ونعود إلى سؤالنا الأول: لماذا ارتفعت السماء فوق الرأس واتسع الأفق أمام البصر؟ ونعود كذلك إلى جوابنا الأول، بأن ذلك قد كان كذلك لكي يعلو الإنسان بطموحه إلى غير نهاية ولكي ينفسح أمامه الأمل بغير حدود؟ حتى ولو رأى فجوة هائلة بين طموحه من ناحية وقدراته من ناحية أخرى، لأنه ما لم يرتفع بذلك الطموح عن حدود واقعه كان كالخنزير الذي لا يريد إلا أن يكون خنزيرا ينسل الخنازير، وانظر إلى فاوست (وكل فرد من هو فاوست بدرجة تعلو أو تهبط) أقول انظر إلى فاوست الذي غلبه طموحه لأن يزداد علما بدنياه حتى ولو كانت حياته هي الثمن، تجد في نوازعه نوازع بناة الحضارة، ولم تكن الخنازير ولا أشباهها التي قنعت من دنياها بالحدود الدنيا من طعام وثياب ومأوى هي التي أقامت شيئا مما نعم به الآن.
فحيث تسير الحياة هينة لينة لا صعب فيها ولا كفاح، فلا يكون طموح، وتهدر عن الإنسان إنسانيته بقدر ما سقط عنه طموحه. لقد كان أستاذنا توفيق الحكيم قد خرج على الناس يوما بشعار يقول «الطعام لكل فم.» وأذكر أني أحسست إزاء ذلك الشعار بقلق لأنه قد يوحي بصورة بشعة لصفوف الناس وقد تربعوا على الأرض مفتوحي الأفواه، ليملأها لهم المتصدقون عليهم بطعام سواء كان المتصدق دولة أم جمعية أهلية أم فردا من الأفراد، وشعرت يومئذ أنني كنت أفضل قولا آخر يقول: «العمل لكل يد»، وعلى كل عامل أن يطعم نفسه من ثمرة عمله وكفاحه، فأنا أؤمن بالعمل الذي ينتج، ولا يسعدني ناتج يجيئني بلا عمل؟ لأن الأمر عندئذ يشبه عندي أن أدخل مباراة مع غيري فيقول لي منذ البداية: فيم العناء لك ولي؟ كن أنت الغالب الفائز بلا لعب، لا، إن مثل هذا الموقف لا يرضيني، وأحب أن يأتيني الفوز نتيجة لكفاحي.
ولعلني من أجل هذا الموقف، أجعله شرطا أساسيا لا أحيد عنه كلما أردت تقويم عمل فني، وهو أن أرى كم وضع الفنان لنفسه بنفسه من صعاب ثم تغلب عليها، فإذا كان ما بين يدي - مثلا - قصيدة من الشعر نظرت إلى ما تتضمنه من حوائل فرضها الشاعر على نفسه ثم غليها، ومن قبيل هذه الحوائل الوزن واختيار اللفظ والشكل والموضوع ... وبهذا فقط نفهم ما يقوله نقاد الفنون من أن الفن الرفيع يخفي ما قد بذله الفنان من جهد في بنائه.
لا، ليس يسعدني أن تكون لحياة قانعة سهلة على أطراف الشفاه أو أطراف الأصابع لأن العقبة وتذليلها هي التي تخلق من الإنسان إنسانا كاملا، وأما الحياة الميسرة من طعام ومأوى، فهي في مستطاع الذباب، ولست أظن أن حضارة كانت تقام لأحد لو كانت مغاليق الطبيعة تنفتح لمن يقف أمامها قائلا لها: افتح يا سمسم وإنما نحتاج تلك الطبيعة لكي تعلن عن سرها إلى علماء يعرفون للبحث العلمي عناءه ولا يكفيها علاء الدين ومصباحه لتفصح عن مكنونها؟ ولكم رأيت عند غيرن من مغامرات وركوب للأخطار في سبيل المعرفة العلمية وكنت أتأمل ما أرى قائلا لنفسي: متى يبلغ عندنا الطموح إلى المعرفة الصحيحة هذا المدى؟ إنهم هناك يعمقون في جوف الأرض، ويغوصون في غور البحر، ويطيرون حتى يجاوزوا نطاق الأرض، طلبا للمعرفة العلمية وأما نحن؟! وأما نحن فلقد جلست «العلم» ويسخر قائلا لسامعيه: أيحسب هؤلاء الذين يحسبون لظواهر الطبيعة حسابها، ليقولوا متى يكون زلزال ومتى لا يكون، أيحسب هؤلاء أنهم بالغون من الحق شيئا؟ إن الله سبحانه وتعالى ينتظر عليهم حتى يفرغوا من حسابهم، ثم يزلزل لهم الأرض من حيث لا يحسبون، وكأنما يخطبهم بذلك قائلا: «الكلام ما زال هو كلام المتحدث المشار إليه أو ما في معناه هل فرغتم من حسابكم؟ خذوا إذن ما يدلكم على أن حسابكم كله دخان في الهواء.»
فقل لي بربك هل يشغل مثل هذا القول طموحا نحو كشف المجهول؟
ماذا ينفع كلام كهذا شعبا مثل شعبنا في طموحه الوثاب نحو زراعة الصحراء، وشق الأرض بحيرات وأنفاقا؟ ولن أضرب المثل هذا إلا بأسلافنا المسلمين الأولين حين ارتفعت مع حرارة إيمانهم حرارة الحياة ومصارعة الحوائل والصعاب؟ وليسأل متحدثنا الفاضل نفسه: كم دفع ذلك الإيمان القوي رحالة يجوب مجاهل البر وظلمات البحر ليكشف عن المجهول؟ وكم عالما اندفع بإيمانه القوي نحو أن يرغم الطبيعة على أن تنطق بسرها المكتوم، فهذا هو جابر بن حيان - مثلا - وكأنه يسأل إذا كان معدن الذهب قد صنعته عوامل طبيعية معينة على مدى زمن الله أعلم بعدد سنينه، فلماذا لا أستطيع أنا أن أعيد صنع الطبيعة ثم أتفوق عليها بأن أطهو في أيام قلائل ما احتاجت هي في طهوه إلى ذلك الزمن الطويل؟ أقول إن جابر بن حيان هو بمثابة من طرح سؤالا كهذا ولم يحجم عن محاولة التجربة لعله ينجح، وهي وقفة علمية تنمي مثلها لعلماء المسلمين اليوم؛ لأن معظم ما في الوقفة العلمية الصحيحة من الطبيعة هو أن نصوغ لها الأسئلة التي ترغمها على الجواب ومثل هذه المغامرة هو الطموح الذي من أجله اتسع الأفق امام البصر وارتفعت السماء فوق الرءوس. ولم يكن بناة الحضارات ليجدوا حوافزهم الباعثة على انفساح الأمل وارتفاع الطموح ولو اعترضهم عند كل خطوة على الطريق من يثبط فيهم الهمة على هذا النحو العجيب.
كان هنالك في عصر اليونان الأقدمين شيء من التنافس بين الآلهة والناس؛ فكان أولئك الآلهة يحرصون على ألا يتنازلوا عن جوانب قوتهم للبشر ومنهم «المعرفة» فأبى برومثيوس للبشر إلا خيرا وهدى، وسرق شعلة العلم من الآلهة وأسلمها للناس، فما كان من هؤلاء إلا أن شدوا جسده إلى جذع شجرة وسلطوا عليه سباع الطير لتنهش لحمه عقابا له على فعلته ... نعم كان ذلك في العصور الأولى، ولكن جاءت رسالة الإسلام إلى المسلمين في القرن السابع الميلادي بشيء آخر تضمن فيما تضمنه أن توكل إلى عقل الإنسان شئون الإنسان إلى المدى الذي يستطيعه ذلك العقل بفطرته ويدخل في ذلك المدى استخلاص قوانين العلوم من الظواهر. ولو قصر الإنسان في واجبه نحو تحصيل العلم بالأشياء من حوله لكان مقصرا فيما أوصي به من تفكر في خلق السموات والأرض.
نفوس ثابتة بطموحها نحو تحصيل العلم وإنجاز العمل هي ما نريده لشبابنا اليوم وكل يوم. وليعلم هؤلاء الشباب أن السماء قد علت فوقهم ليعلو معها طموحهم وأن الآفاق اتسعت أمام أبصارهم ليمتد بآمالهم المدى.
من الشعب وإليه
شاركت ذات يوم في ندوة إذاعية عن «بناء الإنسان المصري»، ولم أكن على أدنى درجة من الغموض في المعنى المقصود الذي من أجله دعينا للحديث؛ فليس فينا واحد لا يرى بملء عينيه ما قد سرى في الناس من استهانة بالواجب المفروض على كل مواطن في موقع عمله. وإذن فلا بد أن يكون هدف الداعين إلى الندوة هو أن يدور حوار تلقي به الأضواء على مواضع النقص وسبل إصلاحها ليعود المصري إلى ما عهدناه فيه من إخلاص لأداء واجبه بغض النظر عن الجزاء، كثر أو قل، وأوضح صورة لذلك المصري هو الفلاح وهو يقضي بياض نهاره في أرضه لا يطوف برأسه السؤال عن العائد المادي: كم يكون؟
অজানা পৃষ্ঠা