أترى أيها الصديق أني مغرور مسرف في الغرور! أتعزى عن الألم والندم بتزكية نفسي، وأكاد لا أكره ما أقترف من الآثام لأنه يشعرني بأني كريم النفس نبيل الطبع نقي الضمير، ولكن لا تنكر علي هذا الغرور، ولا تلمني فيما ألتمس لنفسي البائسة من ضروب التسلية وألوان العزاء. فلولا هذا الغرور لأهلكني ما أجد من الحزن، ولقضى علي ما أحس من الندم، ولدفعت إلى اليأس المهلك دفعا.
وإني لأعجب كيف انجلت عني غمرة الأمل وصرفت صرفا عن هذه الخيالات الحارة التي كنت أخلقها لنفسي خلقا، وأستعين بها على ما كنت مقدما عليه من الطلاق حين كنت أصور الحياة الجديدة في فرنسا، وما تدخر لي من لذات مختلفة لا تفنى. فأنا أحاول الآن أن أتصور هذا البلد الذي أنا مقبل عليه، فلا أرى إلا هذا البلد الذي أنا منصرف عنه.
أحاول أن أتمثل السربون فلا أرى إلا جامعتكم المصرية، وأحاول أن أتمثل رفاقي من الفرنسيين فلا أرى غيرك وغير أصحابك الشيوخ، ثم أحاول أن أتمثل جمال باريس فلا أرى إلا القاهرة وأحاول آخر الأمر أن أضلل نفسي وأعللها وأمنيها الأماني الآثمة، أحاول أن أتمثل المرأة الباريسية فلا أرى إلا حميدة قائمة أمامي كهيئتها يوم كانت تستعد للرحيل في بكاء متصل وصمت عميق.
مهما أفعل لأنظر إلى أمام فأنا مكره على أن أنظر إلى وراء، فلا تلمني إذا حين أعجز عن أن أخرج من نفسي، وعن أن ألتمس العزاء إلا فيها، فأنا أتلهى بهذا الغرور عن هذه الأهوال المنكرة التي تأخذني من كل مكان وتسعى إلي من كل صوب، وما لي لا آلم ولا أندم ولا أتجشم من ذلك أهوالا وقد اقترفت إثما عظيما حقا، لقد كنت أخافك أيها الصديق فلم أصور لك من هذا الإثم: إثم الطلاق، إلا أيسره وأهونه، لم أصور إلا ما فيه من ظلم البريء والاعتداء على من لم يستحق الاعتداء، وقد لقيت منك مع ذلك لوما شديدا وإنكارا عنيفا، ونبوا كاد يفسد ما بيننا من الود، فكيف لو صورت لك حقيقة الإثم الذي اقترفته! وكيف لو كشفت لك عن وجهه الذي أخفيته عليك.
لقد أفلت منك أيها الصديق، ولقد بلغ الكتاب أجله، وقطعت الأسباب بين حميدة وبيني، وبعدت بي الدار، فلا أمل الآن في إصلاح ما فسد، ولا خوف الآن من أن تصدني عن الرحيل. الآن أستطيع أن أظهرك على نفسي كلها ... والآن أستطيع أن أنبئك بإثمي كله، وأنا أعلم أنك ستحتقرني وستزدريني، وما يعنيني من ذلك وأنا أحتقر نفسي وأزدريها! فلن يصرفني احتقارك إياي وازدراؤك لي، ولن يصرفني احتقاري لنفسي وازدرائي إياها عن أن أتمثل هذا الإثم القبيح وأملأ به خلوتي، وأتغنى بآلامه فيما بيني وبين نفسي غناء قبيحا منكرا بشعا أكرهه الكره ولكن أمعن فيه أشد الإمعان.
لن يصرفني ازدراؤك لي وازدرائي لنفسي عن هذا كله، وعن أن أسجل نغمات هذا الغناء البشع في هذا الكتاب الذي أرسله إليك ...
لست ظالما فحسب أيها الصديق، ولكني كافر للنعمة منكر للجميل. فلم تكن حميدة زوجي فحسب، ولكنها كانت منعمة علي منقذة لي، ورضيت بي بعد أن نبذني غيرها، ومنحتني ودها وحبها بعد أن أعلن غيرها أني لست أهلا لود ولا حب.
إن لهذا قصة لم أنسها ولن أنساها؛ لأنها مزقت نفسي تمزيقا، وعذبت قلبي تعذيبا، وآذتني في أعز شيء علي وهو الغرور والاعتداد بالنفس.
لقد كان أبواي كغيرهما من أهل الريف يعدانني لعروس غير حميدة، وكان أهل هذه العروس يعدون ابنتهم لي منذ نشأنا صبيين وكانت الفتاة ابنة عمي، ولم تكن جميلة ولا وسيمة، ولكنها على ذلك كانت محببة إلي أثيرة عندي، لكثرة ما سمعت منذ الطفولة من حديث الزواج.
ولكنك لم تر وجهي ولا شكلي أيها الصديق، وأكبر الظن أنك عرفت من صوتي أني قبيح الشكل دميم الوجه بعيد كل البعد عن أن أروق العذارى، وأرضي أهواء النساء. ولم أكن أرى ذلك في نفسي ولا أعترف به عليها، ومتى رأيت رجلا قبيحا دميما يؤمن بأنه قبيح دميم! ولكن فهيمة كانت ترى ذلك وتتأذى به وتنفر منه أشد النفور، وكانت تكره أن يتحدث إليها أهلها وأترابها بأمر الزواج، ولكنها لم تكن تظهر الكره وتعلن الإنكار، حتى إذا جد الجد وتقدمت بها وبي السن، وأخذ أهلنا يفكرون ثم يتحدثون في أمر الخطبة، جهرت بالرفض جهرا وأعلنت الإباء إعلانا، وخرجت في ذلك عما هو مألوف من أمثالها من فتيات الأسر في الريف، فنبت على أمها نبوا وامتنعت على أبيها امتناعا، وأعلنت أنها تؤثر الموت على أن تكون زوجا لهذا الشاب الدميم.
অজানা পৃষ্ঠা