قالت شهرزاد في لهجة التي لا تكترث بما تسمع ولا تهتم لما تقول: «يا عجبا! أنى لنا هذا الزورق، وأنى لنا هذا النهر الذي ننحدر فيه، وأنى لنا هذه البحيرة التي نقبل عليها؟! انظر أيها الملك السعيد»، قالت ذلك وأشارت أمامها بيدها، ونظر الملك فلم تبتهج نفسه لما رأى، وإن امتلأت إعجابا به وعجبا له.
فقد رأى النهر يتسع من ضيق، وينفرج من تقارب، ويشتد البعد بين شاطئيه حتى يمتزج بالبحيرة امتزاجا، ورأى وجه النهار قد امتقع وأسبغ عليه شحوب عجيب يشيع في النفس ألما هادئا وحزنا فاترا، ولكنهما على ذلك يؤذيان النفوس، وأحس كأن كل شيء من حوله قد أدركه شيء من ذبول؛ فالنسيم فاتر فيه شيء من حرارة مؤذية، والأمواج متضائلة تصطفق اصطفاقا خفيفا كأنما تحاول أن تشكو آلاما خفية، فلا تستطيع الجهر بما تجد إلا في مشقة شاقة وعسر عسير، والطير تحاول أن تتغنى صافات في السماء أو راقصات على الغصون، ولكنها تتغنى فاترة حتى كأن غناءها أشبه شيء بالأنين أو الشكاة، وأشعة الشمس هادئة ذابلة تمس ما حولها في فتور كأنها تصدر عن جذوة أوشكت أن تنطفئ، وهي من ذلك تحمل حرا رطبا ثقيلا تندى له الجباه ويتصبب له العرق أحيانا.
كل شيء هامد خامد، وكل شيء جامد راكد، وفي الجو فتور لا يحتمل وثقل لا يطاق، وإذا نفس الملك تمتزج بهذا كله، وإذا قلبه يخفق في صدره خفقا ضئيلا ثقيلا، وإذا نفسه تصطبغ بحزن شاحب ممض، وإذا هو يصبح كله حزنا وركودا كما أن ما حوله حزن وركود، وشهرزاد أمامه مطرقة مغرقة في القراءة كأنها لا ترى شيئا ولا تحس شيئا، وهي مع ذلك تختلس النظرة إلى الملك بين حين وحين تمد إليه طرفها لترده عنه، كأنما تراقبه حريصة على ألا يشعر أنها تراقبه.
وقد أخذ ضوء الشمس يضعف شيئا فشيئا، وكأن النهار أحس برد الموت يتمشى فيه، فجعل يرتدي من الظلمة معطفا فاحما قاتما ثقيلا؛ ثم يجمد كل شيء ويخمد كل شيء، ويقف الزورق في مكانه كأنما شد إلى قاع البحيرة بسلاسل غلاظ ثقال.
وتنهض شهرزاد فاترة متثاقلة، وتقول في صوت هادئ متكسر: «انظر أيها الملك السعيد فإن النعيم والبؤس دولة بين الناس، ينعم بعضهم ويشقى بعضهم الآخر، وينعم الرجال منهم أياما أو ليالي من الدهر، ثم يشقى أياما وليالي أخرى، وينعم الرجل منهم ساعة من نهار أو ساعة من ليل، ثم يشقى سائر ساعات النهار أو سائر ساعات الليل، وقد أخذت بحظك من النعيم، وأخذت بحظي منه؛ فلنأخذ الآن بحظنا من البؤس، ولنستقبل الآن نصيبنا من الحزن، ولنحتمل الآن عبأنا من الشقاء.»
وينظر الملك فيرى - ويا هول ما يرى! - يرى على شاطئ البحيرة من يمين وشمال شيئا يشبه الرياض والجنات وما هو من الرياض والجنات في شيء، شيئا يشبه أن يكون أشجارا باسقة في السماء وما هي من الأشجار في شيء، إنما هي أشياء يخيل إلى الملك مرة أنها الشجرة ومرة أنها العمد قد ثبتت في الأرض وطالت في السماء وامتدت لها فروع تشبه أن تكون الغصون، ونبتت في هذه الفروع زوائد تشبه أن تكون الورق، وقامت على هذه الغصون وفي أثناء هذه الزوائد كائنات تشبه أن تكون الطير، وأسبغ على هذا كله ضوء ذابل فاتر شاحب يشبه أن يكون الظلمة لولا أن العين تنفذ منه إلى ما وراءه في كثير من المشقة والجهد والإعياء، وخرجت من أفواه هذه الكائنات التي تشبه الطير أصوات تريد أن تكون غناء؛ ولكنها لا تبلغ الجو حتى يكون بعضها بكاء وبعضها أنينا وبعضها حشرجة كحشرجة الصريع المحتضر. هنالك يذعر الملك أشد الذعر، ولكنه لا يستطيع أن يترجم عما يجد، وإنما هي الرعدة تتمشى في جسمه كله فيضطرب اضطرابا عنيفا، ثم تستقر لتأخذ الملك بين حين وحين، وقد انعقد لسانه واحتبس صوته وجعلت قطرات من الدمع تساقط على وجهه بين حين وحين، وهو مقبل على شهرزاد يريد أن يسألها أين هو؟ وماذا يرى؟ وماذا يسمع؟ وماذا يجد؟ ولكنه ليس في حاجة إلى هذا السؤال، فقد خلصت نفسه لشهرزاد، وخلصت له نفس شهرزاد منذ وقفا معا على شاطئ تلك البحيرة في ذلك الجو الموسيقي الرائع وأمام تلك الأسراب من الزوارق البديعة.
لقد فهمت عنه شهرزاد، وهي تجيبه بلسان لم ينعقد، وصوت لم يحتبس، ووجه يستطيع أن يبين عما يجده قلبها من حزن لاذع وغيظ يملؤه الحنق ورحمة مع ذلك يملؤها الحنان: «انظر يا مولاي! هؤلاء ضحاياك! هذه الكائنات التي تشبه الطير وما هي بالطير، أتعرفها؟! إنها نفوس أولئك الفتيات اللاتي أرسلتهن إلى الموت منذ ثرت ثورتك المنكرة بالنساء فاتخذتهن أداة للهوك ووسيلة إلى إرضاء ما أفسد قلبك من غضب وما أفسد نفسك من انتقام.»
تستطيع أن تحصي هذه الكائنات فسترى عددها مطابقا لعدد أولئك الفتيات اللاتي أهدرت كرامتهن في غير حب، ثم أزهقت نفوسهن في غير إشفاق، فهذه النفوس قائمة في هذه الجنة التي تشبه الجحيم، أو في هذا الجحيم الذي يريد أن يكون جنة فلا يستطيع. إنها بائسة، إنها يائسة، إنها شاكية، إنها باكية، إن هذه الأصوات التي تسمعها تنطلق بالبؤس واليأس والبكاء والشكاة منذ أرسلتها إلى هذا المكان حتى تؤدي عنها حسابا يوميا ما، فاذرف ما تستطيع أن تذرف من دموع، واحمل ما تستطيع أن تحمل من حزن، واعمل ما تستطيع أن تعمل من خير، وتجرع ما تستطيع أن تتجرع من ندم، وأقم على هذا كله عمرك وأعمارا كثيرة تعدله طولا، فلن تغسل قطرة من تلك الدماء التي سفكتها، ولن ترضي نفسا من هذه النفوس التي أزهقتها، ولن تمحو سيئة من هذه السيئات التي اقترفتها إلا أن يمسك جناح من رحمة الله، وينالك فضل من عفوه؛ فإن لله في الناس حكمة هو بالغها، وأمرا هو منفذه.
ثم يرق صوت شهرزاد ويلين حتى كأنه رحمة كله، وإذا هي تقول: «ومع ذلك - بل من أجل ذلك - قد أحببتك أيها الملك، وتحديت عندك الحب والملك والموت جميعا، وما أدري كيف أعلل هذا الحب أو كيف أفهمه؟ فقد كنت أظن أني أبغضك أشد البغض، ولو لم أزف إليك لقتلت نفسي جزعا ويأسا، وقد كنت أظن أني أستطيع أن أردك عن ذلك الإثم المنكر الذي كنت غارقا فيه، وما كان أحب إلي مع ذلك أن أنعم بحبك ليلة ثم أذوق الموت بيدك وآتي إلى حيث أشارك هذه الطير فيما تعلن من بؤس ويأس وبكاء وشكاة، وقد كنت أقدر بعد أن ذقت حبك ونعمت بقربك أني سأرد الموت عن نفسي وعن أمثالي من فتيات الدولة بما ألهيك به من قصص، وقلبي يشهد ونفسي تعلم أني ما ألهيتك بالقصص إلا لأستأنف النعيم بحبك وأطيل السعادة بقربك؛ فقد كنت أثرة أظهر الإيثار، وكنت محبة لنفسي أزعم فداء غيري من النساء، وكنت كلفة بإثمك البشع أريد أن أشرب كأسه من يدك وأؤخر شرب هذه الكأس ما وجدت إلى تأخيره سبيلا.
وقد ظفرت منك بما أردت، وبلغت من حبك ما أحببت، فشاركتك في سعادتك، وشاركتك في شقائك، وقاسمتك ما أتيح لك من نعيم، وشاطرتك ما قضي عليك من بؤس، وعصمت منك نساء الدولة على غير إرادة مني، ومن يدري؟! لعلي آثرت نفسي من دونهن بخير كن يطمعن فيه ويطمحن إليه، ففي نفوس الناس - وفي نفوس النساء خاصة - فساد كثير وشر عظيم تخفيه صروف الحياة وخطوبها، وتظهره محن الحياة وتجاربها، ومن يدري؟! لعل إثمك ذلك المنكر قد جعلك فتنة للعذارى كما جعلك فتنة لي، ومن يدري؟! لعل اللاتي رددت عنهن الموت قد كن يحسدنني على هذا الموت، ولعلهن أن يحسدنني الآن على الحياة! بل من يدري؟! لعل هذه الأصوات المهيبة الرهيبة التي تسمعها الآن لا تشكو منك، وإنما تشكو البعد عنك والشوق إليك، ومن يدري؟! لعل هذه الشكاة الملحة المؤذية أن تكون عفوا عنك واستغفارا لك، فنفوس الناس عامة - ونفوس النساء خاصة - ألغاز مشكلة معضلة قد عجزت عن حلها حتى فطنة شهرزاد. إن هذه النفس الغامضة التي نغصت أيامك وأرقت لياليك لا تمتاز بشيء، وإنما هي نفس امرأة لا أكثر ولا أقل.
অজানা পৃষ্ঠা