دخل القصاص المبتدئ إلى مبنى الدار الصحفية الشهيرة، وسأل عن مكان إحدى المجلات التي تصدر عنها، ولم تكن إجراءات الأمن آنذاك صعبة أو معقدة، وسرعان ما وجد نفسه في غرفة رئيس التحرير، ولما عرض عليه ما أتى من أجله حوله إلى المحررة المختصة، وهناك حدث ما لم يكن يتوقع. كان القصاص قد تخرج لتوه بالجامعة، ولكنه كان يفضل أن يكتب قصصه الأصيلة المستمدة من تجاربه في القرية التي أتى منها، وأن يحاكي أسلوب الدكتور محمد حسين هيكل بعد أن أذهلته قدرته على البيان، وأسرته بلاغته المطمئنة أو قل خطاه المتئدة؛ فأسلوبه لا يلهث فيتعثر ولا يتمهل فيضل.
وعرض الشاب قصته على المحررة - وكانت أقرب إلى الأقصوصة منها إلى القصة، فقرأتها على الفور ونظرت إليه وابتسمت، وقالت في ثقة ورقة: «هذا عظيم، ولكن الأسلوب لا يصلح لقرائنا، كما أننا نفضل القصص المترجمة على القصص المحلية؛ لأن الأجانب يجيدون تحليل نفسية المرأة، ومعظم قرائنا كما تعلم من الجنس اللطيف.» ولم يحزن الشاب ولكنه - شأن كل ناشئ - كان قلقا على مصير قصته فعاد يسألها عما يمكنه أن يفعل، وبنفس النبرات الواثقة نصحته المحررة أن يكتب «قصة مترجمة»! وتردد الشاب أول الأمر ثم ابتسم ابتسامة يخفي بها ارتباكه وقال في صوت خفيض: «ولكني لا أستطيع الترجمة؛ لأن معرفتي باللغات الأجنبية محدودة.» وخيل إليه أن نبرات الثقة في حديثها زادت وهي تقول: «ولهذا لم أطلب منك أن تترجم قصة بل أن تكتب قصة مترجمة!» وإزاء هذه الدهشة التي عقدت لسانه استمرت قائلة: «أقصد أن تكتب قصة مثل القصص التي ننشرها في مجلتنا - ويمكن أن تستمد مادتها من أبواب رسائل القراء، وستلاحظ أنها في الغالب من الجنس اللطيف، ولكن المهم أن يكون أسلوبها مترجما، أعني أن يوحي بأن القصة مترجمة؛ مثل أسلوب قصصنا المترجمة، وأن تكون الأسماء التي تختارها للشخصيات أجنبية، وأن يكون مسرح الأحداث في الخارج، ويستحسن أن يكون في إحدى البلاد غير المألوفة للمصريين، وستجد أوصافها في قصصنا المترجمة، ولا داعي طبعا لأن تذكر اسم من تترجم عنه أو اللغة التي تترجم منها؛ فهذا لا داعي له لأننا لن نذكره في المجلة، ولن نذكر اسمك بطبيعة الحال ولكننا سندفع لك أجر مؤلف لا أجر مترجم.»
وبعد محاورة قصيرة غادر الشاب الدار الصحفية، ولم يدخلها إلا بعد أعوام طويلة تقترب (حسبما يقول) من العشرين، ولكنه ورث من ذلك اليوم كراهية لكل ما هو مترجم، ونشأ في قلبه عداء لما أسمته المحررة بحق «أسلوب الترجمة»، واستمر هو في محاكاة أسلوب الدكتور هيكل حتى اكتشف أنه لا يستطيع محاكاة أساليب الكتاب، بل ولا يستطيع أن يتخذ من الكتابة هواية خاصة، فهجرها واقتصر على القراءة، ولم ينس أن يتجنب كل ما كتب عليه «قصة مترجمة».
عادت إلى ذهني هذه القصة الحقيقية - وليعذرني القارئ إن أنا تعمدت إخفاء الأسماء وحرفت بعض التفاصيل؛ إمعانا في الإخفاء - عندما رأيت بعض «المترجمات» التي تنشرها بعض دور النشر في دولة عربية شقيقة بعضها غفل من اسم المترجم، وبعضها عليه اسم زائف! وراعني إقبال الشباب في مصر على اقتناء هذه وتلك - وبعضها ذو ثمن باهظ - دون اكتراث لاسم المؤلف أو المترجم! وعجبت للسر في هذا الإقبال، بينما تحفل رفوف المكتبة العربية بقصص ومسرحيات لمؤلفين مصريين وغير مصريين وأغلبها بديع رفيع - هل لحقت الأدب لعنة «المستورد» - أي سحر السلعة المستوردة وما توحي به من جودة؟
ولكن الذي أعاد القصة إلى الحياة حقا هو ما أسمته المحررة «أسلوب الترجمة» أي أسلوب الرطانة الذي كان يحذرنا منه أستاذنا المرحوم الدكتور أمين روفائيل (والذي لا يذكره الدكتور شكري عياد بطبيعة الحال في كتابيه الأخيرين عن الأسلوب). فما هو هذا الأسلوب؟ إنه مستوى لغوي محدود الكلمات والعبارات، غريب الأبنية والهياكل، يوحي بالأصل الأجنبي ولا يرقى إليه، ويزخر بالعبارات التي أسأنا ترجمتها في بداية عهدنا بالترجمة، فأصبحت علما على اللكنة مثل حسن، حسنا، يا للسماء! وما إليها، إلى جانب ما أسميه بالكنكنة - كان يمكن أن يكون كذلك، ولو لم يكن كذلك - والعجيب أن ينزع الكثيرون من الطامحين إلى كتابة القصة القصيرة إلى استخدام هذا الأسلوب؛ ظنا منهم بأنه يوحي بالحداثة أو المودرنية، أو عجزا منهم عن استيعاب الأساليب العربية الأصيلة، والأدهى أن تتسرب سمات هذا الأسلوب العجيب إلى اللغة العربية المستخدمة في شتى المجالات (أي دون اقتصار على لغة الصحافة)، بل وأن تصبح من سمات اللغة المستخدمة في الحديث اليومي دون أن يكون لدى المتحدث علم باللغة الأجنبية التي قيست عليها العبارات والكلمات الدخيلة.
وكثيرا ما أتساءل: هل هذا من تأثير ترجمات الأفلام التي يراها المتفرج اليوم بلا انقطاع على الشاشة الصغيرة؟ (وهي ترجمات لا داعي للتعليق على رداءتها وانحطاط أسلوبها وابتعادها عن الأصل) أم هو من تأثير الترجمات الزائفة التي تلقي بها في أسواقنا دور النشر في ذلك البلد الشقيق؟ أم هو من تأثير الانغماس في العامية في أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية؟ بل قد يكون ذلك نتيجة لاتجاه المبتدئين في صناعة الصحافة إلى الكتابة الإبداعية، دون أن يكون لديهم الاستعداد اللغوي الكافي، ثم انغماسهم فيها مع ما يلقونه من تشجيع في النشر والتنويه بأعمالهم! وربما تكون هذه العوامل مجتمعة من أسباب انتشار أسلوب الترجمة. ولكنني على يقين من أن المستورد في هذه الحالة لا يداني المحلي في أي مظهر من مظاهره.
احتراف الأدب
هل الأدب حرفة؟ أي هل يستطيع إنسان أن يعتمد على الكتابة الإبداعية في كسب عيشه؟ وأقصد بالاعتماد عليها عدم الانخراط في السلك الوظيفي أيا كان نوع الوظيفة - ولو كانت تدريس الأدب نفسه؟
حاولت الإجابة على السؤال أول الأمر من وجهة نظر تاريخية، فبرزت أهم مشكلة تواجه الكاتب أو المفكر، وهي مشكلة تحديد معنى كسب العيش. ومن قبلها بطبيعة الحال معنى الكتابة الإبداعية - رغم الوضوح الخادع للمصطلح الأخير. فمفهوم الإبداع متغير، وهو لا يقتصر على كتابة الأنواع المختلفة من الأدب الخيالي (القصة القصيرة، الرواية، الشعر، المسرح)، بل يتعداه اليوم إلى النقد - فالنقد يعتبر فرعا أساسيا من فروع الأدب - وهو يقتضي في رأي المحدثين طاقة إبداعية نستدل عليها من التفاعل الوجداني والفكري في آن واحد مع العمل الأدبي الذي يتعرض له الناقد، ومن قدرة الناقد المبدع على الربط بين مظاهر العمل الأدبي المحدد وبين غيره مما يزامنه أو مما سبقه، وكذلك بينه وبين الأطر الفنية والفكرية التي ينبع منها ويصب فيها؛ إما في عصره، أو في الأدب بصفة عامة، باعتباره كيانا مطلقا، كما نستدل عليها من قدرة الناقد على بلورة كل ما يخرج به في هذا الصدد في لغة موجهة إلى جمهور بعينه، وتهدف إلى إحداث تأثير معين، مهما كانت درجة الموضوعية التي يلتزمها.
أما كسب العيش فمفهوم جد عسير؛ فهو يتغير في العصر الواحد، بل وفي البلد الواحد، بل ويكاد يتغير من أديب إلى أديب. أما عبر العصور فهو يتغير تبعا لتغير المعايير الاقتصادية السائدة، وتبعا لمفهوم الضروريات والكماليات؛ فما كان كماليا بالأمس قد يصبح ضروريا اليوم بسبب إيقاع الحياة اللاهث (كوسائل الانتقال مثلا)، وما لم يكن معروفا بالأمس قد يصبح ضروريا في الغد (مثل وسائل العلاج الحديثة ذات التكاليف الباهظة)، وما لم يكن يتتبع نفقات كبرى بالأمس قد أصبح يبتلي الإنسان بأنواع الهموم (مثل نفقات التعليم والكساء للأسرة).
অজানা পৃষ্ঠা