أحاديث
أحاديث
تأليف
طه حسين
بعد الصيف
ربوة تلقى حين ترقى إليها جهدا عظيما؛ لأنها لم ترتفع في الجو رويدا رويدا، ولم تدبر صعودها فيه تدبيرا، وإنما وثبت إليه وثوبا مفاجئا، فقامت أمامك كما يقوم الجدار، فأنت لا تصعد فيها تصعيدا هينا لينا، وإنما تصعد تصعيدا شاقا عسيرا، فإذا انتهيت إلى قمتها وجدت الأرض قد انبسطت لك واستوت، فليس فيها عوج ولا التواء، وأحسست كأنك ارتفعت فوق هذه الحياة المضطربة المختلة التي يجري نهرها في القرية تحت قدميك، يملؤها الكدر والغثاء، وأحسست كأن الشركة بينك وبين هذه الأحياء التي يزدحم بها النهر قد انقطعت، وكأنك من جوهر مصفى لا يشارك هذه الجواهر الكدرة في شيء، ثم أحسست كأن ضغط الهواء قد خف وكأن في نفسك وجسمك ميلا شديدا إلى الارتفاع والعلو، وكأنك تريد - لو خلي بينك وبين ما تريد - أن تطير في الجو، وتعيش مع هذه الأحياء الأخرى التي تتخذ الهواء ميدانا لما تأتي من حركة وما تنفق من حياة.
ثم تنظر فإذا صدق لا ترف فيه ولا تأنق، قد قام في ناحية من هذه الربوة، يدعوك إلى الراحة والحياة المطمئنة، حين تود لو تظفر بالراحة والحياة المطمئنة، بعد أن تشارك هذه الطبيعة القوية فيما هي فيه من حياة ونشاط، وقد انبسطت أمام هذا الفندق مروج لا تكاد تنتهي، وقامت في هذه المروج هنا وهناك أشجار تنفرد حينا وتجتمع حينا آخر، وتختلف فيما بينها اختلافا غير قليل؛ فمنها ما يثمر للإنسان ألوان الفاكهة، ومنها ما يمنحه الظل والجمال. وقد انتشرت في الجو المرتفع لهذه المروج ضروب من الطير مختلفة الأصوات والنغم، متباينة الألوان والأحجام، ولكنها تشترك كلها في الغناء والنشاط، وانتشرت في الجو المنخفض لهذه المروج ضروب من الحشرات الصغار الدقاق، تريد أن ترتفع فلا تواتيها القوة، فتظل قريبة من هذه الأرض الخضراء، واستخفت بين هذه الأعشاب الكثيفة الصفيقة حشرات أخرى مختلفة متباينة لا تكاد ترى ولا تكاد تحس، لولا أنها تستلذ الحياة في هذه المخابئ الوثيرة، وتستلذ ما يصل إليها من هذا النسيم الخفيف الأرج، وتستلذ حياتها الضئيلة اليسيرة كلها، فتندفع إلى غناء مختلف مؤتلف، ولكنه متصل على كل حال، وقد نجمت من بين هذه الأعشاب الكثيفة الصفيقة، وحول هذه الأشجار القائمة الشاهقة في الجو، نجوم تحمل ألوانا مختلفة من الزهر، وتنشر ضروبا متباينة من الورق النضر، ثم غمر هذا كله عرف لذيذ حلو حاد يبعث في الأنف لذة وفي النفس نشوة، وفي الجسم قوة ونشاطا، واستزادة من الحياة.
وهذا كله يختلف من حين إلى حين، حين تبسم له الشمس، فتلقي عليه أشعتها الحارة الهادئة، وحين تعرض عنه الشمس، فتنشر بينها وبينه سحابا رقيقا، وحين تغضب منه الشمس، فتحتجب عنه احتجابا، وتنشر بينها وبينه سحبا كثافا، وحين تسخط عليه الشمس، فتقطع ما بينها وبينه من صلات المودة والحب، وتخلي بينه وبين هذه السحب الكثاف، فإذا هي تصب عليه الماء صبا، أو تحصبه بالبرد حصبا، وأنت تشهد هذا كله مستمتعا به منغمسا فيه حين ترضى الشمس، ومتحفظا حين تسخط، ومترددا بين هذا وذاك حين تعرض إعراضا يسيرا أو عسيرا، فأنت تحيا في المرج حينا منقطعا له، ممتزجا به، أو منصرفا عنه بعض الانصراف إلى حديث عذب، أو كتاب ممتع، وأنت تهيم في المرج حينا آخر صارفا نفسك مرة إلى السماء من فوقك، ومرة إلى هذه الأرض الخضراء تحت قدميك، ومرة إلى ما بينهما من الشجر والزهر، تمتع بهذا كله نفسك وحسك وقلبك وعقلك، وتستمتع بهذا كله استمتاع الرجل الذي قد استكمل الحياة، فلم يجد فيها نقصا ولا ضعفا، حتى إذا أدركك المساء وتقدم بك الليل وعرفت أن هذه المروج لن تحسن ضيافتك ولا مؤانستك، وأن هذه القرية التي تضطرب في الحضيض بما يملؤها من سخف الحياة وباطلها لن تقدم إليك ما تقدمه إليك المدن من هذا اللهو الراقي الممتاز الذي هيأته الحضارة للمتحضرين؛ آويت إلى غرفتك وسمرت فيها مع كتاب ممتع من هذه الكتب، التي يحول العمل بينك وبينها أثناء العام، ولا تستطيع أن تفرغ لها إلا في الصيف، وما تزال في ذلك حتى تحس الحاجة إلى النوم، فتأوي إلى مضجعك وتستسلم فيه لراحة هادئة حلوة مطمئنة، حتى يوقظك غناء الطير، فتستأنف الحياة كما بدأتها أمس، وكما ستستأنفها غدا وبعد غد، حتى تدعوك ضرورة الحياة إلى أن تهبط من هذه الربوة وتخرج من هذه العزلة وتنغمس في هذا النهر الكدر الذي نسميه حياتنا اليومية.
على هذا النحو قضيت الصيف بعد أن أنفقت في مصر أعواما لم أذق فيها للراحة طعما، ولم أعرف فيها للهدوء والطمأنينة ذوقا، وكم كنت قد دبرت من خطة، وهيأت من عمل لهذا الصيف، وقد كنت أحدث نفسي بأني سأستريح بعد جهد وجد، وسأخلص من هذه المشاغل السخيفة التي تملأ الحياة في مصر، وسأوفق بين راحة الجسم ونشاط العقل، وبين التروض والإنتاج، فأكتب الرسائل وأفرغ للدرس، وقد أتم كتابا ما زال ينتظر أن يتم، وقد أعود إلى مصر وقد أخذت من القوة أعظم حظ ممكن، وجنيت من هذه المروج والرياض زهرات أنسقها تنسيقا، ثم أقدمها إلى الناس في كتاب أو كتب.
نعم، وكم فكرت فيما يمكن أن أكتب، وكم فكرت فيما يمكن أن أدرس، ولكني أعود إلى القاهرة بعد هذه الرحلة الطويلة، بعد هذه الأشهر الثلاثة التي أنفقتها على تلك الربوة، وفي تلك المروج، أو على ربوة ومروج تشبهها من قريب أو بعيد، أعود ولم أكتب فصلا، ولم أتم كتابا كان ينتظر أن يتم، ولم أبدأ كتابا كنت أحب أن آخذ فيه.
অজানা পৃষ্ঠা