إنه، على الرغم من عنايته الكبيرة بالتاريخ، كتاب حي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، فهو في مناقشته لأقدم المذاهب والشخصيات الفلسفية، يربط آراءها بالواقع المعاصر له على الدوام، ويستخلص من كل فكرة قديمة دلالتها بالنسبة إلى الحاضر الذي يعيش فيه. وهكذا تراه يتحدث عن القرن التاسع عشر بإسهاب في الوقت الذي يعالج فيه فلاسفة أقدمين مثل ديمقريطس وأفلاطون وأرسطو، ولا يكف عن إجراء المقارنات بين القدماء والمحدثين، سواء في متن الكتاب وفي الهوامش الغنية الزاخرة التي تمتلئ بها صفحاته. (3)
إنه يقدم إلى القارئ في نصفه الثاني صورة شاملة لحالة العلم في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي صورة تكاد تكون موسوعية في نطاقها؛ إذ تشمل العلوم الجيولوجية والفلكية والبيولوجية والفيزيائية والنفسية والأنثروبولوجية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والدينية. ومن المؤكد أن الدراسة الفاحصة لكتاب كهذا كفيلة بأن تلقي ضوءا ساطعا على هذه الفترة الهامة من تاريخ العلم، سواء من حيث تفاصيل الكشوف العلمية التي تمت فيها، أو من حيث الدلالة الفلسفية العامة لهذه الكشوف.
على أن الكتاب - على الرغم من مزاياه هذه - ينبغي أن تؤخذ المعلومات الواردة فيه بشيء من الحذر؛ وذلك للأسباب الآتية: (1)
إن الكتاب ذو نزعة «خلافية» واضحة؛ أي إنه يتخذ موقفا محددا من الخلافات الناشبة بين المفكرين في عصره، ويدافع عن هذا الموقف بعنف، بينما يهاجم آراء الخصوم كلما أتيحت له الفرصة، وبهذا المعنى يمكن القول: إن الكتاب كان مرتبطا بالمناقشات والمجادلات الدائرة في ألمانيا في الفترة التي عاش فيها المؤلف. (2)
إن هذه النزعة الخلافية كانت تتمثل، عند المؤلف، في انحيازه بقوة إلى فلسفة «كانت»، ويتمثل ذلك بوضوح في التقسيم الذي وضعه للبابين الرئيسين للكتاب؛ إذ يجعل فيهما من فلسفة كانت محورا يدور حوله التفكير الكامل للفلاسفة جميعهم؛ بحيث ينقسم تاريخ الفلسفة كله إلى ما قبل كانت وما بعده، كما يتمثل إيمانه بكانت في جميع مناقشاته، التي ينحاز فيها إلى الموقف الكانتي دون أي تحفظ، ويحاول إثبات صحته في كل الأحوال. بل إن المذهب المادي ذاته - الذي كان محورا للكتابة - كان هدفا لهجومه الشديد في كل مرة كان ذلك المذهب يبدو فيها متعارضا مع التعاليم الكانتية؛ أي في كل مرة يزعم فيها أنه يقدم نظرية ميتافيزيقية عن التركيب النهائي للعالم، ولا يقتصر على معالجة قوانين المادة بوصفها قوانين عالم «الظواهر» فحسب. (3)
أما بالنسبة إلى عصرنا الحاضر، فيبدو أن الكتاب قد توقف قبل أن تظهر آثار مرحلة حاسمة من مراحل تطور المذهب المادية، هي الماركسية أو المادية الديالكتيكية؛ ففي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كانت قد ظهرت مجموعة هامة من كتب ماركس وإنجلز. ولكن الحركة التي أثارها لم تكن قد بدأت في التأثير على الأذهان، ولم تكن دلالتها الهامة قد تكشف بعد بوضوح إلا لفئة قليلة نسبيا، ويبدو أن لانجه لم يكن من هؤلاء؛ إذ إن كتابه الضخم لم يتضمن إلا إشارات هامشية بسيطة إلى كارل ماركس، وهو وإن كان قد وصفه في أحد هذه الهوامش بأنه «يشتهر بأنه أعلم مؤرخي الاقتصاد السياسي الأحياء» (هامش ص309، الجزء الأول)، إلا أنه لم يجعل للمذهب الماركسي أي مكان في كتابه. ولا جدال في أن كتابا يعالج المذاهب المادية دون أن يتضمن إشارة إلى أهم مراحلها وأقواها تأثيرا في تاريخ الإنسان، يعد من وجهة النظر المعاصرة منطويا على نقص خطير؛ لأن أي كتاب معاصر لا يستطيع أن يتجاهل مذهب ماركس في المادية إن كان بصدد التأريخ لحركة المادية بوجه عام، وإنما ينبغي أن يفرد لها من حيث قبولها أو رفضها، وسوف تظهر آثار هذا النقص بوضوح خلال صفحات هذا البحث، ولا سيما في أجزائه المتعلقة بالموضوعات السياسية والأخلاقية.
ولكي نعرض لتفاصيل الأفكار الفلسفية التي وردت في هذا الكتاب، نرى أن من الأفضل تقسيمها إلى قسمين رئيسيين: أحدهما يتناول آراءه في تاريخ الفلسفة، الثاني يعرض موقفه من مشكلة المادية بوجه عام؛ أي إن القسم الأول تاريخي، والثاني مذهبي، وهما يناظران إلى حد ما البابين الرئيسيين في الكتاب، وإن كان الباب الثاني قد تضمن - كما قلنا من قبل - فصلين تاريخيين في البداية، قبل أن ينتقل إلى البحث المذهبي لمشكلة المادية في علاقتها بالعلوم المختلفة. (3) آراء لانجه في تاريخ الفلسفة
سبق أن أشرت إلى القيمة الكبرى لهذا الكتاب من حيث هو عرض لتاريخ الفلسفة من زاوية غير مألوفة، هي زاوية المذهب المادي. والواقع أن مشكلة المادية - التي تبدو ثانوية أو ضئيلة الشأن في كثير من كتب تاريخ الفلسفة - تظهر في هذا الكتاب على أعظم جانب من الأهمية، وتعد محورا رئيسيا دارت حوله خلافات الفلاسفة منذ أقدم العصور. وكان من نتيجة هذا التغيير الأساسي في المنظور أن أصبح الكتاب جديدا في نظرته إلى تاريخ الفلسفة؛ لأنه قد أبرز - من جهة - عنصرا طالما تجاهله المؤرخون، وأعاد - من جهة أخرى - تقويم الشخصيات المعروفة في تاريخ الفلسفة؛ بحيث أعلى مكانة البعض، وعالجهم معالجة مفصلة، مع أن أسماءهم لا ترد في الكتب الشائعة إلا لماما، بينما وجه نقده المرير إلى كثير من الشخصيات التي تحتل قمة التفكير الفلسفي في نظر معظم المؤرخين.
وليس في وسعنا بطبيعة الحال أن نعيد عرض تاريخ الفلسفة بأسره وفقا لنظرة المؤلف إليه، ولكنا سنكتفي بوقفات سريعة في مراحل مختلفة من هذا التاريخ، نوضح فيها مدى الجدة في نظرة المؤلف إلى تاريخ الفلسفة، ونتخذها نماذج لطريقته الخاصة في مراجعة الآراء الشائعة عن فلاسفة العصور القديمة والحديثة. (3-1) المادية وبداية الفلسفة
منذ الجملة الأولى في كتاب «تاريخ المادية»، يعبر لانجه عن الارتباط الوثيق بين المادية وبين الفلسفة، فيقول: «إن المادية قديمة قدم الفلسفة. ولكنها ليست أقدم منها»، وهو يشرح هذه الجملة في هامش الصفحة فيقول: إنها «موجهة - من جهة - ضد محتقري المادية الذين يجدون في نظرتها إلى الكون نقيضا مطلقا لكل تفكير فلسفي، وينكرون عليها أية قيمة علمية، كما أنها موجهة من جهة أخرى ضد أولئك الماديين الذين يحتقرون من جانبهم كل فلسفة، ويتصورون أن آراءهم ليست بأية حال وليدة نظر فلسفي، وإنما هي نتيجة خالصة للتجربة وللحكم الطبيعي السليم وللعلوم الفيزيائية». وهكذا فإن المادية عنده مقترنة في بداية ظهورها بنشأة الفلسفة ذاتها، فهي ليست مذهبا ضئيل الشأن من الوجهة الفلسفية. ولكنها في الوقت ذاته ينبغي ألا تدعي الترفع عن الفلسفة والارتباط بالعلم وحده.
অজানা পৃষ্ঠা