنا من الأسى. انظر يا مولاي! املأ عينيك مما ترى، وأذنك مما تسمع، ونفسك مما تشهد، فلن يبقى لك من هذا كله إلا الذكرى. انظر يا مولاي! بحيرة من ماء يغمرها بحر من ضياء، وبحر من موسيقى، وبحر من غناء، ويقوم عليها إلى حين قصر ملك من الملوك شقي فيه وسعد، ونعم فيه وابتأس، ثم خرج منه فخرج من سعادة الناس وشقائهم، ومن نعيم الناس وبؤسهم حينا طويلا أو قصيرا، ثم هو يعود إليه ليستأنف فيه حظه من سعادة الناس وشقائهم ومن نعيم الناس وبؤسهم.»
قال الملك في صوت حزين كأنما يأتي من بعيد: «أليس يمكن أن ننأى عن هذا القصر إلى آخر الدهر؟!»
قال شهرزاد: «ليس ذلك في طاقة القصص يا مولاي؛ وإنما القصص فرجة من حياة الناس تطل على عالم المثل العليا، يخرج الناس منها ليعودوا إليها. هلم يا مولاي! ألا ترى أن الزورق قد انتهى بنا إلى حيث دعانا إلى نفسه منذ حين؟! ألا تسمع دعاء القصر؟! إنه يلح علينا في أن نصعد لننعم كما كنا ننعم، ونأسى كما كنا نأسى.»
وتنهض شهرزاد وتأخذ بيد الملك، وإذا هما في ذلك البهو الذي تناءت أرجاؤه، وتباعدت أطرافه، وأحاطت به البحيرة من جهاته الثلاث، وغمره ذلك الجو الغريب من الموسيقى والغناء، وإذا شهرزاد قد أجلست الملك في مجلسه ذاك وجلست إلى جانبه رفيقة به عطوفة عليه، تسأله بصوتها الهادئ العذب الذي يمتزج بما حوله من الموسيقى: «أيرى مولاي أن شهرزاد قد وفت بما قدمت له من وعد؟»
ثم ينظر الملك فلا يملك أن يدفع صيحة منكرة ملؤها الدهش والحنق والغيظ: «ماذا؟ أين أنا؟» ولكن رئيسة الوصائف تتقدم إليه فتحييه ثم تقول: «أرجو أن يكون مولانا قد أنفق وقتا سعيدا.»
7
وأوى الملك إلى مضجعه من ليلته تلك، وأحب شيء إليه أن يعود إلى ليل الناس، فينام كما ينامون، لا يعتاده الأرق ولا يوقظه الطيف ولا يسليه القصص النائم أو القصص المستيقظ، فنفس الإنسان سئوم، وقدرتها على احتمال الأعاجيب محدودة، وقد احتملت نفس شهريار من الأعاجيب أكثر مما كانت تطيق، فليعد رجلا من الناس، وليحي بغرائزه الجامحة وعقله المتواضع الضئيل كما يحيون، من له بذلك؟! وما سبيله على النوم؟! وما سلطانه على الأطياف؟! إنه لمغرق في نومه، قد فقد فسه وفقدته نفسه، ولكن هذا صوت الطائف يبلغ أذنيه، وهذا شيء كأنه يد الطائف يمس كتفه، وهذه الكلمة تلقى في روعه: ما أسرع ما سئمت قصص شهرزاد! أسرع فإنها توشك أن تتحدث إلى نفسها، وينهض الملك مسرعا لا يلوي على شيء، فيسعى من غرفته إلى غرفة الملكة، ويمر بأحراسه وبأحراس الملكة غير ملتفت إليهم ولا حافل بهم، وينسل إلى غرفة الملكة رفيقا رشيقا حتى يأخذ مجلسه ذاك الذي تعود أن يأخذه كأن العهد به لم ينقطع، وإذا هو مصغ قد جمع نفسه كلها وضم بعض أجزائها إلى بعض، كما تنضم أوراق الزهرة التي تنتظر لتتفتح أن تمسها قطرة الندى. وهذه قطرة الندى تمس نفس شهريار؛ فهذا الصوت المعروف المألوف يقول: «فلما كانت الليلة الرابعة عشرة بعد الألف قالت شهرزاد.»
অজানা পৃষ্ঠা