يخرج الحي من الميت . سبحانه!
الفصل الثامن
الانتخابات في القرى مواسم. حين تقبل يصبح الجميع مشغولا بها لا يصرفه شيء عنها، إلا أن يكون موعد زراعة أو ري أو تسميد؛ فإن الأرض لا تعرف التأجيل، والنبات لا شأن له بالانتخابات؛ فهو لن يعطي صوتا، وهو أيضا لن ينال ما يناله أصحابه من مال أو من تسلية.
ولئن كان النفاق هو أعظم العملات تداولا في الحياة جميعها، فإن موسمه الأكبر هو أيام الانتخابات، نفاق متبادل يقدمه المرشحون إلى الناخبين، ويقدمه الناخبون إلى المرشحين مع ما يكرمونهم به عند زياراتهم. ويروي أحد المرشحين المشهورين أنه ذهب في يوم لزيارة بلدة من بلاد دائرته الانتخابية فلقيه الأهالي على الأعناق، واتجه الركب إلى بيت العمدة ليكون أول بيت يزوره المرشح في القرية، وكان التراب قد تصاعد إلى عيني المرشح حتى لم يعد يرى، وهو بطبيعته ذو عيون كليلة حساسة، فهمس في أذن العمدة أنه يريد أن يغسل وجهه، وسرعان ما أخلى الطريق له إلى الحمام، وغسل وجهه ونشفه ووضع نظارته على عينيه. ووجد بالحمام شيئا عجيبا، ووجد لافتات في حجم اللافتات التي استقبلته بها البلدة، لا فارق هناك بينهما إلا شيء واحد، هو أن هذه اللافتات تحمل اسم المرشح الآخر.
ولئن كانت الرشوة تتستر وراء الكلمات في مألوف الحياة، وإن كان المرتشي يقول دائما أن المال لغيره والراشي يتظاهر بأنه يصدق فإن الرشوة في أغلب الانتخابات تسفر عن وجهها سفورا كاملا، لا تتشح بساتر ولا تستخزي وراء الكلمات، ولا تستحي أن تصرح، فإذا لم يكن للبلدة كبير يرشى فقد تتمثل الرشوة في تبرع يقدمه المرشح لجامع يبنى، علم الله أنه تبرع لن يكتب في الحسنات أبدا. وإذا كان كبير البلدة عفيف النفس وطلب إلى المرشح ألا يقدم أي تبرع في أثناء الانتخابات سعى الصغار إلى المرشح يوسعونه مطالب واستجداءات، حتى ليتمنى لو كان كبير البلدة مرتشيا؛ فطلبات الأفراد لا نهاية لها، أما التبرع أو رشوة الكبير فرقم محدد وينتهي الأمر. ولما كان المكر السيئ يحيط بأهله دائما، فالراشون هم في الأغلب الأعم هم الساقطون، فإن المرشح الواثق بنفسه لا يقبل مساومة في فترة الانتخابات قط، حتى لأعرف مرشحا كلفه المطعم والمشرب واستقبال الناخبين مبلغا لا يتجاوز بضع مئات، ولكنه خشي أن يعرف أحد هذا فيظن أنه أنفق في الرشوة مالا، فقال لابنه وهو ينبئه بالحساب: لا أحب أن يعرف أحد أنني أنفقت هذا المبلغ. وكان نجاح هذا المرشح ساحقا.
فالمرشح السياسي الخبير بالانتخابات يعلم أن الصوت الذي يشتريه لم يصبح له، وإنما يصبح سلعة في السوق. وإذا كانت السلعة يدفع مشتريها ثمنها ويتسلمها، فإن الصوت سلعة غير أمينة ولا مأمونة؛ فهي تأخذ من كل المرشحين ثم لا تنتخب أحدا على الإطلاق، أو قد تنتخب من لم يدفع لها شيئا.
ولكن حين يكون بين المرشحين مجرم مثل عز الدين الخولي فإن الأمر يختلف كل الاختلاف؛ فإن أغلب البلاد لا تريد أن تتعرض لزبانيته ومجرميه، الذين يسلطهم على عباد الله فيفعلوا بهم الأفاعيل، من حرق للزرع إلى سرقة للبهائم إلى قتل إذا احتاج الأمر إلى قتل. والبلاد في الريف تخاف على زرعها وعلى بهائمها وعلى أرواحها، ولكنها لا تحب أن تعلن أنها خائفة، فهي تتظاهر بذكاء لا يتأتى إلا للفلاحين أنها تنتخب المرشح المجرم عن حب وطواعية وليس عن خوف وإذعان، وأنها تختاره راغبة لا راغمة. والمجرم أعمى البصيرة بطبيعة تكوينه، وإن لم يكن كذلك لأدرك أن مال العالم وسلطانه أجمع لا يساوي دم إنسان بريء واحد من الدماء التي يريق، وبهذا العمى في البصيرة يصدق أنه محبوب من دائرته، وأنها تنتخبه عن إقبال وحب. وقد يسأل واحد من الذين لم يعيشوا في الريف: ألا يسأل المجرم نفسه لماذا يحبه الآخرون وهو قاتل سفاح يهدد مصادر رزقهم، ويقض منهم المضاجع، ويجعل حياتهم رعبا وموتهم لعبة؟ إن هذا السؤال قد يرد على ذهن المجرم، وهو واجد عند نفسه الجواب؛ فهو يظن أن الفلاحين ما داموا يطربون حين يسمعون حكايات أبو زيد الهلالي وعنتر بن شداد والزناتي خليفة، وما دام بعضهم يروي لبعض حكايات أدهم الشرقاوي ومن تبعه بإجرام إلى الخط، فهم إذن يعجبون بالرجل القوي الذي يصادر الحياة، ويجعل من نفسه جلادا لمن يقول في وجهه لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهو منطق كما ترى سخيف وساذج. أما الطرب من الفلاحين لحكايات الأبطال فهو شعور بأن هؤلاء الذين تروى عنهم الأساطير قد واجهوا الظلم بمثله ودافعوا الطغيان بالقوة والعنفوان، وهو ما كان الفلاحون يتمنون أن يصنعوه مع أمثال عز الدين الخولي؛ فعنتر وأبو زيد والزناتي وأضرابهم هم إزاحة الغضب الذي يغتلي في نفوس المغلوبين على أمرهم، أمام القوة الغاشمة المتمثلة في أسلحة الطغاة وأعوانهم.
أما رواية الفلاحين لقصص المجرمين من معاصريهم فهي اتقاء لشرهم وتظاهر بالإعجاب بهم، عساهم أن ينأوا عنهم بإجرامهم وأذاهم؛ فالفلاحون إذن بما يروون إنما يتقون شرا ولا يعجبون بشرير، إلا أن يكونوا أطفالا يسمرون ما يلبثون مع الأيام أن يدركوا الحقيقة، وأن يعلموا الذميم والطيب والفساد والصلاح والأعوج والقويم.
ولكن عز الدين الخولي وأمثاله لا يحبون هذا الحق، وإنما يحبون أن يهيئوا لأنفسهم أنهم أبو زيد وعنتر والزناتي وأدهم الشرقاوي والخط جميعا، وأنهم محبوبون.
ولهذا لم يكن عجيبا أن يزور عز الدين الخولي بلاد الدائرة في سيارة مكشوفة، وخلفه صفوف من السيارات التي استأجرها للانتخابات بأسعار توشك أن تكون رمزية؛ فأصحاب السيارات أصحاب أولاد يخشون أن يخطفوا وأصحاب أرواح يخشون أن تحرق، فهم إذن يقدمون سياراتهم له بكل الحب وبألفاظهم صائحين أنها ملكه هي وأصحابها، مقسمين بالطلاق ألا يتقاضوا مليما، وما يزال بهم حتى ينزلوا على أمره ويقبلوا ما يعرضه. وقد كان ما يعرضه سفاكا للمال كما هو سفاك للدماء، وكانت الانتخابات قد بدأت، وكان عز الدين منتميا لحزب الوزارة التي تركت الحكم، ولكنه في نفاق واضح لا شبهة فيه ولا مراوغة ترك حزب الحكومة المولية وانضم إلى حزب الحكومة الحاضرة؛ فالرجل لم يدع في يوم من الأيام أنه ذو مبدأ، أو أنه سياسي، أو أنه - لا قدر الله - ذو شرف.
অজানা পৃষ্ঠা