ويعرف الكثيرون دهشة الشاعر الإنجليزي «جون كيتس» حين اطلع على مسودات «الفردوس المفقود» للشاعر الأعظم «جون ميلتون»، فأصابته صدمة أوقفته عن الكتابة فترة؛ إذ شاهد بعيني رأسه التعديلات التي أملاها ميلتون على بنائه للنص العظيم، وقد كان يتصور أن شعر ميلتون لجماله وإحكامه كامل يقترب من المثال؛ أي لا يقبل التعديل والتبديل، وأنه من ثم لا بد أن يخرج من فم الشاعر في صورة كاملة!
ومن هذه الزاوية نرى أن كل «عمل فني» هو - إلى حد ما - «مشروع» عمل فني، وأنه لا يتخذ الصورة النهائية - مثل مشروعات القرارات والقوانين - إلا بعد الموافقة عليه، سواء كانت بإجماع القراء والنقاد في زمن ما ومكان ما، أو بغالبية الأصوات، أي باتفاق جمهور القراء ومعظم النقاد، أو بتزكية بعض النقاد المعاصرين له ممن يتمتعون بحساسية مرهفة ربما اختلفت عن حساسية العصر. وحتى عندما يقبل العمل الفني بالصورة التي أسميتها «الصورة النهائية» فإن ذلك لا يكون إيذانا بالكمال أبدا! فالصورة المكتملة ليست كاملة؛ لأنها تستند إلى معايير ما تفتأ تختلف من مكان إلى مكان ومن عصر إلى عصر، ومن جمهور إلى جمهور في نفس الزمان والمكان!
أما السبب الثاني فهو مفهومنا للنقد وعمل الناقد. لقد تجاوزنا مرحلة اعتبار النقد عملا طفيليا يمارسه من لا يستطيع الكتابة الإبداعية أو اعتبار النقد نشاطا ذهنيا «غير فني» يقتصر على تبيان المثالب (وعندما تجاوزنا المرحلة الأخيرة أمعنا في التجاوز حتى أصبح الكتاب، وبخاصة من يبدءون هذا الطريق الشاق، يتوقعون المديح والثناء، ولا يقبلون تبيان العيوب والنقائص). ولكن الأخطر من ذلك هو تصور نقادنا وجود معايير مطلقة للأحكام النقدية - وهذا خطأ يداني تصور وجود معايير مطلقة للأشكال الفنية. وإذا كان صحيحا أن الناقد يهتدي في استنباط الأحكام بالتراث الفني؛ فهو لا يخضع للأشكال السائدة في التراث طول الوقت؛ لأن هذه الأشكال وما يمليها من أفكار ما تفتأ تتغير. والناقد ذو طاقة إبداعية دفينة، تتجلى في إدراك الخط الذي تسير فيه الأشكال والأفكار تحولا وتبدلا. وفي إقامة العلائق الباطنة والظاهرة بين الأعمال الفنية في عصر ما أو عند فنان بعينه، والأهم من هذا كله قدرته على اكتشاف النمط الفني المحدد الذي يختاره الفنان؛ ومن ثم قدرته على اكتشاف أماكن كسر هذا النمط بفضل طاقة الاستشفاف لديه - وهي طاقة تستند إلى موهبة فطرية صقلتها الدراسة وهذبها طول قراءته للأعمال الأدبية وطول استقرائها.
ولذلك فعندما يتعرض ناقد مرهف لعمل فني ويقترح تعديلا ما ، فإنه يفعل ذلك نشدانا للكمال - مصيبا كان أم مخطئا - أي إنه يشارك الفنان موقفه وجهده من زاوية جديدة، وإذا كثر عدد النقاد كثر عدد الزوايا وتعددت الوجهات، واستطاع الفنان أن يرى ما لا يستطيع أن يراه وحده.
عاد إلى الطيور
عندما تهب أولى نسمات الخريف الباردة، تقلع أسراب الطيور الأوروبية من غابات «بوهيميا» وما حولها، مهاجرة إلى دفء أفريقيا، وتتوقف قليلا عند ساحل البحر المتوسط في انتظار البدر، وعندما يكتمل البدر في ليلة من ليالي سبتمبر، تعبر الأسراب البحر لتصل مع الفجر إلى ساحل مصر، وعيونها تبحث عن السواد في الصحراء، أي عن البقاع الخضراء التي تزدان في ذلك الفصل بثمرات ناضجة، تحبها طيور أوروبا وتعشق رحيقها، وما تلبث أن تهبط على كل غصن وفنن، حذرة خائفة في الغربة، وإن أدفأ قلوبها اقتراب موسم التزاوج إذ سترتع في غابات السودان وتنشد أناشيد الزفاف، قبل أن تعود في مايو إلى أوروبا إلى أعشاش جديدة تبنيها إلى جوار أعشاش الآباء.
وقبل شروق الشمس في الأيام الأولى من سبتمبر ينتظر الصيادون السمان بشباكهم على ساحل رشيد، وينتظر البعض الآخر من هواة الصيد هذا الفيض من الطيور، بينما يتجول رجل مع ابنه في غبش الإصباح ومعهما منظار مقرب، يحاولان أن يرصدا هذه الطيور في دكنة السحر، ويشرح الأب لابنه وهما يسيران وسط حقول السمسم والذرة التي تتوسطها أشجار نخيل باسقة تبتعد عن بعضها البعض بما لا يزيد على ثمانية أمتار، يشرح الأب لابنه الذي ما زال بين النوم واليقظة رصد الطيور وتمييز أنواعها من ظلها والضوء من خلفها في السماء؛ أي بطريقة «السلويت» وما تنقضي الساعة حتى يكونا قد رصدا عددا من الطيور وتحدثا عن خصائصها؛ فهذا هو القمري - من فصيلة الحمائم - الحذر الخائف أبدا، يقصد أعلى النخيل ويقبع على السعف وسط الخوص ليضلل الطالب، ولكنه يهب طائرا إن اقترب ظل البشر! وها هو الضوع واسمه هنا «أبو النوم» لأنه ينام على قاعدة «الجريدة» أي على الكرنوفة (أو القحف) طوال النهار فاتحا فاه لتدخله الحشرات! وقد عرفه الشاعر العربي وعجب له قائلا:
ونام على مهد الكرانيف ضوع
قرير فؤاد ما تخال له هما!
وها هو الصفير، واسمه هنا الشاويش؛ لأنه ذو ريش أصفر فاقع لونه مثل بزة الجاويش الرسمية! وها هو الوقواق، ويسمونه هنا «السقساق» الذي يضع بيضه في عش غيره ولا يحتضن أفراخه أبدا!
অজানা পৃষ্ঠা