ولسنا نقول شيئا مجهولا إذ نقول إنه كثيرا جدا ما يحدث أن تشيع في صدور الناس، على صور مبهمة أفكار ومشاعر، يحسونها بما يشبه الإدراك الوجداني الغامض؛ فتكون مهمة رجال الثقافة المبدعين للفن أو للأدب، أو للفلسفة، أو حتى المشرعين للقوانين الوضعية، أن يخرجوا ما قد كمن مبهما في الصدور إلى الإفصاح والعلانية. وإلا فلماذا يجد الشعب المعين «نفسه» في شعر شعرائه، وفي فنون رجال الفن من أبنائه، وفي شتى نواحي الإبداع، إذا ما جاء ذلك الإبداع من حس صادق عند أصحابه؟ ومن هنا كان كل عمل ثقافي أصيل - كائنا ما كان مستواه - بمثابة ناتج مأخوذ من الشعب ومردود إليه.
ولك بعد ذلك أن ترى ثقافتنا المصرية مجسدة في بعض معالمها القديمة والحديثة معابد القدماء ومقابرهم، روائع العمارة وفي المساجد والبيوت الأثرية، مصنوعات خان الخليلي، حكايات ألف ليلة وليلة (وقد صيغت في صورتها المعروفة عن ألسنة المصريين) سيد درويش، شعر البارودي وشوقي، مسرحيات توفيق الحكيم، قصص نجيب محفوظ، إلخ ... إلخ ... فهل ترى شيئا من هذا المحصول الثقافي إلا مأخوذا مما كان يتردد في نفوس الناس أفكارا أو معتقدات أو طرائق سلوك؟ وذلك هو ما يجب أن نعنيه حين نقول إن الثقافة تنبع من الشعب وتعود إليه؛ تنبع منه أحلاما مبهمة، أو سلوكا لا يدري صاحبه ماذا ينطوي عليه من مبادئ، ثم تعود إليه مصوغة في ألحان وألوان وكلمات ومشيدات.
فأنت على صواب إذا قلت أن الشعب هو المعلم، شريطة أن يكون ذلك إلهاما وإيحاء، وكذلك أنت على صواب إذا قلت عنه إنه يتعلم من أصحاب الثقافة فيه، إذا أردنا التعبير عما يجول في صدور الناس من مبهم غامض، تعبيرا معلنا صريحا، تراه الأعين، وتسمعه الآذان، وتمسه الأيدي.
إنسان هذا العصر
قبل أن أكتب كلمة مما أردت أن أكتبه في موضوع الإنسان وعصره هذا الذي كتب علينا أن نكون من أبنائه، لا بد لي من ذكر حقيقة لها عندي صدارة لأنها - على الأقل - تقطع الطريق على النقد المتسرع؛ هي أنه إذا كان محتوما على الناس في عصر معين، أن يشربوا ماءهم من مورد واحد، يكون هو الينبوع الذي تتدفق منه الخصائص الأساسية لذلك العصر، فإن هذا المورد المشترك لا ينفي أن تتشعب الحياة بعد ذلك شعوبا مختلفة في جوانب كثيرة من العقائد والأذواق وطرائق العيش؛ فالأمر في ذلك شبيه بشجرة عاتية رسخت في الأرض بجذع ثابت لا يميل مع العاصفة حيث تميل (وذلك هو روح العصر) حتى إذا ما اطمأن الجذع على ثباته ورسوخه، تفرعت فروعه وامتدت متشابكة أو متفرقة، ولكل منها أن يستقل بحركته وأوراقه؛ فحتى لو ضعف منها فرع وانكسر، فلا يؤثر مصيره بالضرورة في سائر الفروع.
وبعد هذا التحوط الذي جعلنا له صدارة، تلافيا لما قد يقال من أن الحديث عن العصر ووحدانيته ربما تضمن طمسا للخصائص النوعية التي تميز الشعوب المتباينة شعبا من شعب؛ أقول إنني بعد هذا التحوط، أسأل: ما هي أخص خصائص هذا العصر، التي لا بد أن يتمثلها كل إنسان، كائنا ما كان بعد ذلك ما يفصله عن سواه؟
أقول: ليست تلك الخصائص العامة المشتركة مطروحة لاختيارنا، فإما أخذناها وإما نبذناها، كلا بل هي فرض على كل من يقله العصر الحاضر بأرضه، ويظله بسمائه.
أولى تلك الخصائص التي ليس منها مهرب لمن أراد أن يحسب بين الأحياء، ذلك التوازن الدقيق بين علم ومنهاجه في ناحية، وفن وإبداعه في ناحية أخرى؛ في الأول تفنى الذات الفردية بقدر ما هو في مستطاع صاحب الذات أن يفنيها، وفي الثاني تعتبر الذات الفردية بنفسها، بقدر ما هو في مستطاع صاحبها أن يثبت وجودها. ولست أظن أن عصرا قبل عصرنا هذا، قد انفرجت فيه الزاوية بين ظاهر وباطن، بمثل ما انفرجت في عصرنا؛ فالظاهر الذي هو من شأن العلم أن يبحثه ويستخرج قوانينه، بعيد بعدا شاسعا عن باطن الإنسان، الذي هو من شأن الفن أن يخرجه ألحانا وألوانا، أو تعبيرا بالكلمات؛ فلقد كان يمكن في أي عصر سابق، أن نجد للعصر الواحد روحا واحدة موحدة، تظهر في هذه الناحية علما، وفي تلك الناحية فنا؛ ففي عصر النهضة الأوروبية مثلا انطلق الإنسان - مدفوعا بدافع العلم - يرحل في مجاهل البحر والبر والسماء، بل ويرحل كذلك في مجاهل «العقل» الإنساني، باحثا عن طرائق نشاطه إبان عملية التفكير، فكان الإنسان بهذا كله، كأنما يستكشف في الكون «أبعاده» طولا وعرضا وعمقا. وانعكس هذا في الفن، فرأينا التصوير يدخل البعد الثالث على رسومه، بعد أن كان قبل ذلك يكتفي بالصورة ببعدين؛ هما الطول والعرض، كما نرى في رسوم المصريين القدماء أو في رسوم العصر المسيحي في مصر.
وأما في عصرنا هذا، فلقد جاء الفن، لا ليجري مع العلم في منحى واحد، بل جاء ردا مضادا. أراد العلم المعاصر، مع لواحقه التكنولوجية والصناعية، أن يطغى على شخصية الفرد؛ بحيث يصب الأفراد جميعا في قوالب متجانسة، ثيابا، وطعاما، وشرابا، ومسكنا، وترفيها في وقت الفراغ؛ فالثياب الجاهزة يلبسها الجميع، والطعام المعلب أو المجمد يأكله الجميع، وعمارات السكنى باتت متشابهة في كل أرجاء الأرض، حتى لقد مدت شركات الفنادق نطاقها لتقيم كل شركة منها فنادقها المتشابهة حيثما حللت، ووسائل الإذاعة - مسموعة ومرئية - تملأ ساعات الفراغ للشعب كله بمادة واحدة. هكذا أراد علم العصر ولواحقه أن يصب الأفراد في قوالب التجانس، فأراد الفن أن يعوض الفرد ما أضاعه العلم من فرديته المتميزة، فكان ما كان من ضروب الإبداع الفني، التي استحل فيها المبدعون لأنفسهم أن يخلقوا بفنونهم عالما غير العالم الظاهر الذي خضع للعلم راغما. ومن هنا كان أول ما يميز ثقافة عصرنا، هو الإمساك بالميزان متعادل الكفتين بين علم وفن.
لكننا إذ نقول شيئا عن علم هذا العصر، فإنما نعني «علم» «هذا العصر» لا أي علم آخر في عصر آخر؛ لأن لعلم العصر روحا منهاجا يختلف بهما عن العلم في كل ما سبق من عصور. ويكفيني هنا أن أروي للقارئ ما سمعته في حديث تلفزيوني لمتحدث فاضل؛ إذ سمعته يقول لمن يستمع إليه شيئا كهذا: من أين يأتي أي عالم بعلمه؟ أليس يأتي به من أستاذه؟ ومن أين أتى ذلك الأستاذ بعلمه؟ ألم يكن ذلك بدوره عن أستاذه؟ وهكذا دواليك جيلا عن جيل، وعالما عن عالم. وأين يقف التسلسل؟ قال المتحدث إنه يقف عند آدم عليه السلام. ومعنى ذلك أن العلم البشري كله - فيما قال المتحدث - منبثق من آدم. ومثل هذا القول إن جاز أن يقال عن المعارف التي تجيء اشتقاقا بعضها من بعض، كمعرفتنا باللغة مثلا، فهل يجوز على علم يستخرجه العالم من تجارب علمية يجريها بأجهزته القياسية؟ افرض أن أحد العلماء قد قاس سرعة الصوت، أو حلل طبيعة التربة التي نزل بها رواد القمر، ثم سأل متحدثا: من أين جاء العالم بعلمه في حالات كهذه؟ أيكون جوابنا هو أنه أتى به من أستاذه، وهذا الأستاذ من أستاذه، وهلم جرا؟ أم يكون جوابنا أنه أتى بعلمه من تجربة جديدة غير مسبوق إليها؛ فهو علم لم يكن يعلمه أستاذه على نحو ما افترض متحدثنا الجليل في حديثه التلفزيوني.
অজানা পৃষ্ঠা