فقانون القصور الذاتي - بما يتضمنه من حركة مستمرة وسكون مطلق - يتناول بالفعل حالة فرضية لا وجود لها في الطبيعة المدركة. ولكن هذا لا يعني أن هناك انفصالا بين عالم العقل - الذي ينتمي إليه هذا القانون - وبين عالم الظواهر، وإنما يعني أن تعقد الظواهر وتداخلها يحول دون توافر الظروف التي تتيح انطباق هذا القانون في صورته الخالصة، وبالاختصار فإن عدم إطاعة الطبيعة للقانون العلمي، واستحالة تطبيق هذا القانون عليها في صورته المباشرة، ليس معناه أن هناك ثنائية قاطعة وانفصالا تاما بين عالم الذهن وعالم الظواهر، بل إن تقدم العلم يقدم في كل يوم مزيدا من الأدلة على تداخل هذين العالمين. (11) نصوص مختارة من كتاب «أركان العلم» (11-1) الكون كما تحكمه العلية وكما يحكمه الارتباط (القسم الخامس من الفصل الخامس) «تكاد كل الأفكار الموروثة التي وقفت حجر عثرة في وجه الفكر البشري أن تكون ناتجة، لا عن التجربة مباشرة، وإنما عن استنباط عقلي من تجربة محدودة النطاق إلى حد بعيد، وما علينا إلا أن نتأمل المذاهب الكونية السابقة على كبرنك، وننظر إلى تلك المفاهيم الضيقة من أمثال «المادة» و«القوة» أو «الذرة» و«الأثير»؛ لندرك مدى سيطرة المفهوم الذهني على التجربة، إلى الحد الذي يجعل الكثيرين ينظرون إليه على أنه حقيقة من حقائق التجربة، وضمن هذه القيود الذهنية التصويرية ينبغي أن يندرج آخر الأمر قانون العلية في صورته الصريحة المطلقة.
إن الكون مؤلف من كيانات لا حصر لها، كل منها على الأرجح فردي، وكل منها على الأرجح غير دائم، وأقصى ما يستطيع المرء أن يحققه هو أن يصنف هذه الكيانات - عن طريق القياس
measurement
أو ملاحظة الخصائص - إلى فئات من الأفراد «المشابهة». وفي داخل هذه الفئات يمكن ملاحظة تنوعات؛ ومن هنا كانت المشكلة الأساسية في نظر العلم هي كشف طريقة ارتباط تنوع فئة معينة بتنوع فئة أخرى، فرجل العلم يبحث دائما - عن وعي أو دون وعي في معظم الأحيان - عن جداول للارتباط، فإذا ما وجد كل فرد محدد في الفئة «أ» فردا مرتبطا به في الفئة «ب»، قال: إن «ب» مرتبطة ب «أ». ولكن الواقع أنه يجد على الدوام لكل فرد مختار من «أ» مجموعة من أفراد «ب»، وذلك إذا بلغت قدرته على الملاحظة والقياس قدرا كافيا من الدقة، وهذه المجموعة الأخيرة قد تكون شديدة التركيز وقد لا تكون، ومن هذه المجموعة يصل بعمليات ذهنية خالصة إلى حد نهائي تصور فيه «ب» بطريقة ذهنية على أنها معتمدة على «أ»، وينظر فيه إلى «أ» على أنه يحدد «ب» على نحو مطلق، وهنا نكون قد انتقلنا من وقائع التجربة إلى الحد التصوري الذي يتمثل في الاعتماد التام؛ أي إلى ما يسمى بقانون العلية. غير أن النظرة الأحدث والأصح في نظري إلى الكون هي القائلة إن الموجودات كلها تترابط بدرجات متفاوتة؛ فالموجودات فردية وليست عملية تصنيفها إلى عملية بشرية عقلية تستهدف الاقتصاد في الفكر، وأي تنوع داخل موجودات فئة معينة يتبين أنه مرتبط بتنوع مناظر بين موجودات فئة أخرى، وعلى العلم أن يقيس درجة وثوق الارتباط أو تفككه في هذه التنوعات المتلازمة؛ فالاستقلال المطلق هو الحد الذهني - في أحد الطرفين - لتفكك الروابط، والاعتماد المطلق هو الحد الذهني - في الطرف الآخر - لوثوق هذه الروابط، ولقد حاولت النظرة القديمة - القائلة بالعلة والمعلول - أن تدرج الكون تحت هذين الحدين التصوريين للتجربة. وكان لا بد لها أن تخفق؛ إذ إن الأشياء في تجربتنا ليست إما مستقلة أو معتمدة. بل إن جميع فئات الظواهر ترتبط سويا، والمشكلة في كل حالة هي تحديد درجة وثوق الارتباط.
إن الموقف العقلي الذي يرى بين كل الموجودات درجات متباينة من الارتباط - لا اعتمادا واستقلالا فحسب - يتأمل الكون عقليا من خلال مقولة جديدة، وهو يتحرر بسهولة من التمييز القديم البالي بين الظواهر الحيوية والظواهر الفيزيائية، وهو التمييز الذي لا يرجع إلى هذه الظواهر ذاتها، وإنما يرجع إلى تلك الحدود التصورية التي استخلصها منها الإنسان بعقله، ثم نسي كعادته قدرته على الخلق اليسير، فحولها إلى حقيقة قائمة من وراء إدراكاته الحسية وخارجة عنه، إن كل ما يمدنا به الكون هو التشابه في التنوعات. أما الإنسان فقد أضفى فكرة الاعتماد عليها رغبة منه في اقتصاد طاقته العقلية المحدودة.» (11-2) الإرادة بوصفها علة (القسم الثالث من الفصل الرابع) «ليس من المستغرب أن يتأثر البشر في مرحلة مبكرة جدا من نموهم العقلي بالقوة الحقيقية - أو البادية على أية حال - التي تكمن في نزوع إرادتهم إلى إحداث «حركة»، وعلى هذا النحو نجد أن أكثر الشعوب بدائية تنسب كل الحركات إلى إرادة معينة من وراء الجسم المتحرك؛ إذ إن أول تصور يكونونه عن علة الحركة إنما يكمن في إرادتهم الخاصة. وهكذا ينظرون إلى الشمس على أنها محمولة أثناء دورانها على أيدي إله للشمس، وإلى القمر على أن لديه إلها للقمر، بينما تفيض الأنهار وتنمو الأشجار وتهب الرياح بفضل إرادة مختلف الأرواح التي تكمن فيها. وكان لا بد من مضي عصور طويلة حتى يدرك البشر - بقدر متفاوت من الوضوح - أن الإرادة ترتبط بالوعي، وبتركيب فسيولوجي محدد، وأن الوصف العلمي للحركة يحل تدريجيا محل التفسير الروحاني، وأننا نستغني في حالة بعد الأخرى عن الفعل المباشر للإرادة في حركة الأجسام الطبيعية. ومع ذلك فإن فكرة الإجبار، وفكرة وجود ضرورة ما في ترتيب التعاقب ما زالت متأصلة بعمق في أذهان الناس، وكأنها إحدى حفريات التفسير الروحاني الذي يرى في الإرادة علة للحركة، وما زالت هذه الفكرة للأسف مرتبطة بالوصف العلمي للحركة، وبالفكرة المادية للقوة بوصفها ما يجعل من الضروري حدوث تغيرات أو تعاقبات معينة للحركة، وهي الفكرة التي تعد شبحا متخلفا عن المذهب الروحاني القديم؛ فالقوة التي يقول بها المادي هي الإرادة التي كان يقول بها الروحاني القديم، منفصلة عن الوعي، وكلتا الفكرتين تنقلنا إلى مجال يتجاوز انطباعاتنا الحسية؛ ومن ثم فكلتاهما فكرة ميتافيزيقية، ومن ذلك فربما كان استدلال الروحاني القديم - مع فساده - أقل بطلانا من استدلال المادي الحديث؛ إذ إن الروحاني لم يقل بوجود الإرادة وراء مجال الوعي الذي كان يجد الإرادة مرتبطة به على الدوام.
إن القوة بوصفها علة للحركة تقف على قدم المساواة تماما مع إله الشجر بوصفه علة للنمو، فكلاهما اسم يخفي جهلنا بالسبب الذي يرجع إليه النظام المطرد لإدراكاتنا الحسية، والضرورة في القانون الطبيعي لا تتسم بنفس الحتمية المطلقة التي تتسم بها النظرية الهندسية، ولا بالوجوب المطلق الذي يطلبه المشرع البشري، وإنما هي لا تعدو أن تكون تجربتنا التي نشعر فيها بوجود نظام مطرد لا تتسم مراحله بترتيب منطقي أو إرادي.»
الباب الثالث
الجذور الفلسفية للبنائية
ملخص
يبدأ البحث بتأكيد أن البنائية - من حيث هي منهج - قديم العهد. أما من حيث هي مذهب فكري شامل فهي ظاهرة حديثة. ومع ذلك فمن الوجهة الفلسفية الخالصة يمكن تتبع جذورها الفلسفية إلى أصول من أهمها فلسفة «كانت»، التي كانت بدورها تبحث عن نسق «قبلي» تنظم إطاره التجربة ويتألف من صورة أو قوالب ذات طبيعة ذهنية، وتشكل البنائية حلقة في تلك السلسلة الطويلة من المحاولات التي تهدف إلى جعل دراسة الإنسان علما دقيقا؛ ومن ثم كان النموذج اللغوي يقوم فيها بدور أساسي.
অজানা পৃষ্ঠা