فلم أكن أستطيع أن أسهر ولا أتعرف إلى أحد دون إذن من أخي، وكان علي أن أغدو مع الفجر إلى درس الأصول، ولم يكن بد من أن أستعد لهذا الدرس وغيره من دروس الأزهر، وأن أعوض هذا الوقت الذي أضيعه كل مساء في الجامعة على كره من أخي في القاهرة، وأسرتي في الريف.
هممت أن أعتذر، ولكنه لم يمهلني ولم يتح لي أن أقول حرفا، وإنما استوقف عربة ودفعني فيها دفعا، وأمر خادمي الأسود الصغير أن يجلس إلى جانب السائق، وجلس هو إلى جانبي وقال للسائق بصوته الغليظ العريض: إلى القلعة، وكنت أسكن في أقصى الجمالية، فلما أخذت أقدر بعد الأمد بين داره وداري، وهممت أن أتكلم، وضع يده على كتفي وقال: ألم أقل إني سأردك إلى حيث تقيم؟!
3
وقطعت بنا العربة أحياء مختلفة، ومضت بنا في أجواء متباينة، وكنت أحس اختلاف الأحياء، وتباين الأجواء فيما يصل إلي من أصوات الناس وحركاتهم ومن اضطراب الأشياء من حولنا، كما كنت أحس ذلك في سير العربة نفسها وفي لهجة السائق وهو يدفع الناس أمامه ويطلب إليهم أن يتنحوا له عن الطريق أو أن يجنبوا أنفسهم خيله وعربته.
كان الحي رشيقا أنيقا، وكان الجو سمحا طليقا، وكانت الحركات والأصوات من حولي لا تخلو من شدة وعنف، ولكن فيها ظرفا وتأنقا، حتى إذا بلغنا شارع محمد علي ضاقت الطريق، واشتد أمامنا الزحام، وكثر من حولنا الصياح، وأخذت أصوات الأطفال ونساء الشعب تختلط بأصوات الرجال من العمال وسائقي عربات النقل، وانتشرت في الجو روائح ثقيلة تمتاز منها روائح البصل والثوم وقد أخذت تعمل فيهما النار، وارتفع صوت السائق واتصل، وكثر نذيره وتحذيره، وكثر حوله لوم الناس له وتأنيبهم إياه، وتردد في الهواء هذا الصوت المعروف الذي يحدثه السائقون بأسواطهم حين يأتون بها هذه الحركة التي يردعون بها الخيل وينبهون بها المارة، ثم تنفسح الطريق وتتسع ويصفو الجو، ويخف الهواء وتهدأ الحركة، ويتنفس السائق مطمئنا، وتمشي الخيل رفيقة. ولكن ذلك لا يطول إلا ريثما تنعطف العربة ذات اليمين، وإذا نحن في حارة ضيقة هادئة قد ثقل فيها الهواء وفسد فيها الجو وكثرت في أرضيها الأخاديد. فالعربة تقفز بنا قفزا، والسائق يهز سوطه في الهواء، ويحذر وينذر في هدوء ورضى، ويدعو ذلك بعض النوافذ إلى أن تفتح، ويثير ذلك بعض الصبيان فيخرجون من بيوتهم أو من أوكارهم يعبثون بالسائق، ومنهم من يتعلق بالعربة ثم ينصرف عنها، ونحن نضحك من هذا كله، ونضحك من السائق خاصة، وهو ينظر أمامه ويلتفت وراءه، ويضرب الهواء بسوطه، ويطلق لسانه بألفاظ ترق حتى تبلغ المداعبة الحلوة، وتغلظ حتى تصل إلى الشتم القبيح، وكل ذلك يصل إلى نفسي فيحدث فيها آثارا مختلفة، ولكنها على اختلافها تتفق في شيء واحد وهو الطرافة؛ لأني لم أكن تعودت ركوب العربات، ثم يقف السائق فجأة وننزل من العربة، وإذا صاحبي يقول لي: لم نبلغ البيت بعد، ولكننا انتهينا إلى حيث لا تستطيع العربة أن تمضي، فهل تعودت التصعيد والرقي في الجبل، فأنا لا أحب أن أسكن في السهل المنبطح فأكون كغيري من الناس. وإنما أحب أن أشرف على القاهرة، وأن أخيل إلى نفسي أني لست منغمسا فيها، وأني أدخلها إذا غدوت إلى عملي مع الصبح وأخرج منها إذا رحت إلى بيتي مع الليل، ولست أخفي عليك أني أجد لذة قوية حين أدخل المدينة مع النهار هابطا إليها من هذه الربوة كأني أغزوها وأسقط عليها سقوط النسر على فريسته، وأجد لذة أخرى ليست أقل من تلك اللذة قوة حين أمضي النهار كله في المدينة مضطربا مع الناس فيما يضطربون فيه من عمل، خائضا مع الناس فيما يخوضون فيه من حديث، مشاركا للناس فيما يأتون من خير وشر، نافعا ضارا، منتفعا محتملا للضرر، حتى إذا كان المساء ضقت بهم وضاقوا بي، وأويت إلى جامعتكم هذه الجديدة أريح نفسي بما أسمع من كلام فيه الممتع وفيه السخيف، ولكنه على كل حال ليس بذي غناء، حتى إذا أخذت بحظي من هذه الراحة الأولى، رحت إلى بيتي، فلا تسل عن هذا الشعور العذب الذي يغمر قلبي شيئا فشيئا كلما دنوت من هذا المكان؛ أحس كأني أنسل من المدينة، وأتخفف من أثقالها، وألقي آثامها من ورائي، وأطهر جسمي ونفسي من أوضارها وأدرانها، حتى إذا رقيت هذه الربوة وبلغت قمتها هذه - وكنت قد أحسست الجهد من التصعيد في طريق عالية ملتوية - وقفت وقفة من كان في مكروه فخلص منه. وأرسلت زفرة يخيل إلي أنها تحمل بقية ما علق بنفسي من شر المدينة، ثم تنفست ملء رئتي مرة ومرة، ثم أقبلت هادئا مطمئنا قصير الخطى إلى هذا الباب. وهنا وقف ودق الباب دقتين ففتح لنا ثم أغلق من دوننا.
4
وانعطف بنا إلى اليمين فمشينا خطوات، ثم انتهى بنا إلى دهليز، فرقينا درجات، وخادم صبية تسعى بين أيدينا وقد حملت في يدها اللطيفة سراجا صغيرا يضطرب منه ضوء ضئيل، حتى إذا بلغنا أعلى السلم وقف يبحث في جيبه عن بعض الشيء، ثم أخرج مفتاحا فأداره في قفل أمامه حتى إذا فتح له الباب صاح صيحة عريضة أن اخلع نعليك فقد بلغت الغرفة الحرام.
ولم أكد أسمع هذه الجملة حتى انحنيت إلى حذائي أريد أن أخلعه حقا، وأي غرابة في ذلك؟ فقد تعودت خلع الحذاء مرات في كل يوم، حين كنت أختلف إلى الدروس في الأزهر أو في جامع محمد بك، أو في جامع العدوي، أو في جامع الأشرف. هناك حيث كنت أستمع لدروس الأصول والفقه والنحو والمنطق والتوحيد، وتعودت خلع الحذاء حين كنت أزور بعض الدور، ولا سيما دور شيوخنا من العلماء، ولا سيما هذا الشيخ الذي كان الخديو قد نفاه من الأزهر نفيا وحظر عليه التعليم فيه. فتبعناه إلى داره وألححنا عليه في أن يمضي في إلقاء ما كان يلقي علينا من الدروس لا حبا في علمه ولا تهالكا على شخصه، ولكن تحديا لذلك السلطان الذي كنا نراه جائرا متحكما، ولا نريد أن نذعن لجوره، ولا لتحكمه، وآية ذلك أننا نشرنا في الصحف خبر إلحاحنا على الأستاذ، واستجابة الأستاذ لنا، واختلافنا إلى داره في الضحى من كل يوم نسمع منه الأصول في بعض الأيام، والمنطق في بعضها الآخر.
هنالك في الدرب الأحمر كنا نبلغ الدار مختلفين، فبعضنا يتخذ أحذية الشيوخ، وبعضنا يتخذ أحذية الأفندية، وكلنا كان يخلع حذاءه، إذا بلغ المنظرة، فلم أجد غرابة إذا في أن يطلب إلي صاحبي أن أخلع نعلي حين بلغنا غرفته هذه، فلعل ما كان يغطي أرضها من بساط أو حصير كانت تقام عليه الصلاة، كما كانت تقام على ما يغطي أرض المساجد وأرض منظرة الشيخ من بساط أو حصير. ولكني لم أكد أنحني على حذائي لأخلعه حتى امتلأ الجو بضحك عريض رائع مخيف، ثم امتدت إلي يد صاحبي الغليظة فردتني إلى اعتدال القامة، وصاحبي يقول: ماذا تفعل؟ أفتظن أنك في الأزهر؟ أوهذا كل ما علمته من البيان؟ قلت في شيء من الدهش عظيم: وأي غرابة أن تخلع النعال عند أبواب الغرف؟ وأين يكون البيان وأبوابه من خلع النعال؟ قال: يا سيدي إنهم يدرسون لكم في الأزهر التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية. وما أشك في أنك تستطيع أن تعيد علي كل ما سمعته من هذا، ولكنك تملأ صدرك بما لا تفهمه ولا تحسن الانتفاع به، فإني لم أرد أن تخلع نعليك، وإنما أردت أن تكبر هذه الغرفة التي بلغتها والتي ستدخلها؛ لأنها غرفة العلم والأدب، ومستقر الأسفار والكتب، ومهبط الوحي إن كان ما يقع في نفس رجل مثلي يريد أن يكون أديبا شيئا يمكن أن يسمى وحيا. فلو أنك تدرس علم البيان درس فهم وانتفاع حقا، لما أعياك أن تفهم عني ما كنت أريد. قال ذلك في صوت غليظ يقطعه هذا الضحك الذي يصور السذاجة والمكر وحب السخرية في وقت واحد، ثم أخذ بيدي ومضى معي حتى أجلسني على كرسي أمام مائدة لم أكد أضع عليها يدي حتى لمست كتابا.
وكانت الخادم في أثناء ذلك ما زالت قائمة وفي يدها اللطيفة سراجها الصغير. فالتفت إليها مغضبا ضاحكا معا، وهو يقول: وما وقوفك أنت هنا كالصنم؟ ثم خفض صوته قليلا وقال : ومع ذلك فإن منظرها جميل يصور بعض ما تركه لنا القدماء من آثار الفن.
অজানা পৃষ্ঠা