ما أسرع ما تمر الأيام!
نجح عبد الشكور في توكيله، وأصبح اسم التليفزيون هوفمان شهيرا في مصر؛ مما جعله بعد بضعة سنوات يجدد التوكيل مع هوفمان، على أن يشمل البلاد العربية إلى جانب مصر.
أما راشد فقد راحت الأيام تمر به، وراح يزداد تعلقا بأمه وبعدا عن أبيه، رغم أنه علم أن التوكيلات التي حصل عليها أبوه كانت جميعها باسمه.
وحصل راشد على الثانوية العامة واختار له أبوه بترحاب من أمه أن ينتسب إلى الجامعة الأمريكية، ورغبته أمه في هذا قائلة له: إنك تجيد الألمانية والفرنسية من المدرسة. - الحقيقة إن تفوقي في الفرنسية يرجع الفضل فيه إليك. أنا لا أنسى كيف جعلتني أحب الأدب الفرنسي، ولا أنسى الليالي الطوال التي كنت أقضيها معك في قراءة الأدب الفرنسي. - فإذا دخلت الجامعة الأمريكية فإنك ستجيد الإنجليزية أيضا وهي لغة العصر. - إنك لا تحتاجين معي إلى إقناع، يكفي أن أتلمس رغبتك من بعيد حتى أنفذها بكل حماس وبلا مناقشة أو تفكير مني. - يا حبيبي، إذن على بركة الله. - سبحانه وتعالى، على بركة الله.
وفجأة وجدت فوزية نفسها تقول لابنها: راشد. - أفندم. - جاء الوقت لأقول لك شيئا. - هل هناك شيء لم تقوليه لي حتى الآن؟ - كنت أنتظر اليوم الذي أراك فيه على ما أنت عليه اليوم لأقوله. - وعلى أي شيء أنا اليوم؟ - على درجة كاملة من الوعي لتستوعب تماما ما أريد أن أحدثك فيه. - الحمد لله. - ربما رأيت مني تباعدا عن أبيك. - بل نفورا. - سمه ما شئت. طبعا لا تدرك السبب. - أتصوره، وإن كنت غير واثق منه. - ماذا تتصور؟ - أبي بطبيعته له طابع خاص به. - ما هو؟ - لا يعرف كيف يعطي، وإنما يعرف تماما كيف يأخذ. - بمعنى؟ - بمعنى أنه لم يقدم لي في حياته هدية إلا انتظر أن أقدم له في مقابلها شيئا. - ثم ماذا؟ - لا أستطيع أن أحدد، وإنما كنت أحس دائما أنه يريدني أن أدفع له ثمن الهدية. - قبلة مثلا؟ - إنه لا يهتم بهذه المشاعر مطلقا. - إذن فاسمع ما لم أقله لك عن أبيك.
وراحت فوزية تقص على ابنها تاريخ أبيه كله لم تغفل منه شيئا، روت له كيف وصل إلى مكانه في البنك، وقد عرفته مما رواه لها عبد الشكور محاولا أن يريها كم هو ماهر حاد الذكاء، دون أن يعنيه في شيء أن فوزية تقدر المعاني السامية من الشرف أو الوفاء للأصدقاء أو الكبرياء عن الدنس وامتهان الذات، وكل هذه المعاني التي ضرب بها عبد الشكور عرض الأفق؛ في معاملته لفتحي، أو في تقربه من صبحي، أو في امتهان كرامته غاية الامتهان فيما بذله لموسى أشرف، أو في إلغائه لضميره في كل الصفقات التي كان يعقدها في البنك.
وروت فوزية لراشد كيف تزوج بها، بل إنها لم تكتم عنه ما كان بينها وبين أمجد الزعفراني الذي أصبح دكتورا وأستاذا من حب عفيف نقي طاهر ومن تواعدهما على الزواج، روت لابنها كل شيء، لم تخف من حياة أبيه وحياتها خافية ، حتى صلته بأمه وبأبيه روتها له كاملة منذ ترك القرية حتى مات أبوه، وقد كانت قصته هذه يتناقلها الجميع، ولكنها بطبيعتها تحاذر أن تصل إلى مسامع الابن؛ ولهذا لم يكن غريبا ألا يعرفها راشد إلا من أمه. وهكذا لم تحجب فوزية عن ابنها شيئا من تاريخ أبيه العملي أو الأسري بل والبنوي أيضا، واستمع راشد صامت الفم مزلزل النفس زلزالا عاصفا لكل حرف تساقط في حزن وألم وأسى، من فم أمه في ظاهر أمره، ومن بعيد أعماقها في حقيقته.
وحين سكتت فوزية ساد الصمت حينا طويلا، وقال راشد لاهثا: إنك في محافظتك على شرفك الذي هو شرف أبي بعد كل الذي سمعت تعتبرين أعظم امرأة في الوجود. - إن شرفي عندي أغلى من أي شيء، حتى ولو كان هذا الشيء هو الانتقام من أبيك. إنه كرامتي الشخصية، وما كنت لأسمح لأبيك مهما فعل أن يجعلني أتنازل عن كرامتي. - وبحفاظك أنقذتني أن أكون ابن أم ... ابن أم ... لا أريد أن أقول الكلمة. - الحمد لله، نعم تستطيع أن ترفع رأسك دائما إذا واجهت العالم بأمك. - ولكن لا بد لي أن أنكسها إذا واجهت هذا العالم بأبي، الآن عرفت لماذا يتصور دائما أن حبه لا يتمثل إلا في المال. - هذا منتهى علمه بالحياة جميعها. - ولهذا جعل توكيلاته باسمي؟ - لا ليس لهذا وحده. - إذن فلماذا؟ - إنه حريص ألا أرث منه مليما واحدا إذا مات قبلي. - هذا أقرب لخلقه. - لا تعذب نفسك؛ فإن الإنسان لا يستطيع أن يختار أباه. - ولا أمه. - بحسبك أن تكون راضيا عن أمك، إنك لا تملك أن تصنع شيئا. - فعلا أنا لا أملك أن أصنع شيئا الآن. - ولا في المستقبل. - المستقبل لا يفعله إلا الله. - صدقت.
الفصل الثامن عشر
تخرج راشد في الجامعة الأمريكية حاصلا على شهادة في الاقتصاد، وفي اليوم التالي لتخرجه اصطحبه أبوه إلى مقر شركاته، وأدخله إلى غرفة فاخرة الأثاث. - حجرتك.
অজানা পৃষ্ঠা