أما غابة الإنسان فهي بعيدة عن ذلك كل البعد، فإذا كان الحيوان قد حرمه الله حق الاختيار فإنه سبحانه قد فرض على الإنسان هذا الحق بما وهبه من نعمة العقل، ومن نعمة الرحمة، ومن نعمة المشاعر الرقيقة. وكان طبيعيا ما دام العدل المطلق قد وهب للإنسان كل هذه الحقوق أن يفرض عليه واجب الأمانة، التي عرضها على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان. وهو سبحانه حين حمله هذه الأمانة الثقيلة فرضها عليه حين اختار هو أن يقبلها؛ فحين خلق الله آدم طلب إليه ألا يمس شجرة من الجنة، وما شجرة في جنة عرضها السموات والأرض؟ فحين عصى آدم ربه اختار إذن أن يحمل الأمانة. إن الإنسان كان ظلوما وهكذا ظل.
قليل من وجهاء الريف من كان يضع تحت حمايته مجرما أو عددا من المجرمين؛ ففي كل منطقة قد نجد واحدا من هؤلاء الوجهاء غير الوجهاء في الدنيا أو في الآخرة. وغالبا ما تكون المناطق نقية منهم كل النقاء تسمع عنهم في الجهات المجاورة، ولكنها لا تعرفهم ولا تشتهي أن تعرفهم، بل إن الجميع يدعون الله أن يبعدهم عنهم ويعمي عيونهم عن بلادهم وأملاكهم وأرواحهم؛ فهم يعرفون عنهم كل شيء معرفة يقين، ويعرفون أنهم متوحشون يستأجرهم سادتهم لقتل من يجرؤ أن يناقشهم في أمر، أو يتوانى في تنفيذ إشارة إصبع تصدر عن ذلك الوجيه غير الوجيه.
وكانت بلدة الصالحة متطهرة من هذا الوباء، وكانت كل صلتهم به ما يسمعونه عن أبو سريع الفرحان، ذلك المجرم الدموي الذي يأوي بعصابته إلى ظل عز الدين بك الخولي، عضو مجلس النواب عن الدائرة التي تتبعها الصالحة. وكانت الصالحة ترد عن نفسها العدوان بأن تعطي أصواتها لعز الدين متظاهرة بالطواعية حتى لا يكون هناك أي مبرر أن يقترب منها أبو سريع. والبلدة لم تكن متحمسة لمرشح آخر؛ فهي لا تجد بأسا أن تنتخب حامي المجرمين هذا، مرتئية أن فيما تفعله كياسة لا تضيرها.
وفي يوم كان وهدان جالسا إلى أسرته جميعا؛ أما الأم فقد كانت تصلي، وكان وهدان يقرأ القرآن، وكانت فاطمة تقرأ في كتاب اشتراه لها أخوها خليل، وعابدة تنظر إلى الجميع وترى في وجوههم القلق الشديد، الذي يحاول كل منهم أن يخفيه بشتى وسائل، حتى لا يثير بقلقه قلق الآخرين. ولم يكن عجيبا أن يتولاهم هذا القلق؛ فخليل هو أملهم أن يصبح لهم شأن في حياة العلم، بعد أن ترك سباعي المدرسة وهو طفل في العاشرة، فلم يتعلم منها إلا قراءة وكتابة توشك أن تكون عاجزة. أما خليل فقد مضى في التعليم مضيا موفقا، وكان متقدما في دراسته دائما. وهم اليوم ينتظرون نتيجة التوجيهية التي حملت اسمها هذا؛ لأنها تعطي لحائزها الحق أن يتوجه في التعليم الجامعي إلى الكلية التي يختارها؛ فهي نهاية التعليم العام، أو هي بلغة وزارة المعارف نهاية التعليم الثانوي.
كان الأب والأم والابنتان جميعا في هذا القلق، الذي تشعر به عابدة وتراه على وجوههم. وكان سباعي كشأنه بعيدا عن قلق الأسرة وعن اجتماعها هذا، بل هو حتى لم يكن يدري أن نتيجة شهادة التوجيهية ستظهر في هذا اليوم؛ فهو دائما في شأن يظن أنه يغنيه، وهو دائما بعيد عن أسرته ومشاعرها بما يشغل به نفسه من شواغل، منها الأرض والمحصول، ومنها غير ذلك.
كان في يومه هذا يلبي دعوة على الغداء دعاه إليها شعبان الخولي بن عز الدين الخولي الذي تعرف به منذ قريب في مقهى بالمركز. وأراد شعبان أن يظهر ابن وهدان على القصر الذي ابتناه أبوه بقريتهم العدوة، وأراد أيضا أن تصل بينه وبين ابن الرجل الذي يعتبر أغنى من في الصالحة آصرة صداقة؛ فقد كان شعبان أيضا ممن نكصوا عن التعليم شأن سباعي. وكما يلتقي الفلاح بالفلاح فيتناجيان ويتعارفان ويجدان شيئا دائما يقولانه يلتقي الغريبان فيتناجيان، ويتعارفان، ويجدان شيئا يقولانه فيصبحان صديقين، ولكن لا بد لنا أن نكون منصفين؛ فإن يكن شعبان وسباعي قد فشلا في المضي قدما على درج التعليم، فقد كان كل منهما فلاحا من الطبقة الأولى يعرف ما تحتاجه الأرض، ويقدمه لها في كرم ومهارة وحذق، واثقين أن الأرض خير شيء يرد ما يأخذ أضعافا مضاعفة. وقد كان وهدان يجد في قدرة سباعي الفائقة على رعاية شئون الأرض ما يعزيه عما جبل عليه من خلق لا يرضيه، ولكنه شأن الناس أجمعين كان يتلمس لطف الله فيما يصاب به. وقد وجد لطفه سبحانه في براعة سباعي الزراعية، وراح يقول لنفسه: ربما أراد سبحانه أن يجعل منه حارسا على الأرض يرعاها من بعدي لإخوته عني. وإن كانت غصة تلوي عزاءه بعض الشيء، أتراه سيحرسها أم سينهشها؟ الله وحده يتولى عباده بما يرضاه.
كان سباعي إذن يلبي دعوة شعبان، وقبل أن يأتي الغداء جلس الضيفان في غرفة الاستقبال الواسعة الأرجاء، وقال سباعي: ما سمعنا عن سعادة البك والدك ولا عن سعادتك إلا كل كرم. - أرأيت بخلا؟ - نعم رأيت. - ولكن الأكل لم يظهر بعد. - قطعة جبن تنبئ عن الكرم في كثير من الأحيان. - فماذا تقصد؟ - أنتغدى وحدنا؟! - آه! أنا أردت ألا يشاركنا أحد الحديث. - وهل يحلو الحديث إلا باللمة. - ومن تريد؟ - أين أبو سريع؟ - والله هو هنا اليوم. - فلماذا لم تدعه معنا؟ - أدعوه. إن بيته قريب. - لا بد أن يكون بيته قريبا!
وضحك شعبان، وقال سباعي: ادعه يا شعبان بك، وادع رجاله، واللقمة الهنية تكفي مية.
وجاء أبو سريع، وعرف أن الذي دعاه هو سباعي، وحمد هذا له؛ فما كان يتناول طعامه على مائدة عز الدين بك إلا عندما يكون هناك أمر جليل يريد أن يكلفه به. أما شعبان فما كان يهتم بدعوته مكتفيا بأن يعطيه من حين لآخر بعض المال. •••
حين عاد سباعي إلى البيت وجد الكثيرين أمام بابه، ووجد الدوار مبتسما فرحا. وعجب! إنه هو فرحان نعم أن تغدى مع شعبان وأبو سريع ورجال أبو سريع، ولكن ما هذا الفرح في بيتهم؟ وعرف أن أخاه حصل على التوجيهية. والعجيب أو ربما ليس عجيبا أن يشعر بالفرح؛ فخليل بهذا قد أصبح من أهل الكتب وليس لهؤلاء صبر على الفلاحة. لقد تأكد في لحظة علمه أن أخاه ذاهب إلى الجامعة وإلى كلية الطب، أن أرض أبيه أصبحت له وحده من بعده.
অজানা পৃষ্ঠা