আমার পিতার স্বপ্ন: জাতি ও ঐতিহ্যের গল্প
أحلام من أبي: قصة عرق وإرث
জনগুলি
مقدمة طبعة عام 2004
تمهيد
الجزء الأول: الجذور
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الجزء الثاني: شيكاغو
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الجزء الثالث: كينيا
الفصل الخامس عشر
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الخاتمة
مقدمة طبعة عام 2004
تمهيد
الجزء الأول: الجذور
الفصل الأول
الفصل الثاني
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الجزء الثاني: شيكاغو
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الجزء الثالث: كينيا
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الخاتمة
অজানা পৃষ্ঠা
أحلام من أبي
أحلام من أبي
قصة عرق وإرث
تأليف
باراك أوباما
ترجمة
هبة نجيب مغربي
إيمان عبد الغني نجم
مراجعة
مجدي عبد الواحد عنبة
অজানা পৃষ্ঠা
«لأننا نحن غرباء أمامك، ونزلاء مثل كل آبائنا.»
أخبار الأيام الأول 29: 15
مقدمة طبعة عام 2004
مر ما يقرب من عقد من الزمان منذ نشر هذا الكتاب للمرة الأولى. وكما أذكر في التمهيد الأصلي، تسنت لي فرصة تأليف هذا الكتاب وأنا في كلية الحقوق، بعد انتخابي كأول أمريكي من
عرضا من أحد الناشرين وحصلت منه على دفعة مقدمة من مبلغ التعاقد، وبدأت العمل وأنا أومن أن قصة عائلتي، ومحاولاتي لفهم تلك القصة، قد تخاطب بصورة ما صدوع العنصرية التي كانت سمة التجربة الأمريكية، وأيضا حالة الهوية غير الثابتة - القفزات عبر الزمن وتصادم الثقافات - التي تمثل سمة حياتنا العصرية.
وعلى غرار من يؤلف كتابا للمرة الأولى غمرتني مشاعر الأمل واليأس فور نشر الكتاب؛ أمل في أن يحقق الكتاب نجاحا يتجاوز ما يجول في أحلامي الشابة، ويأس من أن أكون قد فشلت في أن أقول شيئا كان ينبغي أن أقوله. أما الحقيقة فكانت تقع في مكانة بين هذا وذاك. فجاءت المقالات النقدية عن الكتاب إيجابية نوعا ما، وكانت الجماهير تحضر بالفعل الندوات التي نظمها الناشر وتجري فيها قراءة أجزاء من الكتاب. لم تكن المبيعات مبهرة. وبعد بضعة أشهر مضيت قدما في حياتي المهنية وكلي ثقة بأن مستقبلي في تأليف الكتب سيكون قصيرا، لكني كنت سعيدا بأني خضت تلك التجربة وخرجت منها دون مساس بكرامتي.
لم يتسن لي الكثير من الوقت للتفكير طوال السنوات العشر التالية؛ فقد أدرت مشروعا لتسجيل الناخبين في انتخابات عام 1992م، وبدأت العمل محاميا في مجال الدفاع عن الحقوق المدنية، وبدأت أدرس مادة القانون الدستوري في جامعة شيكاغو. واشتريت أنا وزوجتي منزلا، ورزقنا طفلتين رائعتين ومشاغبتين تتمتعان بصحة جيدة، وكنا نجاهد لدفع تكاليف معيشتنا. وعندما أصبح أحد المقاعد في المجلس التشريعي في ولاية إلينوي شاغرا عام 1996م، أقنعني بعض الأصدقاء أن أرشح نفسي، وبالفعل فزت بالمقعد. حذرني البعض قبل أن أشغل المنصب من أن السياسات داخل الولاية تفتقد إلى البريق الذي يشع من نظيرتها في واشنطن؛ فالمرء يكدح لكن وراء الستار، وغالبا في موضوعات تعني الكثير للبعض، ولكن رجل الشارع يمكنه أن يغض طرفه عنها دون أن يشوب تصرفه هذا شائبة (مثل اللوائح المتعلقة بالمنازل المتنقلة، أو التداعيات الضريبية لانخفاض قيمة معدات الزراعة). ومع ذلك وجدت العمل مرضيا، غالبا لأن نطاق السياسات داخل الولاية يسمح بالتوصل إلى نتائج ملموسة - توسيع خدمة التأمين الصحي لتشمل أطفال الفقراء، أو تعديل القوانين التي تتسبب في موت الأبرياء - في ظل إطار زمني معقول. وأيضا لأنه بداخل مبنى المجلس التشريعي لولاية صناعية كبيرة مثل إلينوي يرى المرء كل يوم وجه أمة في حوار مستمر: أمهات من الأحياء المكتظة بالسكان، ومزارعي الذرة والفول، والعمال من المهاجرين الذين يعملون باليومية، إلى جانب المصرفيين في البنوك الاستثمارية في الضواحي، جميعهم يتدافعون ليحصلوا على فرصة لسماعهم، وجميعهم مستعدون بقصص ليرووها.
قبل بضعة شهور فزت بترشيح الحزب الديمقراطي لمقعد في مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية إلينوي. كان سباقا صعبا في ساحة تزدحم بالمرشحين الماهرين البارزين الذين يحظون بتمويل كبير. وكان ينظر إلي - وأنا رجل أسود له اسم مضحك لا يحظى بأي دعم مؤسسي ولا يمتلك ثروة شخصية - على أن إمكانية فوزي مسألة بعيدة المنال. وهكذا عندما فزت بأغلبية الأصوات في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، في مناطق البيض والسود على حد السواء، وفي الضواحي وكذلك في شيكاغو، كان رد الفعل الذي تلا هذا يشبه رد الفعل الذي تلا انتخابي رئيسا لمجلة «هارفارد لو ريفيو». وقد عبر معظم المعلقين عن دهشتهم وأملهم الحقيقي في أن يشير انتصاري إلى تغير كبير في سياساتنا العنصرية. وفي مجتمع السود كان هناك إحساس بالفخر تجاه الإنجاز الذي حققته، فخر يمتزج بخيبة الأمل لأنه بعد 50 عاما من قضية براون ضد مجلس التعليم، وبعد أربعين عاما من إقرار قانون حق التصويت، لا نزال نحتفل بإمكانية (وفقط إمكانية؛ لأنه كانت لا تزال أمامي انتخابات عامة صعبة قادمة) أن أكون الأمريكي الوحيد من أصل أفريقي في مجلس الشيوخ والثالث على مر التاريخ منذ مرحلة إعادة التأسيس التي تلت الحرب الأهلية الأمريكية. انتابتني، كما انتابت عائلتي وأصدقائي، مشاعر الحيرة من هذا الاهتمام، وكنا دائما نعي الفرق بين بريق تقارير وسائل الإعلام وحقائق الحياة العادية الفوضوية كما نعيشها في الواقع.
وبالضبط مثلما أثارت تلك الموجة من الشهرة اهتمام الناشر قبل عقد من الزمان تسببت هذه الجولة الجديدة من الأخبار الصحفية في إعادة نشر الكتاب مرة أخرى. ولأول مرة منذ سنوات أخذت نسخة من الكتاب وقرأت بعض الفصول لأرى إلى أي مدى تغير صوتي بمرور الزمن. وأعترف بأني كنت أشعر ببعض الخجل من حين لآخر كلما رأيت كلمة أسأت اختيارها أو جملة مشوهة أو تعبيرا عن العاطفة يبدو متلطفا أو مبالغا فيه. وكانت داخلي رغبة ملحة كي أحذف من الكتاب ما يقرب من 50 صفحة؛ فقد أصبحت أميل كثيرا إلى الاختصار. ولكني لا أستطيع حقا أن أقول إن الصوت الذي يتردد في الكتاب ليس صوتي، وأني كنت سأكتب القصة بصورة مختلفة إلى حد بعيد اليوم عما كتبتها قبل 10 أعوام، حتى وإن كان قد ثبت أن بعض الفقرات غير مناسبة سياسيا، وهو ما يخلق ساحة لتعليقات الخبراء وأبحاث المعارضة.
ما تغير بالطبع تغيرا شديدا وقاطعا هو السياق الذي قد يقرأ فيه الكتاب الآن. لقد بدأت أكتب في ظل خلفية يميزها وادي السليكون، وازدهار البورصة، وانهيار سور برلين، وخروج مانديلا من السجن بخطى ثابتة متأنية ليقود دولة، وتوقيع اتفاقيات السلام في أوسلو. وعلى المستوى المحلي بدت المناظرات الثقافية، حول الأسلحة والإجهاض وموسيقى الراب، قوية للغاية لأن سياسة بيل كلينتون «الطريق الثالث»، وهي سياسة دولة الرفاهية المتقلصة التي تفتقد الطموح العظيم وتعوزها القوة الحازمة، بدت أنها تصف إجماعا ضمنيا واسع النطاق على المسائل المتعلقة بقوت الحياة اليومية؛ إجماعا ستوافق عليه حملة جورج دبليو بوش في فترة رئاسته الأولى بسياستها «المحافظة الرحيمة». وعلى المستوى العالمي أعلن المؤلفون نهاية التاريخ، وبزوغ نجم السوق الحرة والديمقراطية الليبرالية، وزوال الكراهيات القديمة والحروب بين الأمم ليحل محلها المجتمعات والمعارك الافتراضية من أجل الحصول على نصيب في السوق.
অজানা পৃষ্ঠা
ثم في الحادي عشر من سبتمبر 2001م تمزق العالم.
ومهارتي في الكتابة لا تؤهلني لوصف ذلك اليوم، والأيام التي تلته؛ كانت الطائرات مثل الأشباح تختفي بين الحديد والزجاج، انهيار البرجين كشلال يتدفق بالتصوير البطيء، أناس يكسوهم الرماد يجولون الشوارع، والألم والخوف. ولا أتظاهر بأني أفهم العدمية الشديدة التي كانت تحرك الإرهابيين في ذلك اليوم والتي لا تزال تحرك إخوانهم اليوم. وقدرتي على التقمص، على الوصول إلى قلوب الآخرين، لا يمكن أن تخترق تلك النظرات الخاوية لأولئك الذين غمرتهم مشاعر الارتياح الهادئة غير المنطقية وهم يغتالون الأبرياء.
ولكن ما أعرفه هو أن التاريخ قد أعاد ذلك اليوم حاملا معه الانتقام، وفي الحقيقة، كما يذكرنا فولكنر، الماضي لا يموت أبدا ولا يدفن تحت الثرى؛ بل إنه حتى ليس ماضيا. هذا التاريخ الجماعي، هذا الماضي، يمس ماضي مباشرة. ليس فقط لأن قنابل القاعدة قد تركت بصماتها بدقة غريبة على بعض معالم حياتي؛ المباني والطرقات والوجوه في نيروبي وبالي ومانهاتن، ولم يكن ذلك فحسب لأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر تسببت في أن يصبح اسمي هدفا لا يقاوم للسخرية من أنصار الحزب الجمهوري الشديدي الحماس، بل أيضا لأن الصراع الضمني - بين عوالم الرخاء وعوالم الفقر المدقع، بين الحديث والقديم، بين الذين يعتنقون تنوعنا الشديد والمتضارب والمسبب للمشكلات ويتمسكون بمجموعة من القيم التي تربطنا معا، وأولئك الذين يسعون، تحت أية راية أو شعار أو نص مقدس، إلى يقين وتبسيط يبرران القسوة تجاه من ليسوا مثلنا - هو الصراع الموضح على نطاق أصغر بين دفتي هذا الكتاب.
أعلم، ورأيت بنفسي، اليأس والاضطراب الذي يشعر به العاجز، كيف يشوهان حياة الأطفال في شوارع جاكرتا أو نيروبي بالطريقة نفسها تقريبا التي يشوهان بها حياة الأطفال في الجزء الجنوبي من شيكاغو، كيف يكون الطريق ضيقا بالنسبة إليهم بين الذل والغضب العارم، كيف ينزلقون بسهولة إلى أحضان العنف واليأس. أعلم أن رد فعل من يمتلك القوة على هذه الفوضى - الذي يكون إما رضا متبلد الحس أو، عندما تزيد تلك الفوضى عن حدودها، تطبيقا صارما غير عاقل للقوة، وإصدار أحكام بالسجن لمدد أطول، ومزيد من العتاد الحربي المتطور - غير مناسب لهذه المهمة. وأعلم أن التعصب واعتناق الأصولية والقبلية يحكم علينا جميعا بالهلاك.
وهكذا تحول ما كان مجهودا داخليا شخصيا من جانبي لفهم هذا الصراع والعثور على مكاني فيه ليلتقي مع مناظرة شعبية أوسع مجالا، مناظرة تورطت فيها مهنيا، مناظرة ستشكل حياتنا وحياة أطفالنا لسنوات طويلة قادمة.
أما التداعيات السياسية لكل هذا فهي موضوع كتاب آخر، فدعوني أنتهي بدلا من هذا بملحوظة شخصية: معظم شخصيات هذا الكتاب تظل جزءا من حياتي، وإن كان بدرجات متفاوتة؛ عملا وأطفالا وجغرافية ومصائر.
الاستثناء الوحيد هو أمي التي فقدناها بسرعة وحشية بسبب مرض السرطان، بعد بضعة أشهر من نشر هذا الكتاب.
كانت قد قضت السنوات العشر السابقة تفعل ما تحب؛ فكانت تجوب العالم تعمل في القرى النائية في آسيا وأفريقيا تساعد النساء على شراء ماكينات خياطة أو بقرات حلوب، أو الحصول على فرصة للتعليم قد تمنحهن موطئ قدم في اقتصاد العالم. وكان لديها أصدقاء من كل مكان، وكانت تتنزه سيرا على الأقدام وتحدق في القمر وتبحث في الأسواق المحلية في دلهي أو مراكش عن شيء صغير مثل وشاح أو قطعة حجرية منحوتة يجعلها تضحك أو يسعد ناظريها. وكتبت التقارير وقرأت الروايات وأزعجت أطفالها وحلمت بأحفادها.
كنا كثيرا ما نرى بعضا، فصلتنا لم تنقطع، وخلال تأليف هذا الكتاب، كانت تقرأ المسودات وتصحح القصص التي أسأت فهمها، وتحرص على عدم التعليق على وصفي لها لكن تهرع إلى تفسير أو دفاع عن الصفات الأقل جاذبية في شخصية أبي. وقد تعاملت مع مرضها بلطف ودعابة، وساعدتني أنا وأختي على أن نستمر في حياتنا، رغم خوفنا ورفضنا وانقباضات قلبينا المفاجئة.
في بعض الأحيان أفكر أنني لو كنت أعلم أنها لن تنجو من مرضها لكتبت كتابا مختلفا، أقل تأملا في الأب الغائب، وأكثر حفاوة بالأم التي كانت موجودة دائما في حياتي. وإنني أراها في ابنتي كل يوم، فرحتها وقدرتها على التعجب، ولن أحاول أن أصف كيف لا أزال في غاية الحزن لرحيلها. وأعرف أنها كانت أطيب وأكرم روح عرفتها في حياتي، وأني أدين لها بأجمل ما في.
অজানা পৃষ্ঠা
تمهيد
اعتزمت في الأصل تأليف كتاب مختلف تماما، وقد لاحت أول فرصة لتأليف هذا الكتاب وأنا ما زلت طالبا في كلية الحقوق بعد انتخابي أول رئيس أسود لمجلة «هارفارد لو ريفيو»، وهي مجلة قانونية غير معروفة إلى حد بعيد خارج الوسط القانوني. وتبع انتخابي هذا موجة مفاجئة من الشهرة حيث نشرت عدة مقالات في الصحف التي شهدت للمكانة المتميزة لكلية الحقوق بجامعة هارفارد في المعتقدات الأمريكية، وكذلك توق أمريكا الشديد لأية إشارة تدعو إلى التفاؤل على جبهة العنصرية؛ أي دليل بسيط على أن هناك تقدما أحرز، أكثر من شهادتها لإنجازاتي المتواضعة. واتصل بي بضعة ناشرين ووافقت، وأنا أتخيل أن لدي شيئا جديدا يمكن أن أقوله عن الوضع الراهن للعلاقات العنصرية، أن أقتطع عاما بعد التخرج وأنقل أفكاري إلى الورق.
وفي ذلك العام الأخير من الدراسة في كلية الحقوق بدأت أرتب في ذهني، بثقة مخيفة، كيف سيسير العمل في الكتاب بالضبط: مقال عن قصور قضايا الحقوق المدنية في تحقيق المساواة العنصرية، وأفكار عن معنى المجتمع وإصلاح الحياة العامة عن طريق القاعدة الشعبية من المجتمع التي تحتاج إلى تنظيم، وأفكار عن سياسة التمييز الإيجابي ومركزية أفريقيا، وملأت قائمة الموضوعات صفحة كاملة. وكنت سأضيف بالطبع بعض النوادر الشخصية وأحلل أسباب المشاعر التي تنتابني بصورة متكررة. ولم يكن الأمر بصفة عامة إلا رحلة فكرية كاملة تخيلتها لنفسي، بالخرائط ونقاط التوقف ووضع خط السير الدقيق، اعتزمت أن ينتهي الجزء الأول في مارس وأن أرسل الجزء الثاني للمراجعة في أغسطس ...
ومع ذلك فعندما جلست وبدأت أكتب وجدت عقلي ينجرف إلى شواطئ أكثر اضطرابا. فقفزت مشاعر اشتياق قديمة لتجتاح قلبي، وظهرت أصوات بعيدة وخفتت، ثم عادت لتظهر مرة أخرى. تذكرت القصص التي كانت أمي ووالداها يقصونها علي وأنا طفل، قصص عائلة تحاول تفسير نفسها. وتذكرت عامي الأول كمنظم للمجتمع الأهلي في شيكاغو، وخطواتي المتعثرة تجاه مرحلة البلوغ. وسمعت صوت جدتي وهي تجلس أسفل شجرة مانجو تضفر شعر أختي وتصف لي الأب الذي لم أعرفه حق المعرفة قط.
ومقارنة بذلك الفيضان من الذكريات، بدت جميع نظرياتي المرتبة واهية وغير ناضجة. ومع ذلك ظللت أقاوم بشدة فكرة عرض ماضي على صفحات كتاب، ذلك الماضي الذي جعلني أشعر أني عار، بل أشعر بالخزي بعض الشيء. ليس لأن ذلك الماضي مؤلم للغاية أو غير لائق؛ بل لأنه يخاطب تلك الجوانب من ذاتي التي تقاوم الاختيار الواعي والتي تناقض - على الأقل ظاهريا - العالم الذي أعيش فيه الآن. وعلى أية حال أنا الآن في الثالثة والثلاثين من عمري أعمل محاميا نشطا في الحياة الاجتماعية والسياسية في شيكاغو، المدينة التي اعتادت جراحها العنصرية وتفتخر للغاية بافتقادها العاطفة. فإذا كنت قادرا على مقاومة اليأس والشك فإنني مع ذلك أحب أن أرى نفسي حكيما في الحكم على العالم وحريصا على ألا أتوقع الكثير.
ومع ذلك فإن أكثر ما يدهشني عندما أفكر في قصة عائلتي هي تلك السلسلة الممتدة من البراءة؛ براءة تبدو مستحيلة حتى بمقاييس الطفولة. لكن أحد أقرباء زوجتي فقد هذه البراءة بالفعل وهو لا يزال في السادسة من عمره؛ إذ أخبر أبويه قبل بضعة أسابيع أن بعض زملائه في الصف الأول رفضوا اللعب معه لأن بشرته سوداء حالكة. ومن الواضح أن أبويه - اللذين ولدا وترعرعا في مدينتي شيكاغو وجاري - قد فقدا براءتهما قبل ذلك بوقت طويل، ومع أنهما لم يظهرا استياءهما - فكلاهما يتمتع بالقدر نفسه من القوة والفخر وسعة الحيلة مثل كل الآباء الذين أعرفهم - فإن المرء يسمع نبرة الألم التي تتردد في صوتيهما وهما يعيدان النظر في فكرة انتقالهما من المدينة إلى ضاحية معظم قاطنيها من البيض، وقد انتقلا لحماية ابنهما من احتمال أن يقع ضحية تبادل لإطلاق النيران بين العصابات، ولثقتهما بأنه سيتلقى تعليمه في مدرسة لا تحظى بالتمويل المادي الكافي مما يجعلها متواضعة المستوى.
إنهما يعرفان الكثير؛ فقد رأينا جميعا الكثير، ولنأخذ قصة زواج والدي القصير - رجل أسود وسيدة بيضاء، أفريقي وأمريكية - دليلا على ذلك. ونتيجة لذلك الاقتران يجد بعض الناس صعوبة في تقبلي. فعندما يكتشف البعض ممن لا يعرفونني معرفة وثيقة - البيض أو السود على حد سواء - قصة عائلتي (وعادة ما يكون هذا اكتشافا بحق؛ إذ إنني توقفت عن إعلان عرق أمي وأنا في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري عندما بدأت أشك أن في هذا توددا وتملقا للبيض)، أرى التغيير الذي يستغرق جزءا من الثانية الذي عليهم أن يقوموا به، وبحثهم في عيني عن أية إشارة لكشف مكنون نفسي. إنهم لم يعودوا يعرفون من أنا، وأظن أنهم يفكرون في أنفسهم في قلبي المضطرب والدم الخليط والروح الممزقة والصورة المخيفة للإنسان الخليط البائس المولود من أب زنجي وأم بيضاء الذي يقع أسيرا بين عالمين. وإذا كنت أنوي أن أقول لهم لا، المأساة ليست مأساتي، أو على الأقل ليست مأساتي وحدي، إنها مأساتكم يا أبناء صخرة بلايموث وجزيرة إيليس، إنها مأساتكم يا أطفال أفريقيا، إنها مأساة قريب زوجتي ذي السنوات الست وزملائه البيض في السنة الأولى، ومن ثم فإنكم لستم بحاجة لأن تتخيلوا ما يكدر حياتي؛ فإنه يظهر في النشرة المسائية ليراه الجميع، وإننا إذا كان بإمكاننا الاعتراف على الأقل فإن الدائرة المأسوية ستبدأ في الانكسار ... حسنا، أظن أنني أبدو شديد السذاجة، أتمسك بآمال ضائعة مثل أولئك الشيوعيين الذين يروجون صحفهم على أطراف كثير من المدن الجامعية، أو الأسوأ من هذا، أبدو وكأني أحاول الاختباء من نفسي.
لا أستطيع انتقاد شكوك الناس. فقد تعلمت منذ وقت طويل أن أرتاب في طفولتي والقصص التي شكلتها. ولم أستطع أن ألتفت وأقيم هذه القصص القديمة لنفسي إلا بعد مرور سنوات كثيرة، بعد أن جلست على قبر أبي وتحدثت إليه عبر تربة أفريقيا الحمراء. أو كي أكون أكثر دقة، حينها فقط فهمت أنني قضيت جزءا كبيرا من حياتي أحاول أن أعيد كتابة هذه القصص وأن أسد الثغرات في القصة، وأن أتكيف مع التفاصيل غير المحببة، وأن أسلط الضوء على الخيارات الفردية في مواجهة الانجراف الأعمى للتاريخ، كل هذا على أمل أن أستخرج لوحا صلبا من الحقيقة يمكن أن يقف عليه أولادي - الذين لم يولدوا بعد - بأقدام ثابتة.
ثم في مرحلة ما، ومع الرغبة القوية في أن أحمي نفسي من التدقيق المفرط، ومع الحافز الذي كان يدفعني من حين لآخر إلى أن أترك المشروع بأكمله، فإن ما وجد طريقه إلى هذه الصفحات هو سجل لرحلة شخصية داخلية، رحلة بحث صبي عن والده، ومن خلال ذلك البحث يجد معنى عمليا لحياته كأمريكي أسود البشرة. وكانت النتيجة سيرة ذاتية، مع أنه كلما سألني أحد على مدار تلك السنوات الثلاث الأخيرة عن موضوع الكتاب، كنت عادة أتجنب استخدام هذا الوصف. فالسيرة الذاتية تعد بالحديث عن إنجازات جديرة بأن تسجل، وأحاديث مع مشاهير، ودور محوري في أحداث مهمة. ولا يوجد شيء من هذا في الكتاب. أو على الأقل، تعني السيرة الذاتية ضمنا أنها ملخص أو نهاية محددة وهو ما لا يناسب شخصا في مثل عمري لا يزال منشغل الذهن برسم الطريق الذي سيسلكه في العالم. إنني حتى لا أستطيع أن أعتبر تجربتي تمثل تجربة الأمريكيين السود (كما أوضح لي ناشر من مانهاتن: «فرغم كل شيء، إنك لا تنتمي إلى خلفية محرومة ومعدمة») وفي الواقع فإن تعلم قبول تلك الحقيقة بالذات - أنني يمكنني معانقة إخوتي وأخواتي السود، سواء في هذا البلد أو في أفريقيا، والتأكيد على وجود مصير مشترك دون أن أتظاهر بالتحدث إلى، أو عن، جميع صراعاتنا المختلفة - جزء مما يدور حوله هذا الكتاب.
وفي النهاية هناك المخاطر المتأصلة في تأليف أية سيرة ذاتية؛ إغراء أن يلون المؤلف الأحداث بالطريقة التي يفضلها هو، والنزعة للمبالغة في تقدير أهمية تجربة الفرد للآخرين، وزلات الذاكرة المتعمدة. وتتعاظم مثل هذه المخاطر عندما يفتقر الكاتب إلى الحكمة التي يكتسبها المرء بتقدم العمر؛ أي المسافة التي يمكن أن تداوي المرء من تفاهات بعينها. ولا يمكنني أن أقول إنني تجنبت كل هذه المخاطر بنجاح، أو أيا منها. ومع أن جزءا كبيرا من هذا الكتاب يعتمد على تسجيل متزامن للأحداث أو التاريخ الشفهي لعائلتي فإن الحوار تقريب ضروري لما قيل بالفعل أو ما روي لي. وبدافع الاختصار فإن بعض الشخصيات التي ظهرت ما هي إلا مركب من أناس عرفتهم، وبعض الأحداث تظهر خارج الترتيب الزمني الدقيق لها. وباستثناء عائلتي وحفنة من الشخصيات العامة، فإن أسماء معظم الشخصيات قد غيرت للحفاظ على الخصوصية.
অজানা পৃষ্ঠা
ومهما كان الوصف الذي سيلتصق بهذا الكتاب؛ سيرة ذاتية أم مذكرات أم تاريخ أسرة أم شيئا آخر، فإن ما حاولت أن أفعله هو كتابة سرد صادق لجزء محدد من حياتي. وعندما شردت بذهني استعنت بوكيلة أعمالي جين ديستل لإخلاصها وصلابتها، وبالمحرر هنري فيريس لتصحيحاته التي يقدمها بأسلوب لطيف لكن حازم، وبروث فيسيش وفريق العمل في شركة تايمز بوكس لحماسهم واهتمامهم بالاعتناء بالنص في مراحله المختلفة، وبأصدقائي، ولا سيما روبرت فيشر، لقراءتهم الكريمة للنص، وبزوجتي الرائعة ميشيل لخفة ظلها ورقتها وصراحتها وقدرتها على دفعي للأمام .
لكنني أدين بعميق الفضل لعائلتي، أمي وجدي وجدتي وإخوتي المنتشرين عبر المحيطات والقارات، وإليهم أهدي هذا الكتاب. فمن دون حبهم ودعمهم المستمرين، ومن دون استعدادهم لأن يتركوني أتحدث بلسانهم وتسامحهم مع ما أقع فيه من أخطاء بين الحين والآخر، لم يكن بإمكاني حتى أن آمل أن أنتهي من الكتاب. وأتمنى أن يسطع الحب والاحترام، إذا لم يكن شيء آخر، اللذان أشعر بهما تجاههم على كل صفحة من صفحات هذا الكتاب.
الجزء
الجذور
الفصل الأول
بعد بضعة أشهر من عيد ميلادي الحادي والعشرين، جاءني اتصال من شخص غريب ليبلغني الخبر. كنت أعيش في ذلك الوقت في نيويورك في شارع رقم 94 بين الجادتين الثانية والأولى، وهو جزء من ذلك الحد المتغير الذي لا يحمل اسما بين شرق هارلم وباقي مانهاتن. كان شكل المجمع السكني غير جذاب ويخلو من الأشجار والنباتات، تصطف على جانبيه مبان سكنية طلاؤها أسود وبلا مصاعد تلقي بظلال كئيبة معظم أوقات اليوم. كانت الشقة صغيرة وأرضيتها مائلة ودرجة حرارتها غير مستقرة ولها جرس كهربائي أسفل المبنى لا يعمل، ومن ثم كان على أي زائر أن يتصل قبل مجيئه من هاتف عمومي في محطة البنزين في زاوية الشارع، حيث كان يوجد كلب أسود من نوع دوبرمان في حجم الذئب يقطع المكان جيئة وذهابا طوال الليل في دورة حراسة يقظة، يقبض بأنيابه على زجاجة جعة فارغة.
لم أكن أهتم بذلك كثيرا؛ فلم أكن أستقبل الكثير من الزوار. في تلك الأيام كنت ضيق الصدر، مشغولا بالعمل وخطط لم تنفذ، وأميل إلى اعتبار الأشخاص الآخرين مصدرا لتشتيت الانتباه لا ضرورة له، وليس ذلك لأني لا أقدر الرفقة؛ فقد كنت أستمتع بتبادل الدعابات باللغة الإسبانية مع جيراني الذين كان أغلبهم من بورتوريكو، وفي طريق عودتي من المحاضرات كنت عادة أتوقف لأتحدث مع الصبية الذين كانوا يقضون وقتهم عند مدخل المبنى طوال فترة الصيف يتحدثون عن فريق نيكس لكرة السلة أو الطلقات النارية التي سمعوها الليلة السابقة. وعندما يكون الطقس جيدا يمكن أن أجلس أنا ورفيقي في الشقة على سلم الحريق ندخن السجائر ونتأمل الغسق وهو يغرق المدينة في الظلام، أو نشاهد البيض من المناطق السكنية الأفضل بالقرب منا يسيرون بكلابهم أسفل العمارة التي نقطن فيها ويتركون الحيوانات تتبرز على حافة رصيف الشارع، كان رفيقي يصرخ فيهم بغضب مؤثر: «تخلصوا من هذا البراز أيها الأوغاد!» وكنا نسخر من وجهي السيد الأبيض والحيوان وهما يتجهمان دون إبداء أية نية للاعتذار وينزلان على ركبتيهما للقيام بفعلتهما.
كنت أستمتع بتلك اللحظات، ولكن لوهلة قصيرة. فإذا بدأ الحديث يخرج عن مساره أو يعبر الحدود التي تفضي إلى الشعور بالألفة والحميمية، كنت سريعا ما أجد سببا للانصراف. فقد أصبحت أشعر براحة شديدة في عزلتي، فهي آمن مكان عرفته.
أتذكر رجلا عجوزا كان يعيش في الشقة المجاورة يشاركني نزعتي. كان ضامر الجسد منحني الظهر يعيش وحده، يرتدي في المناسبات القليلة التي يترك فيها شقته معطفا أسود ثقيلا وقبعة قبيحة الشكل. وبين الفينة والفينة كنت ألتقي به مصادفة وهو عائد من المتجر، وكنت أعرض عليه أن أحمل عنه البقالة في رحلة الصعود الطويلة على سلالم العمارة، فكان ينظر إلي ويهز كتفيه ونبدأ الصعود، وكنا نتوقف على كل بسطة كي يلتقط أنفاسه. وعندما نصل في النهاية إلى شقته أضع الحقائب بحرص على الأرض ويومئ لي شكرا قبل أن يجر قدميه إلى داخل شقته ويغلق مزلاج الباب. لم يدر بيننا أي حديث قط، ولم يقل لي قط كلمة شكر على صنيعي.
كان صمت الرجل العجوز يثير إعجابي فكنت أراه قريبا مني روحيا. وفيما بعد وجده رفيقي في الشقة ملقى على بسطة سلم الطابق الثالث وعيناه مفتوحتان عن آخرهما وأطرافه متيبسة ومتكورة كطفل صغير. تجمع الناس حوله، وحركت بعض النساء أيديهن بعلامة الصليب على أجسادهن وتهامس الأطفال الصغار فيما بينهم بانفعال. وفي النهاية وصل المسعفون ليأخذوا الجثة، ودخلت الشرطة إلى شقة العجوز. كانت الشقة مرتبة وخاوية تقريبا إلا من مقعد ومكتب وصورة باهتة - أعلى الحافة البارزة للمدفأة - لسيدة لها حاجبان كثان وابتسامة رقيقة. فتح أحدهم الثلاجة ووجد ما يقرب من 1000 دولار في عملات صغيرة مغلفة داخل أوراق جرائد قديمة وموضوعة بحرص خلف برطمانات المايونيز والمخلل.
অজানা পৃষ্ঠা
أثرت في العزلة التي عبر عنها المشهد، ولوهلة قصيرة تمنيت لو أنني قد عرفت اسم العجوز. ثم ندمت على الفور على هذه الأمنية وما صاحبها من حزن. وشعرت كما لو أن تفاهما قد نشأ بيننا، كما لو أن العجوز كان يهمس في تلك الشقة الخاوية تاريخا لم يروه أحد، يخبرني بأشياء لا أحب أن أسمعها.
بعد ذلك بشهر أو أكثر على ما أظن، في صباح يوم بارد كئيب من أيام شهر نوفمبر، كانت الشمس باهتة خلف ضباب السحب؛ جاءت المكالمة الهاتفية. كنت أعد الفطور لنفسي والقهوة على الموقد والبيض في المقلاة، عندما ناولني رفيقي الهاتف، كان الصوت بعيدا ومشوشا: «باري؟ باري، أهذا أنت؟» «نعم ... من المتحدث؟» «نعم يا باري ... أنا عمتك جين من نيروبي، هل تسمعني؟» «عفوا، قلت من؟» «عمتك جين، استمع إلي يا باري، لقد توفي أبوك. مات في حادث سيارة. باري؟ هل تسمعني؟ أقول إن أباك قد توفي. باري من فضلك اتصل بعمك في بوسطن وأخبره. لا يمكنني التحدث الآن. سأحاول الاتصال بك مرة أخرى ...»
كان هذا هو كل ما جاء في المحادثة. وانقطع الخط فجلست على الأريكة وانتشرت رائحة البيض وهو يحترق في المطبخ، أخذت أحملق في شقوق طلاء الحائط أحاول أن أقدر حجم خسارتي. •••
لم يكن أبي عندما توفي إنسانا عاديا من وجهة نظري؛ بل كان أسطورة. ترك أبي هاواي عام 1963حينها لم أكن قد تجاوزت الثانية من عمري؛ لذا لم أعرف أبي حين كنت طفلا إلا من حكايات أمي وجدي. وكان لكل منهم حكاياته المفضلة، وكل منها مترابط وسلس من كثرة التكرار. ولا يزال بإمكاني تخيل صورة جدي وهو ينحني إلى الوراء في مقعده الوثير بعد العشاء ويرتشف الويسكي وينظف أسنانه بورق سيلوفان من علبة سجائره ويحكي لي كيف كاد أبي أن يرمي برجل من على جرف «بالي لوك أوت» بسبب غليون: «قرر والداك أن يصطحبا صديق أبيك في جولة سياحية حول الجزيرة. ذهبا بالسيارة إلى جرف لوك أوت، وكان باراك على الأرجح يسير على الجانب الخاطئ طوال الطريق إلى هناك.»
عقبت أمي قائلة: «كان والدك سائقا سيئا.» وتابعت: «وكان ينتهي به الحال إلى الجانب الأيسر من الطريق بالطريقة التي يقود بها البريطانيون، وإذا قلت له شيئا، تجده يبدي سخطه على القواعد الأمريكية السخيفة ...» «حسنا، في تلك المرة نجحوا في الوصول سالمين، وخرجوا من السيارة ووقفوا على الحاجز المعدني المقام على الجرف ليتأملوا المشهد. كان باراك يدخن من الغليون الذي أعطيته إياه في عيد ميلاده، ويشير بمقدمته إلى جميع المشاهد مثل قبطان بحري ...»
وهنا تقاطع أمي مرة أخرى: «لقد كان أبوك فخورا حقا بذلك الغليون.» وتابعت: «كان يدخن منه طوال الليل وهو يذاكر، وفي بعض الأحيان ...» «حسنا يا آن، هل تودين أن تحكي أنت القصة أم ستدعينني أكملها؟» «آسفة يا أبي. تفضل.» «على أية حال، كان ذلك الفتى المسكين طالبا أفريقيا أيضا، أليس كذلك؟ كان قد وصل لتوه إلى أمريكا. ولا بد أن ذلك الفتى المسكين قد أعجب بالطريقة التي يتحدث بها باراك وهو يشير بالغليون؛ إذ طلب أن يجربه، فكر والدك في الأمر لدقيقة ثم وافق في النهاية، وما إن بدأ الفتى في التدخين منه حتى داهمته نوبة سعال. وأخذ يسعل بقوة حتى إن الغليون انزلق من يده وسقط من فوق الحاجز، من ارتفاع مائة قدم ليستقر أسفل الجرف.»
ثم يتوقف جدي ليرتشف من زجاجته قبل أن يستأنف كلامه. قال: «حسنا، كان أبوك لطيفا بما يكفي لأن ينتظر حتى ينتهي صديقه من السعال ثم أمره أن يقفز من فوق الحاجز ويعيد له الغليون. فنظر الرجل أسفل الجرف الذي يهبط بزاوية قائمة وقال لباراك إنه سيشتري له واحدا آخر عوضا عنه ...»
قالت جدتي من المطبخ: «أمر معقول جدا.» (كنا نطلق على جدتي توتو، أو اختصارا توت، وتعني «الجدة» بلغة هاواي لأنها رأت في اليوم الذي ولدت فيه أنها لا تزال صغيرة للغاية كي يخاطبها أحد بلقب جدتي.) فيعقد جدي ما بين حاجبيه ويقرر أن يتجاهلها: «لكن باراك كان مصرا على استعادة غليونه؛ لأنه كان هدية ولا شيء يعوضه عنه. فألقى الفتى نظرة أخرى وهز رأسه مرة أخرى، وهنا رفعه والدك من على الأرض وبدأ يؤرجحه على الحاجز!»
ويطلق جدي صيحة ويضرب على ركبته بمرح. ويضحك وفي هذه اللحظة أتخيل نفسي أنظر إلى والدي الأسمر البشرة واقفا قبالة الشمس الساطعة، وذراعا صديقه المذنب تلوحان في الهواء وأبي يحمله عاليا؛ يا لها من رؤية مخيفة لتحقيق العدالة.
فتقول أمي وهي تنظر إلي بقلق: «إنه لم يكن يحمله فوق الحاجز بالضبط يا أبي»، ولكن جدي يأخذ رشفة أخرى من الويسكي ويستمر في الحديث: «عندئذ، بدأ الناس يحدقون فيما يحدث، وأمك تناشد باراك أن يتوقف، وأظن أن صديقه كان يحبس أنفاسه ويتلو صلواته. وعلى أية حال، بعد بضع دقائق ترك والدك الرجل يهبط على قدميه مرة أخرى، وربت على ظهره واقترح بهدوء أن يذهبوا جميعا ويحتسوا الجعة. وما لا يخطر لك على بال أن أباك استمر في التصرف بهذه الطريقة لما تبقى من الرحلة، وكأن شيئا لم يكن. وبالطبع كانت والدتك عندما عادا إلى المنزل ما زالت غاضبة إلى حد بعيد. في الحقيقة كانت تتحدث إلى والدك بالكاد، ولم يكن والدك يساعد على تحسين الأمور. فعندما حاولت والدتك أن تخبرنا بما حدث، هز رأسه وبدأ يضحك، وقال لها: «اهدئي يا آنا»، كان صوت والدك عميقا جهوريا ويتحدث باللكنة البريطانية. وهنا يثني جدي ذقنه إلى عنقه ليحقق التأثير الكامل. ويستكمل: «اهدئي يا آنا.» ويتابع: «ما أردت إلا تعليم ذلك الشاب درسا عن العناية اللائقة بممتلكات الآخرين!»»
অজানা পৃষ্ঠা
كان جدي يبدأ في الضحك مرة أخرى حتى يأتيه السعال، وتغمغم جدتي بصوت خافت أنها رأت أنه من الأفضل أن والدي قد أدرك أن إسقاط الغليون كان مجرد حادث عارض لأنه من يدري ماذا كان سيحدث غير ذلك، وكانت والدتي توجه نظرها إلي وتقول إنهما يبالغان.
كانت أمي تعترف وعلى شفتيها يرتسم شبح ابتسامة: «قد تكون شخصية والدك مسيطرة إلى حد ما.» ثم تستدرك: «لكن هذا في الواقع لأنه شخص صادق للغاية. وذلك يجعله عنيدا في بعض الأحيان.»
كانت أمي تفضل أن ترسم صورة أكثر رقة لوالدي، فتحكي لي أنه حضر لتسلم مفتاح الجمعية الفخرية «في بيتا كابا» مرتديا ثيابه المفضلة؛ بنطلون جينز وقميصا قماشيا قديما عليه صورة نمر. وتقول: «لم يخبره أحد أن الأمر شرف كبير؛ لذا فقد دخل ووجد الجميع يقفون في تلك الغرفة الأنيقة يرتدون سترات رسمية. وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي رأيته يشعر فيها بالخجل.»
وكان جدي، بعد أن يستغرق فجأة في التفكير العميق، يبدأ يومئ لنفسه ويقول: «إنها حقيقة يا باري.» ويتابع: «لقد كان بإمكان والدك أن يتعامل مع أي موقف فجعل هذا الجميع يحبونه. أتذكر أنه كان عليه أن يغني في مهرجان الموسيقى الدولي؟ لقد وافق على غناء بعض الأغاني الأفريقية، لكن عندما وصل اتضح أن الأمر ليس هينا، كانت السيدة التي قدمت العرض السابق له مطربة شبه محترفة؛ فتاة من هاواي لديها فرقة موسيقية كاملة تدعمها. كان يمكن لأي شخص عندئذ أن يتوقف، ويتعلل بأن خطأ ما قد حدث إلا باراك. فلم تكن تلك طبيعته؛ فقد نهض وبدأ يغني أمام ذلك الجمع الكبير، وأنا أقول لك إن هذا ليس بالأمر الهين، وهو لم يكن رائعا، لكنه كان واثقا من نفسه فحصل على الفور على الإعجاب نفسه الذي حصل عليه الآخرون.»
وكان جدي يهز رأسه وينهض من على مقعده ويقلب قنوات التليفزيون. وكان يقول لي: «هناك شيء يمكنك أن تتعلمه من والدك.» ثم يستكمل: «الثقة. إنها سر نجاح الإنسان.» •••
كانت جميع القصص تسير على هذه الوتيرة؛ موجزة ومشكوكا في صحتها وتروى في تتابع سريع على مدار أمسية واحدة، ثم تطويها ذاكرة عائلتي لشهور، وفي بعض الأحيان لسنوات. بالضبط مثل الصور القليلة لوالدي التي ظلت في المنزل، وهي صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود كنت أعثر عليها عرضا وأنا أبحث في الخزانات عن زينة رأس السنة أو جهاز قديم للتنفس تحت سطح الماء . وفي الوقت الذي بدأت فيه ذكرياتي، كانت أمي قد بدأت بالفعل علاقتها العاطفية بالرجل الذي سيصبح زوجها الثاني، وشعرت دون تفسير لماذا تعين أن توضع الصور بعيدا. ولكن بين الحين والآخر، كنت أحدق - وأنا أجلس مع أمي على الأرض، ورائحة الغبار والنفتلين تنبعث من الألبوم الممزق - في صورة أبي؛ الوجه الأسمر المبتسم، الجبهة البارزة والنظارة السميكة التي تجعله يبدو أكبر سنا من عمره الحقيقي، وأستمع وأحداث حياته تتدفق في قصة يرويها طرف واحد.
علمت أن أبي كان أفريقيا، كينيا من قبيلة «لوو» ولد على شواطئ بحيرة فيكتوريا في قرية يطلق عليها «أليجو». كانت القرية فقيرة، لكن والده - جدي الآخر حسين أونيانجو أوباما - كان مزارعا بارزا وأحد كبار القبيلة، وطبيبا يمتلك قوى شفائية. ترعرع أبي يرعى ماعز والده ويدرس في المدرسة المحلية التي أنشأتها حكومة بريطانيا الاستعمارية، وقد أظهر تفوقا كبيرا في دراسته، بعد ذلك فاز بمنحة دراسية بجامعة نيروبي، ثم في عشية استقلال كينيا اختاره القادة الكينيون والرعاة الأمريكيون للدراسة بجامعة في الولايات المتحدة لينضم إلى أول موجة كبيرة من الأفارقة تبعث لتتقن تكنولوجيا الغرب وتعود بها تبني أفريقيا عصرية جديدة.
عام 1959م وصل أبي إلى جامعة هاواي وهو في الثالثة والعشرين من عمره، ليكون أول طالب أفريقي في تلك الجامعة. ودرس الاقتصاد القياسي واجتهد في دراسته بتركيز ليس له نظير، وتخرج بعد ثلاث سنوات أول دفعته. كان له عدد ضخم من الأصدقاء، وساعد في تنظيم الاتحاد الدولي للطلاب، وكان أول رئيس له. وفي دورة لدراسة اللغة الروسية، قابل فتاة أمريكية خجولة مرتبكة كانت في الثامنة عشرة من عمرها فجمعهما الحب. وأسر والدا الفتاة - اللذان كانا متحفظين في البداية - بجاذبية الرجل وعقليته، وتزوج الشابان وأنجبا طفلا أورثه والده اسمه. ثم فاز الأب بمنحة دراسية أخرى، هذه المرة ليحصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد، لكنه لم يحصل على النقود التي تجعله يصطحب أسرته الجديدة معه. وحدث الانفصال، وعاد هو إلى أفريقيا ليفي بوعده للقارة. وظلت الأم والطفل في أمريكا، لكن بعد المسافة لم يؤثر على رباط الحب.
وهنا تنتهي صور الألبوم، وأبتعد أنا راضيا متدثرا بالقصة التي وضعتني في منتصف عالم شاسع ومرتب. وحتى في الرواية الموجزة التي قصتها علي والدتي وجداي، كان هناك الكثير من الأشياء التي لم أفهمها. لكني نادرا ما سألت عن التفاصيل التي من الممكن أن تحدد معنى كلمة «دكتوراه» أو «استعمار» أو أن أحدد موقع أليجو على الخريطة. بدلا من ذلك، احتل مسار حياة أبي المكان نفسه الذي احتله كتاب اشترته لي أمي ذات مرة، كتاب يسمى «الجذور»، وهو مجموعة من قصص الخلق من جميع أنحاء العالم، قصص لسفر التكوين والشجرة التي ولد عندها الإنسان، وبروميثيوس ونعمة النار، والأسطورة الهندوسية للسلحفاة التي تطفو في الفضاء وتحمل ثقل العالم على ظهرها. وفي وقت لاحق، عندما أصبحت أكثر اعتيادا على طريق السعادة الضيق الذي يوجد في التليفزيون والسينما، أصبحت الأسئلة تعصف بذهني؛ ما الذي يحمل السلحفاة؟ لماذا يترك إله قدير ثعبانا يسبب كل هذا الحزن؟ لماذا لم يعد أبي؟ لكن في سن الخامسة أو السادسة، رضيت أن أترك هذه الألغاز البعيدة دون المساس بها، كل قصة قائمة بذاتها وحقيقية كالتي تليها، تنجرف إلى أحلام هادئة.
وحقيقة أن أبي لم يكن يبدو مثل أي شخص ممن حولي، أنه أسود كالفحم وأمي بيضاء كاللبن، لم تعلق بذهني.
অজানা পৃষ্ঠা
في الحقيقة لا أتذكر سوى قصة واحدة تتناول بصراحة موضوع العرق، وعندما كبرت كانت تتكرر كثيرا، كما لو أنها تعبر عن جوهر القصة الأخلاقية التي أصبحت حياة أبي تمثلها. ووفقا للقصة، انضم أبي، بعد ساعات طويلة من المذاكرة، إلى جدي وعدد من الأصدقاء الآخرين في حانة محلية في منطقة وايكيكي. كان الجميع في مزاج مرح يأكلون ويشربون على صوت الجيتار الذي تشتهر به هاواي عندما أعلن رجل أبيض فجأة لساقي الحانة بصوت عال أسمع الجميع أنه لم يكن من المفترض أن يحتسي الخمر الجيد «بجوار زنجي». غرقت الحانة في الصمت واستدار الجميع إلى أبي متوقعين أن يشب شجار . لكن أبي نهض، وسار إلى الرجل وابتسم وبدأ يلقنه درسا عن حماقة التعصب الأعمى ووعد الحلم الأمريكي والحقوق العالمية للإنسان. وكان جدي يقول: «تملك الرجل شعور بالأسف الشديد عندما انتهى باراك من حديثه حتى إنه وضع يده في جيبه وأخرج 100 دولار أعطاها لباراك في الحال، ودفع مقابل جميع المشروبات والمقبلات التي تناولناها لباقي السهرة، بل إيجار سكن والدك لباقي الشهر.»
عندما بلغت سن المراهقة أصبحت أشك في صدق هذه القصة وطرحتها جانبا مع باقي القصص، حتى تلقيت مكالمة هاتفية بعد مرور سنوات كثيرة من رجل أمريكي من أصل ياباني قال إنه كان زميل والدي في هاواي وأنه يدرس في إحدى جامعات الغرب الأوسط. كان الرجل لطيفا للغاية، ويشعر بشيء من الخجل من اندفاعه، وأوضح لي أنه رأى حوارا معي منشورا في الصحيفة المحلية، وأن رؤية اسم والدي جعلت موجة من الذكريات تتدفق إلى ذهنه. ثم في أثناء الحوار الذي دار بيننا أعاد على أسماعي القصة نفسها التي أخبرني إياها جدي عن الرجل الأبيض الذي حاول أن يشتري عفو والدي، وقال لي الرجل عبر الهاتف: «لن أنسى هذا أبدا»، وسمعت في صوته النبرة نفسها التي سمعتها من جدي قبل سنوات كثيرة؛ نبرة عدم التصديق والأمل. ••• «اختلاط الأجناس». مصطلح يبدو قميئا مشوها ينذر بنتيجة بشعة، بالضبط مثل عبارة «ما قبل الحرب الأهلية الأمريكية» أو وصف شخص بأن «ثمن أسلافه من الزنوج»، إنها تستدعي صورا من عصر آخر، عالم بعيد من السياط والنيران، ونباتات المنغولية الميتة وأروقة المعابد المتداعية. ومع ذلك فلم تنجح المحكمة العليا بالولايات المتحدة في إقناع ولاية فيرجينيا أن منعها الزواج بين الأجناس المختلفة خرق للدستور إلا عام 1967م، وهو العام الذي احتفلت فيه بعيد ميلادي السادس، والعام الذي عزف فيه جيمي هندريكس في مونتيري وغنى، وبعد ثلاث سنوات من حصول الدكتور كينج على جائزة نوبل للسلام، وهو وقت كانت أمريكا قد بدأت فيه بالفعل تسأم مطالبة السود بالمساواة، وانتهت على ما يفترض مشكلة التمييز العنصري. أما عام 1960م، العام الذي تزوج فيه والداي، فكان اختلاط الأجناس لا يزال يوصف بأنه جريمة عظمى في أكثر من نصف ولايات الاتحاد. وفي أجزاء عديدة من الجنوب كان من الممكن أن يعلق أبي على شجرة لمجرد أنه ينظر إلى أمي نظرة غير لائقة؛ وفي أكثر مدن الشمال تحضرا كان من الممكن أن تدفع النظرات العدائية والهمسات أية امرأة في مأزق والدتي أن تقوم بعملية إجهاض غير شرعية، أو على الأقل أن تلجأ لدير بعيد يمكن أن يرتب لعملية التبني، وكان من الممكن اعتبار مجرد صورتهما معا مسألة فظيعة وشاذة؛ بمنزلة رد فعال على القلة من المتحررين الأغبياء الذين يدعمون أجندة الحقوق المدنية.
لكن السؤال: هل كنت ستدع ابنتك تتزوج واحدا منهم؟
ورد جداي بالإيجاب على هذا السؤال - بصرف النظر إلى أي مدى كان ذلك على مضض - يظل لغزا ملحا علي. فلم يكن هناك أي شيء في ماضيهما ينبئ بمثل هذه الإجابة، فلا يوجد مؤمنون بالفلسفة المتعالية من نيو إنجلاند أو اشتراكيون متطرفون في شجرة عائلتيهما. صحيح أن كانساس حاربت إلى جانب الاتحاد في الحرب الأهلية، وكان جدي يحب أن يذكرني بأن فروعا مختلفة من شجرة العائلة كانت تضم مناهضين متحمسين للعبودية. وإذا سألت جدتي فإنها ستدير رأسها إلى الجانب لتستعرض أنفها الأعقف الذي يدل - بالإضافة إلى عينيها الشديدتي السواد - على أنها من نسل قبيلة شيروكي (من السكان الأصليين للولايات المتحدة).
لكن صورة قديمة بنية اللون على رف الكتب كانت تعبر بوضوح عن جذورهما. يظهر فيها جدا جدتي، وهما من أصل اسكتلندي وإنجليزي، واقفين متجهمين أمام منزل متداع، يرتديان ملابس من صوف خشن، وعيونهما شبه مغمضة تنظر إلى الحياة الصعبة القاسية التي تمتد أمامهما. وكان لهما وجهان كاللذين يظهران في اللوحة التي رسمها جرانت وود التي حملت اسم القوطي الأمريكي وهم الأقارب الفقراء من نسل البروتستانت الأنجلو ساكسونيين البيض (واسب)، وفي عيونهما يرى المرء الحقائق التي سأعلم فيما بعد أنها وقائع؛ أن كانساس لم تنضم إلى الاتحاد حرة إلا بعد الأحداث العنيفة التي سبقت نشوب الحرب الأهلية في المعركة التي تذوق فيها سيف جون براون طعم الدماء لأول مرة، وأنه في حين كان أحد أجدادي الأوائل، وهو كريستوفر كولومبس كلارك، جنديا في جيش الاتحاد وحاصلا على أوسمة، كانت الشائعات تطارد أم زوجته أنها تمت بصلة قرابة من الدرجة الثانية لجيفرسون دافيس، رئيس الولايات الكونفدرالية التي انشقت عن الاتحاد، ومع أن أحد أجدادها الأوائل كان من قبيلة شيروكي فقد كان ذلك النسل مصدرا للخزي الشديد لوالدة جدتي، وكلما ذكر أحدهم هذا الأمر شحب وجهها، وتمنت أن تحمل هذا السر معها إلى قبرها.
هذا هو العالم الذي نشأ فيه جداي، وسط الدولة بالضبط المحاط بالأرض من جميع الاتجاهات، وهو مكان ترتبط فيه اللياقة وقوة التحمل وروح الريادة ارتباطا وثيقا بالامتثال لقواعد المجتمع، والشك واحتمال التعرض للقسوة التي لا يطرف لها جفن. لقد نشأ أحدهما على بعد أقل من 20 ميلا من الآخر؛ فجدتي نشأت في أوجوستا وجدي نشأ في إلدورادو وهما مدينتان أصغر من أن تظهرا بحروف بارزة على خريطة للطريق، ورسمت مرحلة الطفولة - التي كانا يحبان أن يقصاها كي أستفيد منها - بلدة صغيرة، كما رسمت أمريكا أثناء عصر الكساد بجميع مظاهر مجدها البريء؛ الاستعراض العسكري في الرابع من يوليو وعروض الأفلام التي كانت تقام على جوانب الحظائر، واليراعات الموضوعة في برطمان، والمذاق الحلو كالتفاح للطماطم الناضجة، والعواصف الترابية والثلجية، والفصول المكتظة بأطفال المزارع الذين لا يبدلون أبدا ملابسهم الداخلية الصوفية التي تلتصق بأجسادهم منذ بداية الشتاء، وتنبعث منهم رائحة كريهة مثل الخنازير مع مرور الشهور.
حتى أزمة انهيار المصارف ونزع ملكية المزارع بدت أمرا رومانسيا بعد أن غزلته ذاكرة جدي، وعندئذ كان الجميع يشترك في الشدائد التي تعد وسيلة عظيمة للمساواة بين الناس والتقريب بينهم. لذا كان على المرء أن يستمع بحرص ليدرك الترتيب الهرمي الدقيق والقوانين غير المعلنة التي كانت تحكم حياتهم في بدايتها، والتمييز بين الأشخاص الذين لا يملكون الكثير ويعيشون في مناطق نائية. لقد كان الأمر يتعلق بشيء يطلق عليه الاحترام؛ فقد كان هناك أناس محترمون وآخرون لا يحظون بقدر كبير من الاحترام، ومع أن المرء لا يجب أن يكون ثريا لينعم باحترام الناس؛ ففي الواقع عليه أن يبذل كثيرا من الجهد لينال هذا الاحترام إن لم يكن ثريا.
كانت عائلة جدتي محترمة. فكان والدها يعمل بوظيفة ثابتة طوال فترة الكساد، فيدير عقود تأجير الأراضي التي سينقب فيها عن البترول لشركة ستاندرد أويل. وكانت والدتها قبل أن تنجب تدرس في مدارس إعداد المعلمين. كانت الأسرة تحافظ على منزلها نظيفا، وتطلب كتبا من التي ترد في قائمة «جريت بوكس» عبر البريد، وتقرأ الكتاب المقدس ولكنها بصفة عامة كانت تتجنب الذهاب إلى الخيام التي تعقد بها اجتماعات النهضة المسيحية، وتفضل شكلا قويما من تعاليم الكنيسة الميثودية التي تقدر العقل على العاطفة والاعتدال على كليهما.
أما وضع جدي فقد كان أصعب. ولم يعرف أحد لماذا؛ فلم يكن جداه اللذان ربياه هو وشقيقه الأكبر ثريين، لكنهما كانا مهذبين ومعمدانيين يخافان الله، وينفقان على العائلة من أجرهما كعاملين في منصات النفط بالقرب من مدينة ويتشيتا. ومع ذلك فقد تحول جدي بطريقة ما إلى شخص طائش إلى حد ما. وأرجع بعض الجيران سبب ذلك إلى انتحار والدته؛ فقد كان ستانلي - الذي لم يتجاوز الثامنة - هو الذي وجد جثتها. وكان آخرون أقل رفقا به يهزون رءوسهم ويقولون إن الولد يحذو حذو والده زير النساء، ويرون أن هذا هو السبب الأكيد لمصير والدته التعس.
ومهما كان السبب، فعلى ما يبدو كان جدي يستحق السمعة التي عرف بها. ففي سن الخامسة عشرة، طرد من المدرسة الثانوية لأنه لكم الناظر في أنفه. وفي السنوات الثلاث التالية كان ينفق على نفسه من أعمال مختلفة؛ يتنقل بين عربات القطارات المتجهة إلى شيكاغو ثم كاليفورنيا ثم يعود أدراجه مرة أخرى، وأثناء هذا التنقل ينخرط في الهراء ولعب الورق وإقامة علاقات مع النساء. وكما كان يحب أن يقول، فإنه كان يعرف طريقه جيدا في ويتشيتا حيث انتقلت عائلته وعائلة جدتي في ذلك الوقت، وهي من جانبها لا تناقض ما يقوله، وبالطبع صدق والدا جدتي القصص التي سمعاها عن الشاب واستنكرا علاقته بها من البداية. وأول مرة أحضرت فيها جدتي جدي إلى منزلها ليقابل أسرتها ألقى والدها نظرة واحدة على شعر جدي الأسود الأملس الممشط إلى الخلف، ثم ابتسم ابتسامة الرجل الحكيم التي يرسمها دائما على شفتيه وعبر عن تقييمه الصريح: «إنه يشبه المتبخترين من الإيطاليين.»
অজানা পৃষ্ঠা
ولكن جدتي لم تأبه. فهي كمتخصصة في التدبير المنزلي حديثة التخرج في المدرسة الثانوية سئمت الامتثال لقواعد المجتمع، ولا بد أن جدي كان أنيقا وجذابا لها. في بعض الأحيان أتخيلهما في كل مدينة أمريكية في تلك السنوات التي سبقت الحرب، وهو يرتدي سروالا فضفاضا وفانلة بيضاء وقبعة عريضة الحواف يرجعها إلى الخلف على رأسه، وهو يقدم سيجارة إلى هذه الفتاة العذبة الحديث التي تفرط في طلاء شفتيها باللون الأحمر وتصبغ شعرها ليصبح أشقر ولها ساقان جميلتان تصلحان لاستعراض جوارب المتجر المحلي. أتخيله وهو يحدثها عن المدن الكبيرة، والطريق السريع الذي لا ينتهي، وهروبه الوشيك من السهول الخاوية التي يغطيها الغبار، حيث تعني الخطط الكبيرة العمل مديرا لبنك، وتعني التسلية آيس كريم بالصودا وحضور حفل في نهار يوم الأحد، وحيث يخنق الخوف وضيق الخيال أحلام المرء حتى إنه يعرف بالفعل في اليوم الذي يولد فيه أين بالضبط سيموت ومن سيدفنه. ويصر جدي على أنه لن ينتهي به الحال هكذا، فلديه أحلامه، ولديه خططه، وسينقل لجدتي عدوى التنقل التي جعلت أجدادهما يعبرون المحيط الأطلنطي ونصف قارة قبل سنوات كثيرة.
وهربا سرا ليتزوجا في توقيت قصف بيرل هاربور بالضبط، وجند جدي في الجيش. وعندئذ تسير أحداث القصة في ذهني بسرعة شديدة مثل مشهد نزع أوراق نتيجة حائط بوتيرة أسرع فأسرع في أحد تلك الأفلام القديمة بيد خفية، فتدور بسرعة في مخيلتي عناوين أخبار عن هتلر وتشرشل وروزفلت ونورماندي، إلى أن تصل العناوين لدوي القصف بالقنابل وصوت إدوارد آر. مورو وإذاعة بي بي سي. وأشاهد أمي وهي تولد في قاعدة الجيش حيث كان يتمركز جدي، وكانت جدتي إحدى النساء اللاتي عملن في المصانع الحربية أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت تعمل في خط تجميع قاذفة قنابل، وجدي يخوض في الوحل في فرنسا ضمن قوات الجنرال باتون.
وعاد جدي من الحرب دون أن يرى حربا حقيقية قط، واتجهت الأسرة إلى كاليفورنيا حيث التحق جدي بجامعة بيركلي بموجب قانون إعادة تأهيل رجال الجيش العائدين من الحرب. لكن غرفة الدراسة لم تتسع لطموحاته ونفاد صبره، ومن ثم انتقلت الأسرة مرة أخرى عائدة في البداية إلى كانساس، ثم عبر سلسلة من المدن الصغيرة في تكساس، وأخيرا إلى سياتل حيث استقر بهما المقام لفترة طويلة سمحت لوالدتي أن تنهي دراستها في المدرسة الثانوية. وعمل جدي بائعا للأثاث، واشتريا منزلا ووجدا شركاء يلعبون معهما لعبة البريدج. وكانا سعيدين لأن والدتي أثبتت تفوقها في المدرسة، مع أنها عندما عرض عليها الالتحاق المبكر بجامعة شيكاغو منعها جدي من الذهاب مقررا أنها لا تزال أصغر من أن تعيش بمفردها. •••
وعندئذ كان من الممكن أن تتوقف القصة؛ منزل وأسرة وحياة محترمة. فيما عدا أن شيئا واحدا كان لا يزال يقض مضجع جدي. ويمكنني أن أتخيله وهو يقف على حافة المحيط الهادي، وقد شاب شعره مبكرا، وأصبح جسده الطويل النحيل ممتلئا، ينظر إلى الأفق يراه وهو ينحني، ولا يزال يشم رائحة منصات النفط وقشر الذرة والحياة الصعبة التي ظن أنه تركها بعيدا وراءه. ولذلك عندما ذكر أمامه بالصدفة مدير شركة الأثاث التي يعمل بها أن متجرا جديدا على وشك أن يفتتح في هونولولو، وأن فرص ازدهار العمل هناك غير محدودة نظرا لأنها قريبا ما ستحقق استقلالها، أسرع إلى البيت في اليوم نفسه وتحدث إلى جدتي عن بيع المنزل وحزم حقائبهم مرة أخرى للشروع في آخر جولة في رحلتهم غربا، في اتجاه غروب الشمس ...
سيكون دائما بهذا الشكل، أعني جدي، دائما ما يبحث عن هذه البداية الجديدة، دائما ما يهرب من الأمور المألوفة. وعندما وصلت الأسرة إلى هاواي كانت شخصيته قد نضجت تماما على ما أظن؛ تلك الشهامة والرغبة في إسعاد الآخرين، ذلك المزيج الغريب من الخبرة والمعرفة وضيق الأفق، وسذاجة المشاعر التي من الممكن أن تجعله فجأة غير لبق ومن السهل جرح مشاعره. لقد كانت شخصيته شخصية أمريكية، نموذجا للرجال من جيله، الرجال الذين اعتنقوا مفهوم الحرية والفردية والطريق المفتوح دون أن يكونوا دائما على دراية بثمن ذلك، والذين من الممكن أن تقود حماستهم بالسهولة نفسها إلى جبن المكارثية أو إلى أعمال الحرب العالمية الثانية البطولية، الرجال الذين كانوا خطيرين وواعدين في آن واحد، وكانوا كذلك بسبب براءتهم المتأصلة، وهم الرجال الذين سيصابون بالإحباط في النهاية.
ومع ذلك فحتى عام 1960 لم يكن جدي قد تعرض للاختبار بعد، أوقات الإحباط ستأتي بعد ذلك، وحتى عندما تأتي فإنها ستأتي ببطء ومن دون العنف الذي كان من الممكن أن يغيره للأفضل أو للأسوأ. وقد أصبح يعتبر نفسه مفكرا حرا مخالفا لمن حوله، بل بوهيميا. وكان يكتب الشعر أحيانا ويستمع إلى موسيقى الجاز، ويعتبر عددا من اليهود الذين قابلهم في عمله في مجال الأثاث أقرب أصدقائه. وفي محاولته الوحيدة للدخول إلى الدين المنظم، كان يدرج أسماء الأسرة في الاجتماع المحلي للمتبعين لمذهب الكونية التوحيدية، وكانت تروقه فكرة أن التوحيديين يستخدمون نصوص جميع الأديان العظيمة (وكان يقول: «كما لو أن لديك خمسة أديان في دين واحد»). كانت جدتي تحاول أن تقنعه بالعدول عن آرائه في الكنيسة (فتقول: «بحق السماء يا ستانلي، ليس من المفترض أن يكون الدين مثل شراء حبوب الإفطار!»)، لكن إذا كانت جدتي أكثر شكا بطبيعتها، ولم تكن تتفق مع جدي في بعض مفاهيمه الغريبة، فإن الاستقلال العنيد لشخصيتها وإصرارها على التفكير في الأمور بنفسها، جعلهما بصفة عامة متقاربين.
كل هذا جعلهما متحررين إلى حد ما، مع أن أفكارهما لن تتحد أبدا لتكون ما يشبه أيديولوجية ثابتة، وفي هذا كانا أيضا أمريكيين. ولذا عندما عادت أمي إلى المنزل ذات يوم وتحدثت عن صديق قابلته في جامعة هاواي، وهو طالب أفريقي يدعى باراك، كان أول ما بدر إلى ذهنهما هو دعوته إلى العشاء. وأظن أنه جال في خاطر جدي أن ذلك الشاب المسكين على الأرجح وحيد وبعيد عن وطنه، وكانت جدتي ستقول لنفسها من الأفضل أن نلقي نظرة عليه. وعندما وصل أبي إلى باب منزلهما، من المحتمل أن جدي قد صدم على الفور بمدى تشابه الأفريقي مع أحد مطربيه المفضلين؛ نات كينج كول، وأستطيع أن أتخيله وهو يسأل أبي هل بإمكانه أن يغني، دون أن يفهم نظرة الارتياع التي ارتسمت على وجه والدتي، وكان جدي على الأرجح مشغولا للغاية يحكي إحدى دعاباته أو يتجادل مع جدتي حول كيفية طهي شرائح اللحم حتى إنه لم يلحظ أن والدتي مدت يدها وضغطت على اليد القوية الملساء إلى جوار يدها. ولاحظت جدتي ذلك لكنها كانت مهذبة بما يكفي لأن تقدم الحلوى وهي تعض على شفتيها؛ فقد حذرتها غريزتها من أن تبالغ في رد فعلها. وعندما انتهت الأمسية علق كلاهما على حدة ذكاء الشاب ومدى اعتزازه بنفسه الواضح في الإيماءات المحسوبة وجلسته الأنيقة وهو يضع ساقا فوق أخرى، وما أجمل اللكنة!
ولكن هل يتركان ابنتهما «تتزوج» واحدا مثله؟
إننا لا نعرف بعد، فالقصة حتى ذلك الحين لا تقدم تفسيرا مناسبا. الحقيقة أنهما - على غرار معظم الأمريكيين البيض في ذلك الوقت - لم يفكرا كثيرا في السود. فقد سلكت قوانين الفصل العنصري طريقها شمالا إلى كانساس قبل أن يولد جداي بزمن طويل، لكن هذه التفرقة بدت على الأقل حول ويتشيتا أكثر لطفا وأقل رسمية، ولم تتضمن ذلك القدر الكبير من العنف الذي سيطر على ولايات أقصى الجنوب. فقد أبقت القوانين نفسها غير المعلنة التي حكمت الحياة بين البيض التعامل بين الأجناس المختلفة عند أدنى مستوياته، وعندما يظهر السود في ذكريات جدي وجدتي عن كانساس، تكون صورا قصيرة؛ رجال سود يأتون بالقرب من حقول النفط من حين لآخر يبحثون عن عمل كعمال بالأجرة، أو سيدات سوداوات يأخذن ملابس البيض للتنظيف أو يساعدن في تنظيف منازل البيض. فالسود كانوا موجودين وغير موجودين، مثل سام عازف البيانو أو بولا الخادمة أو أموس وأندي على شبكات الإذاعة؛ حضور صامت غير ملحوظ لا يثير عاطفة ولا خوفا.
ولم تبدأ الأسئلة حول العرق تظهر في حياة عائلتي إلا عندما انتقلت إلى تكساس بعد الحرب. فقد تلقى جدي في أسبوعه الأول من العمل هناك نصيحة من زميله البائع في محل الأثاث عن كيفية التعامل مع الزبائن السود والمكسيكيين: «إذا أراد الملونون أن يلقوا نظرة على البضائع يجب أن يأتوا بعد ساعات العمل الرسمية، ويتولوا بأنفسهم ترتيبات توصيلها لأماكنهم.» وبعد ذلك تعرفت جدتي في المصرف الذي كانت تعمل فيه إلى الحارس، وهو رجل أسود طويل محترم من محاربي الحرب العالمية الثانية، ولا تتذكر إلا أن اسمه كان السيد ريد. وبينما كانا يتبادلان أطراف الحديث في الرواق في أحد الأيام ثارت ثائرة سكرتيرة في المكتب وهمست بغضب لجدتي بأنها لا ينبغي أن تخاطب أبدا «زنجيا بلقب السيد». وبعد ذلك بوقت قصير وجدت جدتي السيد ريد في ركن من المبنى يبكي بصوت منخفض، وعندما سألته ما الخطب نصب قامته وجفف عينيه ورد بسؤال.
অজানা পৃষ্ঠা
قال: «ماذا فعلنا حتى نعامل بهذا الاحتقار؟!»
لم تكن جدتي تعرف إجابة عن هذا السؤال في ذلك اليوم، لكن السؤال علق في ذهنها، وكانت تناقشه في بعض الأحيان مع جدي حين تأوي أمي إلى الفراش. وقررا أن تستمر جدتي في مخاطبة السيد ريد بلقب «سيد»، مع أنها تفهمت، بمزيج من الارتياح والحزن، المسافة التي أصبح الحارس يراعي الحفاظ عليها كلما مر أحدهما بجانب الآخر في الأروقة. وبدأ جدي يرفض دعوات زملائه في العمل للخروج واحتساء الجعة، ويخبرهم أن عليه العودة إلى المنزل كي يسعد زوجته. وأصبحا انطوائيين وقلقين وملأهما خوف مجهول وكأنهما غريبان دائمان في المدينة.
وكانت أمي هي أكثر المتضررين من ذلك المناخ السيئ الجديد. كانت في ذلك الوقت في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمرها، طفلة وحيدة لم تتعاف من حالة ربو شديدة إلا منذ وقت قليل. وقد جعلها المرض - بالإضافة إلى كثرة التنقل - وحيدة نوعا ما، كانت مرحة وخفيفة الظل لكنها تميل إلى أن تدفن رأسها في كتاب أو تخرج في نزهات سير فردية، وبدأت جدتي تقلق من أن ذلك الانتقال الأخير زاد من وضوح غرابة سلوكيات ابنتها. وكانت لأمي صداقات قليلة في مدرستها الجديدة، وكانت تتعرض بلا رحمة لمضايقات بسبب اسمها، ستانلي آن (أحد أفكار جدي التي تفتقد إلى الحكمة؛ إذ كان يريد ابنا). فكانوا يطلقون عليها ستانلي ستيمر أو الرجل ستان. وكانت جدتي عندما تعود من عملها تجدها عادة وحدها في الحديقة الأمامية تؤرجح ساقيها من فوق الشرفة أو تستلقي على الحشائش مستغرقة في عالمها المنعزل.
لكن ذلك الوضع اختلف في أحد الأيام. فعندما كانت جدتي عائدة إلى المنزل في أحد الأيام الحارة الهادئة وجدت جمعا من الأطفال محتشدين خارج السياج المحيط بمنزلهم. وعندما اقتربت جدتي استطاعت تمييز أصوات ضحكات ساخرة، وعلامات الغضب والاشمئزاز ترتسم على وجوه الأطفال. وكانوا يغنون بصوت حاد وبإيقاع متناوب: «محبة الزنوج!» «يانكي قذرة!» «محبة الزنوج!»
تفرق الأطفال عندما رأوا جدتي، لكن ليس قبل أن يقذف ولد حجرا كان في يده فوق السياج، وتتبعت عينا جدتي مسار الحجر وهو يهبط أسفل شجرة، هناك رأت سبب كل هذه الإثارة: كانت والدتي وبصحبتها فتاة سوداء في نفس عمرها تقريبا تستلقيان على بطنيهما إحداهما بجوار الأخرى على الأعشاب وجونلتاهما مرفوعتان فوق ركبتيهما، وأصابع أقدامهما تخترق تربة الحديقة، ورأساهما يستندان على يديهما أمام أحد كتب والدتي. ومن بعيد بدت الفتاتان ساكنتين تحت ظل أوراق الشجر. ولم تدرك جدتي أن الفتاة السوداء كانت ترتعش وعينا أمي مليئة بالدموع إلا عندما فتحت البوابة. ظلت الفتاتان بلا حراك، مشلولتين من الخوف، حتى انحنت جدتي في النهاية ووضعت يدها على رأسيهما.
وقالت: «إذا كنتما ستلعبان، فبحق السماء تعاليا إلى الداخل، أنتما الاثنتان.» وتابعت: «تعاليا!» ثم رفعت والدتي من على الأرض ومدت يدها إلى يد الفتاة الثانية، لكن قبل أن تستطيع التفوه بكلمة أخرى ركضت الفتاة بأقصى سرعتها، وبدت ساقاها الطويلتان كسيقان الكلاب من نوع الوبت السريعة حتى اختفت في الشارع.
استشاط جدي غضبا عندما سمع ما حدث، واستجوب أمي عما حدث ودون الأسماء. وفي اليوم التالي أخذ فترة الصباح إجازة من عمله لزيارة ناظر المدرسة. واتصل شخصيا بأولياء أمور بعض الأطفال الذين أهانوا ابنته ليصب عليهم جام غضبه. وقد حصل على الإجابة نفسها من كل ولي أمر تحدث إليه: «من الأفضل أن تتحدث إلى ابنتك يا سيد دونهام؛ فبنات البيض لا يلعبن مع الملونين في هذه المدينة.» •••
من الصعب أن يعرف المرء كيف يقدر أهمية هذه الأحداث، وما الإخلاص الدائم للقضية الذي تكون أو انهار، أو ما إذا كانت هذه الأحداث بارزة فقط في ضوء ما تبعها من أحداث. فكلما تحدث جدي معي عنها أصر أن عدم ارتياح الأسرة مع هذه العنصرية كان من بين الأسباب التي دفعتها لمغادرة تكساس. وكانت جدتي أكثر حرصا؛ فذات مرة عندما كنا وحدنا أخبرتني أنهم لم ينتقلوا من تكساس إلا لأن الأمور لم تكن تسير على ما يرام مع جدي في العمل، ولأن صديقا من سياتل وعده بشيء أفضل. ووفقا لها فلم يكن حتى مصطلح «العنصرية» في مفرداتهم في ذلك الوقت. فتقول: «كنت أرى أنا وجدك أنه علينا معاملة الناس بأسلوب مهذب يا باري. هذا هو كل ما في الأمر.»
إنها حكيمة بهذه الطريقة، فجدتي - التي تميل للشك في العواطف المفرطة أو الادعاءات المبالغ فيها - تقبل حكم الفطرة السليمة. لذا أميل إلى الثقة بروايتها للأحداث، فإنها تتفق مع ما أعرفه عن جدي من ميله لأن يعيد كتابة تاريخه ليكون متوافقا مع الصورة التي يتمناها لنفسه.
ومع ذلك فلا أستبعد تماما ما يقصه علي جدي من أحداث وأعتبره عملا من أعمال الثناء المفرط على الذات، أي صورة أخرى من إعادة كتابة التاريخ بشكل مغاير لدى البيض. لا يمكنني هذا، بالتحديد لأني أعرف مدى إيمان جدي الشديد بالقصص التي يرويها، ورغبته الشديدة في أن تكون حقيقية، حتى لو لم يعرف دائما كيف يجعلها كذلك. بعد تكساس لا أظن أن السود أصبحوا جزءا من القصص التي يرويها، القصص التي كانت تجد طريقها عبر أحلامه. وستصبح حالة العرق الأسود وآلامه وجراحه، تختلط في عقله مع آلامه الخاصة؛ الأب الغائب والإشارة إلى الفضيحة، والأم التي رحلت، وقسوة الأطفال الآخرين، وإدراكه أنه لم يكن صبيا أشقر الشعر، وأنه يبدو مثل «إيطالي متبختر». وأخبرته غريزته أن العنصرية كانت جزءا من ذلك الماضي، جزءا من التقاليد والجدارة بنيل الاحترام والمكانة، وجزءا من تكلف الابتسام والهمسات ونشر الإشاعات التي أبقته في الخارج يحاول أن يسترق النظر إلى الداخل.
অজানা পৃষ্ঠা
أظن أن هذه الغريزة لها أهمية؛ فقد اتجهت عند كثير من البيض من جيل جدي وجدتي ممن لهم نفس خلفياتهما العائلية إلى الاتجاه المضاد؛ اتجاه الجماهير. ومع أن علاقة جدي بوالدتي كانت قد توترت بالفعل في الوقت الذي وصلوا فيه إلى هاواي - فهي لم تتقبل قط عدم استقراره ومزاجه العنيف في معظم الأوقات وستصبح خجولة من قسوته وأخلاقه الفظة - فقد كانت تلك الرغبة في طمس الماضي، وتلك الثقة بإمكانية إعادة تشكيل العالم من الخيال هو الميراث الباقي له. وسواء أدرك جدي هذا أم لم يدركه، فإن رؤية ابنته في صحبة رجل أسود قدمت له على مستوى عميق غير مستكشف من ذاته نافذة تطل على قلبه.
ولكن معرفة الذات هذه - حتى إذا كان قد توصل إليها - لم تكن لتجعل تقبل خطوبة أمي أسهل له. في الحقيقة تظل مسألة كيف حدث الزواج ومتى حدث أمرا غير واضح، وهي التفاصيل التي لم أملك الشجاعة قط لاستكشافها. فلا يوجد تسجيل لحفل زواج بالمعنى المعروف، لا كعكة أو خاتم زواج أو إمساك والد العروس بيد ابنته ليسلمها لزوجها. ولم تحضره عائلات، حتى يبدو أن الناس في كانساس في ذلك الوقت لم يكونوا على علم به. مجرد حفل زواج مدني صغير، وقاض لإتمام مراسم الزواج القانونية. الأمر برمته يبدو هشا عند تأمله، عشوائيا للغاية ودون أي تنظيم. وربما يكون هذا هو الأسلوب الذي أراد جداي أن يتم به الأمر، تجربة ستمر، مسألة وقت فحسب، ما دام أنهما يحافظان على ثبات موقفهما ولم يقوما بأي سلوك عنيف.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنهما لم يخطئا في تقدير حزم أمي الهادئ فحسب، بل أخطآ أيضا في تقدير تذبذب مشاعرهما. وعندما ولد طفل، يزن ثمانية أرطال وأوقيتين وله عشر أصابع في قدميه ومثلها في يديه ويريد أن يأكل، ماذا كان يمكن أن يفعلا؟
بدأ الزمان والمكان يتآمران ويحولان الموقف العصيب إلى شيء يمكن تقبله، بل يمكن أن يصبح مصدرا للفخر. وكان جدي يجلس يشارك أبي احتساء الجعة ويستمع إلى زوج ابنته الجديد وهو يتحدث بجرأة عن السياسة أو الاقتصاد وعن أماكن بعيدة للغاية مثل الوايتهول أو الكريملين ويتخيل نفسه يستطلع المستقبل. ثم يبدأ يقرأ الصحيفة بحرص أكبر، ويجد أول التقارير التي تحدثت عن عقيدة الاندماج العنصري الجديدة في أمريكا، ويقرر أن العالم ينكمش، وأن العواطف تتغير، وأن الأسرة من ويتشيتا قد انتقلت في الواقع إلى مقدمة سياسة «الحدود الجديدة» التي تبناها كينيدي، وحلم الدكتور كينج الرائع. كيف يمكن لأمريكا أن ترسل رجالها إلى الفضاء وهي لا تزال تبقي مواطنيها السود في العبودية؟ وكانت إحدى أوائل الذكريات في حياتي؛ أن أجلس على كتفي جدي أشاهد رواد الفضاء يصلون من إحدى مهام بعثة أبوللو إلى قاعدة هيكام الجوية بعد هبوط ناجح. وأتذكر أن رواد الفضاء بنظاراتهم التي يضعها الطيارون كانوا على مسافة بعيدة للغاية، ولا أكاد أراهم عبر مدخل غرفة العزل. ولكن جدي كان يقسم دائما أن أحد رواد الفضاء قد لوح لي وأنا لوحت له. كان هذا جزءا من القصة التي يرويها لنفسه. لقد دخل جدي مع زوج ابنته الأسود وحفيده الأسمر البشرة إلى عصر الفضاء.
وأي ميناء يكون أفضل من هاواي، أحدث عضو في الاتحاد، لبدء هذه المغامرة الجديدة؟ حتى في الوقت الحاضر - بعد أن تضاعف تعداد سكان الولاية أربعة أضعاف، وبعد أن أصبحت وايكيكي تتاخم مطاعم الوجبات السريعة المختلفة والمتاجر التي تبيع شرائط الفيديو الإباحية والتقسيم الفرعي الذي يزحف دون رحمة إلى كل جزء من التل الأخضر - حتى في هذا الوقت يمكنني تعقب الخطوات الأولى التي خطوتها وأنا طفل منبهر بجمال الجزر. والسطح الأزرق المرتجف للمحيط الهادي. والمنحدرات التي تغطيها نباتات الأشنة الخضراء، والاندفاع الرائع لشلالات مانوا، وزهور الزنجبيل والظلال العالية المليئة بأصوات طيور غير مرئية. وأمواج الشاطئ الشمالي العنيفة، تتحطم كما لو أنها في بكرة شريط سينمائي في عرض بطيء. وظلال قمم بالي الجبلية، والهواء الرطب ذي الرائحة الطيبة النفاذة.
إنها هاواي! ولا بد أنها كانت في نظر عائلتي التي وصلت عام 1959 كما لو أن الأرض نفسها - بعد أن سئمت تدافع الجيوش والحضارة المريرة - أجبرت هذه السلسلة من الصخور الزمردية اللون على البروز حيث يستطيع الرواد من جميع أنحاء العالم أن يملئوا الأرض بأطفالهم الذين ستصبغهم الشمس باللون البرونزي. أما الغزو القبيح لسكان هاواي الأصليين عن طريق المعاهدات الفاشلة، والأمراض العضال التي أحضرتها البعثات التبشيرية، وتجريف التربة البركانية الغنية على يد الشركات الأمريكية من أجل زراعة قصب السكر والأناناس، ونظام التعاقد بين صاحب العمل والأجير الذي جعل المهاجرين من اليابانيين والصينيين والفلبينيين يكدحون دون توقف من شروق الشمس إلى غروبها في هذه الحقول، واعتقال الأمريكيين من أصل ياباني خلال الحرب؛ كل ذلك كان تاريخا حديثا. ومع ذلك ففي الوقت الذي وصلت فيه عائلتي كان ذلك قد اختفى بطريقة ما من الذاكرة الجماعية، مثل ضباب الصباح الذي بددته الشمس. كان هناك الكثير جدا من الأجناس - والسلطة مشتتة للغاية فيما بينهم - مما جعل من الصعب فرض النظام الطبقي الصارم المطبق في الدولة الأم، وعدد قليل للغاية من السود حتى إن أكثر أنصار الفصل العنصري حماسة يمكنهم الاستمتاع بإجازة بأمان في ظل معرفة أن الاختلاط بين الأجناس في هاواي ليس له علاقة بالنظام القائم في الوطن.
ومن ثم، نسجت خيوط أسطورة تقول إن هاواي بوتقة الانصهار الحقيقية، وتجربة في التجانس العرقي. وقد أقحم جدي وجدتي - ولاسيما جدي الذي كان يتعامل مع أناس كثيرين بحكم عمله في الأثاث - نفسيهما في قضية التفاهم المتبادل. ولا تزال هناك نسخة قديمة من كتاب ديل كارنيجي «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس» على رف مكتبته. وعندما كبرت كنت أسمعه يتحدث بذلك الأسلوب المرح الودود الذي رأى أنه سيساعده في عمله مع زبائنه. فكان من السهل عليه أن يخرج بسرعة صور العائلة ويروي قصة حياته على أول شخص غريب يقابله، ويصافح ساعي البريد ويشد على يديه، أو يلقي دعابات بذيئة على النادلات في المطاعم.
كانت مثل هذه السلوكيات الغريبة تجعلني أشعر بالخجل ولكن كان هناك أشخاص أكثر تسامحا من حفيده يقدرون صفاته الغريبة، حتى إنه كانت له دائرة واسعة من الأصدقاء، مع أنه لم يكن لديه تأثير كبير قط. فقد كان بالقرب من منزلنا متجر صغير يديره رجل أمريكي من أصل ياباني يدعو نفسه فريدي يحتفظ لنا بأفضل شرائح التونة من نوع سكيب جاك لصنع طبق الساشيمي، ويعطيني حلوى رايس كاندي المغلفة بورق أرز يمكن أكله. وفي أوقات كثيرة كان سكان هاواي الأصليون الذين يعملون في متجر جدي عمال توصيل للطلبات يدعوننا لتناول طبق «بوي» المميز لهاواي مع لحم الخنزير المشوي، الذي كان جدي يلتهمه بنهم (أما جدتي فكانت تدخن السجائر حتى تعود إلى المنزل وتقلي لنفسها بيضا). وفي بعض الأحيان كنت أذهب مع جدي إلى متنزه أليئي حيث كان يحب أن يلعب الداما مع فلبينيين كبار السن يدخنون سجائر رخيصة ويبصقون بكميات كبيرة عصارة بذور نبات التنبول التي تبدو كما لو أنها دم. ولا أزال أذكر كيف اصطحبنا رجل برتغالي - كان جدي قد باعه أريكة بثمن جيد - في وقت مبكر من صباح أحد الأيام قبل شروق الشمس بساعات لاصطياد سمك بالحربة من خليج كايلوا. كان هناك مصباح يعمل بالغاز يتدلى من الكابينة في قارب الصيد الصغير وأنا أشاهد الرجلين وهما يغوصان في المياه المظلمة السوداء كالفحم، وضوء كشافيهما يتوهج أسفل السطح حتى يظهرا ومعهما سمكة كبيرة ملونة تضرب بذيلها في طرف أحد الرمحين. وقد أخبرني جدي باسمها في لغة هاواي، وهو هومو-هومو-نوكو-نوكو- أبوا، وقد أخذنا نردده طوال رحلتنا إلى المنزل.
في مثل هذه البيئة، لم يسبب أصلي العرقي لجدي وجدتي الكثير من المشكلات، وسرعان ما تبنيا سلوك الازدراء الذي يتبعه السكان المحليون تجاه الزوار الذين يعبرون عن عدم ارتياحهم فيما يخص هذا الشأن. وفي بعض الأحيان عندما يرى جدي السياح يشاهدونني وأنا ألعب على الرمال، فإنه يقترب منهم ويهمس، باحترام لائق، قائلا إنني حفيد الملك كاميهاميها أول ملوك هاواي. وكان يحب أن يقول لي وهو يرسم ابتسامة عريضة على شفتيه: «أنا واثق من أن صورتك توجد في ألف كتاب للقصاصات يا باري، من ولاية إيداهو إلى ولاية مين.» أظن هذه القصة بالتحديد غامضة، وأرى فيها استراتيجية لتجنب الموضوعات الصعبة، لكن جدي كان يروي قصة أخرى بالسرور نفسه عن تلك السائحة التي رأتني أسبح يوما ما، ودون أن تعرف مع من تتحدث علقت قائلة: «لا بد أن سكان هاواي هؤلاء يولدون ماهرين بالسباحة.» فأجابها جدي إن هذا أمر يصعب اكتشافه إذ إن «هذا الصبي هو حفيدي، وأمه من كانساس ووالده من قلب كينيا، ولا يوجد محيط لمسافة عدة أميال من كلا المكانين.» ففي نظر جدي لم يعد العرق شيئا يستحق أن يقلق المرء بشأنه، فإذا كان الجهل لا يزال باقيا في أماكن بعينها، فسيكون من الباعث على الطمأنينة أن تفترض أن باقي العالم سرعان ما سيلحق بركب الحضارة والتقدم. •••
وفي النهاية أظن أن هذا هو ما كانت تدور حوله جميع القصص عن أبي. فإنهم لم يتحدثوا عن الرجل نفسه بقدر ما تحدثوا عن التغيرات التي حدثت في الأشخاص المحيطين به، والعملية المترددة التي تغير بها موقف جدي وجدتي تجاه العنصرية. لقد أعطت القصص صوتا لروح ستستحوذ على الأمة طوال الفترة القصيرة بين انتخاب كينيدي وإقرار قانون حق التصويت؛ الذي يعد الانتصار الظاهري للعالمية على محدودية التفكير وضيق الأفق، إنه عالم جديد مشرق حيث ستكون الاختلافات في العرق والثقافة مصدرا للتوجيه والتسلية، بل ربما تقود المرء للمجد. إنها قصة خيالية جيدة تطاردني قدر ما كانت تطارد عائلتي، وتستحضر بعض جوانب جنة مفقودة تمتد لأبعد من مجرد حدود الطفولة.
অজানা পৃষ্ঠা
ولم تكن هناك سوى مشكلة واحدة؛ أن أبي لم يكن موجودا. لقد ترك الجنة، ولم يكن شيء مما أخبرتني به أمي أو جدي وجدتي بإمكانه أن يلغي هذه الحقيقة الواضحة. وقصصهم لم تخبرني لماذا رحل. ولم يستطيعوا أن يصفوا كيف كانت ستبدو الأمور إذا لم يرحل. وعلى غرار الحارس السيد ريد أو الفتاة السوداء التي أثارت الغبار وهي تقطع أحد طرق تكساس مسرعة، أصبح والدي مجرد شخصية في قصة يرويها شخص ما. شخصية جذابة - شخص غريب قلبه من ذهب، الغريب الغامض الذي ينقذ المدينة ويفوز بالفتاة - ولكنه لا يزال شخصية في قصة مع ذلك.
إنني لا ألوم حقا والدتي أو جدي على هذا. فربما كان والدي يفضل الصورة التي رسموها له، بل ربما كان مشتركا في تصويرها. فهو يظهر، في مقال نشر في صحيفة «هونولولو ستار-بوليتين» عند تخرجه، شخصا متحفظا ومسئولا، في صورة الطالب النموذجي سفير قارته، وينتقد الجامعة بلباقة لأنها تحشد الطلاب الزائرين في مبنى خاص ملحق بالجامعة وتجبرهم على حضور برامج دراسية مصممة لتعزيز التفاهم الثقافي، وقال إن هذا يشتت انتباهه عن التدريب العملي الذي يسعى إليه. ومع أنه لم يتعرض شخصيا لأية مشكلات، فقد لاحظ أن البعض يعزلون أنفسهم عمن حولهم وأن هناك تمييزا عنصريا واضحا بين الجماعات العرقية المختلفة، وعبر بمرح ساخر عن حقيقة أن «القوقازيين» في هاواي يتعرضون أحيانا للتحيز. لكن إذا كان تقييمه يعبر عن بصيرة نافذة نسبيا، فقد كان حريصا على أن ينهي حديثه بملحوظة إيجابية؛ إذ قال إن أحد الأشياء التي يمكن أن تتعلمها الأمم الأخرى من هاواي هي استعداد الأجناس للعمل معا من أجل تحقيق التنمية المشتركة، وهو سلوك وجد المواطنين البيض في أماكن أخرى غير مستعدين للقيام به في معظم الأحيان.
اكتشفت وجود هذه المقالة مطوية بين شهادة ميلادي واستمارات تطعيم قديمة، عندما كنت في المدرسة الثانوية. كانت قصاصة صغيرة بها صورة له، دون ذكر لأمي أو لي، وتركت أنا لأتساءل عما إذا كان الحذف متعمدا من جانب أبي، استعدادا لرحيله الطويل. وربما لم يطرح الصحفي عليه أسئلة شخصية خوفا من أسلوب أبي المتعجرف، أو ربما كان الأمر قرارا من مجلس تحرير الصحيفة بصفته ليس جزءا من القصة البسيطة التي كانوا يبحثون عنها. وأتساءل أيضا هل سبب ذلك الحذف شجارا بين أبوي.
في ذلك الوقت ما كنت سأعرف لأني كنت أصغر سنا من أن أدرك أنه كان من المفترض أن يكون لي أب يعيش معي، بالضبط كما كنت أصغر من أن أعرف أني بحاجة لأن يكون لي عرق. ولفترة قصيرة للغاية بدا أن أبي قد سقط تحت تأثير التعويذة التي سقط تحت تأثيرها أمي وجداي، وحتى عندما كسرت تلك التعويذة، واستعادت العوالم - التي ظنوا أنهم تركوها خلفهم - سيطرتها عليهم، شغلت أنا المكان الذي كانت تحتله أحلامهم في السنوات الست الأولى من حياتي.
الفصل الثاني
كان الطريق إلى السفارة مختنقا بحركة المرور؛ السيارات، والدراجات البخارية، وعربات الأجرة الصغيرة التي تسير على ثلاث عجلات (ريكشا)، والحافلات الكبيرة والصغيرة التي تحمل ضعف سعتها من الركاب؛ موكب من العجلات والأذرع والسيقان، كل يحارب ليجد لنفسه مكانا أثناء قيظ ما بعد الظهيرة. استطعنا أن نشق طريقنا بضعة أقدام إلى الأمام، ثم توقفنا. ووجدنا مخرجا ننفذ منه ثم توقفنا مرة أخرى، ولوح سائق سيارة الأجرة التي نستقلها مبعدا مجموعة من الصبية الذين كانوا يبيعون اللبان والسجائر المفردة، وكاد أن يصطدم بدراجة بخارية تحمل عائلة كاملة على ظهرها؛ أبا وأما وابنا وابنة، مالوا جميعا معا كأنهم شخص واحد عند أحد المنعطفات، وكانوا يكممون أفواههم بمناديل للتخفيف من تأثير العوادم عليهم جعلتهم يبدون كعائلة من قطاع الطرق. وعلى جانب الطريق كانت مجموعة من النساء السمراوات ذوات البشرة الذابلة يلففن حول أجسادهن رداء بنيا باهت اللون يرتبن في أكوام سلالا من القش ممتلئة بفاكهة ناضجة، وميكانيكيان يجلسان أمام مرأب في الهواء الطلق، ويهشان الذباب بخمول وهما يفككان محركا. ومن خلفهما تنحدر بعض أجزاء التربة الطينية لتصبح مقلبا للنفايات المحترقة حيث كان طفلان مستديرا الرأس يطاردان بجنون دجاجة سوداء هزيلة. وانزلق الطفلان في الوحل وقشر الذرة وأوراق شجر الموز، يصرخان في سعادة حتى اختفيا في الطريق القذر خلفهما.
وما إن وصلنا إلى الطريق السريع حتى قل الزحام، خرجنا من سيارة الأجرة أمام السفارة حيث استقبلتنا إيماءات الترحيب من اثنين من رجال المارينز يرتديان ملابس أنيقة. وداخل فناء السفارة حل صوت الإيقاع المنتظم لتقليم الأشجار محل ضوضاء الشارع. كان رئيس أمي في العمل رجلا أسود بدينا قصير الشعر بدأ الشيب يخط صدغيه. ويتدلى علم الولايات المتحدة من على عصا طويلة بجوار مكتبه. وقد مد إلي يده مصافحا بقوة قائلا: «كيف حالك أيها الشاب؟» كانت تنبعث منه رائحة عطر ما بعد الحلاقة وياقة القميص المشدودة تحيط عنقه بإحكام. ووقفت منتصب القامة وأنا أجيب أسئلته عن تقدمي في الدراسة. وكان الهواء في غرفة المكتب باردا وجافا، مثل هواء قمم الجبال، نسيم نقي عليل.
انتهت مقابلتنا، وأجلستني أمي في المكتبة في حين ذهبت هي لإنجاز بعض الأعمال. انتهيت من قراءة كتب الرسوم المسلية ومن الواجب الدراسي الذي جعلتني أمي أحضره معي قبل أن أصعد على مقعدي لأستعرض الكتب على الأرفف. كانت معظم الكتب لا تثير اهتمام صبي في التاسعة من عمره؛ تقارير البنك الدولي، ودراسات جيولوجية، وخطط خمسية للتنمية. لكني وجدت في أحد الأركان مجموعة من أعداد مجلة «لايف» معروضة بشكل أنيق في غلاف بلاستيكي شفاف. قلبت في الإعلانات الجذابة - شركة جوديير للإطارات، وشركة دودج فيفر، وشركة زينيث لأجهزة التليفزيون («لماذا ليس أفضل الأنواع؟») وحساء كامبل (ممم، شهي!) - ورجال يرتدون بلوفرات بيضاء ذات رقبة طويلة يسكبون الخمر على الثلج ونساء يرتدين جونلات حمراء قصيرة يشاهدن بإعجاب، ولسبب غريب بث هذا في نفسي الطمأنينة. وعندما رأيت صورا إخبارية، حاولت أن أخمن موضوع القصة قبل قراءة التعليق. رأيت صورة لأطفال فرنسيين ينطلقون في شوارع معبدة بالحصى الكبير، كان مشهدا سعيدا يلعبون فيه لعبة الاستغماية بعد يوم من الكتب المدرسية والواجبات اليومية المملة، وكانت ضحكاتهم تعبر عن الحرية. ثم صورة سيدة يابانية تضع برفق فتاة صغيرة عارية في حوض غير عميق ، كان ذلك المشهد حزينا؛ فالفتاة كانت مريضة وساقاها ملتويتان ورأسها ملقى إلى الخلف على صدر الأم، كان الحزن محفورا على ملامح وجه الأم، ربما كانت تلقي باللوم على نفسها ...
وفي النهاية صادفت صورة لرجل عجوز يرتدي نظارة سوداء ومعطف مطر يسير في طريق خاو. لم أستطع تخمين ما الذي تدور حوله هذه الصورة؛ فلم يبد بها أي شيء غير عادي عن الموضوع. وفي الصفحة التالية وجدت صورة أخرى، هذه المرة صورة أقرب ليدي الرجل نفسه. وكانتا شاحبتين شحوبا غير طبيعي، كما لو أن الدماء قد سحبت من الجسد. فعدت إلى الصورة الأولى، وفي تلك اللحظة فقط رأيت أن شعر الرجل المجعد وشفتيه الغليظتين وأنفه العريض الضخم جميعها لها نفس اللون الشاحب المخيف.
وجال في خاطري أن الرجل يعاني مرضا شديدا، أو ربما يكون ضحية التعرض لإشعاع أو ربما يكون أمهق؛ فقد رأيت أحد هؤلاء الناس في الشارع قبل بضعة أيام، وشرحت لي أمي هذه الأشياء. لكن عندما قرأت ما صحب الصورة من تعليق أدركت أنه ليس واحدا من هؤلاء؛ فقد جاء في المقال أن الرجل تلقى علاجا كيميائيا لتفتيح لون بشرته. وقد دفع نقود العملية من أمواله الخاصة. ثم أبدى بعض الندم على محاولة تغيير نفسه إلى رجل أبيض، وكان يشعر بالأسف للنتيجة السيئة التي آلت إليها الأمور. لكن لا يمكن إعادة بشرته إلى ما كانت عليه. آلاف الأشخاص مثله، رجال ونساء سود في أمريكا كانوا سيودون الخضوع لهذا العلاج استجابة للدعاية التي تعدهم بحياة سعيدة إذا أصبحوا من البيض.
অজানা পৃষ্ঠা
تدفقت الدماء الساخنة إلى وجهي وعنقي، وبدأت معدتي تتقلص، وبدت الحروف غير واضحة أمام عيني. هل كانت أمي تعلم بشأن هذا؟ ماذا عن رئيسها، لماذا كان شديد الهدوء وهو يقرأ التقارير على مقربة منها في الرواق؟ وكانت لدي رغبة قوية في أن أقفز من على مقعدي لأريهم ما رأيته، وأن أطلب منهم تفسيرا أو طمأنة. لكن شيئا ما أوقفني. وكما يحدث في الأحلام لم يكن هناك صوت لمخاوفي الجديدة، وعندما عادت أمي لتصطحبني إلى المنزل كانت الابتسامة تعلو وجهي وعادت المجلات إلى مكانها الصحيح. والغرفة والجو عادا هادئين كما كانا من قبل. •••
كنا قد قضينا في إندونيسيا في ذلك الوقت ما يزيد عن ثلاثة أعوام نتيجة زواج والدتي من رجل إندونيسي اسمه لولو كان هو الآخر طالبا قابلته أمي في جامعة هاواي. واسمه يعني بلغة هاواي «مجنون»، الأمر الذي جعل جدي ينفجر ضحكا بلا توقف، لكن المعنى لم يكن مناسبا للرجل؛ إذ كان لولو يتمتع بكياسة وأخلاق شعبه. فهو قصير القامة أسمر البشرة وسيم الطلعة أسود الشعر كثيفه، له ملامح من الممكن أن تكون ملامح أحد أبناء المكسيك أو ساموا أو إندونيسيا، ويجيد لعب التنس، وله ابتسامة هادئة رائعة، وكان رابط الجأش أيضا. ولمدة عامين - منذ أن كنت في الرابعة حتى أصبحت في السادسة - احتمل عددا لا حصر له من ساعات لعب الشطرنج مع جدي وجولات طويلة من المصارعة معي. وعندما أجلستني أمي في أحد الأيام لتخبرني أن لولو قد عرض عليها الزواج ويريدنا أن ننتقل معه إلى مكان بعيد، لم أتفاجأ ولم أبد أي اعتراض أيضا. لكني سألتها هل تحبه؛ فقد أصبحت على خبرة كافية لأن أدرك أهمية مثل هذه الأشياء. فبدأ ذقن أمي يرتجف مثلما يحدث عندما تقاوم دموعها، وضمتني بين ذراعيها لوقت طويل مما جعلني أشعر بأني شجاع، مع أني لم أكن واثقا من سبب هذا الشعور.
ترك لولو هاواي فجأة بعد ذلك، وقضيت أنا وأمي شهورا نجري استعداداتنا؛ جوازات السفر والتأشيرات وتذاكر الطيران وحجز الفنادق وسلسلة لا تنتهي من الصور. وبينما كنا نحزم حقائبنا، أخرج جدي أطلس جغرافية العالم ووضع علامات على أسماء سلسلة جزر إندونيسيا: جاوة وبورنيو وسومطرة وبالي. وقال إنه يتذكر بعض الأسماء من قراءة أعمال جوزيف كونراد وهو صبي. كان يطلق عليها في ذلك الوقت «جزر البهار»، ولهذه الجزر أسماء ساحرة محاطة بالغموض. وقال: «يقول الكتاب إنه لا تزال توجد هناك نمور.» وتابع: «وإنسان الغاب.» ونظر إلى الكتاب واتسعت عيناه وقال: «يقول إنه يوجد هناك صائدو رءوس!» في ذلك الوقت اتصلت جدتي بوزارة الخارجية لتعرف هل البلد مستقر. وأيا كان من تحدثت إليه فقد أخبرها أن الموقف تحت السيطرة، لكنها أصرت على أن نحمل معنا عدة صناديق مليئة بالأطعمة: مسحوق عصير تانج، وحليب مجفف، وعلب من سمك الساردين. وقالت بحزم: «من يدري ماذا يأكل أولئك الناس!» فتنهدت أمي، لكن جدتي قذفت بعدة علب من الحلوى كي تكسبني إلى صفها.
أخيرا صعدنا على متن طائرة تابعة لشركة «بان أمريكان» لنبدأ رحلتنا حول العالم. كنت أرتدي قميصا أبيض اللون طويل الأكمام وربطة عنق مثبتة بدبوس، وقد أمطرتني المضيفات بألعاب ألغاز وكمية إضافية من الفول السوداني، وأجنحة طيار معدنية وضعتها فوق جيب القميص. وفي أثناء التوقف لثلاثة أيام في اليابان سرنا تحت أمطار شديدة البرودة لنرى تمثال بوذا الفضي العظيم في كاماكورا المصنوع من البرونز وتناولنا آيس كريم بالشاي الأخضر في معدية تنتقل عبر البحيرات الجبلية المرتفعة. وفي المساء كانت أمي تذاكر بطاقات تعليم اللغات الأجنبية المصورة. وما إن هبطنا من الطائرة في جاكرتا - كان مهبط الطائرات شديد الحرارة والشمس متوهجة كأنها فرن - حتى أمسكت بيد أمي عاقدا العزم على حمايتها من أي شيء قد نجابهه.
كان لولو هناك في استقبالنا، وقد ازداد وزنه بضعة أرطال، وأصبح هناك شارب كث يلوح فوق ابتسامته. وقد احتضن أمي ورفعني لأعلى في الهواء، وأخبرنا أن نتبع الرجل الصغير النحيل الذي يحمل حقائبنا في الطابور الطويل في الجمارك ثم إلى السيارة التي كانت بانتظارنا. ابتسم الرجل بابتهاج وهو يضع الحقائب في حقيبة السيارة، وحاولت أمي أن تقول له شيئا، لكن الرجل ضحك وأومأ برأسه. التف الناس حولنا يتحدثون بسرعة بلغة لا أعرفها وتنبعث منهم رائحة غريبة. ولوقت طويل شاهدت لولو يتحدث إلى مجموعة من الجنود الذين يرتدون زيا موحدا بني اللون. وكان بحوزتهم مسدسات يضعونها في جرابها، لكنهم بدوا في مزاج مرح، يضحكون على شيء ما قاله لولو. وعندما انضم إلينا لولو أخيرا، سألته أمي هل يريد الجنود فحص حقائبنا .
فقال وهو يستقل السيارة ويشغل مقعد السائق : «لا تقلقي ... لقد اهتممت بكل شيء.» وتابع: «إنهم أصدقائي.»
أخبرنا لولو أنه استعار السيارة، لكنه اشترى دراجة بخارية جديدة يابانية الصنع، وستفي بالغرض في الوقت الراهن. كان قد انتهى من إعداد المنزل الجديد ولم يتبق سوى قليل من اللمسات الأخيرة. وقد سجل اسمي بالفعل في مدرسة قريبة، وأقرباؤه يتوقون لمقابلتنا. وبينما كان يتحدث هو وأمي، أخرجت رأسي من النافذة الخلفية وأخذت أحدق فيما نمر به من مناظر طبيعية بنية وخضراء متعاقبة، وقرى تتبعها غابات، ورائحة وقود الديزل واحتراق الأخشاب. وكان الرجال والنساء يسيرون برشاقة مثل طيور الغرنوق عبر حقول الأرز، والقبعات القشية العريضة تخفي وجوههم. وكان هناك صبي مبتل وأملس مثل ثعلب الماء يجلس على ظهر جاموسة ماء لها وجه مضحك ويضربها على فخذها بعصا من الخيزران. أصبحت الشوارع أكثر ازدحاما؛ إذ ظهرت المحال الصغيرة والأسواق والناس يجرون عربات محملة بحصى وأخشاب، ثم أصبحت المباني أكثر ارتفاعا مثل المباني الموجودة في هاواي - فندق إندونيسيا الذي يقول عنه لولو إنه حديث للغاية والمركز التجاري الجديد، أبيض ومتألق - ولكن قليلا منها فقط كان أطول من الأشجار التي كانت ترطب الهواء على الطريق. وعندما مررنا بصف من المنازل الكبيرة العالية الحواجز وبها مخافر للحراسة، قالت أمي شيئا لم أستطع تمييزه بوضوح عن الحكومة ورجل يسمى سوكارنو.
فصحت أنا من المقعد الخلفي للسيارة: «من هو سوكارنو؟» لكن بدا أن لولو لم يسمعني. وبدلا من ذلك لمس ذراعي وتحرك أمامنا. قال: «انظر»، وهو يشير إلى الأعلى. وهناك كان يقف منفرج الساقين على جانبي الطريق عملاق ضخم يصل طوله إلى ارتفاع 10 طوابق على الأقل، وله جسد إنسان ووجه قرد.
قال لولو ونحن ندور حول التمثال: «هذا هو هانومان، الإله القرد.» فاستدرت في مقعدي وتسمرت وأنا أنظر إلى التمثال الوحيد الذي بدا شديد السواد في مقابل الشمس، ومتأهبا للقفز نحو السماء في الوقت الذي تدور فيه حركة المرور الضعيفة حول قدميه. وقال لولو بحزم: «إنه محارب عظيم.» وتابع: «يتمتع بقوة 100 رجل. وعندما يحارب الشياطين يهزمهم دائما.»
كان المنزل في منطقة تحت التطوير في ضواحي المدينة. والطريق يمتد عبر جسر ضيق فوق نهر واسع مياهه بنية اللون، وعندما مررنا رأيت فلاحين يستحمون ويغسلون ملابسهم على طول الضفاف المنحدرة بالأسفل. وبعد ذلك انعطف الطريق المعبد إلى الطرق المغطاة بالحصى، ثم طريق ترابي عندما انعطف ليمر أمام متاجر صغيرة وبيوت من طابق واحد مطلية بالجير حتى توقفت أخيرا عند ممرات المشاة الضيقة للقرى الصغيرة. كان المنزل نفسه متواضعا من الجص والطوب الأحمر، لكنه مفتوح ويدخله الهواء، وبه شجرة مانجو كبيرة في الفناء الأمامي الصغير. وعندما دخلنا من البوابة قال لولو إن لديه مفاجأة لي، وقبل أن يذكرها سمعنا صوت عواء يصم الآذان من أعلى الشجرة. فقفزت أنا وأمي إلى الوراء بهلع ورأينا مخلوقا كبيرا كثيف الشعر له رأس صغير مسطح وذراعان طويلتان تسببان الرعب يهبط إلى غصن متدل.
অজানা পৃষ্ঠা
فصرخت: «سعدان!»
صححت أمي: «بل قرد.»
فأخرج لولو حبة فول سوداني من جيبه ووضعها بين أصابع الحيوان. وقال: «اسمه تاتا.» وتابع: «وقد أحضرته من غينيا الجديدة إلى هنا من أجلك.»
فبدأت أتقدم قليلا كي أنظر إليه عن قرب، لكن تاتا هدد بأن يندفع فجأة للأمام، وكانت عيناه السوداوان الدائريتان شرستين ومليئتين بالشك. فقررت أن أظل حيث أنا.
فقال لولو وهو يعطي تاتا حبة أخرى من السوداني: «لا تقلق.» وتابع: «إنه مقيد بحبل. تعال، هناك المزيد.»
فنظرت إلى أمي، فابتسمت لي بتردد. وفي الفناء الخلفي وجدنا ما يشبه حديقة حيوان صغيرة: دجاج وبط يركض في كل مكان، وكلب أصفر كبير له نباح مخيف، واثنان من طيور الفردوس، وببغاء كوكاتو أبيض اللون، وأخيرا تمساحان صغيران كانا شبه مغمورين في بحيرة محاطة بسياج باتجاه نهاية المنزل. حدق لولو في التمساحين وقال: «لقد كانوا ثلاثة، لكن أكبرها خرج زاحفا عبر حفرة في السياج. وتسلل إلى حقل أرز ملك شخص ما وأكل إحدى بطات صاحب الحقل. وكان علينا أن نصطاده على ضوء الكشافات.»
كان الليل قد أوشك أن يرخي ستائره ، ولكننا أخذنا نزهة قصيرة على الطريق الطيني إلى القرية. ولوحت مجموعات من أطفال الجيران الضاحكين لنا وهم في منازلهم. وجاء بعض كبار السن من الرجال حفاة القدمين لمصافحتنا. وقفنا أمام منطقة عامة، حيث كان أحد رجال لولو يرعى بعض الماعز، وجاء ولد صغير إلى جواري يمسك يعسوبا يرفرف بجناحيه في طرف خيط. وعندما عدنا إلى المنزل، كان الرجل الذي حمل متاعنا يقف في الفناء الخلفي يطوي أسفل ذراعه دجاجة لونها بني يميل إلى الأحمر ويحمل في يده اليمنى سكينا طويلا. وقال شيئا للولو، الذي أومأ له ثم نادى على أمي وعلي. لكن أمي طلبت مني أن أنتظر حيث أنا ونظرت إلى لولو متسائلة. «ألا ترى أنه لا يزال صغيرا؟»
فهز لولو كتفيه ونظر إلي. قال: «على الصبي أن يعرف من أين يأتي عشاؤه. ما رأيك يا باري؟» فنظرت إلى أمي ثم استدرت لمواجهة الرجل الذي يحمل الدجاجة. فأومأ لولو مرة أخرى، وشاهدت الرجل وهو يضع الطائر أرضا، ويثبته برفق أسفل إحدى ركبتيه، ثم أبعد عنقه عن جسده ليصبح فوق بالوعة قريبة. ولدقيقة أخذ الطائر يناضل، ويضرب بجناحيه الأرض بقوة، وتطايرت بضع ريشات في الهواء لترقص مع الرياح. ثم سكن تماما، فمرر الرجل شفرة السكين على عنق الطائر في حركة واحدة هادئة. واندفعت الدماء في شريط قرمزي طويل. ونهض الرجل وهو يحمل الطائر بعيدا عن جسده، ثم ألقاه فجأة عاليا في الهواء. وسقط الطائر بصوت مكتوم على الأرض ثم جاهد ليقف على قدميه، ورأسه يتدلى بشكل غريب على جانبه ورجلاه تدوران بجنون في دوائر غير منتظمة. وشاهدت الدائرة التي يلف فيها الطائر تضيق، وأصبح الدم يسيل ببطء محدثا صوتا كالقرقرة، حتى انهار الطائر على الحشائش وقد فارق الحياة.
مسح لولو على رأسي بيديه وأخبرني أنا وأمي أن نذهب ونغتسل قبل العشاء. تناولنا نحن الثلاثة الطعام؛ دجاجا وأرزا بهدوء على ضوء مصباح أصفر خافت، ثم كانت الحلوى فاكهة حمراء قشرها كثير الشعر، رائعة المذاق في منتصفها حتى إنه لم يوقفني عن تناولها إلا آلام المعدة. وبعد ذلك سمعت - وأنا أنام وحيدا أسفل مظلة للحماية من الناموس - صوت صراصير الليل أسفل ضوء القمر، وتذكرت الانتفاضة الأخيرة للحياة التي شاهدتها قبل ساعات قليلة. ولم أكد أصدق حظي السعيد. ••• «أول شيء تتذكره هو كيف تحمي نفسك.»
وقفت في مواجهة لولو في الفناء الخلفي. وقبل ذلك بيوم عدت إلى المنزل وعلى جانب رأسي تورم في حجم البيضة. فنظر إلي لولو وهو يغسل دراجته البخارية وسألني ماذا حدث، فأخبرته عن مشادة وقعت بيني وبين صبي أكبر مني يقطن في آخر الشارع. وأخبرته أن هذا الصبي أخذ كرة قدم صديقي وجرى ونحن في منتصف اللعبة. وعندما طاردته التقط حجرا من الأرض. ثم قلت وصوتي يختنق من الحزن هذا ليس عدلا. لقد غشني.
অজানা পৃষ্ঠা
مرر لولو أصابعه في شعري وفحص الجرح بهدوء. ثم قال في النهاية قبل أن يعود إلى عمله: «إنه لا ينزف.»
ظننت بذلك أن الموضوع قد انتهى. ولكن عندما عاد إلى المنزل من العمل في اليوم التالي، كان معه زوجان من قفازات الملاكمة. وكانت لهما رائحة الجلد الجديد، الزوج الأكبر كان أسود اللون وكان الأصغر أحمر، وأربطتهما معقودة، وملقيان على كتفه.
انتهى لولو من عقد الرباط في قفازي وتراجع إلى الخلف ليرى نتيجة عمله. تدلت يداي إلى جانبي مثل مصابيح تتدلى في طرف سلك رفيع. فهز رأسه ورفع القفازين ليغطيا وجهي.
قال لولو: «أبق يديك مرفوعتين لأعلى.» وأخذ يضبط وضع مرفقي وتراجع ليتخذ وقفة مناسبة وبدأ يتحرك في مكانه. وقال: «عليك أن تستمر في التحرك، ولكن اخفض رأسك لأسفل دائما، لا تمنحهم هدفا يضربونه. بماذا تشعر؟» أومأت برأسي وأنا أقلده بقدر ما أستطيع. وبعد بضع دقائق، توقف ورفع راحة يده في مواجهة أنفي.
وقال: «حسنا. دعنا نر ضربتك.»
هذا شيء أعرف كيف أقوم به. فتراجعت خطوة للخلف، وشحذت قواي وسددت أفضل ضربة لدي. وتمايلت يده بالكاد.
فقال لولو: «ليس سيئا.» وأومأ لنفسه ولم تتغير تعبيرات وجهه. وتابع: «ليس سيئا على الإطلاق. لكن انظر أين يداك الآن. ماذا قلت لك؟ ارفعهما لأعلى ...»
رفعت ذراعي وسددت ضربات خفيفة لراحة يد لولو وأنا ألقي نظرة عليه على نحو متكرر وأدركت إلى أي مدى أصبح وجهه مألوفا لي بعد سنتين معا، مألوفا بالضبط كالأرض التي كنا نقف عليها. استغرقت أقل من ستة شهور كي أتعلم اللغة الإندونيسية والعادات والأساطير فيها. وتعرضت للإصابة بالجديري المائي والحصبة وتعافيت منهما، وتذوقت لسعة عصي المدرسين المصنوعة من الخيزران. وأصبح أقرب أصدقائي هم أبناء الفلاحين والخدم والموظفين الحكوميين العاملين بوظائف قليلة الأهمية، وكنا نركض في الشوارع مساء وصباحا، ونقوم بأعمال غريبة؛ فنمسك بصراصير الليل، ونحارب الطيارات الورقية بأسلاك حادة كالأمواس، وكان الخاسر يرى طائرته الورقية وهي تحلق بعيدا مع الرياح، ويعرف أنه في مكان ما هناك أطفال آخرون كونوا صفا يتحرك من جانب لآخر على نحو غير مستقر، ورءوسهم تتجه إلى السماء منتظرين أن تهبط عليهم جائزتهم. ومع لولو تعلمت كيف آكل الفلفل الأخضر الصغير نيئا على العشاء (مع كثير من الأرز)، وبعيدا عن مائدة العشاء، جربت لحم الكلاب (صعب المضغ)، ولحم الثعابين (أصعب) والجراد المشوي (مقرمش). وعلى غرار معظم الإندونيسيين، تبع لولو فرقة من الإسلام يمكن أن تتسع معتقداتها لتشمل بقايا العقائد القديمة الأكثر روحانية والهندوسية. وكان يرى أن الرجل يستمد قوته مما يأكله، ووعدني أنه سيحضر لنا قريبا قطعة من لحم نمر لنأكلها معا.
هكذا كانت تسير الأمور، مغامرة واحدة طويلة، إثراء لحياة صبي صغير. وفي خطابات لجدي كنت أسجل بصدق الكثير من هذه الأحداث، وأنا واثق بأن طرودا من الشيكولاتة وزبدة الفول السوداني الأكثر رقيا ستتبع هذه الخطابات. لكن لم تكن الخطابات تحمل كل ما أمر به؛ فبعض الأشياء وجدت أنه من الصعب تفسيرها. فلم أخبر جدي عن وجه الرجل الذي جاء يطرق بابنا في أحد الأيام وفي وجهه حفرة عميقة في المكان الذي من المفترض أن يكون فيه أنفه، وصوت الصفير الذي صدر منه وهو يسأل أمي بعض الطعام. ولم أذكر لهما أيضا تلك المرة التي أخبرني فيها أحد زملائي في منتصف فسحة اليوم الدراسي أن شقيقه الرضيع توفي الليلة السابقة بسبب روح شريرة جلبتها الرياح، والرعب الذي تراقص في عيني صديقي لوهلة قبل أن يطلق ضحكة غريبة ويلكمني في ذراعي ويطلق ساقيه للريح. ولم أذكر تلك النظرة الخاوية التي ارتسمت على وجوه الفلاحين في العام الذي لم تهطل فيه الأمطار قط، وانحناء أكتافهم وهم يتجولون حفاة في الحقول القاحلة المتشققة وينحنون كثيرا ليفتتوا التربة الزراعية بين أصابعهم، ولم أكتب عن إحباطهم العام التالي عندما هطلت الأمطار دون توقف لما يزيد عن شهر، مما أدى إلى ارتفاع منسوب المياه في النهر والحقول حتى إن المياه كانت تتدفق في الشوارع وقد وصلت إلى مستوى خصري، والعائلات تتزاحم لإنقاذ ما يملكون من الماعز والدجاج حتى بعد أن جرفت المياه أجزاء من أكواخهم.
عرفت أن العالم عنيف، ولا يمكن توقع ما سيحدث فيه وغالبا ما يكون قاسيا. ورأيت أن جدي لا يعرفان شيئا عن مثل هذا العالم، ولم يكن هناك مغزى من إزعاجهما بأسئلة لا يستطيعان الإجابة عنها. وفي بعض الأحيان، عندما كانت أمي تعود من العمل كنت أخبرها عن الأشياء التي رأيتها أو سمعت عنها، وكانت تضرب براحة يدها على جبهتي وتستمع إلي باهتمام، وتبذل قصارى جهدها في تفسير ما تستطيع. وكنت دائما أقدر هذا الاهتمام؛ فصوتها ولمسة يدها كانا يمثلان لي الأمان. لكن معلوماتها عن الفيضانات والتعاويذ ومصارعة الديوك جعلت هناك الكثير من الأشياء التي أود تعلمها. فكل شيء جديد علي كان جديدا عليها، وكنت أخرج من تلك الحوارات وأنا أشعر بأن أسئلتي قد منحتها سببا غير ضروري للقلق.
অজানা পৃষ্ঠা