ولا حق ولا صلاح في مذهب يجعل الأطوار التاريخية جميعها مرهونة بالفوارق بين الناس في المال أو في إنتاج المال، وينسى تلك الفوارق التي لا عداد لها بين القوي والضعيف، وبين الذكي والغبي، وبين المجتهد والكسلان، وبين الطموح والقانع، وبين الجميل والقبيح، وبين المنجب والعقيم. فإن كان هناك عقل يتوهم أن هذه الفوارق ملغاة معطلة في تاريخ الإنسانية، وأن الفارق الوحيد الذي يعمل في هذا التاريخ هو فارق الأجور وأسباب الإنتاج، فهو هو العقل المعطل أو العقل المضلل الذي لا يدرك طبائع البشر، ولا يصلح لهدايتهم إلى سبيل التقدم والفلاح.
ولا حق ولا رجاء في مذهب يقوم على اليأس والقنوط، ويأمر بالشر والعداء، ويوجه خطابه إلى أسوأ الأخلاق في أسوأ النفوس، مستعينا بالحسد تارة وبالحقد تارة أخرى، وبالغرور والتواكل في جميع الأحوال.
ولا حق ولا إنصاف في مذهب يمحو مسئولية الفرد ويلقي المسئولية كلها فيما يعيبه على المجتمعات والأمم، بعد أن تقدم الفرد في طريق الحرية، وكاد أن ينحصر التقدم الإنساني في نتيجة واحدة: وهي المسئولية الفردية: مسئولية الإنسان الذي يحاسب بأخلاقه وأعماله، ولا يفرض فيه أنه في قبضة المجتمع آلة من الآلات.
ولا حق ولا تمييز في مذهب يطلق نوع الإنسان بعضه على بعض وحوشا تتوثب على وحوش، مذهب يجهل نوع الإنسان أو يتجاهله تعصبا لطبقة واحدة منه دون سائر الطبقات، كأنها هي وحدها التي تستحق صفة الإنسانية، وما عداها من غير بني الإنسان.
فليس الأغنياء كلهم بالشياطين الأشرار، وليس الفقراء كلهم بالملائكة الأخيار. وقد أساء الأغنياء قديما وحديثا، ويسيئون غدا إلى غير نهاية، وأساء الفقراء قديما وحديثا، ويسيئون غدا إلى غير نهاية.
فما كان الغنى كله إثما وإجراما، ولا كان الفقر كله طهرا وبراءة. وقد استفادت الإنسانية من عمل الأغنياء كما استفادت من عمل الفقراء. بل لولا الغنى الذي مكن لبعض الناس من إقامة الصروح الباذخة والتدثر بالملابس الفاخرة، واقتناء التحف الثمينة، لما وجدت هذه الصناعات التي يعيش منها ألوف العاملين في كل بقعة من بقاع العالم المعمور، ولولا مطالب الغني في الأزمنة الماضية لما سارت القوافل في القفار، ولا مخرت السفن المشحونة عباب البحار، ولا اهتم أحد برصد الأفلاك التي تهدي الراحلين في الملاحة والسياحة، ولا ارتقى فن البناء، أو فن النجارة، أو فن النسيج، وما إليها من هذه الفنون التي عم نفعها الغني والفقير والمالك والأجير.
وإن كاتب هذه السطور يبغض الشيوعية، وليس هو من الأغنياء، ولم يكن قط من الأغنياء ولن يكون يوما من الأغنياء. ولكنه يرى أن الفقير الذي يحجب الحقيقة عن نظره بيديه يحرم نفسه نعمة الفهم، ويجمع خسارة العقل إلى خسارة المال. ومن ظن أن مذهبا من المذاهب سيمحو عيوب الأغنياء، ويترك بني الإنسان مبرئين من العيوب فهو غافل راض عن الغفلة، ومثل هذا أجدر بالرثاء له من الجائع والمحروم.
كل أولئك المذاهب والدعوات بين الضلال والبطلان، ولا يستعصي على أحد أن يلمح علامات بطلانه إذا جرد نفسه من الهوى المفسد للشعور والتفكير؛ لأنه يعمي ويصم كما يقولون.
إنما يرجى صلاح الإنسانية من المذاهب التي تبشر بالتعاون والإخاء، لا من المذاهب التي تثير العداوة والبغضاء. إنما تتقدم الإنسانية بجميع أجزائها لا بجزء واحد منها نسميه باسم طبقة ما في كل عصر من العصور.
ومن علامات المخربين والهدامين أنهم يخدعون الناس بالأباطيل، ومن علامات الخداع بالأباطيل أن يقال لليائسين إنكم إن خربتم هذا العالم بما فيه من الفساد جاءكم عالم آخر كله صلاح وعدل وإنصاف.
অজানা পৃষ্ঠা