وأنا أعلم أنك أيها الصديق تنكر هذا مني، وتراه جنونا أو تراه إسرافا، ولكن ما رأيك في أني أرى هذا طبيعيا، وأصدر عنه حين أفكر وحين أعمل، وفي أني رفضت العودة حين عاد الطلاب الجامعيون، ورفضت الهجرة حين هاجر الطلاب غير الجامعيين إلى الأقاليم النائية، وآثرت البقاء لم أجد فيه مشقة ولم أتكلف له جهدا، وسينقطع عني من غير شك راتب الجامعة، ولن أطلب العون من أهلي، وما أحب أن تنبئهم من ذلك بشيء. وقد أتعرض للضر، وقد أذوق لذة الجوع، وما أرى بذلك بأسا، فإن معي ملايين سيتعرضون لهذا الضر، وسيذوقون هذه اللذة، وما أحب أن أسعد وهم أشقياء، ولا أن أشبع وهم جياع، على أني لا أريد أن أغلو ولا أصور لك نفسي في صورة البطل، فلئن نجت باريس من هذا الشر المحدق، لأعودن إلى ما أنا فيه من حياة هادئة وادعة. ولئن ألمت بها الكارثة لأكونن واحدا من هذه الملايين التي تشقى، ولكنها لا تصور شقاءها في الكتب ولا تتحدث به إلى الأصدقاء من وراء البحر، وإنما تلقاه ثابتة له مطمئنة إليه، حتى تنفرج عنها الكربة، وتزول عنها الغمة، وتنجاب عنها ظلمة الليل. ولعل أظهر ما تترك الحرب في نفوسنا من الآثار أنها تهون عليها الحياة، وتزيل عنها هذه الأغشية التي نسجتها الحضارة لها نسجا من الأثرة وحب اللذة والتهالك عليها، والطموح إلى الترف، والحرص على الأمن والاستمتاع بما يبيح من نعيم، فكل هذا شيء مصنوع متكلف أنتجته الحضارة إنتاجا، وليس هو في طبيعة الحياة، وإنما طبيعة الحياة أيسر من هذا وأدنى إلى السذاجة، إنما هي حركة ونشاط يعقبهما سكون وخمود، إنما هي هذا الذي نراه في غيرنا من الحيوان الذي يتبع غرائزه آخذا من نشاطه بأعظم حظ يستطيعه، حتى إذا ألمت به الكارثة أو تلقاه الموت لم ينظم شعرا ولم يكتب نثرا، وإنما انتظر الموت مذعنا له، ودخل في الفناء كما خرج منه، لم يرد الدخول فيه كما لم يرد الخروج منه.
نعم، هذا أظهر ما تترك الحرب في نفوسنا من الآثار، فنحن نتبع غرائزنا أكثر مما نتبع عقولنا، نحن شجعان دون أن يكون لنا فضل في الشجاعة. ونحن مؤثرون دون أن يكون لنا فضل في الإيثار، ونحن جبناء وأثرون أيضا دون أن يكون علينا في الجبن والأثرة لوم، إنما نقدم أو نحجم لأنا ندفع إلى الإقدام أو نرد إلى الإحجام، لا نرى من هذا ولا ذاك بدا. ذهبت بالقياس إلينا كل فلسفة، وانحلت بالقياس إلينا كل قاعدة، وأرسلت نفوسنا على سجيتها إرسالا، فنحن ننتهز الفرص حين نظفر بها، ونستمتع باللذة إلى أبعد غاية الاستمتاع حين تتاح لنا، لا نحاسب أنفسنا ولا نسألها، وفيم الحساب والسؤال ونحن لا نفكر في العاقبة لأن فكرة العاقبة قد محيت من نفوسنا محوا، وما التفكير في العاقبة وما السؤال عنها، ونحن نراها ساعية إلينا مشرفة علينا، قد زلزلت الأرض من حولنا زلزالا، أليست هي في هذا الموت الذي يسعى إلى باريس ويوشك أن يبلغها غدا أو بعد غد!
لست أدري إلى أي عاقبة تنتهي هذه الحرب، ولست أدري لمن سيتاح النصر، وعلى من ستدور الهزيمة، ولكن الذي لا أشك فيه هو أن الناس سيقضون أيام الحرب والأعوام التي تليها متأثرين بالغرائز أكثر مما يتأثرون بأي شيء آخر، مهدرين لما عرفوا من قيم الأشياء إهدارا، مزدرين لما ألفوا من المثل العليا، وما أرى إلا أنهم سينفقون دهرا متمردين على العقل والخلق، واجدين في هذا التمرد أقصى اللذة وأقصى الألم.
لست أدري أتفهم عني! فقد ألقت الظروف بينك وبيني حجبا كثافا صفاقا، لعل الكلام لا ينفذ منها، ولعل العقول لا تتصل من دونها، أنت آمن وأنا خائف، أنت هادئ وأنا مضطرب، أنت لا تخشى الموت وأنا أراه يسرع إلي وإلى ما حولي ومن حولي في غير ريث ولا أناة، كم أحب لك أن تعبر البحر لتقرب من ميدان الخطر أو لتسمع حديث الذين دنوا من هذا الميدان، أو ألموا به ثم ردوا عنه. فمهما تكن المدينة التي سترسل إليها بعد أشهر فستكون فيها قريبا من المئات والآلاف من هؤلاء الجرحى الذين يوزعون توزيعا على ما أقيم في فرنسا من المستشفيات، وستسمع من هؤلاء أو من الذين يتصلون بهؤلاء أنباء الموت وأحاديث الحرب، وستفهم أنها خليقة أن تغير في الحياة رأي الأحياء. أين أنا؟ وماذا كنت أريد أن أقول لك حين بدأت هذا الكتاب؟ لقد أنسيت مكاني وأنسيت بدء الحديث، وهأنذا ألتفت عن يمين وشمال فأعرف المكان الذي أنا فيه والذي أكتب إليك منه، إنها هذه القهوة التي يألفها الأدباء في حي مونبرناس، والتي تعودت أن أختلف إليها، وأجلس غير بعيد من أنديتهم ومجالسهم، لأراهم حين يقبلون وحين ينصرفون، ولأسمعهم حين يديرون بينهم هذه الدعابة الحلوة، وهذه الفكاهة ذات الأجنحة، وحين يتناشدون الشعر، ويتبادلون الرأي فيه حول أقداح الأبسنت إذا دنا الظهر أو أقبل الليل، وحول كئوس الكونياك وأقداح القهوة بعد الغداء وبعد العشاء. إني لأعرف نفسي في هذه القهوة التي كانت وقفا أو كالوقف على أدباء الحي اللاتيني، ولكني أختلف منذ أيام فلا أرى فيها حلق الأدباء ولا أنديتهم، وإنما هي مزدحمة دائما تكتظ بالمقبلين عليها من كل صوب، قد اختلطوا أشد الاختلاط، وتباينت طبقاتهم أشد التباين. وهم يلمون بالقهوة لا يطيلون فيها المقام، إنما يلتقون ويفترقون، ويصيبون بعض ما يحتاجون إليه من شراب بارد أو حار، ثم يمضي كل منهم لوجهه. ومن يدري! لعلهم لا يعودون إلى هذه القهوة أبدا، ومن يدري! لعل الذين يلتقون فيها لا يلتقون بعد هذا اليوم أبدا، وباريس كلها في هذه الأيام تشبه القهوة، يلتقي فيها الناس سراعا ويفترقون سراعا، كلهم معجل، وكلهم قلق، وكلهم يستقبل الساعة التي هو مقبل عليها غير حاسب للساعة التي تليها حسابا؛ لأن حساب الساعات لم يبق في أيدي الناس وإنما صار إلى يد «أم قشعم»، ألستم تزعمون أن أم قشعم هي الحرب؟! تعال أيها الصديق فانظر إليها وابل سلطانها على النفوس، فسترى وستسمع وستحس أشياء لا صلة بينها وبين ما تقرأ في شعر زهير.
وداعا أيها الصديق! لقد ذكرت الآن فيم أقبلت إلى هذه القهوة، فهذه «إلين» تقبل علي مبتسمة في هذه الأيام التي لا يفهم معنى الابتسام، وأنا أبسم لها، ولا تسلني عن إلين، فالله قد نهاكم أن تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، وما أحب أن أسوءك بحديث إلين، فيكفي أن تعلم أن صديقك الذي كان جادا كل الجد، منصرفا كل الانصراف، قد فارق اللذة وطلق الحب وقطع الأسباب كلها بينه وبين حميدة وفرنند. يكفي أن تعلم أن صديقك هذا قد فارق الجد وقطع الأسباب بينه وبين الدرس، ووصل الأسباب بينه وبين إلين، ولن أحدثك عنها ما دامت هذه الأسباب موصولة، فإذا انقطعت فسيطول بينك وبيني الحديث، فأنت تعلم أني لا أحدثك عن رضاي حين أرضى، وإنما أحدثك عن شقائي حين أشقى، فتمن لي الشقاء إن حرصت على أن أتحدث إليك.
وداعا أيها الصديق! إن إلين تضيق بانصرافي عنها إليك، ولئن مضيت في هذا الحديث لتمزقن كتابي إليك تمزيقا، فلأنصرف عنك إليها، ولأستقبل معها حياة المساء في باريس المضطربة، فمن يدري عم يسفر لنا الصباح؟!
16
ديسمبر في ...
وكذلك عبرت البحر في أيام الحرب وفي فصل الشتاء، ولقيت من عبوره هذا الشر العنيف الذي خلقته لنفسك خلقا، وخيلته إليها تخييلا أيها الصديق، فما كانت سفينتك معرضة لخطر الغواصات، ولو عرفت الجامعة أنكم تتعرضون لهذا الخطر ما أرسلتكم إلى فرنسا، فهي حريصة على حياتكم حرصا شديدا، وما كانت سفينتك على صغرها وطول العهد عليها معرضة للغرق ولا لأن تحطمها الأمواج. فلو كانت تعرض لشيء من ذلك لما أذن لها بالعمل في البحر، وإنما أنت رجل من أبناء الريف لا تعرف المخاطرة ولا المغامرة، فكل جديد عندك خطير، وكل مشقة عندك مشرفة بك على التهلكة. وها أنت ذا قد نجوت من الغرق، فلم تنسفك غواصة ولم يطغ الموج على سفينتك، فانعم بهذه النجاة، وانعم بالوصول إلى فرنسا والاستقرار فيها والاختلاف إلى جامعة مونبلييه، وانعم بما قدر لك من أمن وهدوء، فلن يبلغ الألمان مونبلييه، وأنى لهم أن يبلغوها وهم قد ردوا عن باريس كما علمت ردا عنيفا، وهم قد اضطروا إلى هذه الحياة التي يحيونها في الخنادق ينتظرون أن ينحسر الشتاء ليستأنفوا الهجوم، وينتظر عدوهم من الفرنسيين أن ينحسر الشتاء ليستأنفوا الدفاع العنيف وليخرجوهم من أرض الوطن إخراجا!
اهنأ بهذا الأمن في مونبلييه وإن كنت لا أفهم لم وجهتكم الجامعة إليها وصرفتكم عن باريس، فليست باريس أقل أمنا من مونبلييه بعد أن رد الألمانيون عنها ردا وقد كسرت حدتهم وفلت عزائمهم، فلن يبلغوها بعد اليوم مهما تتح لهم القوة ومهما يواتهم الحظ، ولكنكم قوم تحسنون الاحتياط وتغلون فيه وتتجنبون حتى مظنة الخطر. فلتنعموا بما أتيح لكم من هذا الحذر الذي لن يغني عنكم من الله شيئا، ولكني أحب لك ألا تخدع نفسك بالأماني ولا ترسلها مع الغرور، ولا تخيل إليها أنك تعيش في فرنسا تلك التي عرفناها قبل الحرب، فإن فرنسا تلك ليست في المدن ولا في الأقاليم ولا في باريس، وإنما هي في ميدان القتال، تواجه الموت وتبسم له بعد أن كانت من قبل تواجه الحياة وتبسم لها. ستسمع العلم ولكن من أساتذة شيوخ عجزوا عن حمل السلاح إلى الحرب فأقاموا في الجامعة يعلمون، وستختلف إلى الدروس ولكن مع طلاب من الغرباء لا حظ لهم مما كان يملأ نفوس الفرنسيين من فرح ومرح ونشاط، ستعيش في بيئة مظلمة مكفهرة، فيها أمل ولكنه بعيد، وفيها خوف ولكنه قريب، فيها أمل في فوز فرنسا، وفيها خوف على أبناء فرنسا، وفيها يأس لاذع يتردد بين ذلك الأمل وهذا الخوف، والحياة في هذه البيئة لا تخلو من لذة وعبرة ومتاع، ولكنك لا تستطيع أن تبلوها كما ينبغي؛ لأنك لم تر فرنسا الفرحة المبتهجة الآمنة لتقيس إليها فرنسا المحزونة المكتئبة الخائفة. افرغ إذا لعلمك ودرسك، وامنح أكثر وقتك للكتب، وأجل معرفة فرنسا إلى حين، فإنك لن تعرفها حق المعرفة إلا بعد أن تضع الحرب أوزارها، ومتى تضع الحرب أوزارها؟
অজানা পৃষ্ঠা