وليس في هذا المقترح شيء غريب؛ لأنه إذا كان في الدين من القوة ما يحث طائفة من الناس على أن تقبل النسك والاعتكاف في دير قصي، تتعبد فيه ولا تفكر في ولد يخلفها ميراث أو تعقبه له ، فليس من الكثير على أبناء القرن العشرين أن تتألف بينهم «رهبانية» يكون غرضها خدمة الإنسان بدلا من خدمة الآلهة.
الحقيقة بنت الوهم
إذا كانت الحقيقة هي بنت البحث، فإن البحث هو أيضا ابن الوهم، نتوهم أولا ثم نبحث ثم نتحقق، نحلم ببناء البيت ونتوهمه في مخيلتنا قائما مشيدا، ثم نبحث عن مواده وأسبابه ثم نبنيه طبق توهمنا الأول، وما من ثورة أو انقلاب أو إصلاح توافرت أسبابها لأمة ما إلا وكانت وهما يتوهمه قبلا أحد مفكريها.
والقضية لا تنعكس؛ فإن كثيرا من أوهام العلماء وأحلامهم ذهبت هباء؛ إما لأنها كانت أضغاثا وركاما غير منسقة؛ وإما لأنها جاءت قبل أوانها، ولكننا لو عرضنا طائفة من الانقلابات الحديثة لرأينا فيها أثر المثل العليا التي رآها الفلاسفة والمفكرون، وقد يظن القارئ لفرط ما هو لاصق بالحقائق أن أثر هذه الأحلام ضعيف في مجتمعنا، والحقيقة أنه كبير جدا، بل هو أكبر في بعض الحالات مما كان يجب أن يكون، فلو أن الشيوعيين في روسيال مثلا لم يستسلموا كل الاستسلام لمن حلموا بالشيوعية مثل «باكونين» و«كرويتكين» وغيرهما لعدلوا بنظامهم الذي أعقب الثورة عن كثير من نقائضه.
ثم ليس هناك شك في أن «عصبة الأمم» ليست إلا تحقيقا لحلم المسيحية في إيجاد السلام في العالم، وقد حلم نيتشه ب «حكومة الولايات المتحدة الأوروبية»، ورأى ولز في طوباه حكومة عالمية يخضع لها العالم كله.
واعتبر مثلا تلك الثورة الأمريكية التي انتهت بتأسيس الولايات المتحدة، أو تلك الثورة الفرنسية التي انتهت بمحو الملوكية من فرنسا، تجد أنهما إنما جاءتا عقب أحلام الفلاسفة في فرنسا وأمريكا عن الحرية والمساواة، وسائر هذه الأفكار التي لا يزال الناس للآن يجدون في سبيل تحقيقها.
بل اعتبر التعليم العام والدعوة إليه، فقد دعا إليه كثير من الفلاسفة وهو لا يزال للآن - على الرغم من انتشار المدارس - خيالا أكثر مما هو حقيقة، وهنا في مسألة التعليم هذه يجب أن نقف لكي نرى شيئا من فعل الخيال في النفس وسيطرته على العقل، فإن جميع من تخيلوا المثل العليا لم ينسوا أن يفكروا في التعليم وتعميمه، كما أن الذين تشرفوا إلى عهد المساواة ورجوا تحقيقه لم ينسوا أن يذكروا أن المساواة في فرصة التعليم هي أرقى ضروب المساواة وأعدلها، وكانت نتيجة ذلك أنه لم ينتصف القرن التاسع عشر حتى كانت جميع الأمم الأوروبية قد رسخ في أذهان أبنائها وجوب تعميم التعليم، ولكن فرقا بين خيال الفيلسوف ينضجه رأسه المثقف، وبين الحقيقة تتناولها أيدي المتوسطين من الناس، فإن التعليم الآن على عمومته في أوروبا، ومجانيته، لا يزال صورة وقشرا أكثر منه حقيقة ولبا؛ إذ هو في الواقع الراهن لا يزيد عن أن يكون لعبة أدواتها الورق والقلم، فالصبيان يتعلمون شيئا من الجغرافية على الورق، وشيئا من التاريخ على الورق، وحساب البيع والشراء على الورق، والرسم ينقل من الورق إلى الورق، والأشعار تحفظ من الورق.
وفي جميع البيوت أو أكثرها تجد ورقا مضموما بعضه إلى بعض، يسمى الكتب، ندعي كلنا أن فيها معلومات مفيدة، وقد نشأ من هذا التعليم أن كثر الورق حتى صرنا نقرأ عدة صحف من ورق كل يوم، وصرنا نعتاض من التمثيل مثلا آخر ينقل من ورق أو ما يشبه الورق إلى ورق أو ما يشبهه، ولكن أولئك الفلاسفة الذين تخيلوا التعليم العام لم يعتقدوا قط أن هذه الثقافة الورقية هي نتيجة أحلامهم، وهم لو سألتهم: كيف يجب أن يعلم الرسم؟ لأجابوك على الفور: في الحقل، وفي الغابات وفي الأسواق، وعند قطعان الغنم، وأمام بواسق الأشجار، ولو أنت طلبت من ولز: كيف يجب أن نعلم الجغرافيا أو التاريخ؟ لأجابك على الفور: وهل مثل هذا السؤال يسأل؟ وهل في العالم سبيل آخر إلى تعلمها غير السياحة؟ وهل من العدل أن يموت إنسان في هذا العالم لم يعرف البحر أو الجبل، ما هما؟
ولو أنت سألت أحد الكيميائيين العظام: كيف نعلم صبياننا وشبابنا الكيمياء؟ لما تردد في الإجابة بأن ذلك لا يكون بلا بوتقة ونحو عشرين أو ثلاثين أداة أخرى، ولكن الساسة الذين يديرون شئون الأمم بغير حق يجدون أن التعليم بهذه الطرق يكلف الأمة نفقات طائلة؛ فهم لذلك يمسخون التعليم حتى يجعلوه جملة ألاعيب مملة تصنع بقلم وورق ومداد، وهم يرون من السهل أن يقرأ الشاب في كتابه أن حيوان البحر هو كيت وكيت، تكتب له أنواعه في قائمة كما تكتب في الفنادق، فيحفظها عن ظهر قلب؛ لأن هذا أيسر على رجل السياسة من إيجاد سمكة كبيرة تكلف العالم نحو عشرة آلاف جنيه، ومن السهل أيضا أن يحفظ التلميذ درسه عن النبات من الورق، وينقل رسومه بقلمه من ورق الكتاب إلى ورق كناشته؛ لأن رجل السياسة الذي يدير حظوظ الأمم الآن بغير حق يجد أن تعليم التلميذ حياة النبات من الحقل والغابة يكلف الأمة نفقات كبيرة يخشى إن هو طلبها من الأمة أن تسقطه في الانتخاب؛ فهو لذلك يؤثر لعبة القلم والورق.
ولكن العلماء يعرفون أن التعليم الحقيقي هو أن يحتك الإنسان بالطبيعة ويلابسها، ويعرف منها ما يريد أن يعرف مباشرة، وأنه خير للصبي أن تلسع أصبعه بالنار من أن يقال له: إن النار تحرق، وأن يوما واحدا في الصحراء، يقضيه على رملها ويستنشق هواءها ويحس ظمأها وتكتنفه بداوتها خير له من أن يقرأ آلاف الكتب عن علاقة البداوة بالحضارة وحياة النبات والحيوان في الصحاري.
অজানা পৃষ্ঠা