إن سوء التغذية مشكلة الساعة في جميع الأيام وبين جميع الطبقات، ولم يقل أحد من أجل هذا إن الطعام باطل أصلا وفصلا، وإن الإنسانية ينبغي في المستقبل أن تكف عن طلب الغذاء. فمن السخف واللغو أن يقال: إن الضمير الإنساني يكف عن الاعتقاد لأن بعض العقائد ممتزج بالخرافات والأباطيل، وليست المسألة في طعام الجسد ولا في طعام الروح أن هناك أطعمة فاسدة وشهوات جامحة، وإنما المسألة أن هناك معدة تطلب غذاء الجسد، وأن هناك ضميرا يطلب غذاء الروح.
وإذا جازت المقارنة بين خرافة وخرافة فدعاة الهدم والفوضى هم الخاسرون في هذه المقارنة. لأن المتدينين الذين يؤمنون برب أعظم من الإنسان معذورون إذا نسبوا إليه الخوارق والمعجزات. أما غير المعذورين وغير المعقولين فهم الذين يؤمنون بمذهب إنسان من بني آدم وحواء ويصدقون أنه قد نقض تاريخ العالم فيما مضى وقرر للعالم تاريخا لما يأتي من الزمن، وكذلك يؤمنون بكارل ماركس ومن نحا منحاه. •••
إن تاريخ الإنسانية هو تاريخنا، وليس تاريخا لنوع آخر نعاديه ويعادينا، ومن الحق له علينا أن نتردد طويلا قبل هدمه وتقويضه، ولو قامت الحجة القوية عليه وتواترت الأدلة على نقضه. فربما كان الخطأ في الحجة، أو كان التأني خيرا من العجلة، ولكن الهدامين المخربين ينظرون إلى تاريخ الإنسانية كأنه تاريخ أعداء ألداء يتعقبونهم في ميادين القتال. فالهدم عندهم هو الأصل، والعفو أو الإعفاء هو الاستثناء، ولم يكن تعجلهم إلى هدم نظام العائلة ودك قواعد الوطن وتدنيس حرمات الدين منبعثا من قوة الحجة، بل من سهولة الهدم والتخريب على بعض الطبائع المبتلاة بالمسخ والتشويه، وستزول هذه الغاشية، وتتحطم معاول الهدم في أيدي ذويها، فليس للهدامين حظ من النجاح الدائم ما دام للإنسانية بناء قائم وأجل ممدود.
العامل والماركسية
من الأوهام الشائعة أن الحكومة الماركسية هي حكومة العمال والصناع، وأن العمال والصناع في البلاد الماركسية هم أصحاب السلطة في الحكومة، وأصحاب الحق في إدارة المصانع وتوجيه النظم الصناعية، وأن نقابات العمال هي اللجان التي توكل إليها مهام النظر في مصالح الطبقات العاملة على اختلافها، وأن العامل بعبارة وجيزة هو الحاكم المتصرف في الدولة الشيوعية، سواء من طريق السلطة الفعلية أو من طريق السلطة بالتوكيل والانتخاب.
هكذا يتوهم الجاهلون بحقائق الأحوال، وهكذا يتخيلون النظام المزعوم على صورة هي أبعد ما تكون عن الواقع الماثل للعيان، وأشد ما تكون عن المبادئ المقررة في أقوال الزعماء الشيوعيين.
فالواقع المقرر في المذهب الشيوعي أن التعويل على النقابات مذهب مكروه عند أتباع كارل ماركس، وأنه معطل للحركة الشيوعية التي يبشر بها هو وتلاميذه ومريدوه، لأن التعويل على النقابية هو مذهب النقابيين والسندكاليين الذين يخالفون الشيوعية في الوسائل والغايات، وينكرون الاعتماد على الحكومات جميعا بغير تفرقة بين الحكومة الموقوتة والحكومة الدائمة، ومن الواجب في مذهب الماركسيين أن ينظروا إلى نقابات العمال بعين الشك والحذر، وأن يحولوا بينها وبين السلطة الفعالة في إدارة الدواوين الحكومية، خوفا من أن تتغلب سلطة النقابة على سلطة الحزب، وأن يجري العمل على مذهب النقابيين السندكاليين، لا على مذهب الشيوعيين الماركسيين.
ومن كلام «لينين» قبل الثورة الروسية: إن جماعات العمال، أو نقاباتهم، قد ينافس بعضها بعضا، وقد يعمل فريق منها على محاربة فريق آخر بالمناقصة في الأجور والمزايدة في ساعات العمل، ولهذا يجب عنده أن تكون سلطة الحزب غالبة على النقابات جميعا، وأن يكون الرأي الأعلى للسلطة السياسية التي تتولى شئون الدولة، ولا يكون رأي النقابات إلا تابعا خاضعا لتلك السلطة السياسية.
أما الجماعات أو اللجان التي يسمونها بالسوفييت فليست هي جماعات مؤلفة من العمال والصناع، كما يخطر على البال، ولكنها جماعات مختلطة من المديرين والمشرفين على المصانع والقائمين بتنفيذ المشروعات الاقتصادية، ومعهم بعض الصناع والعمال اليدويين ممن لا صوت لهم في أمثال هذه الاجتماعات، ويمكن أن يقال بعبارة أخرى: إن جماعات «السوفييت» هي نسخة أخرى من اللجنة التي يسمونها لجنة الفابريقة، أو لجنة إدارة المصنع، وهي أشبه ما تكون بمجلس الإدارة في المصانع الأوروبية التي تخضع لنظام رأس المال، وغاية الفرق بين لجنة الفابريقة وبين مجلس الإدارة في المصانع والشركات أن الأعضاء أصحاب الأسهم يحلون في مجلس الإدارة محل المديرين والمهندسين في لجان السوفييت أو لجان الفابريقات، وربما تشابهت مجالس الإدارة ولجان الفابريقات تمام المشابهة؛ لأن أصحاب رءوس الأموال في البلاد الأوروبية والأمريكية يتركون العمل أحيانا للمهندسين والمديرين.
خلاصة هذا كله أن السلطة السياسية غير السلطة النقابية في البلاد الشيوعية، وأن العمال والصناع لم يزالوا تابعين للساسة وكبار الموظفين في الدولة، وأنهم مسخرون لنظام الإنتاج الذي يفرضه عليهم السياسيون وأصحاب الشأن في الحكومات.
অজানা পৃষ্ঠা